المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالحجر، كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال - تفسير الشعراوي - جـ ١٦

[الشعراوي]

الفصل: بالحجر، كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال

الحق تبارك وتعالى يُذكّرنا ببعض نعمه وببعض العمليات التي لو تتبعناها لوقفنا بمقتضاها على نِعَم الله علينا، ولم نَنْسها أبداً.

أولها: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ. .} [الحج:‌

‌ 66]

والإحياء: أن يعطي المحيي ما يُحييه قوة يؤدي بها المهمة المخلوق لها. والإحياء الأول في آدم عليه السلام حين خلقه ربه وسوّاه ونفخ فيه من روحه، ثم أوجدنا نحن من ذريته.

{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ. .} [الحج: 66] وكما أن الخَلْق آية من آيات الله، فكذلك الموت آية من آيات الله، نراها ونلمسها، وما دُمْتَ تُصدِّق بآية الخَلْق وآية الموت، وتراهما، ولا تشك فيهما، فحين نقول لك إن بعد هذا حياة أخرى فصدِّق؛ لأن صاحب هذه الآيات واحد، والمقدمات التي تحكم أنت بصدقها يجب أنْ تؤدي إلى نتيجة تحكم أيضاً بصدقها، وها هي المقدمات بين يديك صادقة.

لذلك يقول تعالى بعدها: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. .} [الحج: 66] والإحياء

ص: 9916

يُطلَق في القرآن على معانٍ متعددة، منها الحياة المادية التي تتمثل في الحركة والأكل والشرب، ومنها الحياة في الآخرة التي قال الله عنها:{وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ. .} [العنكبوت: 64] .

وهذه الحياة الحقيقية؛ لأن حياة الدنيا تعتريها الأغيار، ويتقلَّب فيها الإنسان بين القوة والضعف، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والصِّغَر والكِبَر، وبعد ذلك يعتريها الزوال، أما حياة الآخرة التي وصفها الله بأنها الحيوان يعني: مبالغة في الحياة، فهي حياة لا أغيار فيها ولا زوالَ لها.

إذن: لديك حياتان: حياة لِبنْية المادة وبها تتحرك وتُحِس وتعيش، وحياة أخرى باقية لا زوالَ لها.

لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ. .} [الأنفال: 24] كيف - إذن - ونحن أحياء؟ قالوا: لما يحييكم ليست حياة الدنيا المادية التي تعتريها الأغيار، إنما يحييكم الحياةَ الحقيقية في الآخرة، الحياة الباقية التي لا تزول، التي قال الله عنها:{وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] يعني: العلم الحقيقي الذي يهدي صاحبه.

فإن كانت الحياة المادية الدنيوية بنفْخ الروح في الإنسان، فبِمَ تكون الحياة الثانية {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ. .} [الأنفال: 24] .

قالوا: هذه الحياة تكون بروح أيضاً، لكن غير الروح الأولى، إنها بروح القرآن الذي قال الله فيه:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا. .} [الشورى: 52] وسمَّى المَلك الذي ينزل به روحاً: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] .

ص: 9917

فالروح الثانية التي تُحييك الحياة الحقيقية الخالدة هي منهج الله في كتابه الكريم، إن اتبعته نِلْتَ هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتعتَ فيها بما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وهي لا مقطوعة ولا ممنوعة.

ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} [الحج: 66] كفور: صيغة مبالغة من كافر، والكفور الذي لم يعرف للمنعِم حَقّ النعمة، مع أنه لو تبيَّنها لما انفكَّ أبداً عن شكر المنعم سبحانه.

والإنسان يمرُّ بمراحل مختلفة بين الحياة والموت، كما جاء في قوله تعالى:{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] ، فمتى سيقولون هذا الكلام؟

قالوا: هذا يوم القيامة، وقد أحياهم الله من موت العدم، فأحياهم في الدنيا ثم أماتهم، ثم أحياهم في الآخرة، فهناك موت قبل إيجاد، وموت بعد إيجاد، ثم يأتي البعث في القيامة. وقوله تعالى:{وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ. .} [الحج: 66] قضية قالها الخالق عز وجل ولم يدعها أحد لنفسه مع كثرة الكفار والملاحدة والأفاقين في كل زمان ومكان، لم نسمع مَنِ ادَّعَى مسألة الخَلْق، وهذه قضية يجب أن نقف عندها وأن نبحث: لماذا لم يظهر مَنْ يدَّعي ذلك؟ وإذا لم يَدَّع الخَلْق أحدٌ، ولم يدَّع الإحياء أحد، فمَنْ - إذن - صاحب الخَلْق والإحياء والإماتة؟

إذا كان الناس يهتمون ويؤرخون لأيِّ مخترع آلة مثلاً، فيقولون: مخترع الكهرباء فلان وعاش في بلدة كذا، وكان من أمره كذا وكذا، وتعلم في كذا، وحصل على كذا. . الخ فكيف بمَنْ خلقكم

ص: 9918

وأحياكم من عدم؟ خاصة وهذه المسألة لم يتبجح بادعائها أحد فثبتت القضية له سبحانه وتعالى.

ثم يقول الحق سبحانه: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ. .} .

ص: 9919

الحق سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام خليفة له في الأرض، وأجرى له تدريباً على مهمته بالأمر الإلهي والنهي الإلهي، وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته، وحذَّره أن يتبع خطواته، وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الأرض ليباشر مهمته كخليفة لله في أرضه على أنْ يظلَّ على ذِكْر من تجربته مع الشيطان. وقد سخَّر الله له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل من أجله.

ثم أنزل الله عليه منهجاً، يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته، وذكَّره بالمنهج التدريبي السابق الذي كلَّفه به في الجنة، وما حدث له لما خالف منهج ربه، حيث ظهرت عورته:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة. .} [الأعراف: 22] .

كذلك إنْ خالفت هذا المنهج الإلهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في المجتمع في أيّ ناحية: في الاجتماع، في الاقتصاد، في التربية، فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عُطِّل، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لأن منهج الله هو قانون الصيانة

ص: 9919

الذي يحميك وينظم حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة.

كما لو دخلتَ بيتك فوجدتَ آلة من آلات البيت لا تؤدي مهمتها، فتعلم أن بها عطلاً فتذهب بها إلى المهندس المختص بصيانتها، كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردُّوه إلى صاحب صيانته إلى الله وإلى الرسول، وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن ترد الصنعة إلى صانعها، وإلى العالِم بقانون صيانتها، وأنت لم يدّع أحد أنه خلقك، فحين يحدث فيك خَلَل، فعليك أنْ تذهبَ إلى ربك وخالقك.

لذلك «كان النبي صلى الله عليه وسلم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة» ، ومعنى «حزبه أمر» يعني: شيء فوق طاقته وأسبابه، يُهرَع إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه عز وجل، فإنْ وجدتَ في نفسك خللاً في أي ناحية، فما عليك إلا أنْ تتوضأ، وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك.

وإن كان المهندس يُصلح لك الآلة بشيء مادي، ولو قطعة صغيرة من السلك، فإن ربك عز وجل غَيْب، وعلاجه أيضاً غَيْب يأتيك من حيث لا تدري.

ومنهج الله الذي وضعه لصيانة خَلْقه فيه أصول وفيه فروع، الأصول: أن تؤمن بالإله الواحد الفاعل المختار، وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيٌّ من رسالات السماء أبداً، كما يقول تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ. .} [الشورى: 13] .

فهذه أصول لا يختلف عليها دين من الأديان، لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الأرض، تعيش كل جماعة منهم منعزلةً عن

ص: 9920

الأخرى لبُعْد المسافات وانعدام وسائل الاتصال والالتقاء التي نراها اليوم، والتي جعلتْ العالم كله قرية واحدة، ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في أقصى الغرب، وفي نفس الوقت.

لما عاش الناس هذه العزلة لا يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات جديدة.

وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعددت الداءات بتعدد الجماعات، فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج الداءات في جماعة بعينها يُبعَث إلى قومه خاصة، فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان، وهذا ليعالج طغيان المال، وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها، وهذا ليعالج التعصب القبلي.

أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ، فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم َ عامة للناس كافة، وتجد أصول الرسالات عند موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أصولاً واحدة، أمّا الفروع فتختلف باختلاف البيئات.

لكن، لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي، وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر واحد وستتحد فيها الداءات؛ لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعاً على امتداد الزمان والمكان.

وفي هذه الآية: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ. .} [الحج: 67] أي: أن الحق سبحانه جعل لكل أمة من الأمم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لأنهم كانوا في عزلة بعضهم عن بعض، كما جاء في قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً. .} [المائدة: 48] فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة،

ص: 9921

أما الأخلاق والعقائد فهي واحدة، فالله عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء، والكذب مُحرَّم في كل ديانات السماء لم يأْتِ نبي من الأنبياء ليبيح لقومه الكذب.

والمنسك: المنهج التعبدي، ومنه قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 162] .

{هُمْ نَاسِكُوهُ. .} [الحج: 67] يعني: فاعلوه.

ثم يقول سبحانه: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر. .} [الحج: 67] كأنْ يقولوا: أنت رسول ونحن أيضاً نتبع رسولاً، له منهج وله شريعة، نعم: لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع قبلها، ومناسبة لمستجدّات الأمور.

لذلك يُطمئن الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم َ - بعدها: {وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] يعني: أطمئن، فأنت على الحق وادْعُ إلى ربك؛ لأنك على هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيماناً فسيكون إصلاحاً وتقنيناً بشرياً تلجئهم إليه أحداث الحياة ومشاكلها، فلن يجدوا أفضل من شرع الله يحكمون به، وإنْ لم يؤمنوا.

وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: لا تنازعهم ولا ينازعونك، وخُذ ما أمرك الله به:{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الحجر: 94] الذين يجادلونك وينازعونك في الرسالة، وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك ليحلوا به مشاكلهم.

والهدى وُصِف بأنه مستقيم، لأنه هدى من الله صنعه لك، هدى

ص: 9922