الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنك ابن أغيار دائم التقلُّب في الأحوال، وربك وحده هو الثابت الذي لا يتغير.
ثم يقول سبحانه: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل. .} [الحج: 62] كل مَا تدعيه أو تعبده من دون الله هو الباطل، يعني الذي يَبْطُل، كما جاء في قوله تعالى:{إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] يعني: يزول ولا يثبت أبداً {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} [الحج: 62] العلي يعني: كل خَلْقه دونه. وكبير يعني: كل خَلْقه صغير.
ومن أسمائه تعالى {الكبير} [الحج: 62] ولا نقول أكبر إلا في الأذان، وفي افتتاح الصلاة، والبعض يظن أن أكبر أبلغ في الوصف من كبير، لكن هذا غير صحيح؛ لأن أكبر مضمونه كبير، إنما كبير مقابله صغير، فهو سبحانه الكبير؛ لأن ما دونه وما عداه صغير.
أما حين يناديك ويستدعيك لأداء فريضة الله يقول: الله أكبر؛ لأن حركة الحياة وضروريات العيش عند الله أمر كبير وأمر هام لا يغفل، لكن إنْ كانت حركة الحياة والسعي فيها أمر كبيراً فالله أكبر، فربُّك يُخرجك للصلاة من عمل، ويدعوك بعدها إلى العمل:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله. .} [الجمعة: 10] .
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً. .} .
{أَلَمْ تَرَ. .} [الحج:
63]
إنْ كانت للأمر الحِسِّي الذي تراه العين،
فأنت لم تَرَهُ ونُنبهك إليه، وإنْ كانت للأمر الذي لا يُدرَك بالعين فهي بمعنى: ألم تعلم. وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي يُعلِّمك الله به أوثق مما تهديك إليه عَيْنك.
فالمعنى: ألم تعلم وألم تنظر؟ . المعنيان معاً.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً. .} [الحج: 63] فهذه آية تراها، لكن ترى منها الظاهر فقط، فترى الماء ينهمر من السماء، إنما كيف تكَّون هذا الماء في طبقات الجو؟ ولماذا نزل في هذا المكان بالذات؟ هذه عمليات لم تَرَها، وقدرة الله تعالى واسعة، ولك أن تتأمل لو أردتَ أنْ تجمع كوب ماء واحد من ماء البخار، وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف، فهل رأيتَ هذه العمليات في تكوين المطر؟
إذن: رأيت من المطر ظاهرة، لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله.
لذلك؛ جعل الخالق عز وجل مسطح الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، فاتساع مُسطَّح الماء يزيد من البَخْر الذي ينشره الله تعالى على اليابس، كما لو وضعتَ مثلاً كوبَ ماء في غرفتك، وتركتَه مدة شهر أو شهرين، ستجد أنه ينقص مثلاً سنتيمتراً، أما لو نثرتَ الكوب على أرض الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق.
إذن: فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها، ونحن على اليابس نحتاج كمية كبيرة من الماء العَذْب الصالح للزراعة وللشرب. . الخ، ولا يتوفر هذا إلا بكثرة كمية الأمطار.
ثم يُبيِّن سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء: {فَتُصْبِحُ الأرض
مُخْضَرَّةً. .} [الحج: 63] يعني: تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية. دون أن يذكر شيئاً عن تدخُّل الإنسان في هذه العملية، فالإنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو، إنما المسألة كلها بقدرة الله، لكن من أين أتت البذور التي كوَّنَتْ هذا النبات؟ ومَنْ بذرها ووزَّعها؟ البُذور كانت موجودة في التربة حيَّة كامنة لم يُصِبْها شيء، وإنْ مَرَّ عليها الزمن؛ لأن الله تعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفَّر لها عوامل الإنبات فتنبت؛ لذلك نُسمِّي هذا النبات (العِذْى) ؛ لأنه خرج بقدرة الله لا دَخْل لأحد فيه.
وتولَّتْ الرياح نَقْل هذه البذور من مكان لآخر، كما قال تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ. .} [الحجر: 22] ولو سلسلْتَ هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أُمٍّ، خلقها الخالق سبحانه لا شجرةَ قبلها ولا بذرة. لذلك يُرْوى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها السلام ويشرف عليها، ويقال كان خطيبها - لما رآها حاملاً وليس لها زوج سألها بأدب: يا مريم، أتوجد شجرة بلا بذرة؟ قالت: نعم الشجرة التي أنبتتْ أول بذرة.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63] اللطْف هو دِقَّة التناول للأشياء، فمثلاً حين تريد أن تدخل خيطاً في إبرة، تجد الخيط لا ينفذ من ثقبها لأول مرة، فتحاول أنْ تُرفِّق من طرف الخيط وتبرمه حتى يدِقّ فينفذ من الثقب، فالخيط بعد أنْ كان غليظاً أصبح لطيفاً دقيقاً.
ويقولون: الشيء كلما لَطُف عَنُف، في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي، لكن هذا غير صحيح، فكلما كان الشيء
لطيفاً دقيقاً كان خطره أعظم، أَلَا ترى الميكروب كيف يصيب الإنسان وكيف لا نشعر به ولا نجد له ألماً؟ ذلك لأنه دقيق لطيف، وكذلك له مدخل لطيف لا تشعر به؛ لأنه من الصِّغَر بحيث لا تراه بالعين المجردة.
والبعوضة كم هي هيِّنة صغيرة؛ لذلك تُؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي لا تكاد تراه، وكلما دَقَّ الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره، فمثلاً إنْ أردتَ بناء بيت في الخلاء أو منطقة نائية، فإنك ستضطر أنْ تضع حديداً على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة كالذئاب مثلاً، ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران، فإن أردْتَ أن تحمي نفسك من الذباب والبعوض احتجت إلى سِلْك أدق، وهكذا كلما صَغُر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر.
فاللطيف هو الذي يدخل في الأشياء بلطف؛ لذلك يقولون: فلان لطيف المدخل يعني: يعني: يدخل لكل إنسان بما يناسبه، ويعرف لكل إنسان نقطة ضَعْف يدخل إليه منها، كأن معه (طفاشة) للرجال، يستطيع أن يفتح بها أي شخصية.
لكن، ما علاقة قوله تعالى {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63] بعد قوله: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً. .} [الحج: 63] ؟ قالوا: لأن عملية الإنبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من البذرة بعد الإنبات، وتمتصّ الغذاء من التربة، هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى لُطْف، وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة،