الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير) . (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
…
تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرّمه، وتغليظا على من خالف ذلك.
كذلك في (العناية) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها.
قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا: وقيل: لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفر ليلا- بسبب عقد ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.
والثاني رواه البخاريّ- كما في- (أسباب النزول) للسيوطيّ- وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.
الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي إرادته. فقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] .
وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشريّ:
فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني إنا كنا قادرين على الإعادة- كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عبّر عن الفعل المتبدأ- الذي هو سبب الجزاء- بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.
الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه لما
روى الإمام أحمد «1» ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال: له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر» .
وروى البخاري «2» عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلّا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب. فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
وروى الإمام أحمد «3» وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر. فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلّا من حدث.
فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 350.
(2)
أخرجه البخاريّ في: الوضوء، 51- باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، حديث 158.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 225.
وأبو داود في: الطهارة، 25- باب السواك، حديث 48.
وقد روى ابن جرير «1» عن ابن سيرين، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة.
وعن عكرمة: أن عليّا- رضي الله عنه كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية
،
وعن النزال بن سبرة قال: رأيت عليّا صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث
،
وفي رواية: إنه توضأ وضوءا فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث
وكذا حكى أنس عن عمر انه فعله، والطرق كلها جيدة. وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء- فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كلّ صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري «2» وأهل السنن أيضا.
وروى أبو داود «3» والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعا: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات
. وضعفه الترمذي.
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلّا على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.
وفي (العناية) : الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة- أي وأنتم محدثون- بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم- فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا. وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قمتم إلى الصّلاة. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنبا فاطهروا. وهو قريب جدّا. انتهى.
وزعم بعضهم أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ.
واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعا. هذا، وقال
(1) الأثر رقم 11324.
(2)
أخرجه البخاري في: الوضوء، 54- باب الوضوء من غير حدث، حديث 163.
(3)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، 32- باب الرجل يجدد الوضوء من غير حدث، حديث 62.
والترمذي في: الطهارة، 44- باب الوضوء لكل صلاة.
وابن ماجة في: الطهارة، 73- باب الوضوء على الطهارة، حديث 512.
الزمخشريّ: لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملا للمحدثين وغيرهم- لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب- لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وفي (الانتصاف) : من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحد من معانيه على الجمع، أجاز ذلك في الآية. ومن المجوزين لذلك الشافعي- رحمه الله تعالى- وناهيك بإمام الفنّ وقدوته. وإذا وقع البناء على أن صيغة (أفعل) مشتركة بين الوجوب والندب، صحّ تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين.
وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : تمسك بهذه الآية من قال: إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأمّا ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصلّ قط إلّا بوضوء قال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم في (المستدرك) : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق
حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ
…
الحديث.
قال ابن حجر: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلّا بالمدينة، وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في (المغازي) التي يرويها عن أبي الأسود- يتيم عروة- عنه أن جبريل علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل ووصله أحمد «1» من طريق ابن لهيعة أيضا. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة «2» من رواية رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهريّ، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبرانيّ في (الأوسط) من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.
أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 161. [.....]
(2)
أخرجه ابن ماجة في: الطهارة، 58- باب ما جاء في النضح بعد الوضوء، حديث 462.
الرابعة: قيل: في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وأيد بما
رواه أبو داود والنسائي «1» والترمذيّ عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة.
قال الترمذي: حديث حسن.
وروى مسلم «2» عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصلّ فأتوضأ.
وأما اشتراط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف- عند من أوجبه- فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث.
الخامسة: (وجوب غسل الوجه) والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكيّ عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية:
أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يجر. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.
السادسة: (وجوب غسل اليدين) : وهذا مجمع عليه وأما المرفقان، تثنية مرفق (كمنبر ومجلس) موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيّا ب (إلى) تارة يتضح دخوله في الغاية، وطورا لا، وآونة يحتمل.
قال الزمخشري: (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] ، لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين، معسرا وموسرا، وكذلك: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] . لو دخل الليل لوجب الوصال ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] . لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله
(1) أخرجه النسائيّ في: الطهارة، 100- باب الوضوء لكل صلاة.
(2)
أخرجه مسلم في: الحيض، حديث 118- 121.
وقوله إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط. فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاها. انتهى.
قال الرضيّ: الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء. ويجوز دخولهما فيه مع القرينة وقال بعضهم: ما بعد (إلى) ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلّا مجازا. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلّا فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] . قال الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.
قال صاحب (النهاية) : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن
في حديث مسلم «1» مما رواه أبو هريرة: أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك
. واحتج أهل المذهب
بحديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه
. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجبا. انتهى.
وقال المجد ابن تيمية في (المنتقى) : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم (هو بيان للمجمل) فيه نظر. لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية- كما قدمنا- فلا إجمال. والله أعلم.
السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أمر
(1) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث 34.
بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ، لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. انتهى.
الثامنة: أشعر أيضا قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ أن ينتهي في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ (إلى) لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (من) قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.
التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة، من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوؤه. وذهب العترة والإمامية- كما في (البحر) للمهدي- إلى وجوبه. واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتبا أو غير مرتب- قدم اليمنى أو اليسرى- فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة،
فقد روى أحمد وأبو داود «1» عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم» !
وأجيب: بأن الأمر للندب
لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم
، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به. وأيضا
فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدّارقطنيّ
. وروى نحوه البيهقيّ وابن أبي شيبة.
وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك عليّا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ
قال الحافظ ابن حجر:
وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران- وإن كانت ضعيفة- لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لا سيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله.
العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي (الأحكام) من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضررا، لا يشرع المسح. قال:
لأنّ الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح،
لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه
(1) أخرجه أبو داود في: اللباس، 41- باب في الانتعال، حديث 4141.
وابن ماجة في: الطهارة، 42- باب التيمن في الوضوء، حديث 402.
ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود «1» والدّارقطنيّ
. وصححه ابن السكن.
الحادية عشرة: (وجوب مسح الرأس) :
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى:
بِرُؤُسِكُمْ تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برءوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا- وأيّا ما كان- وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم «2» وغيره من حديث المغيرة، أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة «3» ، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليها صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد،
(1)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، 125- باب في المجروح يتيمم، حديث 336 ونصه: عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات.
فلما قدمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك. فقال «قتلوه، قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر (أو يعصب) على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» .
(2)
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث 81، ونصه: عن المغيرة قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفت معه. فلما قضى حاجته قال «أمعك ماء» ؟ فأتيته بمطهرة. فغسل كفيه ووجهه. ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كمّ الجبة. فأخرج يده من تحت الجبة. وألقى الجبة على منكبيه. وغسل ذراعيه. ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. ثم ركب وركبت. فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة. يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة. فلما أحسّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ذهب يتأخر. فأومأ إليه. فصلّى بهم. فلما سلّم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم وقمت. فركعنا الركعة التي سبقتنا
. (3)
أخرجه في البخاري في: الوضوء، 38- باب مسح الرأس كله لقول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، حديث 146 ونصه: أن رجلا قال لعبد الله بن زيد (وهو جدّ عمرو بن يحيى) :
أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم.
فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين. ثم مضمض واستنثر ثلاثا. ثم غسل وجهه ثلاثا. ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين. ثم مسح رأسه بيديه. فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه. ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ثم غسل رجليه.