الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسمونه الخالفة وهو اسم الفعل مثل (هيهات) أي بَعُد، فهو اسم يدل على معنى الفعل دون أن يقبل علامات الفعل، ومثله شتان بمعنى تفرق، أف بمعنى أتضجّر. . الخ.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا. .} .
لقد استبعد هؤلاء أمر البعث؛ لأنهم لا يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا، فالأمر عندهم محصور فيها {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا. .} [المؤمنون:
37]
إن: حرف نفي يعني. ما هي، كما جاء في قوله تعالى:{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللائي وَلَدْنَهُمْ. .} [المجادلة: 2] يعني: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدْنَهم.
وقوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا. .} [المؤمنون: 37] قد يظن البعض أنهم بهذا القول يؤمنون بالبعث، لأنهم قالوا:(نموت ونحيا) فكيف يُنكرونه؟
والمراد: نموت نحن، ويحيا من خلف بعدنا من أولادنا، بدليل قولهم بعدها:{إِوَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
يعني: الرجل الذي أخبركم بمسألة البعث {افترى على الله كَذِباً. .} [المؤمنون:
38]
وعجيب منهم هذا القول، فهم يعرفون الله ويعترفون {افترى على الله. .} [المؤمنون: 38] فكيف يكون إلهاً دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلَاّ، فكيف يكون إلهاً دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلَاّ، فكيف ستعرفون منهج الله؟ قالوا: بالعقل، لكن العقل في هذه المسألة لا يصح.
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى: هَبْ أننا نجلس في حجرة مغلقة ودَقَّ جرس الباب، لا شكَّ أننا سنتفق جميعاً على أن طارقاً بالباب، وهذا يسمى «تعقل» ، لكنا سنختلف في التصوُّر: أهو رجل؟ أم امرأة؟ أم طفل، أهو بشير أم نذير؟
…
. الخ.
إذن: نتفق حين نقف عند التعقُّل، لكن كيف نعرف مَنْ بالباب؟ نجعله هو يخبر عن نفسه حين نقول: مَنِ الطارق؟ يقول: أنا فلان، وجئتُ لكذا وكذا. فمَنِ الذي يبلغ عن التعقل؟ صاحبه.
وكذلك عقلك يؤمن بأن الكون له خالق واحد تدلُّ عليه آيات الكون، فأنتَ لو نظرتَ إلى لمبة الكهرباء هذه التي تنير غرفة واحدة، وتأملَ لوجدتَ وراءها مصانع وعدداً وآلات وعمالاً ومهندسين ومخترعين، ومع ذلك لها قدرة محدودة، ولهّا عمر افتراضي وربما كسرت لأيِّ سبب وطفئتْ.
أفلا تنظر كذلك إلى الشمس وتتأمل ما فيها من آيات وعجائب، وكيف أنها تنير نصف الكرة الأرضية في وقت واحد دون أنْ تتعطلَ ودون أنْ تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار، ومع ذلك لم يدَّعها أحد لنفسه، أفلَا يدل ذلك على أن وراء هذا الخَلْق العظيم خالقاً أعظم؟
إذا كنا نُؤرِّخ لمكتشف الكهرباء ومخترع المصباح الكهربائي، ونذكر ماذا صنع؟ وكيف توصّل إلى ما توصّل إليه، أليس يجدر بنا أنْ نبحث في خالق هذا الكون العجيب؟
إنك لو حاولتَ أنْ تنظر إلى قرص الشمس أثناء النهار، فإنَّ نظرك يكلُّ ولا تستطيع، وإذا اشتدت حرارتها لا يطيقها أحد، مع أن بينك وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، كل ثانية فيها ثلاثمائة ألف كيلومتر، فأيّ طاقة هذه التي تنبعث من الشمس؟
ومن عجائبها أيضاً أنك تشعر بحرارتها على الأرض المنبسطة فإذا ما ارتفعت فوق جبل مثلاً أو منطقة عالية تقلّ درجة الحرارة مع أنك تقترب من الشمس، على خلاف ما لو أوقدتَ ناراً مثلاً فتجد أن حرارتها تنخفض كلما ابتعدت عنها، أما الشمس فكلما اقتربت منها قلَّتْ درجة الحرارة، فمَنْ يقدر على هذه الظاهرة؟
فإذا جاء مَنْ يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له: إذن هي لك، إلى أن يأتي منازع يدَّعيها لنفسه، ولم يأت منازع يدَّعيها إلى الآن.
وقولهم: {افترى. .} [المؤمنون: 38] مبالغة منهم في حقِّ رسولهم؛ لأن الافتراء: تعمُّد الكذب، والكذب كما قلنا: أن يأتي الكلام مخالفاً للواقع، وقد يأتي الكلام مخالفاً للواقع لكن حسب علم صاحبه، فهو في ذاته صادق.
سبحان الله، كأن تاريخ الرسالات يعيد نفسه مع المكذِّبين، وكأنه (أكلشيه) ثابت على ألسنة الرسل: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فيتهمونه ويُكذِّبونه ويقولون: ما أنت إلا بشر مثلنا، فتأتي النهاية واحدة: ربِّ انصرني بما كذَّبون، يعني: أبدلني بتكذيبهم نَصْراً.
هذه قَوْلة هود عليه السلام حين كذَّبه قومه، وقوْلة نوح، وقوْلة كل نبي كذَّبه القوم؛ لأن الرسول حين يُكذَّب من الرسل إليهم لا يفزع إلا إلى مَنْ أرسله؛ لأن مَنْ أرسله وعده بالنصرة والتأييد:{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] .
وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ. .} [الحج: 40] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171 - 172] .
فالمعنى: انصرني لأنك أرسلتني، وقد كذَّبني القوم بعد أن استنفدتُ في دعوتهم كل أسبابي، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة، ولم يَعُد لي إلا معونتك. والإنسان حين يستنفد كل الأسباب التي منحه الله إياها دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطراً داخلاً في قوله سبحانه:{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ. .} [النمل: 62] .
إذن: لا تلجأ إلى الله إلا بعد أنْ تؤدي ما عليك أولاً، وتفرغ كل ما طاقتك في سبيل غايتك، لكن لا تقعد عن الأسباب وتقول: يا رب فالأرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة، فاعمل واستنفد أسبابك أولاً حتى تكون في جانب المضطر الذي يُجيب الله دعاءه.
لذلك نسمع كثيراً مَنْ يقول: دعوتُ الله ولم يستجب لي، ونقول له: أنت لم تَدْعُ بدعاء المضطر، أنت تدعو بدعاء مَنْ في يده الأسباب ولكنه تكاسل عنها؛ لذلك لا يُستجاب لك.
وهذه نراها حتى مع البشر، ولله تعالى المثل الأعلى: هَبْ أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك بضاعة من الجمرك مثلاً، وجلست تراقب العمال وهم يُدخِلونها المخازن، فليس من مهامك الحمل والتخزين فهذه مهمة العمال، لكن هَبْ أنك وجدت عاملاً ثقُلَ عليه حِمْله وكاد الصندوق أن يوقعه على الأرض، ماذا يكون موقفك؟ لا شكَّ أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده؛ لأنه فعل كل ما في وُسْعه، واستفرغ كل أسبابه وقواه، فلم تضِنّ أنت عليه بالعون.