المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

في غير بني جنسه، وفي غير المكان الذي يألفه، يعني: - تفسير الشعراوي - جـ ١٦

[الشعراوي]

الفصل: في غير بني جنسه، وفي غير المكان الذي يألفه، يعني:

في غير بني جنسه، وفي غير المكان الذي يألفه، يعني: في غير موطنه.

يقول تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً. .} .

ص: 9896

وفي موضع آخر يقول تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} [الحج: 40] هؤلاء تحملوا الكثير، وتعبوا في سبيل عقيدتهم، فلا بُدَّ أنْ يُعوِّضهم الله عن هذه التضحيات، لذلك يقول هنا:{والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} [الحج:‌

‌ 58]

وأوضحنا أن الموت غير القتل: الموت أن تخرج الروح دون نَقْضٍ للبنية، أما القتل فهو نَقْض للبِنْية يترتب عليه خروج الروح.

{لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً. .} [الحج: 58] تعويضاً لهم عَمَّا فاتوه في بلدهم من أهل ومال، كما يُعوّض الحاكم العادل المظلوم فيعطيه أكثر ممَّا أُخِذ منه؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر:{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله. .} [النساء: 100] .

ص: 9896

لأن مَنْ قُتِل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحُسنْيين، أما مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشرف؛ لذلك فقد وقع أجره على الله، وما بالك بأجر مُؤدِّيه ربك عز وجل؟ وكما لو أن رجلاً مُتْعباً يسير ليس معه شيء ولا يجد حتى مَنْ يقرضه، وفجأة سقطت رِجْله في حفرة فتكَّدر وقال: حتى هذه؟! لكن سرعان ما وجد قدمه قد أثارتْ شيئاً في التراب له بريق، فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه.

ويُروْى أن فضالة حضرهم وهم يدفنون شهيداً، وآخر مات غير شهيد، فرأوْه ترك قبر الشهيد وذهب إلى قبر غير الشهيد، فلما سألوه: كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد؟ قال: والله ما أبالي في أيِّ حفرة منهما بُعثْت ما دام قد وقع أجري على الله، ثم تلا هذه الآية:{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله. .} [النساء: 100] .

ثم يقول سبحانه: {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [الحج: 58] حين يصف الحق سبحانه ذاته بصفة، ثم تأتي بصيغة الجمع، فهذا يعني أن الله تعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصفة، كما سبق أنْ تكلمنا في قوله تعالى:{فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] .

فقد أثبت للخَلْق صفة الخَلْق، وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة؛ لأنه سبحانه لا يبخس عباده شيئاً، ولا يحرمهم ثمرة مجهودهم، فكل مَنْ أوجد شيئاً فقد خلقه، حتى في الكذب قال {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. .} [العنكبوت: 17] .

ص: 9897

لأن الخَلْق إيجاد من عدم، فأنت حين تصنع مثلاً كوب الماء من الزجاج أوجدتَ ما لم يكن موجوداً، وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة لله تعالى، وأعملتَ فيها عقلك حتى توصلْتَ إلى إنشاء شيء جديد لم يكُنْ موجوداً، فأنت بهذا المعنى خالق حسن، لكن خلق ربك أحسن، فأنت تخلق من موجود، وربك يخلق من عدم، وما أوجدتَه أنت يظل على حالته ويجمد على خلْقتك له، ولا يتكرر بالتناسل، ولا ينمو، وليست فيه حياة، أما خَلْق ربك سبحانه فكما تعلم.

كذلك يقول سبحانه هنا: {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [الحج: 58] فأثبت لخَلْقه أيضاً صفة الرزق، من حيث هم سَبَب فيه، لأن الرزق: هو كل ما ينتفع به حتى الحرام يُعَدُّ رزقاً؛ لذلك قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. .} [البقرة: 172] .

نقول: فالعبد سبب في الرزق؛ لأن الله تعالى هو خالق الرزق أولاً، ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل فيه، وتعطي منه للغير، فالرزق منك مناولة عن الرازق الأول سبحانه، فأنت بهذا المعنى رازق وإنْ كرهوا أنْ يُسمَّي الإنسان رازقاً، رغم قوله تعالى:{وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [الحج: 58] لماذا؟ قالوا: حتى لا يفهم أن الرزق من الناس.

لذلك نسمع كثيراً من العمال البسطاء، أو موظفاً صغيراً، أو بواب عمارة مثلاً حين يفصله صاحب العمل، يقول له: يا سيدي الأرزاق بيد الله. كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله؟ قالوا: لأنه نظر إلى المناوِل الأول للرزق، ولم ينظر إلى المناوِل الثاني.

ص: 9898

أما الرزق الحسن الذي أعدَّه الله للذين هاجروا في سبيله، فيوضحه سبحانه في قوله:{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ. .} .

ص: 9899

لأن الرزق قد يكون حسناً لكنه لا يُرضِي صاحبه، أما رزق الله لهؤلاء فقد بلغ رضاهم، والرضا: هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة، بحيث لا تستشرف إلى أعلى منه، ولا تبغي أكثر من ذلك.

لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنة بنعيمها، مِمَّا لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، بعدها يتجلَّى الحق - سبحانه - عليهم فيقول لعباده المؤمنين: يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيْتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين؟ قال: ألا أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا: وهل شيء أفضل مما نحن فيه؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً.

ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] .

وقوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] .

يبالغ في الرضا، حيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية، وكأنها تعشقك هي، وترضى بك.

ص: 9899

ثم يقول سبحانه: {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59] .

عليم: بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم، ثم يزيد مَنْ يشاء من فضله، فليس حساب ربك في الآخرة كحسابكم في الدنيا، إنما حسابُه تعالى بالفضل لا بالعدل.

وحليم: يحلم على العبد إنْ أساء، ويتجاوز للصالحين عن الهَفَوات، فإنْ خالط عملك الصالح سوء، وإنْ خالفت منهج الله في غفلة أو هفوة، فلا تجعل هذا يعكر صفو علاقتك بربك أو يُنغِّص عليك طمأنينة حياتك؛ لأن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حَدِّ قولهم (حبيبك يبلع لك الزلط) .

لذلك «لما وَشَى أحد المؤمنين للكفار في فتح مكة، وهَمَّ عمر أن يقتله فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» .

ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعُدَّة، ألا نذكر لهم هذا الموقف؟ ألم يقل الحق سبحانه:{إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات. .} [هود: 114] ومَنِ ابتُلِي بشيء يضعف أمامه، فليكن قوياً فيما يقدر عليه، وإنْ غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمِّر له أنت في أبواب الخير، فإن هذا يُعوِّض ذاك.

ص: 9900