المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم يقول سبحانة: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك - تفسير الشعراوي - جـ ١٦

[الشعراوي]

الفصل: ثم يقول سبحانة: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك

{استويت} [المؤمنون:‌

‌ 28]

يعني: استعليتَ وركبتَ أنت ومَنْ معك على الفُلْك واطمأنّ قلبك إلى نجاة المؤمنين معك {فَقُلِ الحمد للَّهِ} [المؤمنون: 28] فلا بد للمؤمن أن يستقبل نِعَم الله عليه بالحمد، وبألَاّ تُنسيه النعمةُ جلالَ المنعِم، فساعةَ أنْ يستتب لك الأمر على الفُلْك وتطمئن بادر بحمد الله.

وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] .

وكأن الحق تبارك وتعالى يعطينا حصانة، ويجعل لنا أسوة بذاته سبحانه، حتى إذا ما تعرضنا لنكران الجميل ممَّنْ أحسنَّا إليه لا نغضب؛ لأن الناس ينكرون الجميل حتى مع الله عز وجل.

لذلك لما قال موسى عليه السلام يا ربّ أسألك أَلاّ يُقال فيَّ ما ليس فيَّ. يعني: لا يتهمني الناس ظلماً، فردَّ عليه ربه عز وجل:«يا موسى، كيف ولم أصنع ذلك لنفسي» .

إذن: فهذه مسألة لا يطمع فيها أحد، ولو أن كل فاعل للجميل يضِنُّ به على الناس لأنهم ينكرونه لَفَسد الحال، وتوقفت المصالح بين الخَلْق، وضَنَّ أهل الخير بخيرهم؛ لذلك وضع لنا ربنا عز وجل الأُسْوة بنفسه سبحانه.

ص: 10018

والإنسان إنْ كان حسيساً لا يقف عند إنكار الجميل، إنما يتعدّى ذلك فيكره مَنْ أحسن إليه ويحقد عليه، ذلك لأن الإنسان مجبول على حب النفس والتعالي والغطرسة، فإذا ما رأى مَنْ أحسن إليه كرهه؛ لأنه يدكُّ فيه كبرياء نفسه، ويَحدُّ من تعاليه.

ومن هنا قالوا: «اتق شرَّ من أحسنت إليه» لماذا؟ لأنه يخزَى ساعة يراك، وهو يريد أنْ يتعالى، ووجودك يكسر عنده هذا التعالي.

إذن: وطِّنْ نفسك على أن الجميل قد يُنكَر حتى لو كان فاعله رب العزة سبحانه، فلا يحزنك أنْ يُنكَر جميلك أنت.

وعن ذلك قال الشاعر:

يَسِير ذَوُو الحاجَاتِ خلفَكَ خُضَّعاً

فَإنْ أدركُوهَا خلَّفوكَ وهَرْوَلُوا

وأفضلُهم مَنْ إنْ ذُكِرْت بسيءٍ

توقَّفَ لا ينفي وقد يتقوّل

فَلا تَدعِ المعْروفَ مهما تنكَّروا

فَإنَّ ثوابَ اللهِ أرْبَى وأجزَلُ

فالمعنى: إذا استويتَ أنت ومَنْ معك، واستتبَّ لك الأمر على الفُلْك، فإياك أنْ تغتَرّ أو تنأى بجانبك فتنسى حَمْد الله على هذه النعمة؛ لذلك أمرنا حين نركب أي مركب أن نقول:«بسم الله مجريها ومرساها» لأنك ما أجريتها بمهارتك وقوتك، إنما باسم الله الذي ألهم، وباسم الله الذي أعان، وباسم الله الذي تابعني، ورعاني بعينه، وما دُمْتَ تذكر المنعم عند النعمة وتعترف لصاحب الفضل بفضله يحفظها لك.

أما أنْ تنكرها على صاحبها، وتنسبها لنفسك، كالذي قال:{إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي. .} [القصص: 78] فيقول: ما دام الأمر كذلك، فحافظ أنت عليه.

ص: 10019

حتى في ركوب الدَّابّة يُعلِّمنا صلى الله عليه وسلم َ أنْ نقول: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون» .

وقوله تعالى: {الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} [المؤمنون: 28] وذكر النجاة لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المنفعة.

ثم يُعلِّمه ربه دعاءً آخر يدعو به حين تستقر به السفينة على الجُودي، وعندما ينزل منها ليباشر حياته الجديدة على الأرض:{وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ. .} .

ص: 10020

وفي موضع آخر قال سبحانه: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ. .} [هود: 48] لأنك ستنزل منها وليست هي مكان معيشتك.

وكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال كما حكى القرآن: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ. .} [الإسراء: 80] .

فلا بُدَّ أن تذكر في النعمة المنعِمَ بها، لذلك فالذين يُصابون في نعم الله عليهم بأعين الحاسدين، ثِقْ تمام الثقة أنهم حين رأوْا نعمة الله عليهم لم يذكروا المنعِم بها، ولو أن الإنسان حين يرى نعمة من نعم الله عليه في ماله أو ولده فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ووضع النعمة في حماية المنعم لضمِن دوام نعمته وسلامتها من أعين الحاسدين؛ لأنه وضعها تحت قانون الصيانة الإلهية.

ص: 10020

ومعنى: {مُنزَلاً مُّبَارَكاً. .} [المؤمنون: 29] الشيء المبارك: الذي يعطي فوق ما يتصور من حجمه، كأن يعيش شخص براتب بسيط عيشة كريمة ويُربِّي أولاده أفضل تربية، فيتساءل الناس: من أين ذلك؟ ونقول: إنها البركة التي تحلّ في القليل فيصير كثيراً، صحيح أن الوارد قليل لكن يُكثِّره قلة المنصرف منه.

وقد مثّلنا لذلك بواحد يرتزق من الحلال، فيُيسِّر الله أمره، ويقضي مصالحه بأيسر تكلفه، فإذا مرض ولده مثلاً يشفيه الله بقرص أسبرين وكوب من الشاي، ولا يفزع لمرضه؛ لأنه مطمئن القلب، راضي النفس، واثق في معونة الله. أما الذي يتكسب من الحرام ويأكل الرشوة. . الخ إنْ مرض ولده يُهرع به إلى الأطباء ويتوقع في ولده أخطر الأمراض، فإنِ ارتشى بعشرة صرف عليها مائة.

وسبق أن قلنا: إن هذه البركة هي رزق السَّلْب الذي لا يزيد من دخلك، إنما يُقلِّل من مصروفاتك.

وكلمة {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} [المؤمنون: 29] أم أنه سبحانه المُنزِل الوحيد؟ الله خير المنزلين يعني: أباح أن يقال للعبد أيضاً مُنزِل حين يُنزل شخصاً في مكان مريح، كأن يُسكنه مثلاً في شقة مريحة، أو يستقبله ضيفاً عليه. . الخ. وإنْ كنتَ منزِلاً بهذا المعنى، فالله عز وجل هو خير المنزلين؛ لأنه سبحانه حين يُنزلك ينزل على قَدْره تعالى، وعلى قَدْر كرمه وعطائه.

إذن: الحق تبارك وتعالى لم يضِنّ عليه خَلْقه أنْ يصفهم بما وصف به نفسه، فلم يضنّ عليك أنْ يصفك بالخَلْق فقال:{فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين. .} [المؤمنون: 14] فأثبت لك صفة الخَلْق، لأنك توجد

ص: 10021