الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه، ولم يدَّعِها أحد، فلا يعلم ما في السماء والأرض إلا الله، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال: ما دام الأمر من الله أحكاماً تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها، فما ضرورة أنْ يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم َ للناس كافة.
وقلنا: إن الدين نوعان: نوع لا يختلف باختلاف الرسل والأمم والعصور، وهذا في القضايا العامة الشاملة التي لا تتغير، وهي العقائد والأصول والأخلاق، ونوع آخر يختلف باختلاف العصور والأمم، فيأتي الحكم مناسباً لكل عصر، ولكل أمة.
وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض. .} [الحج:
70]
أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه، فأنا أحكُم عن علم وعن خبرة.
{إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ. .} [الحج: 70] والعلم شيء، والكتاب شيء آخر، فما دام الله تعالى يعلم كل شيء، وما دام سبحانه لا يضل ولا ينسى، فما ضرورة الكتاب؟
قالوا: الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء.
وفي آية أخرى قال: {كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 11 - 15] .
حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] .
وقال تعالى: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] ويقول تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لَا يَعْلَمُهَآ إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] .
فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملائكة المطَّلعين على أن الأشياء التي تحدث مستقبلاً كتبها الله أزلاً، فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون، ثم جاء الشيء موافقاً لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته.
إذن: مجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء، إنما ليكون حُجَّة عليك، فيقال لك:{اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] ها هو تاريخك، وها هي قصتك، ليس كلاماً من عندنا، وإنما فعلْك والحجة عليك.
وعِلْم الله تعالى في قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض. .} [الحج: 70] يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد، وهذا من عجائب الأداء القرآني، أنْ يعطي الشيء ونقيضه، كيف؟ هَبْ أن عندك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر في غَيبتك، فلما عُدْتَ أسرعا بالشكوى، كل من صاحبه، فقلتَ لهما: اسكتا لا أسمع لكما صوتاً. وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه على وَفْق
ما علمت، لا شكَّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر، وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه.
إذن: فعلم الله بكل شيء في السماء والأرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق، ووعيد للمبطل.
ثم يقول سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً. .} .
كأن العبادة - وهي: طاعة أمر واجتناب نهي - يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعاً، فليس لأحد منا أن يُشرِّع للآخر، فيأمره أو ينهاه؛ لأن الأمر من المساوى لك لا مُرجح له، وله أنْ يقول لك: لماذا أنت تأمر وأنا أطيع؟ أما إنْ جاء الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى، تقول: أبي أمرني بكذا وكذا، أو ربي أمرني بكذا وكذا، أو نهاني عن كذا وكذا.
إذن: كل دليل على حكم الفعل أو الترك لا بُدَّ أنْ يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى، فهو الأعلى مني ومنك، وإذا انصعْتَ لأمره ونهيه فلا حرجَ عليَّ ولا ضرر؛ لأنني ما انصعت لمساوٍ إنما انصعت لله الذي أنا وأنت عبيد له، ولا غضاضةَ في أن نتبع حكمه.
لذلك في حِكَم أهل الريف يقولون: (اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم) لماذا؟ لأنك ما قطعته أنت إنما قطعه الله، فليس الأمر تسلط أو جبروت من أحد، وليس فيه مذلّة ولا استكانة لأحد.
ومعنى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله. .} [الحج: 71] يعني: يعبدون غيره تعالى {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً. .} [الحج: 71] السلطان: إما سلطان قَهْر، أو سلطان حجة، سلطان القهر أن يقهرك ويجبرك على ما لم تُرِدْ فِعْله، أما سلطان الحجة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجة أن تفعل باختيارك، وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله ليس لها سلطان، لا قَهْر ولا حُجّة.
لذلك؛ في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي. .} [إبراهيم: 22] يعني: كنتم على إشارة فاستجبتم لي، وليس لي عليكم سلطان، لا قوة أقهركم بها على المعصية، ولا حجة أقنعكم بها.
ثم يقول تعالى: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ. .} [الحج: 71] يعني: علم الاجتهاد الذي يستنبط الأحكام من الحكم المُجْمل الذي يُنزله الحق تبارك وتعالى، وهذه هي حجة العلم التي قال الله تعالى عنها:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. .} [النساء: 83] يعني: أهل العلم.
إذن: العبادة لا بُدَّ أن تكون بسلطان من الله نصاً قاطعاً وصريحاً لا يحتمل الجدل، وإما أنْ تكونَ باجتهاد أُولِي العلم.
وقوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71] لم يقُلْ سبحانه: لن ينتصر الظالمون، ولم ينْفِ عنهم النصر؛ لأن هذه مسألة مُسلمة إنما لا يفزع لنصرتهم أحد، فلن ينتصروا ولن ينصرهم أحد، ولا يفزع أحد لينصر أحداً إلا إذا كان المنصور ضعيفاً.