الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى ابن جرير «1» عن أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه. وعن الشعبيّ «2» قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أنّ التيمم، أن يسمح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
وأما من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دلّ على أنه مخيّر. قال في (الشفا) : القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سنّ في كل فرض سننا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقا أو مفهوما، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.
فصل
فيما قاله الصوفية- قدس الله سرهم- من أسرار طهارة هذه الأعضاء:
فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال التي منها تلك الآثار- وهي الأيدي إلى المرافق- لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبا إلّا بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرها. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولا بد منه في الزينة، لا سيّما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا
(1) الأثر رقم 11486.
(2)
الأثر رقم 11480.
تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسرّ فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير (المهايميّ) .
وذكر الشعرانيّ- قدّس سره- في سرّ ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلّا فكل جزء من بدن العبد- ظاهرا وباطنا- ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورا.
مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم. ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجّه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجّه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عز وجل، وكونهما حاملين للجسم كلّه. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سرّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو أكل الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.
وسمعت سيدي عليّا الخوّاص، رحمه الله تعالى، يقول: نعم قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجهه في
الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلا، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات.
فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحا في ظاهر الشرع- من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل- فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء- وجوبا أو استحبابا- وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يصر لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في (ميزانه) رحمه الله تعالى.
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي: بخروج مني أو التقاء ختانين فَاطَّهَّرُوا أي:
بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايميّ: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذا أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدث وَإِنْ كُنْتُمْ جنبا مَرْضى تخافون من استعمال الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي رجع من مكان البراز أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ تذليلا للعضوين الشريفين. وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء. ما يُرِيدُ اللَّهُ أي ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفّر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حال، حتى حال الحدث لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته ورخصته فيثيبكم.
وقد روى ابن جرير «1» عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ
(1) الأثر رقم 11545. [.....]