الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد- أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
إِنَّما جَزاءُ أي مكافأة الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ.
أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: يطردوا منها وينحّوا عنها. وهو التغريب عن المدن، فلا يقرّون فيها ذلِكَ أي: الجزاء المذكور لَهُمْ خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (5) : آية 34]
إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي من المحاربين مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى- روى ابن جرير «1» وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبيّ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه
(1) أخرجه أبو داود في: الحدود، 3- باب ما جاء في المحاربة، حديث 4372 ونصه: عن ابن عباس قال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصابه.
الصفات. كما روى الشيخان «1» وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه: عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا، فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرّة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا، حتى ماتوا. ونزلت: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. الآية. ولمسلم «2» عن أنس قال: إنما سمل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وعند البخاريّ: قال أبو قلابة «3» : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
الثانية- زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.
قال ابن جرير «4» : حدثنا عليّ بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد: ما كان سمل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال:
سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك. وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال:
وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو- بعني الأوزاعيّ- فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممّن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل.
وروى «5» ابن جرير أيضا في القصة عن
(1) أخرجه البخاري في: الوضوء، 66- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث 173.
وأخرجه مسلم في: القسامة، حديث 9- 14.
(2)
أخرجه مسلم في: القسامة، حديث 14.
(3)
أخرجه البخاريّ في: الوضوء، 66- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث 173.
(4)
الأثر رقم 11818 من التفسير.
(5)
الأثر رقم 11810 من التفسير ونصه: عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد ابن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها» . قال، فبينما هم كذلك، إذ جاء الصريخ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي وساقوا النّعم. فأمر نبيّ الله فنودي في الناس: أن «يا خيل الله اركبي» قال، فركبوا، لا ينتظر فارس فارسا. قال: فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم. فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم. فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
…
الآية. قال فكان نفيهم أن نفوهم
سعيد بن جبير قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، قال «1» : لا تمثّلوا بشيء. والنهي عن المثلة مرويّ في الصحيح والسنن.
الثالثة- احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء. لقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً. وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعيد والشافعيّ وأحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال. فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب. لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء. لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالبا إلّا بعض ماله وهذا هو الصواب.
حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة. ودمه إلى السلطان لا إلى وليّ المقتول. ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.
وإنما كان ذلك محاربة، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتزاز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشدّ، لأنه لا يدري به.
وقيل: إنّ المحارب هو المجاهر بالقتال، وإنّ هذا المغتال يكون أمره إلى وليّ أمر الدم. والاول أشبه بأصول الشريعة.
الرابعة- ظاهر الآية: أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع. فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا.
حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبيّ الله منهم، وصلب، وقطع، وسمل الأعين.
قال، فما مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد.
قال: ونهى عن المثلة وقال «لا تمثّلوا بشيء» .
قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. [.....]
(1)
أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث 3 وهو ضمن حديث طويل كان يوصي به صلى الله عليه وسلم، إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية «1» : من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيّب «2» ومجاهد «3» وعطاء «4» والحسن البصري «5» وإبراهيم النخعي «6» والضحاك. كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.
قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر. وللتخيير نظائر من القرآن. كقوله في جزاء الصيد: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [المائدة: 95]، وقوله في كفارة الترفه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196] . وقوله في كفارة اليمين: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89] ، هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال.
أخرج الشافعيّ عن إبراهيم بن أبي يحيي، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، في قطّاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ والحسن وقتادة والسدّيّ وعطاء الخراساني نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى.
وفي (النهاية) من فقه الزيدية: يرجع في المحارب إلى رأي الإمام، فإن كان له رأي قتله أو صلبه- لأن القطع لا يدفع المضرة- وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام، على ما ذكر. انتهى.
(1) الأثر رقم 11850 من تفسير ابن جرير.
(2)
الأثر رقم 11851 من التفسير.
(3)
الأثر رقم 11844 من التفسير.
(4)
الأثر رقم 11848 و 11849 من التفسير.
(5)
الأثر رقم 11846 و 11847 و 11852 و 11853 من التفسير.
(6)
الأثر رقم 11845 من التفسير.
ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهمّا في المحاربين في كتابه (السياسة الشرعية) وقد مثّلهم بقطّاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين، أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم. ثم ساق رواية الشافعيّ المتقدمة عن ابن عباس وقال:
هذا قول كثير من أهل العلم- كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما وهو قريب من قول أبي حنيفة- رحمه الله ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم.
ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال. مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أنّ منهم من يرى أنه إذا يرى أنه إذا أخذوا المال قتّلوا وقطّعوا وصلّبوا. والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدّا لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر. ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول. بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما، أو لخصومة، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة. فإن هذا دمه لأولياء المقتول. إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا. وإن أحبو أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السّرّاق. فكان قتلهم حدّ الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل. مثل أن يكون القاتل حرّا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذمّيّا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء:
هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدّا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم. وكما يحبس بحقوقهم. وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط.
والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة. والردء والمباشر سواء. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين. فإن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء.
ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين. فإن
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «1» : «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد
(1)
أخرجه البخاري في: الفرائض، 21- باب إثم من تبرأ من مواليه، حديث 95 ونصه: قال عليّ رضي الله عنه: ما عندنا كتاب نقرؤه، إلا كتاب الله، غير هذه الصحيفة قال، فأخرجها فإذا فيها
على من سواهم، ويردّ متسرّيهم على قاعدتهم» .
يعني: أن جيش المسلمين إذا تسرّت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، لأنها بظهره وقوّته تمكنت. لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية، إذا كانوا في بدايتهم، الربع بعد الخمس. فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرّت سرية، نفلهم الثلث بعد الخمس. وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية، لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم. وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية.
كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»
. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في (الصحيحين) وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل. لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا- كما قد يفعله الأعراب كثيرا- فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء. كأبي حنيفة والشافعيّ وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قوله تعالى:
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ. تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بالزيت المغليّ ونحوه، لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه. وكذا تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل. فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه، فارتدعوا. بخلاف القتل، فإنه قد ينسى. وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف. فيكون هذا أشدّ تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا، ثم أغمدوه، أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل (نفيهم) تشريدهم. فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو
أشياء من الجراحات وأسنان الإبل. قال، وفيها «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه، يوم القيامة صرف ولا عدل. ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل. وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم. فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل» .
ذلك. والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه. لأن ذلك أوحى (أي:
أسرع) أنواع القتل. وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم «1» : «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح. وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . رواه مسلم.
وقال «2» : «إنّ أعف الناس قتلة أهل الإيمان»
. وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل، عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلّبون ثم يقتلون وهم مصلوبون. وقد جوّز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.
الخامسة: تتمة الآية. أعني قوله تعالى ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقا. ولا يكون الحدّ المذكور طهرة لهم، ولو كانوا مسلمين.
قال السيوطي في (الإكليل) : قال ابن الفرس: ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له، كما تكون في سائر الحدود.
وقال العارف الشعراني في (ميزانه) : سمعت شيخنا، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول: لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا، إلّا المحاربين، لقوله تعالى فيهم: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ.. الآية.
وقال ابن كثير: هذا يرجح رواية نزولها في المشركين. فأما أهل الإسلام
ففي (صحيح مسلم)«3» عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على النساء، ألّا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا. فمن وفي منكم فأجره على الله تعالى، ومن أتى منكم حدّا فأقيم عليه فهو كفارته، ومن ستره الله فأمره إلى الله. إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له» .
السادسة:
دلّ قوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ على أن توبة المحاربين، قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حدّ المحاربين المذكور في الآية. سواء
(1) أخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث 57 عن شدّاد بن أوس.
(2)
أخرجه أبو داود في: الجهاد، 110- باب في النهي عن المثلة، حديث 2666.
(3)
أخرجه مسلم في: الحدود، حديث 43.
كانوا مشركين أو مسلمين. وهو مروي عن علي
وأبيّ هريرة والسدّي وغيره. وقد قال الهادي: إذا تاب المحارب قبل الظفر به، سقط عنه كل تبعة من قتل أو دين، لعموم الآية.
قال ابن كثير: أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر. أي: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة. فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم، ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام. وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة. كما روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة- وكان قد أفسد في الأرض وحارب- فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر.
فكلّموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا- فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. فقال: اكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه جارية بن بدر. وكذا رواه ابن جرير «1» من غير وجه عن مجالد عن الشعبي، فقال حارثة بن بدر:
إلا أبلغا همدان إما لقيتها
…
على النأي لا يسلم عدوّ يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي
…
الإله ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير «2» - من طريق سفيان الثوري عن السدّي، ومن طريق أشعث- كلاهما. عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى- وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى! هذا مقام العائذ بك. أنا فلان بن فلان المرادي. كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان. وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب من قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلّا بخير، (فإن يك صادقا فسبيل من صدق.
(1) الأثر رقم 11879 و 11880 و 11881. من التفسير.
(2)
الأثر رقم 11884 من التفسير. [.....]
وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه) . فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير «1» : حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الليث.
وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الآمر عندنا، أنّ عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] . فوقف عليه فقال: يا عبد الله! أعد قراءتها. فأعادها عليه.
فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السّحر. فاغتسل. ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلّى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه. فقال: لا سبيل لكم علي. جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم- في إمرته على المدينة في زمن معاوية- فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال، فترك من ذلك كله.
قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر. فلقوا الروم. فقرّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم. فاقتحم على الروم في سفينتهم. فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى. فمالت بهم وبه. فغرقوا جميعا.
هذا، وفي تفسير بعض الزيدية- نقلا عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبى حنيفة ومالك والشافعي- أنّ توبة المحارب تسقط الحدود لله، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال، لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] . وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] .
وقوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الإسراء: 33] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى ترد» «2»
وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيبة من نفسه» .
قال في (شرح الإبانة) : وروى زيد بن عليّ بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّ قاطع الطريق، إذا تاب قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام. ضمن المال واقتص منه. ثم قال: أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود.
انتهى.
(1) الأثر رقم 11889 من التفسير.
(2)
أخرجه الترمذي في: البيوع، 39- باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ونصه: عن سمرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» .