الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معرفة الله في الإيجاد والربوبية. لأنهما سببان قريبان في الوجود والتربية. وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته. ولهذا قال: (من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلّا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته. ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر. فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق.
وأن أرزاق العباد بيده، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال. فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى. والثانية من خطئها في معرفة صفاته. والثالثة من معرفة أفعاله.
فلا يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وهذه الحجب أمّ الرذائل وأساسها. ثم بيّن رذيلة القوة البهيمية لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ. الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنعام (6) : آية 152]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
أي: بوجه من الوجوه إِلَّا بِالَّتِي
أي:
بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ
يعني أنفع له. كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضا. لا بأكله، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه، فإنه أفحش. وقد ذكرنا طرفا فيما رخص فيه لوليّ اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] وقد روى (أبو داود)«1» عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
الآية، و: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى [النساء: 10] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. قيل: إنما خص تعالى مال
(1) أخرجه أبو داود في: الوصايا، 7- باب مخالطة اليتيم في الطعام، حديث 2871. [.....]
اليتيم بالذكر، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره. فكانت الأطماع في ماله أشد. فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته، وأمر بتنميته. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
أي قوته التي يقدر بها على حفظه واستنمائه، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي، كأنه قيل: احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا. فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ. والأشد جمع (شدة) كنعمة وأنعم، أو شدّ ككلب وأكلب، أو شد كصرّ وآصر. وقيل هو مفرد كآنك وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
أي بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء. وقد توعد تعالى على تركه في قوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 1- 6] .
قال ابن كثير: وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال.
روى الترمذيّ «1» عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لأصحاب الكيل والميزان) : إنكم وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم.
ثم ضعفه وصحح وقفه على ابن عباس. وروى نحوه ابن مردويه مرفوعا، ولفظه: إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين، بهما هلكت القرون المتقدمة: المكيال والميزان.
لا نُكَلِّفُ نَفْساً
أي: عند الكيل والوزن إِلَّا وُسْعَها
أي: جهدها بالعدل.
وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل، لبيان أن مراعاة الحدّ من القسط، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مما يجري فيه الحرج، لصعوبة رعايته. فأمر ببلوغ الوسع، وأن الذي ما وراءه معفوّ عنه.
وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيّب قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
: من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ» .
قال ابن المسيّب: وذلك تأويل (وسعها) قال ابن كثير: هذا مرسل غريب.
وفي (العناية) : يحتمل رجوع قوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلى ما تقدم. أي جميع ما كلفناكم ممكن، ونحن لا نكلف ما لا يطاق. انتهى. والأول
(1) أخرجه الترمذي في: البيوع، 9- باب ما جاء في المكيال والميزان.