الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنكار باللسان أو بالعقوبة- كما قاله الراغب- لأنه لا يعاقب إلّا على المنكر فيكون على حد قوله:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فلذا حسن (انتقم منه) مطاوعه، بمعنى عاقبه وجازاه، وإلّا فكيف يخالف المطاوع أصله؟ فافهم. و (نقم) ورد كعلم يعلم وضرب يضرب، وهي الفصحى، ويعدّى ب (من) و (على) . وقال أبو حيّان: أصله أن يتعدى ب (على) . ثم (افتعل) المبنيّ منه، يعدى ب (من) لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا (فعل) بمعنى (افتعل) . كذا في (العناية) .
الثانية: في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس، حيث جعلوا الإيمان بما ذكر، موجبا لنقمه، مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه.
فمعنى الآية: ليس شيء ينقم من المؤمنين. فلا موجب للاستهزاء. وهذا مما تقصد العرب في مثله، تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبدا. ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول نحو:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
…
بهنّ فلول من قراع الكتائب
ومن الثاني هذه الآية وشبهها. أي: ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئا إلّا هذا، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا، فليس شيء ينقمونه، فينبغي أن يؤمنوا به ولا يكفروا.
وفيه أيضا التعريض بكفرهم، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.
الثالث: إسناد الفسق إلى أكثرهم، لأن من قال منهم ما قال، وحمل غيره على العناد، طلبا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة، إنما هو أكثرهم، ولئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ المخاطب بكاف الجمع أهل الكتاب المتقدم ذكرهم، أو الكفار مطلقا، أو المؤمنون. والمشار إليه الأكثر الفاسقون. وتوحيد اسم
الإشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وفي الكلام مقدر أي: بشرّ من حال هؤلاء. وقيل: المشار إليه المتقدمون الذين هم أهل الكتاب، يعني أن السلف شرّ من الخلف. وجعله الزمخشريّ إشارة إلى المنقوم.
وقد جوّد في إيضاحه العلامة أبو السعود بقوله: لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم، ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على من يوجب ارتضاءه عنهم أيضا، وكفرهم بما هو مسلم لهم- أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة، ما هم عليه من الدين المحرف.
وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، على منهاج التعريض. لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد.
ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبيّن، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمر خطيرا، لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر. وحيث كان مناط النقم شرّية المنقوم حقيقة أو اعتقادا، وكان مجرد النقم غير مقيد لشريته البتة، قيل (بشرّ من ذلك) ولم يقل: بأنقم من ذلك، تحقيقا لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها. وقيل: إنما قيل ذلك، لوقوعه في عبارة المخاطبين، حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه
فقال عليه الصلاة والسلام: «أومن بالله وما أنزل إلينا» ..- إلى قوله- ونحن له مسلمون.
فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام، قالوا: لا نعلم شرّا من دينكم. وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين- وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية- مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته، ليثبت أن دينهم شرّ من كل شرّ. أي: هل أخبركم بما هو شرّ في الحقيقة مما تعتقدونه شرّا، وإن كان في نفسه خيرا محضا؟ انتهى.
وقوله: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء ثابتا عند الله. قال الراغب: الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله. سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه، كقوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، ولم يقل: ير جزاءه. والثواب يقال في الخير ولا شر، لكن الأكثر المتعارف في الخير. وكذا المثوبة، وهي مصدر ميميّ بمعناه.
وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة:
تحية بينهم ضرب وجيع
في التهكم. ونصبها على التمييز من (بشرّ) وقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ بدل من