المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام، فمن المناسب - تفسير الشعراوي - جـ ١٦

[الشعراوي]

الفصل: ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام، فمن المناسب

ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام، فمن المناسب أنْ يتكلم عن تاريخه وبنائه، فقال سبحانه:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود} [الحج:‌

‌ 26]

معنى بَوَّأه: أي: جعله مَبَاءةً يعني: يذهب لعمله ومصالحه، ثم يبوء إليه ويعود، كالبيت للإنسان يرجع إليه، ومنه قوله تعالى:{وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله. .} [البقرة: 61] .

وإذ: ظرف زمان لحدث يأتي بعده الإخبار بهذا الحدث، والمعنى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لإبراهيم كذا وكذا. وهكذا في كل آيات القرآن تأتي (إذ) في خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ بحدث وقع في ذلك الظرف.

لكن، ما علاقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت؟ قالوا: لأن المكان المتبوّأ بقعة من الأرض يختارها الإنسان؛ ليرجع إليها من متاعب حياته، ولا يختار الإنسان مثل هذا المكان إلا توفرتْ فيه كل مُقوِّمات الحياة.

لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ. .} [يوسف: 56]

وقال في شأن بني إسرائيل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ. .} [يونس: 93] فمعنى: {بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت. .} [الحج: 26]

ص: 9775

أي: جعلناه مبَاءة له، يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ أعلمنَاهُ، ودَلَلْناه على مكانه.

وقلنا: إن المكان غير المكين، المكان هو البقعة التي يقع فيه ويحلُّ بها المكين، فأرض هذا المسجد مكان، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى «مكين في هذا المكان» . وعلى هذا فقد دَلَّ الله إبراهيم عليه السلام على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه.

وقد كان للعلماء كلام طويل حول هذه المسألة: فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام هو أول مَنْ بنى البيت. ونقول لأصحاب هذا الرأي: الحق تبارك وتعالى بوَّأ لإبراهيم مكان البيت، يعني: بيَّنه له؛ كأن البيت كان موجوداً، بدليل أن الله تعالى يقول في القصة على لسان إبراهيم:{إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم. .} [إبراهيم: 37] .

وفي قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ. .} [البقرة: 127]

ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما شَبَّ، وأصبح لديه القدرة على معاونة أبيه، أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعاً، وقوله تعالى:{عِندَ بَيْتِكَ المحرم. .} [إبراهيم: 37] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت، إذن: هذا دليل على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم.

ص: 9776

وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}

[آل عمران: 96] .

وحتى نتفق على فَهْم الآية نسأل: مَنْ هُم الناس؟ الناس هم آدم وذريته إلى أن تقوم الساعة، إذن: فآدم من الناس، فلماذا لا يشمله عموم الآية، فالبيت وُضِع للناس، وآدم من الناس، فلا بُدَّ أن يكون وَُضِع لآدم أيضاً.

إذن: يمكنك القول بأن البيت وَُضِع حتى قبل آدم؛ لذلك نُصدِّق بالرأي الذي يقول: إن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً، ثم طمسَ الطوفانُ معالم البيت، فدلَّ الله إبراهيم بوحي منه على مكان البيت، وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي.

ويُقال: إن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دَلَّتْه على المكان، ونطقتْ: يا إبراهيم خُذْ على قدري، أي: البناء.

ولو تدبرتَ معنى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت. .} [البقرة: 127] الرَّفْع يعني: الارتفاع، وهو البعد الثالث، فكأن القواعد كان لها طُول وعَرْض موجود فعلاً، وعلى إبراهيم أنْ يرفعها.

لكن لماذا بوَّأ الله لإبراهيم مكان البيت؟

لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة. .} [إبراهيم: 37] كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة،

ص: 9777

الصلاة للإله الحقِ والربِّ الصِّدْق؛ لذلك أمره أولاً: {أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود} [الحج: 26] والمراد: طَهِّر هذا المكان من كل ما يُشعِر بالشرك، فهذه هي البداية الصحيحة لإقامة بيت الله.

وهل كان يُعقل أنْ يدخل إبراهيم عليه السلام في الشرك؟ بالطبع لا، وما أبعدَ إبراهيمَ عن الشرك، لكن حين يُرسِل الله رسولاً، فإنه أول مَنْ يتلقَّى عن الله الأوامر ليُبلِّغ أمته، فهو أول مَنْ يتلقى، وأول مَنْ يُنفذ ليكون قدوةً لقومه فيُصدِّقوه ويثقوا به؛ لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنَجْوة عنه.

ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ: {ياأيها النبي اتق الله. .} [الأحزاب: 1] وهل خرج محمد صلى الله عليه وسلم َ عن تقوى الله؟ إنما الأمر للأمة في شخص رسولها، حتى يسهُلَ علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه، ولا نرى غضاضةً في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله؛ لأنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول له: يا فلان اتق الله، وربما اعتبرها إهانة واتهاماً، وظن أنها لا تُقال إلا لمَنْ بدر منه ما يخالف التقوى.

وهذا فَهْم خاطئ للأمر بالتقوى، فحين أقول لك: اتق الله. لا يعني أنني أنفي عنك التقوى، إنما أُذكِّرك أنْ تبدأ حركة حياتك بتقوى الله.

إذن: قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً. .} [الحج: 26] لا تعني تصوُّر حدوث الشرك من إبراهيم، وقال {شَيْئاً. .} [الحج: 26] ليشمل النهيُ كُلَّ ألوان الشرك، أياً كانت صورته: شجر، أو حجر، أو وثن، أو نجوم، أو كواكب.

ص: 9778

ويؤكد هذا المعنى بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ. .} [الحج: 26] والتطهير يعني: الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريكَ له، وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان، فقد يكون به شيء من القاذورات مثلاً.

ومعنى {لِلطَّآئِفِينَ. .} [الحج: 26] الذين يطوفون بالبيت: {والقآئمين. .} [الحج: 26] المقيمين المعتكفين فيه للعبادة {والركع السجود} [الحج: 26] الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لأداء الصلاة، عبَّر عن الصلاة بالركوع والسجود؛ لأنهما أظهر أعمال الصلاة.

ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً. .} .

ص: 9779

أمر الله نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذِّن في الناس بالحج، لماذا؟ لأن البيت بيت الله، والخَلْق جميعاً خَلْق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به، أو يعيش إلى جواره؟

فأراد الحق سبحانه وتعالى أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً، فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم، وإنْ كانت المساجد كلها بيوت

ص: 9779

الله، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله؛ لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق.

إن من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم، ثم يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات، ويرى في ذلك شرفاً ورِفْعة، فما بالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدِّر لهم المرور به؟

ومعنى {أَذِّن. .} [الحج: 27] الأذان: العلم، وأول وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أُخذ الأذان. أي: الإعلام. ومن هذه المادة قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ. .} [إبراهيم: 7] أي: أعلم؛ لأن الأذن وسيلة السماع الأولى، والخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به؛ لذلك قبل أنْ تتكلَّم لا بُدَّ أنْ تسمع.

وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟ فناداه ربه:«يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ» .

مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس، في كل الزمان، وفي كل المكان، سيسمعه البشر جميعاً،

ص: 9780

وهم في عالم الذَّرِّ وفي أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى. .} [الأنفال: 17] .

يعني: أَدِّ ما عليك، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك. فأذَّنَ إبراهيم في الناس بالحج، ووصل النداء إلى البشر جميعاً، وإلى أن تقوم الساعة، فَمنْ أجاب ولَبَّى: لبيك اللهم لبيك كُتِبَتْ له حجة، ومَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن وهكذا، لأن معنى لبيك: إجابةً لك بعد إجابة.

فإنْ قُلْتَ: إن مطالب الله وأوامره كثيرة، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرتَ إلى هذه الأركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعاً له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟

قالوا: لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال: أَذِّن - يأتوكَ، هكذا رَغْماً عنهم، ودون اختيارهم، أَلَا ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم.

ص: 9781

وهذا معنى قوله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ. .} [إبراهيم: 37] ومعنى تهوي: تأتي دون اختيار من الْهُويِّ أي: السقوط، وهو أمر لا يملكه الإنسان، كالذي يسقط من مكان عالٍ، فليس له اختيار في ألَاّ يسقط.

وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله، وتتحرَّق شَوْقاً إليه، وكأن شيئاً يجذبها لأداء هذه الفريضة؛ لأن الله تعالى أمر بهذه الفريضة، وحكم فيها بقوله {يَأْتُوكَ. .} [الحج: 27] أما في الأمور الأخرى فقد أمر بها وتركها لاختيار المكلف، يطيع أو يعصي، إذن: هذه المسألة قضية صادقة بنصِّ القرآن.

وبعض أهل الفَهْم يقولون: إن الأمر في: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج. .} [الحج: 27] ليس لإبراهيم، وإنما لمحمد صلى الله عليه وسلم َ - الذي نزل عليه القرآن، وخاطبه بهذه الآية، فالمعنى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت. .} [الحج: 26] يعني: اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، اذكر هذه القضية {وَأَذِّن فِي الناس بالحج. .} [الحج: 27] فكأن الأمر هنا لمحمد صلى الله عليه وسلم َ.

لذلك لا نشاهد هذا النسك في الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، فهم لا يحجون ولا يذهبون إلى بيت الله أبداً، وقد ثبت أن موسى عليه السلام حج بيت الله، لكن لم يثبت أن عيسى عليه السلام

ص: 9782

حَجَّ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال «» يُوشك أنْ ينزل ابن مريم، ويأتي حاجاً، ويزور قبري، ويُدفن هناك «.

فقال رسول الله:» ويأتي حاجاً «لأنه لم يمت، وسوف يدرك عهد التكليف من رسول الله حين ينزل من السماء، وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى الله على جميع أنبياء الله ورُسُله.

ومن المسائل التي نحتجُّ بها عليهم قولهم: إن الذبيح إسحق، فلو أن الذبيح إسحق كما يدَّعون لكانت مناسك الذبح والفداء ورَمْي الجمار عندكم في الشام، أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة، حيث كان إسماعيل.

ثم تذكَّروا جيداً ما قاله كتابكم المقدس في الأصحاح 23، 24

ص: 9783

من أن الحق سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران، ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه، فالوحيد إسماعيل لا إسحق؛ لأن الله فدى إسماعيل، ثم بشَّر إبراهيم بإسحق.

ومن حكمة الله عز وجل أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذاً للحق، وثغرات نصل منها إلى الحقيقة؛ لذلك يقول رجال القضاء: ليست هناك جريمة كاملة أبداً، لا بُدَّ أنْ يترك المجرم قرينة تدلُّ عليه مهما احتاط لجريمته، كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملابسه، أو ورقة صغيرة بها رقم تليفون. . إلخ، لذلك نقول: الجريمة لا تفيد؛ لأن المجرم سيقع لا محالة في يد مَنْ يقتصُّ منه.

ولرجال القضاء ووكلاء النيابة مقدرة كبيرة على استخلاص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم، فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلامه ثغرةً أو تضارباً يصل منه إلى الحقيقة.

ذلك لأن للصدق وجهاً واحداً لا يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد، أمّا الكذب فله أكثر من وجه، والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييراً وتضارباً في كلامه؛ لذلك العرب يقولون: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً. يعني: تذكَّر ما قُلْته أولاً، حتى لا تُغيِّره بعد ذلك.

ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه قَوْلُ أحدهم للآخر: هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة العيد الصغير، وكان القمر ظهراً!! فقال: كيف، يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر؟

وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل، ولا بُدَّ أنْ يستخدم ذكاءه لاستجلاء وجه الحق، كالقاضي الذي احتكم إليه رجلان يتهم أحدهما الآخر بأنه أخذ ماله أمانة، ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا

ص: 9784

وكذا، فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه، وتوجَّه إلى صاحب الأمانة، وقال له: اذهب إلى المكان، وابحثْ لعلَّك تكون قد نسيتَه هنا أو هناك.

أو لعلّ آخر أخذه منك، فذهب صاحب المال، وفجأة سأل القاضي المتهم: لماذا تأخر فلان طوالَ هذا الوقت؟ فردَّ المتهم: لأن المكان بعيدٌ يا سيادة القاضي. فخانتْه ذاكرته، ونطق بالحق دون أن يشعر.

ثم يقول تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً. .} [الحج: 27] ورجالاً هنا ليست جَمْعاً لرجل، إنما جمع لراجل، وهو الذي يسير على رِجْلَيْه {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ. .} [الحج: 27] الضامر: الفَرَس أو البعير المهزول من طول السفر.

وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي {يَأْتُوكَ. .} [الحج: 27] فالجميع حريص على اداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشياً.

وقوله: {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الحج: 27] أي: من كل طريق واسع {عَميِقٍ} [الحج: 27] يعني: بعيد.

ثم يقول الحق سبحانه: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ. .} .

ص: 9785

كلمة {مَنَافِعَ. .} كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع: مادية دنيوية، أو دينية أُخروية، ولا ينبغي أنْ نُضيِّق

ص: 9785

ما وسَّعه الله، فكُلُّ ما يتصل بالحج من حركات الحياة يُعَد من المنافع، فاستعدادك للحج، وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لأهلك ما يكفيهم حتى تعود.

ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج، كلها منافع متبادلة بين الناس، التاجر الذي يبيع لك، وصاحب البيت الذي يُؤجِّره لك، وصاحب السيارة التي تنقلك.

إذن: المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة، متداخلة مع المنافع الدينية الأخروية، فحين تشتري الهَدْي مثلاً تؤدي نُسُكاً وتنفع التاجر الذي باع لك، والمربِّي الذي ربَّى هذا الهَدْي، والجزار الذي ذبحه، والفقير الذي أكل منه.

إذن: لا يتم الحج إلا بحركة حياة واسعة، فيها نَفْع لك وللناس من حيث لا تدري، ولك أنْ تنظرَ في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لأهليهم وذويهم، خاصة المصريين منهم، فترى بعضهم ينشغل بجَمْع هذه الأشياء قبل أنْ يُؤدِّي نُسُكه ويقضي معظم وقته في الأسواق، وكأنه لن يكون حاجاً إلا إذا عاد مُحمّلاً بهذه الهدايا.

لذلك يأتي إلينا بعض هؤلاء يسألون: أنا عليَّ دَم مُتْعة

ص: 9786

وليس معي نقود، فماذا أفعل؟ يريد أن يصوم. صحيح: كيف سيُؤدي ما عليه وقد أنفق كُلَّ ما معه؟ فكنت أقول له: اعْطِني حقيبة سفرك، وسأبيع ما بها، ولن أُبقي لك إلا ما يكفيك من نفقات حتى تعود.

أليست هذه كلها من المنافع؟

ومن منافع الحج ان الحاجَّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة ويُعِد نفسه لها إعداداً مادياً، وإعداداً نفسياً معنوياً، فيحاول أنْ يُعيد حساباته من جديد، ويُصلح من نفسه ما كان فاسداً، وينتهي عَمَّا كان يقع فيه من معصية الله، ويُصلِح ما بينه وبين الناس، إذن: يجري عملية صَقْل خاصة تُحوِّله إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم، ويكون أهْلاً لرؤية بيت الله والطواف به.

ومن الإعداد للحج أنْ يتعلّم الحاجُّ ما له وما عليه، ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما يحرُم عليه، وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملابسه التي يزهو بها، ومكانته التي يفتخر بها بين الناس، وكيف أن الإحرام يُسوِّي بين الجميع.

يتعلم كيف يتأدب مع نفسه، ومع كل أجناس الكون من حوله، مع نفسه فلا يُفكّر في معصية، ولا تمتدّ يده حتى على شعره من شعره، أو ظُفْر من أظافره ولا يقْربُ طيباً، ولا حتى صابونة لها رائحة.

والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الإحرام يحرص كل الحرص

ص: 9787

على هذه الأحكام، وأتحدى أيَّ إنسان ينوي الحج ويأخذ في الإحرام به، ثم يفكر في معصية؛ لأنه يُعِدُّ نفسه لمرحلة جديدة يتطهر فيها من الذنوب، فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلاد بعيدة ليتطهر منها؟

وفي الحجِّ يتأدب الحاج مع الحيوان، فلا يصيده ولا يقتله، ومع النبات فلا يقطع شجراً.

يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره أَدْنى أجناس الكون، فيحرص على تقبيل الحجر الأسود، ويجتهد في الوصول إليه، فإنْ لم يستطع أشار إليه بيده.

إن الحج التزام وانضباط يفوق أيَّ انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم، ففي الحج ترى هذا الإنسان السيد الأعلى لكل المخلوقات كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته، وكم هي طمأنينة النفس البشرية حين تُقبِّل حجراً وهي راضية خاضعة، بل ويحزن الإنسان إذ لم يتمكن من تقبيل الحجر.

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ. .} [الحج: 28] يذكروا اسم الله؛ لأن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر الله وتلبيته، فَمَا من عمل يُؤدِّيه الحاجّ إلا ويقول: لبيك اللهم لبيك. وتظل التلبية شاغله ودَيْدنه إلى أنْ يرمي جمرة العقبة، ومعنى «لبيك اللهم لبيك» أن مشاغل الدنيا تطلبني، وأنت طلبتني لأداء فَرْضِك عليَّ، فأنا أُلبِّيك أنت أولاً؛ لأنك خالقي وخالق كل ما يشغلني ويأخذني منك.

ص: 9788

والأيام المعلومات هي: أيام التشريق.

ومعنى: {على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ. .} [الحج: 28] أي: يشكرون الله على هذا الرزق الوقتي الذي يأكلون منه ويشربون، ويبيعون ويشترون في أوقات الحج. أو يشكرون الله على أنْ خلقَ لهم هذه الأنعام، وإنْ لم يحجُّوا، ففي خَلْق الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم والماعز - وتسخيرها للإنسان حكمة بالغة، ففضلاً عن الانتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا الله واشكروه أنْ سخَّرها لكم، فلولا تسخير الله لها لَمَا استطعتُم أنْ تنتفعوا بها، فالجمل مثلاً هذا الحيوان الضخم يقوده الطفل الصغير، وينُيخه ويحمله في حين لم يستطع الإنسان تسخير الثعبان مثلاً أو الذئب.

لذلك يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ. .} [يس: 71 - 72] .

لذلك نذكر الله ونشكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام استمتاعاً بها أَكْلاً، أو استمتاعاً بها بَيْعاً أو زينة، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] .

ص: 9789

ولولا أن الله تعالى ذَلَّلها لِخدمتك ما استطعْتَ أنت تذليلها والانتفاع بها؛ لذلك من حكمة الله أنْ يترك بعض خَلْقه غير مُسْتأنس، ولا يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تُذلّله لتظل على ذِكْر لهذه النعمة؛ وتشكر الله عليها.

وسبق أن ضربنا مثلاً بالبرغوث، وهو أَدْنى هذه المخلوقات، ولا تكاد تراه، ومع ذلك لا تقدر عليه، وربما أقضَّ مَضْجعك، وأقلق نومك طوال الليل. وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده الصبي الصغير، إذا حرن منك فلا تستطيع أن تجعله يسير رغماً عنه، أو صَالَ فلا يقدر عليه أحد، وقد يقتل صاحبه ويبطش بمَنْ حوله.

إذن: لا قدرة لك عليه بذاتك، إنما بتذليل الله يمكن الانتفاع به، فتسوقه إلى نَحْره، فيقف ساكناً مُسْتسلماً لك.

والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها الله لنا يجد امرها عجيباً، فالحيوان الذي أحلَّه الله لك تظل تنتفع به طوال عمره، فإذا ما تعرّض لما يُزهِق روحه، ماذا يفعل؟ يرفع رأسه إلى أعلى، ويعطيك مكان ذَبْحه، وكأنه يقول لك: أنا في اللحظات الأخيرة فاجتهد في أنْ تنتفع بلحمي، وأهل الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون: طلب الحلال يعني الذبح. أما الحيوان الذي لا يُذبح ولا يُحله الله فيموت مُنكَّس الرأس؛ لأنه لا فائدة منه.

هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم. . الخ لو فكرتَ

ص: 9790

فيه لَتغيَّر رأيّك، فالحمار الذي نتخذه رَمْزاً للغباء وعدم الفَهْم تسوقه أمامك وتُحمِّله القاذورات وتضربه فلا يعترض عليك ولا يخالفك، فإنْ نظفْته وزيَّنْتَه بلجام فضة، وبردعة قطيفة تتخذه رُكُوبة وزينة ويسير بك ويحملُك، وأنت على ظهره، فإنْ غضبتَ عليه واستخدمْته في الأحمال وفي القاذورات تحمَّل راضياً مطيعاً. .

وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثالاً للغباء، إذا أردتَ منه ان يقفز قناة أوسع من مقدرته وإمكانياته، فإنه يتراجع، ومهما ضربتَه وقسْوتَ عليه لا يُقدِم عليها أبداً؛ لأنه يعلم مدى قفزته، ويعلم مقدرته، ولا يُقدِم على شيء فوق ما يطيق - وبعد ذلك نقول عنه: حمار!!

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير. .} [الحج: 28] .

البائس: هو الذي يبدو على مِحْنته وشكله وزِيِّه أنه فقير محتاج، أما الفقير فهو محتاج الباطن، وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى، وهؤلاء الفقراء لا يلتفت الناس إليهم، وربما لا يعلمون حالهم وحاجتهم، وقد قال الله فيهم:{يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً. .} [البقرة: 273] .

والمعنى: كُلُوا مما يُبَاح لكم الأكل منه، وهي الصدقة المحضة، أو الهدية للبيت غير المشروطة بشيء، يعني: لا هي دم قِرَان أو

ص: 9791

تمتُّع، ولا هي فدية لمخالفة أمر من أمور الإحرام، أو كانت نذراً فهذه كلها لا يؤكَل منها.

إذن: كلوا من الصدقة والتطوع، وأطعموا كذلك البائس والفقير، ومن رحمة الله بالفقراء أنْ جعل الأغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحمَّلون مشقة هذا كله، ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحاً، يأتيه رِزْقه من فَضْل الله سهلاً وميسّراً.

لذلك يقولون: من شرف الفقير أنْ جعله الله ركناً من أركان إسلام الغنيّ، أي: في فريضة الزكاة، ولم يجعل الغني ركناً من أركان إسلام الفقير.

ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ. .} .

ص: 9792