المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الصّافّات سورة (الصافات) مكية، وهي مئة واثنتان وثمانون آية، وثمانمئة - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الصّافّات سورة (الصافات) مكية، وهي مئة واثنتان وثمانون آية، وثمانمئة

‌سورة الصّافّات

سورة (الصافات) مكية، وهي مئة واثنتان وثمانون آية، وثمانمئة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمئة، وستة وعشرون حرفا، وسميت ب:(الصافات) كناية عن الملائكة، تذكيرا للعباد بالملأ الأعلى من الملائكة الأطهار؛ الذين لا ينفكون عن عبادة الله تعالى؛ الذين قال الله في حقهم:

{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} .

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالصَّافّاتِ صَفًّا (1) فَالزّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)}

الشرح: {وَالصَّافّاتِ صَفًّا} المراد: الملائكة، وهو قول ابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، وغيرهم. روى مسلم عن جابر بن سمرة-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّهم؟» . قلنا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربهم.؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يتمّون الصفوف المتقدمة، ويتراصّون في الصّفّ» . وقيل:

المراد: المجاهدون في سبيل الله؛ الذين يقفون أمام أعداء الله صفوفا متراصّين لا يتزحزحون، ولا يتضعضعون. وقيل: المراد المصلون؛ الذين يصطفون صفوفا في الصلاة. وقيل: المراد الطير؛ التي تصف أجنحتها، كقوله تعالى:{وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ} . والمعتمد الأول. والله أعلم.

{فَالزّاجِراتِ زَجْراً:} الزجر: الدفع بقوة، وهو قوة الصوت، وشدته، والمراد: الملائكة التي تزجر السحاب، وتسوقه إلى حيث شاء الله. من: الزجر بمعنى: السوق، والحث. وانظر الآية رقم [19] الآتية. {فَالتّالِياتِ ذِكْراً:} الملائكة تقرأ كتاب الله، أو المراد: تقرأ آيات الله على أنبيائه، وأوليائه مع ما هم عليه من التسبيح، والتقديس، والتحميد، والتمجيد للإله المجيد الحميد.

{إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ:} هو جواب القسم، والخطاب لأهل مكة؛ الذين حكى الله عنهم قولهم:

{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً} . {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما:} مالك السموات، والأرض، وما بينهما، ومتصرف فيهما تصرف الملاك، فإن وجودهما، وانتظامهما على هذا النمط البديع من أوضح الدلائل على وجود الله، ووحدانيته، واستقلاله بملكهما، وتصرفهما. هذا؛ ولم يقل: وما بينهن لأنه أراد بين الصنفين أو النوعين، أو الشيئين، ومثله قول القطامي:[الوافر]

ص: 5

ألم يحزنك أنّ حبال قيس

وتغلب قد تباينت انقطاعا؟

أراد: وحبال تغلب، فثنّى. والحبال: جمع فثناهما؛؛ لأنه أراد الشيئين، أو النوعين، أو لأنه ثناهما على تأويلهما بالجماعة، وتثنية الجمع جائزة على تأويل الجماعتين. قال الشاعر يذم عاملا على الصدقات:[البسيط] سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟!

لأصبح الناس أوبادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

فقد ثنّى: «جمال» الذي هو جمع: جمل، والعقال: صدقة عام، والسبد: المال القليل، واللّبد: المال الكثير. وأوبادا: هلكى جمع: وبد، فهو يقول: صار عمرو عاملا على الصدقات سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموال الناس بغير حق حتى لم يبق لنا إلا شيء قليل من المال، فكيف حالنا، أو كيف يبقى لأحد شيء لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟! ثم أقسم، فقال: والله لو صار عمرو عاملا على الصدقات لسنتين؛ لصارت القبيلة هلكى، فلا يكون لهم عند التفرق في الحرب جمالان، فيختل أمر الغزوات.

{وَرَبُّ الْمَشارِقِ} أي: ورب المغارب، فاكتفى بذكر الأول عن الثاني؛ لدلالة الكلام عليه.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [115]: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فالمراد بهما ناحيتا الأرض؛ إذ له سبحانه الأرض كلها، لا يختص به مكان دون مكان. وقال تعالى في سورة (الرحمن) رقم [17]:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشتاء، والصيف، ومغربيهما. وقال تعالى في سورة (المعارج):{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ} فقد جمع المشرق، والمغرب، كما ترى باعتبار مشارق الشمس، ومغاربها في السنة، وهي ثلاثمئة وخمس وستون كوة في مطلعها، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع كل يوم في كوّة منها، وتغيب في كوة، لا تطلع، ولا تغرب في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل. قال أمية بن أبي الصلت؛ الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:«آمن شعره، وكفر قلبه» : [الطويل] زحل وثور تحت رجل يمينه

والنّسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تطلع كلّ آخر ليلة

حمراء يصبح لونها يتورّد

ليست بطالعة لهم في رسلها

إلاّ معذّبة وإلا تجلد

قال عكرمة: فقلت لابن عباس: يا مولاي أتجلد الشمس؟ فقال: إنما اضطره الرّوي إلى الجلد، لكنها تخاف العقاب. انتهى. قرطبي. بقي أن تعرف حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات، كما في هذه الآيات هنا، وفي أوائل (المرسلات) وأوائل (النازعات)، وخذ قول ابن زيابة سلمة بن ذهل، وهو الشاهد رقم (296) من كتابنا «فتح القريب المجيب»:[السريع]

ص: 6

يا لهف زيّابة للحارث الصّ

ابح فالغانم فالآيب

قيل: إما أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كما في هذا البيت، كأنه قال: الذي صبّح فغنم فآب. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«رحم الله المحلّقين فالمقصّرين» . وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل، فالأكمل، واعمل الأحسن، فالأجمل. انتهى. كشاف، وقرطبي بتصرف.

الإعراب: {وَالصَّافّاتِ:} الواو: حرف قسم وجر، (الصافات): مقسم به، أقسم به وبأمثاله في أوائل السور، إظهارا لعظم شأنها، وكبير فوائدها، وتنبيها للعباد على جلالة قدرها. هذا؛ وقيل: إن المقسم به محذوف، التقدير: ورب الصافات، ونحوه. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، وفاعل (الصافات) مستتر، تقديره:«هو» ، ومفعوله محذوف، التقدير: الصافات أجنحتها، ونحوه. {صَفًّا:} مفعول مطلق مؤكد. {فَالزّاجِراتِ زَجْراً:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق، مع تقدير المفعول المحذوف ب: الزاجرات السحاب زجرا.

{فَالتّالِياتِ ذِكْراً:} معطوف أيضا على ما قبله، مع التصريح بالمفعول به. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {إِلهَكُمْ:} اسم {إِنَّ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَواحِدٌ:} خبر:

{إِنَّ،} واللام هي المزحلقة. {رَبُّ:} بالرفع خبر ثان ل: {إِنَّ،} أو هو بدل من: (واحد)، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو رب. وحكى الأخفش النصب على وجهين: أحدهما: هو نعت لاسم: {إِنَّ،} وثانيهما: هو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني. و {رَبُّ} مضاف و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:}

معطوف على ما قبله. {وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {وَرَبُّ:} معطوف على سابقه، و (رب) مضاف، و {الْمَشارِقِ} مضاف إليه

إلخ.

{إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)}

الشرح: {إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا:} القربى منكم. {بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ:} يقرأ بتنوين (زينة) وعدم التنوين، و {الْكَواكِبِ:} النجوم. قال قتادة: خلقت النجوم ثلاثا: رجوما للشياطين، ونورا يهتدى بها، وزينة لسماء الدنيا. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: بضوء الكواكب؛ لأن الضوء، والنور من أحسن الصفات، وأكملها، ولو لم تحصل هذه الكواكب في السماء، لكانت شديدة الظلمة عند غروب الشمس. وقيل: زينتها: أشكالها المتناسبة، والمختلفة في الشكل، كشكل

ص: 7

الجوزاء، وبنات نعش، وغيرها. وقيل: إن الإنسان إذا نظر في الليلة المظلمة إلى السماء، ورأى هذه الكواكب الزواهر مشرقة متلألئة على سطح أزرق؛ نظر غاية الزينة.

{وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} أي: وحفظنا السماء من كل شيطان متمرد عات خارج عن الطاعة يرمى بالشهب وهذه الآية مثل قوله تعالى في سورة (الملك) رقم [5]: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ} وقوله تعالى في سورة الحجر رقم [16]: {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ} .

هذا ويقال: «مرد» من بابي: نصر، وظرف: إذا عتا، وتجبر، فهو مارد، ومريد، وجمعه:

مردة، ومرد، وماردون، ومرّاد. ومؤنثه: مرداء. ومرد: استمر على الشيء، قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ} رقم [101] من سورة (التوبة).

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {زَيَّنَّا:} فعل، وفاعل. {السَّماءَ:} مفعول به. {الدُّنْيا:} صفة {السَّماءَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {بِزِينَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْكَواكِبِ:} بالجر، وتنوين:(زينة)، فهو بدل منها. هذا؛ ويقرأ بالنصب على أنه مفعول به ل:(زينة) على اعتبارها مصدرا، أو هو مفعول به بإضمار: أعني، كأنه قال: إنا زيناها بزينة؛ أعني: الكواكب. ويقرأ بالرفع على أنه فاعل {بِزِينَةٍ} على معنى: زينتها الكواكب، أو هي خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي الكواكب، وهذه الجملة تكون في محل جر صفة:(زينة). هذا؛ ويقرأ بالإضافة، وحذف التنوين، وفي هذه الإضافة ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون إضافة أعم إلى أخص، فتكون للبيان، نحو: ثوب خز، وخاتم حديد. الثاني: أن الإضافة من إضافة المصدر لفاعله. الثالث: أن الإضافة من إضافة المصدر لمفعوله. وجملة: {زَيَّنَّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها.

{وَحِفْظاً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: وحفظناها حفظا. والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة: {زَيَّنَّا..} . إلخ، أو هو مفعول لأجله على اعتبار الواو صلة. والعامل:{زَيَّنَّا} أو العامل محذوف، التقدير: وفعلنا ذلك؛ لأجل الحفظ. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان ب: (حفظا)، أو بمحذوف صفة له، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْطانٍ} مضاف إليه. {مارِدٍ:} صفة: {شَيْطانٍ} .

{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)}

الشرح: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى:} واو الجماعة عائدة إلى {شَيْطانٍ مارِدٍ} وإنما جمع؛ لأنه في معنى الشياطين، أو في معنى كل شيطان. والملأ الأعلى: الملائكة الكرام، والملأ الأسفل: الإنس، والجن الذين يعيشون في الأرض، وتعدى الفعل ب:{إِلَى؛} لأنه ضمن

ص: 8

معنى: يصغون، ويدركون بخلاف ما إذا عدي بنفسه، فإنه يفيد الإدراك فقط، والمعنى:

لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي. وقيل المعنى: لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى، فحذفت:«أن» وارتفع الفعل على حد قول طرفة في معلقته رقم [53]: [الطويل] ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي؟

واستقبحه الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي؛ لأنه يكون قد جمع فيه بين حذفين: اللام الجارة، و «أن» مع أن حذف واحد منهما على انفراده وارد، ومقبول.

{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ} أي: ويرمون بالشهب من كل جانب من جوانب السماء؛ إذا قصدوا صعوده، وراموا استراق السمع. {دُحُوراً} أي: يدحرون دحورا، بمعنى: يطردون طردا. {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} أي: دائم، وموجع، وهذا العذاب يكون لهم في الآخرة.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت الشياطين، لا يحجبون عن السموات، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها، فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام؛ منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو: الشعلة من النار، فلا يخطئه أبدا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله، فيصير غولا يضل الناس في الفلوات، والبراري. انتهى. جمل.

{واصِبٌ:} دائم، ومنه قوله تعالى في سورة النحل رقم [52]{وَلَهُ الدِّينُ واصِباً} .

وبسبب ذلك بطلت الكهانة، فإن قيل: إن هذا القذف إن كان لأجل النبوة؛ فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: أنه دام بدوام النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة، فقال:«ليس منا من تكهن» . فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها، وعادت الكهانة، ولا يجوز ذلك بعد أن بطل، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة، فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يؤمن أن يظنوا: أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة، فصح: أن الحكمة تقتضي دوام الحراسة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن توفاه الله إلى دار كرامته.

الإعراب: {لا:} نافية. {يَسَّمَّعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَيُقْذَفُونَ:} الواو:

حرف عطف. (يقذفون): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مِنْ كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {كُلِّ} مضاف، و {جانِبٍ} مضاف إليه. {دُحُوراً:} مفعول مطلق من معنى:

(يقذفون). أو هو مصدر في موضع الحال بمعنى: مدحورين. أو هو مفعول لأجله. {وَلَهُمْ:}

الواو: حرف استئناف. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة. {واصِبٌ:} صفة: {عَذابٌ} .

ص: 9

{إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)}

الشرح: {إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يأتيه الشهاب، فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما رأيت. هذا؛ والخطف: الأخذ بسرعة، والخطف: الاختلاس. والمراد: اختلاس كلام الملائكة مسارقة، وبسرعة شديدة.

{فَأَتْبَعَهُ:} بمعنى: تبعه. {شِهابٌ:} هو ما يرى كأنه كوكب ينقض. {ثاقِبٌ:} مضيء، كأنه يثقب الجو بضوئه. وقيل: يثقب الشيطان، أو يحرقه، أو يخبله. والأول أولى. هذا؛ ورجل ثاقب الرأي: إذا كان صحيح التفكير، نافذ البصيرة. ولا يقال: إن الشيطان من النار، فلا يحترق؛ لأنه ليس من النار الصرف، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص، مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها.

تنبيه: فإن قلت: جعل الكواكب زينة للسماء الدنيا يقتضي ثبوتها، وبقاءها فيها، وجعلها رجوما للشياطين يقتضي زوالها، وانفصالها عنها؛ فكيف الجمع بين هاتين الحالتين؟ قلت:

قالوا: إنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن ينفصل من الكوكب شعلة يرمى بها الشيطان، والكوكب باق بحاله، وهذا كمثل القبس الذي يؤخذ من النار، وهي بحالها.

فإن قلت: إذا كان الشيطان يعلم: أنه يصاب، ولا يصل إلى مقصوده، فكيف يعود مرة أخرى؟ أو كيف يحاول استراق السمع؛ وقد رأى غيره قد احترق؟! قلت: يعود رجاء نيل المقصود، وطمعا في السلامة، كراكب البحر، فإنه يشاهد الغرق أحيانا، لكن يعود إلى ركوبه رجاء السلامة، ونيل المقصود. انتهى. خازن بتصرف. هذا وانظر ما ذكرته في الآية رقم [18] من سورة (الحجر) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان للشياطين مقاعد في السماء، فكانوا يسمعون الوحي، وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا ترمى، فإذا سمعوا الوحي؛ نزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه شهاب، فلم يخطئه؛ حتى يحرقه، فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله، فقال: ما هو إلا من أمر حدث، فبعث جنوده يبحثون في الأرض، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة-قال وكيع: يعني: بطن نخلة-قال: فرجعوا إلى إبليس، فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث! أخرجه ابن جرير. وانظر ما ذكرته في سورة (سبأ)[23] فإنه جيد. وأيضا في سورة (الجن).

ص: 10

الإعراب: {إِلاّ:} حرف حصر، أو أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء، أو في محل رفع بدل من واو الجماعة؛ لأن الكلام تام منفي، وما كان من هذا الباب يجوز فيه الوجهان. {خَطِفَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره:«هو» . {الْخَطْفَةَ:} مفعول به، وقيل: مفعول مطلق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. وهذا الإعراب يجعل الجملة الفعلية الآتية غير مرتبطة بما قبلها إعرابا مع أنها مرتبطة به معنى، لذا فالوجه اعتبار:{مَنْ} مبتدأ، والجملة الفعلية الآتية في محل رفع خبره، والفاء زائدة لتحسين اللفظ؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب على الاستثناء المنقطع من مضمون الكلام السابق. وقول الجمل: «ويجوز أن تكون {مَنْ} شرطية» لا وجه له ألبتة. {فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ:}

ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، أو في محل رفع خبر:

{مَنْ} وهو المعتمد. {ثاقِبٌ:} صفة: {شِهابٌ} .

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)}

الشرح: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: اسأل أهل مكة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا} أي: أيهم أقوى بنية، وأشد خلقا، هل هم، أم السموات، والأرض وما بينهما من الملائكة، والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ فإنهم يقرون: أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فلم ينكرون البعث؛ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما ينكرون؟! كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .

رقم [57] من سورة غافر. {إِنّا خَلَقْناهُمْ} أي: ابتدأنا خلقهم. {مِنْ طِينٍ لازِبٍ:} لاصق، لازق، ومنه قول علي-رضي الله عنه:[الطويل] تعلّم فإنّ الله زادك بسطة

وأخلاق خير كلّها لك لازب

وقال النابغة الذبياني: [الطويل] ولا تحسبون الخير لا شرّ بعده

ولا تحسبون الشّرّ ضربة لازب

فلم تحذف النون من الفعلين حملا ل: «لا» الناهية على النافية، وذلك لضرورة الشعر. وهذا يسمى بتقارض اللفظين. انظر مبحثه في كتابنا فتح القريب المجيب.

وقال عكرمة: {لازِبٍ:} لزج. وقال سعيد بن جبير: أي: جيد، حر، يلصق باليد. وقال مجاهد:{لازِبٍ:} لازم. والعرب تقول: طين لازم، ولازب، والمراد: خلق آدم عليه السلام من الطين، والبشرية نسله، فهم مخلوقون من الطين مثله بالانتساب إليه. وهذا خلق غير مباشر،

ص: 11

وهناك خلق مباشر من الطين؛ إذا فكرنا في أصل كل إنسان بأنه من النطفة المذرة، وهي من الدم، والدم من الطعام والشراب، وهما من الأرض بلا ريب. هذا؛ ويقال: استفتى، استفتاء العالم في مسألة: سأله أن يفتيه فيها. والفتوى والفتوى، والفتيا: اسم ما أفتى به العالم؛ إذا بيّن الحكم، والجمع الفتاوي، والفتاوى، مثل الصحاري، والصحارى، والعذاري، والعذارى.

الإعراب: {فَاسْتَفْتِهِمْ:} الفاء: حرف استئناف، (استفتهم): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {أَهُمْ:} الهمزة: حرف استفهام. (هم): مبتدأ. {أَشَدُّ:} خبره. {خَلْقاً:} تمييز، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان للفعل قبلها، المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَمْ:} حرف عطف. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{خَلَقْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة {مَنْ،} والعائد محذوف، التقدير: أم الذين خلقناهم. والخبر محذوف، تقديره: أشد. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها، والجملة الفعلية:{فَاسْتَفْتِهِمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وأفاد الجمل: أن الجملة واقعة في جواب شرط مقدر، وعليه فالفاء هي الفصيحة، ويكون التقدير:

وإذا كان هؤلاء لا يؤمنون بالله؛ فاسألهم أهم أشد

إلخ. والمعنى: إن شئت أن تقرعهم، وتؤنبهم؛ فاستفتهم

إلخ. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {خَلَقْناهُمْ:}

فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ طِينٍ:} متعلقان بما قبلهما. {لازِبٍ:} صفة: {طِينٍ} .

{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)}

الشرح: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي: بل عجبت يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون منك، ومما تقول لهم في ذلك. هذا؛ وقرئ بضم التاء على إسناد العجب إلى الله تعالى، وليس هو كالتعجب من الآدميين؛ لأن العجب من الناس محمول على إنكار الشيء، وتعظيمه، والعجب من الله تعالى محمول على تعظيم تلك الحالة، فإن كانت قبيحة؛ يترتب عليها العقاب، وإن كانت حسنة؛ يترتب عليها الثواب. وسئل الجنيد-رحمه الله تعالى-عن هذه الآية، فقال: إن الله لا يعجب من شيء، ولكن وافق رسوله، ولما عجب رسوله صلى الله عليه وسلم قال:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ..} . إلخ الآية رقم [5] من سورة (الرعد).

{وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ:} وإذا وعظوا بالقرآن، وخوفوا به؛ لا يتعظون، ولا يتدبرون. {وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ:} وإذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة، تدل على صدقك، كانشقاق القمر، وتكليم

ص: 12

الشجر، والحجر، يبالغون في السخرية، والاستهزاء، أو يدعون غيرهم، ويحضونهم على ذلك.

هذا؛ وقيل: يسخر، ويستسخر بمعنى: واحد، والسين والتاء ليستا للطلب على الاعتبارين.

{وَقالُوا إِنْ هذا} أي: القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. {إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ:} وذلك كان منهم وقت أن عجزوا عن مقابلة المعجزات بشيء، أو عجزوا عن معارضة القرآن، قالوا: هذا سحر، وتخييل وخداع.

هذا؛ والسحر: كل ما لطف، ودق. يقال: سحره: إذا أبدى له أمرا يدق عليه، ويخفى.

وقال الغزالي في الإحياء ما نصّه: السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر، وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الحواس هيكل على صورة الشخص المسحور، ويترصد له وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور. هذا؛ والمعتمد: إن تعلمه لدفع الضرر عن نفسه، أو عن غيره، أو اتخذه الشخص ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله؛ بقي على الإيمان، فلا كفر باعتقاد حقيقته، وجواز العمل به من غير إضرار بأحد.

هذا؛ والعجب (بفتح العين، والجيم): انفعال نفساني، يعتري الإنسان عند استعظامه، أو استطرافه، أو إنكاره ما يرد عليه. وقال الراغب: العجب: حيرة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة حقيقية، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه. وحقيقة أعجبني كذا: ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه. وانظره في حق الله تعالى في أول الشرح. هذا؛ والعجب (بضم العين، وسكون الجيم): رؤية النفس، وحقيقته أن يرى الإنسان نفسه فوق غيره علما، أو ورعا، أو أدبا، أو غير ذلك، ويعتقد أن له منزلة لا يدانيه فيها سواه، وهذا هو الكبر الذي يدخل صاحبه جهنم، وبئس المصير!.

الإعراب: {بَلْ:} حرف انتقال تستأنف بعده الجمل. {عَجِبْتَ:} فعل، وفاعل، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَيَسْخَرُونَ:} الواو: حرف استئناف.

(يسخرون): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وقيل: هي في محل نصب حال، وهذا لا يصح إلا بتقدير مبتدأ، أي: وهم يسخرون، وعليه:

فالجملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المقدر في المتعلق المحذوف، والرابط: الواو، والضمير. {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف.

(إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {ذُكِّرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا)

ص: 13

إليها، {لا:} نافية. {يَذْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله، وأيضا:{وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ:} كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف، (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر.

{سِحْرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبِينٌ:} صفة: {سِحْرٌ} . والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثله.

{أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ (16)}

الشرح: {أَإِذا،} {أَإِنّا:} يقرأ هذان اللفظان بقراآت كثيرة، جملتها تسع، وكلها سبعية، وهذه الآية قد ذكرت بحروفها كاملة في الآية رقم [82] من سورة (المؤمنون)، وبمعناها في الآية رقم [49] و [98] من سورة (الإسراء). هذا؛ و {مِتْنا} يقرأ بضم الميم، وكسرها، فالأول من باب: نصر، وقتل، ك: قلت وصنت، والثاني من باب: علم، وفهم، ك: خفت، ونمت. وقول المفسرين: من: مات، يمات، كخاف، يخاف، ونام، ينام، وهو بعد الإعلال يعود إلى باب:

علم. هذا؛ وقول المشركين في هذه الآية، وأمثالها تعجب منهم، واستبعاد للبعث بعد الموت، وفناء الجسد، وشاعرهم هو الذي يقول:[الوافر]

ألا من بلّغ الرحمن عني

بأنّي تارك شهر الصيام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام؟!

أتترك أن تردّ الموت عنّي

وتحييني إذا بليت عظامي؟

فهو يقصد بابن كبشة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة هي كنية زوج حليمة السعدية، مرضعته صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يطلقون عليه ذلك تحقيرا له صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يتأملوا: أنهم كانوا قبل ذلك ترابا، فخلقهم الله، وأظهرهم إلى الوجود، وهم ظنوا: أن البعث، والإعادة يكونان في الدنيا، وهم لم يروا أحدا رجع إلى الدنيا ممن تقدمهم.

الإعراب: {أَإِذا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان

إلخ، وهذا عند سيبويه، رحمه الله تعالى. {مِتْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وجواب (إذا) محذوف دل عليه الجملة الآتية، التقدير: أئذا متنا

نبعث. ولا يجوز أن يعمل فيها (مبعوثون)؛ لأن ما بعد (إنّ) لا يعمل فيما قبلها، وينبغي أن تعلم: أنّ (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية، فإن تقدير الكلام: (أنبعث إذا

) إلخ

ص: 14

وهذا قول غير سيبويه. {وَكُنّا:} الواو: حرف عطف. (كنا): فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه، {تُراباً:} خبره، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَعِظاماً:} معطوف على ما قبله. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إنا):

حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمَبْعُوثُونَ:}

اللام: هي المزحلقة. (مبعثون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{أَإِنّا..} . إلخ مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة في الإنكار وبدون الاستفهام فيها حصل الإنكار بالأولى، وهذه مرتبطة فيها، فالإنكار، بالأولى إنكار فيها أيضا، ولا تنس:

أن الآية في محل نصب مقول القول ل: (قالوا) في الآية السابقة.

{أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)}

الشرح: {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ} أي: أو آباؤنا الأولون كذلك سيبعثون؟! وهذا منهم زيادة استبعاد في الحشر، والحساب، والجزاء بعد الموت. يعنون: أنهم أقدم منهم، فبعثهم أبعد، وأبطل. {قُلْ:} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم. {نَعَمْ} أي: نعم تبعثون بلا شك وبلا ريب ورغم أنوفكم، {وَأَنْتُمْ داخِرُونَ:} صاغرون، أذلاء حقيرون. قال تعالى:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} . الآية رقم [87] من سورة (النمل)، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} . الآية رقم [60] من سورة (غافر). {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ:} المراد بها: الصيحة الثانية، وهي صيحة إسرافيل، التي رأيتها في الآية رقم [49] من سورة (يس) وما بعدها، وإنما سميت الصيحة:

زجرة؛ لأن مقصودها الزجر، أي: يزجر بها كزجر الإبل، والخيل، وغيرهما عند السوق. قال النابغة الجعدي-رضي الله عنه:[المنسرح] زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم

أبو عروة: هذه كنية العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته المعروفة في الإسلام أبو الفضل، وكان ممن يضرب به المثل في شدة الصوت، وهم يزعمون: أنه كان يصيح بالسباع، فيفتق مرارة السبع في جوفه. ويروى أنّه صاح يوم حنين: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته. انتهى.

شرح شواهد الكشاف لمحب الدين الخطيب، رحمه الله تعالى.

{فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ} أي: ينظر بعضهم إلى بعض. أو المعنى: فإذا هم قيام بين يدي الله ينظرون إلى أهوال القيامة، وينتظرون ما يفعل بهم. هذا؛ و {نَعَمْ} حرف جواب، كأجل، وجير، وإي، وبلى. ونقيضها: لا، و {نَعَمْ} تكون لتصديق المخبر، أو إعلام المستخبر، أو وعد الطالب.

وانظر الكلام عليها، وعلى:«لا» و «بلى» في كتابنا: «فتح القريب المجيب» .

ص: 15

الإعراب: {أَوَ:} الهمزة: حرف استفهام. الواو: حرف عطف. هذا؛ وقرئ بسكون الواو على أنها (أو) العاطفة المقتضية للشك، وأكثرهم قرأ بفتحها، فمن فتح الواو أجاز في:{آباؤُنَا} وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا على محل (إنّ) واسمها، والثاني أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في:{لَمَبْعُوثُونَ،} واستغنى عن الفاصل المطلوب بالفصل بهمزة الاستفهام. ومن سكنها تعين فيه الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل. انتهى. جمل نقلا عن السمين. هذا؛ وعلى تسكين الواو يكون {آباؤُنَا} مبتدأ خبره محذوف، ويكون فحوى الكلام عطف جملة على جملة، التقدير: أنحن نبعث، أم آباؤنا يبعثون؟ وهذه الآية مذكورة بحروفها في سورة (الواقعة) برقم [48].

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {نَعَمْ:} حرف جواب مبني على السكون في محل نصب مقول القول. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال، والجملة الاسمية:

(أنتم داخرون) في محل نصب حال، والعامل فيها:{نَعَمْ} بالنظر لمعناها، ولذلك فسرها الجلال، وغيره ب: تبعثون، فالعامل في الحقيقة هو الفعل المقدرة هي به، وصاحب الحال فاعله، والرابط: الواو، والضمير. {فَإِنَّما:} الفاء: هي الفصيحة؛ إذ التقدير: إذا كان الأمر كذلك؛ {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ:} (إنما): كافة ومكفوفة. {هِيَ:} مبتدأ. {زَجْرَةٌ:} خبره، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب الشرط المقدر ب:«إذا» ، والكلام في محل نصب مقول القول. وقيل: الجملة الاسمية تعليل لنهي مقدر، التقدير: لا تستصعبوه لأنها زجرة واحدة، والتعليل والمعلل في محل نصب مقول القول. وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَإِذا هُمْ:} انظر الآية رقم [29]، من سورة (يس)، وجملة:{يَنْظُرُونَ} صفة لموصوف محذوف، التقدير: فإذا هم قيام ينظرون. بقرينة الآية رقم [68] من سورة (الزمر)، أو هي في محل رفع خبر المبتدأ، وهذا هو الظاهر، والمتبادر إلى الأفهام وانظر إعراب آية الزمر، والمفعول محذوف، التقدير: ينظرون ما يفعل بهم. أو هو بمعنى: ينتظرون، وهو ضعيف معنى.

{وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)}

الشرح: {وَقالُوا يا وَيْلَنا} أي: يقول الكفرة حين يشاهدون أهوال القيامة: يا هلاكنا! والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه. {هذا يَوْمُ الدِّينِ} أي: يوم الدينونة، والحساب، والجزاء. يقولون ذلك تحسرا، وندامة لما فرط منهم. هذا؛ والدّين بكسر الدال: اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى، والدين أيضا: الملة والشريعة، ومن هذا قوله تعالى:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} .

رقم [76] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. و {يَوْمُ الدِّينِ:}

يوم الحساب، والجزاء، وهو ما في الآية الكريمة. ومنه: كما تدين تدان؛ أي: كما تفعل

ص: 16

تجازى. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يوم الدين يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرا؛ فشرّ، إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره. ثم قال: ألا له الخلق والأمر. هذا؛ والدّين (بفتح الدال) القرض المؤجل. وجمع الأول: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين. هذا؛ والدينونة: القضاء، والحساب. والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى. هذا؛ والدين العادة، والعمل، ومنه قوله:[الوافر]

تقول إذا أدرت لها وضيني

فهذا دينها أبدا وديني

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.

(يا): أداة نداء، والمنادى محذوف، كأنهم قالوا لبعضهم: يا هؤلاء ويلا لنا، فلما أضاف؛ حذف اللام الثانية، وعليه ف:(ويل) مصدر مفعول مطلق فعله محذوف، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. وهذا قاله الجلال، وأيده الجمل، وقول لمكي، وأجيز اعتبار:(ويلنا) منادى، فيكون المعنى: يقول الكافر يوم القيامة: تعال يا ويل هذا زمانك، وإبانك. وقال الكوفيون: إن «وي» كلمة برأسها، و (لنا) جار ومجرور متعلقان به. ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد، وهو أن يكون: يا عجب لنا؛ لأن (وي) تفسر بمعنى: أعجب منا، وعليه يكون الكافر قد نادى العجب، والجملة في محل نصب مقول القول. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {يَوْمُ:} خبر المبتدأ، و {يَوْمُ} مضاف، و {الدِّينِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وقال الجلال: وتقول لهم الملائكة: هذا يوم الدين. وعليه فالوقف على قوله: {يا وَيْلَنا،} والمعنى لا يؤيده.

{هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}

الشرح: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي..} . إلخ: أي: هذا يوم القضاء، والفرق بين الهدى، والضلال، وبين المحسن، والمسيء، قال تعالى في سورة (المرسلات):{هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} .

الإعراب: {هذا:} مبتدأ. {يَوْمُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْفَصْلِ} مضاف إليه. {الَّذِي:}

اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {يَوْمُ} . {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، {تُكَذِّبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ والآية الكريمة تحتمل أن تكون من قول الكفرة لبعضهم، وتحتمل أن تكون من قول الملائكة لهم، وهو الأرجح هنا، ويؤيده ما بعده. وقيل: هو من قول الله تعالى لهم.

ص: 17

{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22)}

الشرح: {اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ:} هذا خطاب من الله عز وجل للملائكة، وهو المعتمد، يقول: اجمعوا الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وبارتكاب المعاصي. {وَأَزْواجَهُمْ} أي:

أشباههم، ونظراءهم من العصاة: عابد الصنم مع عبدة الصنم، وعابد الكواكب مع عبدة الكواكب، كقوله تعالى في سورة (الواقعة):{وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} . وقيل: المراد: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي كن على دينهم. وقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه:

يحشر الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة.

{وَما كانُوا يَعْبُدُونَ} من دون الله؛ أي: من الأصنام، والشياطين، والدالين على الشر والفساد. وفيه زيادة في تحسيرهم، وتخجيلهم، وخزيهم، وفضيحتهم.

هذا؛ و (أزواج) جمع: زوج، وهو يطلق على الرجل، والمرأة، والقرينة تبين الذكر، والأنثى. ويقال لها أيضا: زوجة، وحذف التاء منها أفصح إلا في الفرائض؛ فإنها بالتاء أفصح؛ لتوضيح الوارث. هذا؛ والزوج: القرين، كما رأيت في هذه الآية. والزوج: الفرد، وكل واحد منهما يسمى زوجا أيضا، يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيان، وهما سواء، وقال تعالى:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كل نوع ذكرا، وأنثى الآية رقم [40] من سورة (هود)، وقال تعالى:{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ..} . إلخ الآية رقم [143] من سورة (الأنعام) والمعنى: ثمانية أفراد، والزوج: الصنف والنوع، قال تعالى في سورة لقمان رقم [10]:

{فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي: صنف من النبات، وقال تعالى في سورة (الحج) رقم [5]:

{فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .

الإعراب: {اُحْشُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {ظَلَمُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: ظلموا أنفسهم، والجملة الفعلية صلة الموصول.

(أزواجهم): معطوف على الموصول، أو هو مفعول معه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على ما قبله. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْبُدُونَ} في محل نصب خبر (كان). والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي كانوا يعبدونه. هذا؛ والجملة الفعلية: {اُحْشُرُوا..} . إلخ هي من قول الله تعالى للملائكة، وهو المعتمد، أي: إنها في محل نصب مقول القول لقول محذوف.

ص: 18

{مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}

الشرح: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ:} فسوقوهم إلى صراط جهنم، وبئس المصير، وقيل:

دلّوهم، يقال: هديته إلى الطريق، وهديته الطريق؛ أي: دللته عليه، وفي قوله تعالى:(اهدوهم) تهكم، وسخرية. المعنى: إذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى طريق الجحيم. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} أي: احبسوهم؛ حتى يسألوا عن أعمالهم، وأقوالهم؛ التي صدرت عنهم في الدنيا.

فعن أبي برزة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه» . رواه الترمذي، ورواه البيهقي عن معاذ، رضي الله عنه.

وعن أنس-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من داع إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به، لا يفارقه، وإن دعا رجل رجلا، ثم قرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» }. {ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ} أي: تقول الخزنة لهم توبيخا، وتقريعا: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا؟! وهذا جواب لأبي جهل الخبيث حيث قال يوم بدر ما قاله الله تعالى على لسانه: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} . {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي: أذلاء منقادون لا حيلة لهم، سواء منهم العابدون، والمعبودون.

ولا تنس الالتفات من الخطاب إلى الملائكة إلى الخطاب للكفرة المعذبين، والفجرة الفاسقين، ثم الالتفات من الخطاب إليهم إلى الغيبة. هذا؛ وذكر أن الصديق-رضي الله عنه قام من الليل يصلي، فمر بهذه الآية:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} فجعل يكررها حتى طلع الفجر.

الإعراب: {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {يَعْبُدُونَ،} و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {فَاهْدُوهُمْ:} الفاء: هي الفصيحة. (اهدوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم. انظر تقديره في الشرح. {إِلى صِراطِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. و {صِراطِ} مضاف، و {الْجَحِيمِ} مضاف إليه.

{وَقِفُوهُمْ:} فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{إِنَّهُمْ:} (إنّ) حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مَسْؤُلُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه

إلخ، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. هذا؛ وقرئ بفتح الهمزة، وعليه فتؤول (أنّ) واسمها وخبرها بمصدر في محل جر بلام محذوفة، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لا:} نافية. {تَناصَرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية

ص: 19

في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط الضمير فقط، والعامل: اسم الاستفهام لما فيه من معنى الفعل. {بَلْ:} حرف عطف وانتقال. {هُمُ:} مبتدأ. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما بعده. {مُسْتَسْلِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والكلام:{فَاهْدُوهُمْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول لقول محذوف، فإنه من قول الله تعالى للملائكة مثل سابقه.

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27)}

الشرح: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} يعني: الرؤساء، والأتباع، أو الكفرة والقرناء. {يَتَساءَلُونَ:}

يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ، ولذلك فسر ب: يتخاصمون. وهذه الآية مذكورة بحروفها في سورة (الطور) رقم [25]، وانظرها برقم [50] من هذه السورة أيضا. هذا وقد قال تعالى في الآية رقم [102] من سورة (المؤمنون):{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} . والجواب عن ذلك: أن آية (الطور) تنص على أن التساؤل إنما يكون في الجنة بلا ريب بدليل الآيات؛ التي قبلها، والتي بعدها، والآية هنا تنص على أن التساؤل إنما يكون يوم القيامة بدليل الآيات التي قبلها، وهي تعارض آية (المؤمنون) التي تنفي التساؤل فيما بينهم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما-في حل هذا التعارض: إن للقيامة أحوالا، ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون. انتهى. خازن من سورة (المؤمنون). أقول: ومخاصمة الكفار بعضهم بعضا، ولوم بعضهم بعضا يوم القيامة قد ذكر في كثير من آيات القرآن الكريم، انظر الآية رقم [31] من سورة (سبأ) وما بعدها. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَأَقْبَلَ:} الواو: حرف استئناف. (أقبل): فعل ماض. {بَعْضُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{يَتَساءَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{بَعْضُهُمْ،} والرابط: الضمير فقط.

{قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)}

الشرح: {قالُوا} أي: قال الأتباع للمتبوعين. {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} أي: عن أقوى الوجوه وأيمنها، أو عن الدين، أو عن الخير، كأنكم تنفعوننا نفع السانح، فتبعناكم، وهلكنا معكم، مستعار من يمين الإنسان، الذي هو أقوى الجانبين، وأشرفهما، وأنفعهما؛ ولذلك يسمى: يمينا، ويسمى بالسانح. أو: عن القوة، والقهر، فتقسروننا على الضلال. أو: على الحلف، فإنهم كانوا يحلفون لهم: أنهم على الحق. انتهى. بيضاوي. وقال القرطبي ما يشبهه،

ص: 20

وزاد قوله: وقيل: اليمين بمعنى: القوة، أي: تمنعوننا بقوة، وقهر وغلبة، قال تعالى في هذه السورة:{فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي: بالقوة، وقوة الرجل في يمينه، وقال الشاعر:[الوافر]

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

أي: بالقوة، والقدرة. وهذا قول ابن عباس-رضي الله عنهما-انتهى. وانظر ما ذكرته في سورة (الزمر) رقم [67] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَأْتُونَنا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (نا):

مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، فهي حال متداخلة، وفيها معنى التفسير للتساؤل. {عَنِ الْيَمِينِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنّا كُنّا غاوِينَ (32)}

الشرح: {قالُوا} أي: الرؤساء، والمتبوعون. {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ:} وهذا إضراب من المتبوعين، وإبطال لما ادعاه التابعون، أي: لم تتصفوا بالإيمان في وقت من الأوقات، بل كنتم على الكفر، فأقمتم عليه للإلف، والعادة. {وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي: ما كان لنا عليكم من قوة، وقدرة نقهركم بها على متابعتنا. {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ} أي: بل كان فيكم فجور، وطغيان، واستعداد للعصيان، والفساد، فلذلك استجبتم لنا، واتبعتمونا. وهذا مثل قول الشيطان لهم:{وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} رقم [22] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه أفضل الصلوات، وأتم التسليم.

{فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا:} وجب وعيده، وتهديده، وهو:{وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} . {إِنّا لَذائِقُونَ} أي: للعذاب: التابع، والمتبوع، والضال، والمضل؛ أي: جميعا في جهنم لا محالة. {فَأَغْوَيْناكُمْ إِنّا كُنّا غاوِينَ} أي: زينا لكم الكفر، والباطل، والضلال، والعصيان، ودعوناكم إلى ذلك؛ لأننا كنا على غي، وضلال، فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك الدعوة، لتكونوا مثلنا في الغواية، والضلال.

ص: 21

قال الرازي رحمه الله تعالى: أجاب الرؤساء والمتبوعون بأجوبة خمسة: الأول: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . الثاني: {وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} . الثالث: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ} . الرابع:

{فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا} . الخامس: {فَأَغْوَيْناكُمْ..} . إلخ. انتهى. جمل نقلا عنه.

هذا و (الرب) يطلق، ويراد به السيد، والمالك، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ} أي: سيدك. وأيضا قوله تعالى حكاية عن قوله أيضا: {أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} أي: سيده، ومالكه. كما يقال: ربّ الدار، وربّ الأسرة، أي: مالكها، ومتولي شؤونها، كما يراد به المربي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة، يربها: إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا، فشيئا، بجعل النطفة علقة، ثم بجعل العلقة مضغة، ثم بجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه؛ حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين. ولا يطلق الرب على غيره تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك. والرب: المعبود بحق، وهو المراد منه تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى في سورة (يوسف) حكاية عن قول يوسف لصاحبي السّجن:{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللآكلين التّمر مخمس مخمسا

وهو اسم فاعل بجميع معانيه، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر بعد إسكان الأول منهما، وسلب حركته. تأمل. وانظر الآية رقم [16] من سورة (ص).

أما (قوم) فهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، ونفر

إلخ، وهو يطلق على الرجال دون النساء، بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} . وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر] وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ (قوم) في القرآن، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا. وهو يذكر، ويؤنث، قال تعالى في سورة (الشعراء):{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فتذكيره باعتبار اللفظ، وتأنيثه باعتبار المعنى، وهو: أنهم أمة، وطائفة، وجماعة.

هذا؛ و (سلطان) تسلط، وولاية، ويأتي بمعنى: الحجة، والبرهان، كما هنا، ويأتي بمعنى:

الكتاب، قال تعالى في سورة (الروم) رقم [35]:{أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ،} وقال بعض المحققين: سميت الحجة: سلطانا؛ لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة

ص: 22

له، كالسلطان يقهر غيره بقوته. وقال الزجاج: السلطان: هو الحجة، وسمّي السلطان: سلطانا؛ لأنه حجة الله في أرضه. انتهى. ولا تنس ما قاله عثمان بن عفان-رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أي: يكف عن المعاصي، ويردع، وجمعه بمعنى: الحاكم، والمالك: سلاطين، ولا يجمع إذا كان بمعنى: الحجة، والبرهان. هذا؛ وزعم الفراء: أن العرب تؤنث السلطان. تقول: قضت به عليك السلطان. أما البصريون؛ فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن الكريم، والتأنيث عندهم جائز؛ لأنه بمعنى: الحجة. هذا؛ والسلطان: ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة. كما قال تعالى في سورة (النمل) رقم [21] حكاية عن قول سليمان على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام في حقّ الهدهد:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} .

الإعراب: {قالُوا:} ماض، والواو فاعله. {بَلْ:} حرف إضراب. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مُؤْمِنِينَ:} خبر: {تَكُونُوا} منصوب

إلخ. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.

{لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من:{سُلْطانٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {مِنْ:} حرف جر صلة. {سُلْطانٍ:} اسم {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

{بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه.

{قَوْماً:} خبره. {طاغِينَ:} صفة: {قَوْماً} منصوب مثله

إلخ. {فَحَقَّ:} الفاء: حرف عطف.

(حق): فعل ماض. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {قَوْلُ:} فاعل، وهو مضاف، و {رَبِّنا} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَذائِقُونَ:} خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{إِنّا لَذائِقُونَ} في محل نصب مقول القول. قال ابن هشام في المغني: من الجمل المحكية ما قد يخفى، فمن ذلك بعد القول:{فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنّا لَذائِقُونَ} والأصل: إنكم لذائقون عذابي، ثم عدل إلى التكلم؛ لأنهم تكلموا بذلك عن أنفسهم. قال الفرزدق:[الطويل]

ألم تر أنّي يوم جوّ سويقة

بكيت فنادتني هنيدة ماليا

والأصل: مالك؟ وهذا هو الشاهد رقم (768) من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . هذا؛ وحذف مفعول (ذائقون) كما رأيت تقديره. {فَأَغْوَيْناكُمْ:} الفاء: حرف عطف. (أغويناكم): فعل،

ص: 23

وفاعل، ومفعول به. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {غاوِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، وجملة:{كُنّا غاوِينَ} في محل رفع خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا كُنّا غاوِينَ} تعليل لما قبلها، والكلام:{بَلْ لَمْ تَكُونُوا..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}

الشرح: {فَإِنَّهُمْ} أي: الأتباع، والمتبوعون. {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم يتساءلون، ويتحاورون، ويتخاصمون. {فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} أي: كما كانوا مشتركين في الغواية، كما قال تعالى في سورة الزخرف رقم [39]:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} . {إِنّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي: كما فعلنا بهؤلاء المجرمين من عبدة الأوثان، والنصارى، واليهود نفعل بالملحدين المعاندين المنكرين الحساب، والجزاء، بمعنى: نذيقهم جميعا العذاب الأليم، والعقاب الشديد في نار الجحيم، وانظر ما ذكرته بشأن المجرمين، والظالمين

إلخ في الآية رقم [59] من سورة (يس). {يَوْمَئِذٍ:} التنوين ينوب فيه عن جملة محذوفة دلت عليها الغاية، أي: يوم يتساءلون

إلخ، و (إذ) مضافة لهذه الجملة في الأصل، فإن الأصل: إذ يتساءلون، ويتحاورون. فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت الهاء في: صه ومه عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في: حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما.

الإعراب: {فَإِنَّهُمْ:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: هي الفصيحة، التقدير: إن شئت أن تعرف مصائر الأتباع والمتبوعين؛ فإنهم، وأراه ضعيفا. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق ب: {مُشْتَرِكُونَ} بعده. وقيل:

متعلق بمحذوف حال. ولا وجه له ألبتة. و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين. {فِي الْعَذابِ:} متعلقان بما بعدهما أيضا.

{مُشْتَرِكُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نفعل بالمجرمين فعلا كائنا مثل الفعل الذي فعلناه من قبلهم. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {نَفْعَلُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:

«نحن» . {بِالْمُجْرِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية: «نفعل

ص: 24

بالمجرمين كذلك» في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ مستأنفة، وهي بمنزلة البدل مما قبلها.

{إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}

الشرح: {إِنَّهُمْ كانُوا} أي: كفرة قريش، فالضميران يعودان إليهم. {إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ} أي: إذا قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله. {يَسْتَكْبِرُونَ} أي: عن كلمة التوحيد. أو: على من يدعوهم إليها. يروى: أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عند موته، واجتماع قريش: قولوا:

«لا إله إلا الله؛ تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم» أبوا، وأنفوا من ذلك.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يقولوا:

لا إله إلاّ الله، فمن قال: لا إله إلاّ الله؛ فقد عصم منّي ماله، ونفسه إلا بحقّه، وحسابه على الله عز وجل». أخرجه ابن أبي حاتم. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن أبي العلاء-رضي الله عنه قال: يؤتى باليهود يوم القيامة، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله، وعزيرا. فيقال لهم: خذوا ذات الشمال. ثم يؤتى بالنصارى. فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله، والمسيح، فيقال لهم: خذوا ذات الشمال. ثم يؤتى بالمشركين، فيقال لهم: لا إله إلا الله، فيستكبرون. ثم يقال لهم: لا إله إلا الله، فيستكبرون. ثم يقال لهم: لا إله إلاّ الله، فيستكبرون.

فيقال لهم: خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة: فينطلقون أسرع من الطير. قال أبو العلاء: ثم يؤتى بالمسلمين، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد الله تعالى، فيقال لهم: هل تعرفونه؛ إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقال لهم: فكيف تعرفونه، ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عدل له. قال: فيتعرف لهم تبارك وتعالى، وتقدّس، وينجي الله المؤمنين. أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العلاء موقوفا. انتهى. مختصر ابن كثير.

الإعراب: {إِنَّهُمْ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {إِذا:} انظر الآية رقم [11]. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل:

«إنّ» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف تقديره: موجود.

{إِلاَّ:} حرف حصر. {اللهُ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اعتباره بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: اعتباره بدلا من {لا} واسمها؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: اعتباره بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف. وهو الأولى، والأقوى. والجملة الاسمية:{لا إِلهَ..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل: {قِيلَ،} وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:

«يحذف الفاعل، ويقام المفعول مقامه» . وهذا لا غبار عليه. وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر،

ص: 25

تقديره: «هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف، يدل عليه المقام، التقدير:

قيل قول. وقيل: الجار والمجرور: {لَهُمْ} في محل رفع نائب فاعل. والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في المغني. وجملة:{قِيلَ لَهُمْ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وجواب {إِذا} محذوف دل عليه ما بعده، التقدير: فهم يستكبرون. و {إِذا} ومدخولها كلام معترض بين الفعل (كان) وخبره. هذا؛ وإن اعتبرت {إِذا} ظرفا مجردا عن الشرطية متعلقا بالفعل {يَسْتَكْبِرُونَ} فالمعنى لا يأباه. {يَسْتَكْبِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر: (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت: {كانُوا..} . إلخ صلة؛ فجملة: {يَسْتَكْبِرُونَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:

{إِنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة مبينة لسبب استحقاقهم العذاب، والهلاك، لا محل لها من الإعراب.

{وَيَقُولُونَ أَإِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)}

الشرح: {وَيَقُولُونَ} أي: كفار قريش يقولون: أنحن نترك عبادة آلهتنا، وآلهة آبائنا لأجل قول شاعر مجنون؟! يعنون سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، وقد ردّ الله عليهم بما يلي. هذا؛ وجمع (شاعر): شعراء، والأصل في فعلاء أن يكون جمع: فعيل، مثل: ظريف، وظرفاء، وشريف، وشرفاء؛ لأن «فعيلا» إنما يقع لمن قد كمل ما هو فيه، فلما كان (شاعر) إنما يقال لمن عرف بالشعر شبه بفعيل، ودخلت جمعه ألف التأنيث الممدودة لتأنيث الجماعة، كما تدخل الهاء في: صياقلة وزنادقة. وقال الأخفش: (شاعر) مثل: لابن، وتامر، أي: صاحب شعر، وصاحب لبن، وصاحب تمر. وقد سمي الشاعر شاعرا لفطنته، وهو الفقيه أيضا، والشاعر مأخوذ من قولهم: ما شعرت بهذا الأمر؛ أي: ما فطنت له. وقوله تعالى في كثير من الآيات في حق الكافرين، والمنافقين، والفاسقين:{وَما يَشْعُرُونَ} أي: لا يفطنون، ولا يتدبرون ما يقع بهم من الخزي، والنكال في الدنيا، والآخرة. وانظر ما ذكرته بشأن الشعر والشعراء في الآية رقم [224] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك.

الإعراب: (يقولون): فعل مضارع، والواو فاعله. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري.

(إنا): حرف مشبه بالفعل، ونا اسمها. {لَتارِكُوا:} اللام: هي المزحلقة. (تاركو): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و (تاركو) مضاف، و {آلِهَتِنا} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر تقديره:

«نحن» ، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لِشاعِرٍ:} متعلقان ب: (تاركو). {مَجْنُونٍ:}

صفة ثانية لموصوف محذوف، والصفة الأولى (شاعر)، والجملة الاسمية:{أَإِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يَسْتَكْبِرُونَ} فمحلها مثلها.

ص: 26

{بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (40)}

الشرح: {بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ} أي: جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالحق من عند ربه. {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي:

صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن الله تعالى في شرعه، وأمره، كما أخبروا. {إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ} أي: بسبب شرككم، وتكذيبكم الرسول، وافترائكم عليه المفتريات، مثل قولكم: شاعر، ساحر، مجنون. قال أبو حيان -رحمه الله تعالى-: جمع المشركون بين إنكار الوحدانية، وإنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم: شاعر مجنون، فإن الشاعر عنده من الفهم والحذق ما ينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنونا لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط، وهذيان. {وَما تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: لا تعاقبون إلا جزاء مثل عملكم. قال الصاوي: لأن الشر يكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير؛ فجزاؤه بأضعاف مضاعفة.

{إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: لكن عباد الله المخلصين الموحدين، فإنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، ثم أخبر عن جزائهم بما يلي. فهو استثناء منقطع بهذا الاعتبار، فهو مثل قوله تعالى في سورة (المدثر):{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ} .

هذا؛ و (الذوق) يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار. تقول: اركب هذا الفرس، فذقه، أي: اختبره، وانظر فلانا، فذق ما عنده. قال الشماخ يصف قوسا:[الطويل] فذاق فأعطته من اللّين جانبا

كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز

وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوما لإحساسها به، كإحساسها بذوق المطعوم، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]

فذق هجرها إن كنت تزعم أنّها

فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم

وتقول: ذقت ما عند فلان؛ أي: خبرته، وذقت القوس: إذا جذبت وترها؛ لتنظر ما شدتها؟ وأذاقه الله وبال أمره؛ أي: عقوبة كفره، ومعاصيه. قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل]

فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر

من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب

وتذوقته؛ أي: ذقته شيئا بعد شيء، وأمر مستذاق؛ أي: مجرب معلوم، قال الشاعر:[الوافر] وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عند الجعائل مستذاق

وأصله من الذوق بالفم. و (ذوقوا) في كثير من الآيات للإهانة، وفيه استعارة تبعية تخييلية.

ص: 27

وذكر العذاب في بعض الآيات استعارة مكنية، حيث شبه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذوق تخييلا.

الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب عن قولهم، وافترائهم. {جاءَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، الذي وصفوه افتراء بشاعر ومجنون، {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: جاء ملتبسا بالحق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَصَدَّقَ:} الواو: حرف عطف. (صدق): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الرسول أيضا. {الْمُرْسَلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَذائِقُوا:} اللام: هي المزحلقة. (ذائقو): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة. و (ذائقو) مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وقرئ بنصب:{الْعَذابِ} شاذا، على تقدير النون، وحذفت النون استخفافا للّفظ، ومثل هذه الآية قول أبي الأسود الدؤلي:[المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلاّ قليلا

بنصب لفظ الجلالة، وتقدير التنوين قبله، وهذا هو الشاهد رقم (960) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {الْأَلِيمِ:} صفة: {الْعَذابِ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَما:} الواو: واو الحال، (ما): نافية. {تُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير:

إلا الذي كنتم تعملونه. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:

{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبره، وجملة:{وَما تُجْزَوْنَ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، أو من الضمير المستتر في اسم الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. {إِلاّ:} أداة استثناء. {عِبادَ:} استثناء منقطعا من الواو، و {عِبادَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{الْمُخْلَصِينَ:} صفة: {عِبادَ،} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء.

{أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)}

الشرح: {أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي: عباد الله المخلصين لهم رزق معلوم، له خصائصه من الدوام، وتمحض اللذة، وهو ما فسره بقوله:{فَواكِهُ} جمع: فاكهة، قال تعالى:{وَأَمْدَدْناهُمْ}

ص: 28

{بِفاكِهَةٍ} أي: جميع أنواع الفواكه؛ لأن التنكير يعم جميع أجناس الفواكه، فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي، والقوت بالعكس، وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل؛ كانت أرزاقهم فواكه خالصة. انتهى. بيضاوي. وهذا فيه قصور، كيف وقد ذكر الله أن لهم ما يشتهون من لحوم الطير، وما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين. وقيل: المعنى معلوم الوقت، كقوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} بيان لحالهم، وإن لم يكن هناك بكرة، ولا عشية، فيكون المراد منه معلوم الوقت، وهو مقدار غدوة، وعشية. هذا؛ والأحسن القول:

إن الفواكه مساوية للرزق، فتشمل الخبز، واللحم؛ لأنهما يؤكلان في الجنة تلذذا.

{وَهُمْ مُكْرَمُونَ:} في نيل رزقهم، يصل إليهم من غير تعب، وسؤال، كما في رزق الدنيا.

ولهم إكرام من الله-عز وجل-برفع الدرجات، وسماع كلامه، ولقائه. {فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ:}

حدائق، وبساتين يتنعمون فيها، ليس فيها إلا النعيم المقيم. {عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ:} لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا، وتحاببا، والتقابل أتم للسرور، وآنس. وقيل: الأسرّة تدور كيف شاؤوا، فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: على سرر مكللة بالدر، والياقوت، والزبرجد.

{يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ:} قال الزجاج: أي: من خمر تجري، كما تجري العيون على وجه الأرض، ومعين: ماء جار ظاهر للعيون، يقال: معين ومعن، كما يقال: رغيف، ورغف، فهو فعيل من: معن الماء: إذا جرى، أو من الماعون، وهو المنفعة؛ لأنه نفاع، أو هو مفعول من: عانه؛ إذا أدركه بعينه؛ لأنه لظهوره مدرك بالعيون. وقال أبو حيان-رحمه الله تعالى-:

{مَعِينٍ} اسم فاعل من: معن بضم العين، كشريف من: شرف، أي: من شراب معين، أو نهر معين، ظاهر للعيون، أو خارج من العيون، وهو صفة للماء، من: عان: إذا نبع، وصف الله به خمر الجنة؛ لأنها تجري كالماء.

هذا؛ ولم يذكر الله تعالى هنا الطائفين عليهم، وذكره بسورة (الواقعة) بقوله:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . هذا؛ والكأس عند أهل اللغة: اسم شامل لكل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك، والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم يكن فيه خمر، قالوا: إناء، وقدح، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام؛ لم يقل له مائدة.

قال أبو الحسن بن كيسان: ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وأضيف أنه لا يقال: ذنوب وسجل إلا وفيه ماء، وإلا؛ فهو دلو. ولا يقال: جراب إلا؛ وهو مدبوغ، وإلا؛ فهو إهاب، ولا يقال: قلم إلا وهو مبرى، وإلا؛ فهو أنبوب. هذا؛ وقد تسمى الخمر كأسا، تسمية للشيء باسم محله. {بَيْضاءَ:} قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. {لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ} أي:

ص: 29

ذات لذة، فحذف المضاف، وقيل: هو مصدر وصف به للمبالغة، أو لأنها تأنيث «لذ» بمعنى:

لذيذ، مثل: نبات غض، وغضيض. قال الراعي النميري:[الطويل]

ولذّ كطعم الصّرخديّ تركته

بأرض العدا من خشية الحدثان

{لا فِيها غَوْلٌ:} غائلة، كما في خمر الدنيا تغتال العقول. قال الشاعر:[المتقارب]

فما زالت الكأس تغتالنا

وتذهب بالأوّل الأوّل

أي: تصرعنا واحدا واحدا. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: في الخمر أربع خصال:

السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة، فنزهها عن هذه الخصال. انتهى. فخمر الجنة طعمها طيب كلونها؛ فلا خمار يصدع الرؤوس، ولا سكر، ولا عربدة يذهب لذة الاستمتاع، كما هي الحال في خمر الدنيا. يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، أي: تذهب بها. {وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي: لا تذهب عقولهم بشربها.

يقال: نزف الرجل ينزف، فهو منزوف، ونزيف: إذا سكر، قال الشاعر:[المتقارب] وإذ هي تمشي كمشي النّزي

ف يصرعه بالكثيب البهر

البهر: الكلال، وانقطاع النفس. وقال جميل بن معمر-وهذا هو الشاهد رقم (159) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

فلثمت فاها آخذا بقرونها

شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج

هذا وقرأ حمزة، والكسائي بكسر الزاي، وتابعهما عاصم في سورة (الواقعة):{لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} وذلك من: أنزف الشارب: إذا نفد عقله، أو شرابه، وأصله للنفاد، يقال: نزف المطعون:

إذا خرج دمه كله. ونزحت الركية؛ حتى نزفتها، وهو يفيد أن الفعل يكون لازما، ومتعديا.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رِزْقٌ:} مبتدأ مؤخر. {مَعْلُومٌ:} صفة له، ونائب فاعله محذوف، التقدير: معلوم وقته، أو معلوم صفاته، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَواكِهُ:} بدل، أو عطف بيان ل:{رِزْقٌ،} وأجيز اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير:

هو {فَواكِهُ،} فتكون الجملة الاسمية هذه في محل رفع صفة ثانية ل: {رِزْقٌ} . {وَهُمْ:} الواو:

واو الحال، (هم مكرمون): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الواو، والضمير، والعامل في الحال اسم الإشارة، وهو أولى من اعتبار الجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {فِي جَنّاتِ:} جار ومجرور فيهما ثلاثة أوجه:

الأول: اعتبارهما متعلقين بمحذوف خبر ثان ل: {أُولئِكَ} . والثاني: اعتبارهما متعلقين

ص: 30

بمحذوف حال من الضمير المستكن في: {مُكْرَمُونَ} . والثالث: اعتبارهما متعلقين ب: {مُكْرَمُونَ} .

و {جَنّاتِ} مضاف، و {النَّعِيمِ} مضاف إليه. {عَلى سُرُرٍ:} يجوز فيهما ما جاز في: {فِي جَنّاتِ} من اعتبارات. {مُتَقابِلِينَ:} حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور: {عَلى سُرُرٍ،} أو حال من الضمير المستتر في: {مُكْرَمُونَ،} وعليه فالجار والمجرور {عَلى سُرُرٍ} متعلقان به، أو هما متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: يطوف عليهم طوفانا كائنا بكأس.

{يُطافُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل.

{بِكَأْسٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ مَعِينٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: (كأس). والجملة الفعلية: {يُطافُ..} . إلخ تحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون في محل رفع خبر آخر للمبتدأ، وأن تكون في محل نصب حال من الضمير المستكن في:{مُكْرَمُونَ} . وقيل: في محل رفع صفة ل: {مُكْرَمُونَ} أيضا. {بَيْضاءَ:} صفة: (كأس) مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة، ووزن: فعلاء، أو منع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {لَذَّةٍ:} صفة ثانية ل: (كأس). {لِلشّارِبِينَ:}

متعلقان ب: {لَذَّةٍ،} أو بمحذوف صفة له.

{لا:} نافية. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {غَوْلٌ:} مبتدأ مؤخر.

والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل جر صفة ثالثة ل:(كأس)، أو هي في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال:

زائدة. {هُمْ:} مبتدأ. {عَنْها:} متعلقان بما بعدهما. {يُنْزَفُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على ما فيها من اعتبارات.

{وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)}

الشرح: {وَعِنْدَهُمْ:} عند عباد الله المخلصين. {قاصِراتُ الطَّرْفِ} أي: نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم؛ قاله ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وغيرهم. مأخوذ من قولهم: اقتصر على كذا: إذا اقتنع به، وعدل عن غيره. قال امرؤ القيس:[الطويل]

من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا

ويروى: فوق الخد، والأول أبلغ. والإتب: القميص، والمحول: الصغير من الذر.

{عِينٌ:} عظام العيون، شديدات بياضها، شديدات سوادها. ومنه قيل لبقر الوحش: عين، والثور

ص: 31

أعين، والبقر عيناء. {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ:} مصون، قال الحسن، وابن زيد: شبهن ببيض النعام، تكنها النعامة بالريش من الريح، والغبار، فلونها أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء. وقال ابن عباس، وابن جبير، والسدي: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر، وتمسه الأيدي.

وفي الحديث عن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشّرهم إذا حزنوا، وأنا شفيعهم إذا حبسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على الله-عز وجل-ولا فخر، يطوف عليّ ألف خادم، كأنّهنّ البيض المكنون، أو اللؤلؤ المكنون» . أخرجه ابن أبي حاتم، وروى بعضه الترمذي.

وعن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن قوله تعالى:

{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ؟} قال: «رقّتهنّ كرقّة الجلد الذي في داخل البيضة، ممّا يلي القشر» .

والعرب تشبه النساء بالبيض من ثلاثة أوجه: أحدها: بالصحة، والسلامة عن الطمث، أي:

الجماع، ومنه قول الفرزدق:[الوافر]

خرجن إليّ لم يطمثن قبلي

وهنّ أصحّ من بيض النّعام

فبتن بجانبيّ مصرّعات

وبتّ أفضّ أغلاق الختام

والثاني: في الصيانة والستر؛ لأن الطائر يصون بيضه، ويحضنه. والثالث: في صفاء اللون، ونقائه؛ لأن البيض يكون صافي اللون نقيه؛ إذا كان تحت الطائر. انظر ما ذكرته في الآية رقم [226] من سورة (الشعراء) بشأن بيتي الفرزدق، وخذ قول امرئ القيس في معلقته رقم [31]:[الطويل]

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتّعت من لهو بها غير معجل

وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن، والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش.

وقيل: المكنون: المصون عن الكسر، أي: إنهن عذارى. وقيل: المراد بالبيض: اللؤلؤ، كقوله تعالى في سورة (الواقعة):{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: في أصدافه. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-أيضا. ومنه قول الشاعر: [الخفيف]

وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغو

واص ميزت من جوهر مكنون

وإنما أفرد المكنون، وذكّر في الآية الكريمة؛ والبيض جمع؛ لأنه رد النعت إلى اللفظ، لا إلى المعنى. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} أي: يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا، وهو من تمام الأنس في الجنة. والمعنى: يشربون من خمر الجنة الموصوف بما ذكر، فيتحادثون على الشراب كعادة الشّرّاب. قال بعضهم (ونسب للفرزدق):[الوافر]

وما بقيت من اللّذّات إلاّ

أحاديث الكرام على المدام

ص: 32

فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا؛ إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وسورة (الطور) شرحت هذا التساؤل، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [27] لترى تساؤل الكافرين، والظالمين فيما بينهم. هذا؛ وانظر شرح {الطَّرْفِ} في الآية رقم [52] من سورة (ص).

الإعراب: {وَعِنْدَهُمْ:} الواو: حرف عطف، (عندهم): ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {قاصِراتُ:} مبتدأ مؤخر، وهو صفة لموصوف محذوف، كما رأيت في الشرح. و {قاصِراتُ} مضاف، و {الطَّرْفِ} مضاف إليه، وهذه الإضافة تحتمل أن تكون من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، وأن تكون من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية الواقعة خبرا ل:{أُولئِكَ} في الآية رقم [41]. {عِينٌ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف. {كَأَنَّهُنَّ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {بَيْضٌ:} خبرها، {مَكْنُونٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع صفة ثالثة للموصوف المحذوف، أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {فَأَقْبَلَ:} الفاء: حرف عطف. (أقبل): فعل ماض، {بَعْضُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يُطافُ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَتَساءَلُونَ:}

فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:

{بَعْضُهُمْ،} وما عطف عليه، والرابط: الضمير فقط.

{قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنّا لَمَدِينُونَ (53)}

الشرح: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ} أي: من الذين يتحادثون فيما بينهم؛ وهم جلوس على السرر، والخدم بين أيديهم يسعون، ويجيئون بكل خير عظيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ:} صديق ملازم، اختلف في هذا القرين، فقيل: هو الشيطان، وقيل: هو مشرك كان لا يؤمن بالله واليوم الآخر. قال السدي: كان شريكان في بني إسرائيل: أحدهما مؤمن، والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، ثم افترقا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك؟ وساق قصة مشابهة لما ذكرته في سورة (الكهف) رقم [32] وما بعدها. وصرح القرطبي في ذلك حيث أحال على ما ذكر في سورة (الكهف)، ومثله في الخازن. وقال محمد علي الصابوني:

ص: 33

القائل هو أحد الرجلين اللذين قال الله فيهما: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} و (القرين): هو الرجل الذي دخل جنته، وهو ظالم لنفسه، وقد وردت قصتهما في سورة (الكهف).

ثم قال السدي: فإذا كان يوم القيامة، وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة، يمرّ فإذا هو بأرض، ونخل، وثمار، وأنهار، فيقول: لمن هذا؟ فيقال: هذا لك، فيقول: يا سبحان الله، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟! قال: ثم يمرّ، فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول: لمن هذا؟ فيقال: هؤلاء لك، فيقول: يا سبحان الله، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟! قال:

ثم يمرّ فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء، مجوفة فيها حوراء عيناء، فيقول: لمن هذه؟ فيقال: هذه لك، فيقول: يا سبحان الله، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟! قال: ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر، فيقول، {إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ..} . إلخ انتهى. مختصر ابن كثير بتصرف كبير، كما رأيت.

{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أي: أأنت تصدق بالبعث، والنشور، والحساب والجزاء؟! يعني بذلك على وجه التعجب، والتكذيب، والاستبعاد، والكفر، والعناد. هذا؛ وقرئ بتشديد الصاد والدال، فيكون المعنى: أأنت تتصدق بالمال طلبا للثواب؟! {أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً:} انظر الآية رقم [16] ففيها الكفاية. {لَمَدِينُونَ} أي: مجزيون محاسبون بعد الموت. فهو من الدّين بمعنى: الجزاء، وانظر الآية رقم [20].

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {قائِلٌ:} فاعله. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {قائِلٌ،} أو بمحذوف صفة له. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{كانَ:} فعل ماض ناقص. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر:

{كانَ} تقدم على اسمها. {قَرِينٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ قائِلٌ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، فهي حال متداخلة، وفيها معنى التفسير للتساؤل. {يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{قَرِينٌ} . {أَإِنَّكَ:} الهمزة:

حرف استفهام إنكاري توبيخي. (إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من المصادقين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ في محل رفع صفة: {قَرِينٌ} . {أَإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً..} . إلخ انظر الإعراب كاملا في الآية رقم [16]، مع ملاحظة إبدال {لَمَبْعُوثُونَ} بقوله:{لَمَدِينُونَ} وهو لا يخل في الإعراب أبدا، إفرادا وجملا.

{قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)}

الشرح: {قالَ..} . إلخ: الله تعالى لأهل الجنة، وقيل: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين؟ وقيل: هو من قول الملائكة،

ص: 34

وهو ضعيف؛ لأن الفاعل مفرد. {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ:} إلى النار لأريكم ذلك الكافر، والاستفهام بمعنى: الأمر مثل قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [91]: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . هذا؛ وقرئ «(مطلعون)» «(فأطلع)» بتسكين الطاء فيهما، وضم الألف، وكسر النون، على معنى: هل أنتم مقبلون، فأقبل؟ وأنكر أبو حاتم، وغيره هذه القراءة. وقال النحاس: هذا لحن لا يجوز؛ لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا؛ لكان اللفظ هل أنتم مطلعيّ؛ وإن كان سيبويه، والفراء قد حكيا مثله، وأنشدا:[الطويل]

هم القائلون الخير والآمرونه

إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما

وأنشد الفراء وحده: «والفاعلونه» وأنشد سيبويه وحده: [الطويل]

ولم يرتفق والناس محتضرونه

جميعا وأيدي المعتفين رواهقه

وهذا شاذ خارج عن كلام العرب، وما كان مثل هذا لا يحتج به في كتاب الله عز وجل، ولا يدخل في الفصيح، وقد قيل في توجيهه: إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه، فجرى:(مطلعون) مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني، وأنشد:[الرجز]

أرأيت إن جئت به أملودا

مرجّلا ويلبس البرودا

أقائلنّ: أحضري الشّهودا

فأجرى: «أقائلنّ» مجرى: أتقولون، وهذا هو الشاهد رقم (636) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ} أي: رأى قرينه. {فِي سَواءِ الْجَحِيمِ:} في وسط الجحيم، فقد ذكر أن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له كان في الدنيا؛ اطّلع من بعض الكوى. وعن قتادة قال: قال بعض العلماء: لولا أن الله عز وجل عرّفه إياه لما عرفه، لقد تغير حبره وسبره؛ أي: لونه، وهيئته. هذا؛ وانظر (سواء) في الآية رقم [10] من سورة (يس).

هذا؛ واطّلع أصله: تطلع، فأدغمت التاء في الطاء، بعد قلبها طاء، وتسكينها؛ لأنهما من مخرج واحد، ثم اجتلبت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن، ولهذه الكلمة نظائر، مثل: ادّكر، وادّارك، واطّير، وازّيّن، وادّارأتم. وانظر الآية رقم [153] تجد ما يسرك.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (الله) أو إلى المؤمن، كما رأيت في الشرح، {هَلْ:} حرف استفهام. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُطَّلِعُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَاطَّلَعَ:} الفاء: حرف عطف. (اطلع):

فعل ماض، والفاعل يعود إلى المؤمن، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

ص: 35

{قالَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {فَرَآهُ:} الفاء: حرف عطف. (رآه): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى المؤمن، والهاء العائدة إلى القرين مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فِي سَواءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المنصوب، و {سَواءِ} مضاف. و {الْجَحِيمِ} مضاف إليه.

{قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}

الشرح: {قالَ} أي: المؤمن لقرينه. {تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أي: أقسم بالله لقد قاربت تهلكني وتوقعني في النار بسبب إغوائك لي، وتزيينك لي الشر، والفساد، وعدم الإيمان بالحساب، والجزاء. وهذا الكلام كأنه شماتة بقرينه الضال، الذي هوى في جهنم وبئس المصير. هذا؛ و {تَاللهِ} قسم فيه معنى التعجب، والتاء بدل الباء، وهي مختصة باسم الله تعالى، وربما قالوا: تربي، وترب الكعبة، وتا الرحمن، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر، ومظهر. {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} أي: فضله، وتوفيقه، وعصمته من إغوائك، وهدايته لي بالاستمساك بعرى الإيمان؛ لكنت من المحضرين معك في النار، ولكنه رحمني، وتفضل عليّ، فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده:{وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ} . هذا؛ والإحضار عام في كل شيء، لكن غلب استعماله في الإحضار للعذاب.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى المؤمن، تقديره:«هو» {تَاللهِ:} متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. {إِنْ:} مخففة من الثقيلة مهملة. {كِدْتَ:} فعل ماض ناقص من أفعال المقاربة، مبني على السكون، والتاء اسمه. {لَتُرْدِينِ:} اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات، وهي لازمة هنا، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[]

وخفّفت إنّ فقلّ العمل

وتلزم اللام إذا ما تهمل

(تردين): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، المدلول عليها بكسرة النون مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كادت) وجملة:{إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ تَاللهِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَوْلا:} الواو: حرف عطف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط.

{نِعْمَةُ:} مبتدأ. وهو مضاف، و {رَبِّي} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، وخبر المبتدأ محذوف، التقدير: موجودة، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَكُنْتُ:}

ص: 36

اللام: واقعة في جواب (لولا). (كنت): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنَ الْمُحْضَرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{لَكُنْتُ..} . إلخ جواب (لولا) لا محل لها، و (لولا) ومدخولها معطوفة على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول مثله.

{أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}

الشرح: {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ:} قيل: يقول أهل الجنة هذا للملائكة حين يذبح الموت بين الجنة والنار، وينادي مناد: يا أهل الجنة خلود لا موت! ويا أهل النار خلود لا موت! كما رأيت في سورة (مريم) رقم [39] فتقول الملائكة لهم: لا، فيقولون:{إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ:}

وإنما يقولونه على جهة التحدث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون، ولا يعذبون، ليفرحوا بدوام النعيم، لا على طريق الاستفهام؛ لأنهم قد علموا: أنهم ليسوا بميتين، ولا معذبين، ولكن أعادوا الكلام؛ ليزدادوا سرورا بتكراره. انتهى. خازن.

وقيل: يقول هذا الكلام المؤمن لقرينه الضال مستهزئا به، وساخرا منه، كما كان ذلك الضال يستهزئ به في الدنيا. والمعنى: هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتة واحدة، وأنه لا حساب، ولا جزاء، ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساحر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الضال، والتحدث بنعمة الله عليه. انتهى. صفوة التفاسير للصابوني.

{أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ:} والمعنى: أنخلد، ولا نموت. {إِلاّ مَوْتَتَنَا الْأُولى} أي: التي ذقنا مرارتها في الدنيا. {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ:} والمعنى: أنحن آمنون من العذاب، فلا نعذب؟ {إِنَّ هذا} أي:

النعيم المقيم في الجنة. {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: الفلاح، والنجاح، والربح العظيم؛ الذي لا يعدله شيء. {لِمِثْلِ هذا} أي: النعيم المقيم، والربح العظيم. {فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} أي:

الموجودون في الدنيا، فليعملوا له، فإنه جدير بالاهتمام، وصرف الوقت في تحصيله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَفَما:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف عطف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع اسمها. {بِمَيِّتِينَ:} الباء:

حرف جر صلة. (ميتين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوفة. إذ التقدير: أنحن مخالدون منعمون، فما نحن بميتين. والكلام في محل نصب مقول القول. وهو يحتمل ما رأيته في الشرح من أن القائل المؤمن، أو أهل الجنة جميعا.

{إِلاّ:} حرف حصر. {مَوْتَتَنَا:} مفعول مطلق، والعامل فيه:(ميتين). وقيل: هو استثناء

ص: 37

منقطع، التقدير: لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا. وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى في سورة (الدخان): {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى} . و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الْأُولى:} صفة (الموتة) منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما نحن بمعذبين) إعرابها مثل إعراب (ما نحن بميتين) وهي معطوفة عليها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسمها. والهاء حرف تنبيه لا محل له. {لَهُوَ:} اللام: هي المزحلقة.

(هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْفَوْزُ:} خبر المبتدأ. {الْعَظِيمُ:}

صفة له. والجملة الاسمية في محل رفع خبر: {إِنَّ} . هذا؛ وإن كان الضمير فصلا، لا محل له؛ فخبر:{إِنَّ} هو: {الْفَوْزُ،} ودخلت اللام على ضمير الفصل؛ لأنه إذا جاز أن تدخل على الخبر؛ فدخولها على الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر. وأصلها أن تدخل على المبتدأ، والجملة الاسمية:{إِنَّ هذا..} . إلخ تحتمل أن تكون من قول الله تعالى، وأن تكون من قول المؤمن.

{لِمِثْلِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. و (مثل) مضاف، و {هذا} مضاف إليه، فهو اسم إشارة مبني على السكون في محل جر، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {فَلْيَعْمَلِ:} الفاء:

هي الفصيحة. اللام: لام الأمر. (يعمل): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {الْعامِلُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب الشرط مقدر ب:«إذا» ، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا فليعمل العاملون لمثله. والكلام مثل سابقه يحتمل أن يكون من قول الله تعالى، وأن يكون من قول المؤمن.

{أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)}

الشرح: لما ذكر الله تعالى ما أعده للأبرار في دار النعيم؛ ذكر ما أعده للأشرار في دار الجحيم، وذلك من باب المقابلة، والمقارنة؛ ليظهر التمييز بين الفريقين.

{أَذلِكَ خَيْرٌ..} . إلخ: أي: أهذا الذي ذكر من نعيم الجنة، وما فيها من ماكل، ومشارب، ومناكح، وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة، وعطاء، أم شجرة الزقوم؛ التي في جهنم؟!. هذا؛ والنزل: ما يهيأ من الطعام، والشراب، والإكرام للنازل، قال أبو السعد الضبي، وقد استعار ما يعد للضيف النازل لما يفعله بالأعداء الهاجمين على قومه وعليه:[الطويل]

وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

ص: 38

و {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد لكراهتها، ونتنها، وهي تحيا بلهب النار، كما تحيا الشجرة في الدنيا بالماء البارد. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا؛ التي تعرفها العرب، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها، فقال قطرب: إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل.

وفي القاموس المحيط: نبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل. القول الثاني: إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ما نعرف هذه الشجرة، فقدم عليهم رجل من إفريقية، فسألوه، فقال: هو عندنا الزّبد، والتمر. فقال ابن الزّبعرى: أكثر الله في بيوتنا الزقوم.

فقال أبو جهل الخبيث لجاريته: هاتي زقّمينا، فأتته بزبد، وتمر، ثم قال لأصحابه: تزقّموا هذا الذي يخوفنا به محمد، يزعم: أن النار تنبت الشجر؛ والنار تحرق الشجر. انتهى. قرطبي.

هذا وفي ذلك دلالة واضحة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة إنما هو بمنزلة ما يهيأ للضيف النازل على غيره، ولهم فيما وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وكذلك الزقوم بمنزلة ما يهيأ للضيف النازل، ولأهل النار فيما وراء ذلك من المقت والسخط والعذاب الأليم والعقاب الشديد ما ذكرته الآيات القرآنية في كل موطن من مواطن الكلام على أهل النار.

{إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ:} وذلك: أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، وهي تحرق الشجر؟! والمراد: بالظالمين: المشركين هنا، والفتنة: الاختبار، والابتلاء، وكان هذا القول منهم جهلا؛ إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال، والقيود، والحيات، والعقارب، وخزنة جهنم. {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ:} قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع في دركاتها. {طَلْعُها} أي:

ثمرها، والطلع أصله للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم، من حملها؛ إما استعارة معنوية، أو لفظية، وتشبيهه برؤوس الشياطين، دلالة على تناهيه في الكراهية، وقبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم: أنه شر محض، لا يخالطه خير، فيقولون في قبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وإذا صوره المصورون؛ جاؤوا بصورته على أقبح ما يقدر، وأهوله، كما أنهم إذا اعتقدوا في الملك الخير المحض، ولا شر فيه فشبهوا به الصورة الحسنة. فقد حكى الله تعالى على النسوة اللاتي قلن في وصف يوسف على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} وهذا تشبيه تخييلي، روي معناه عن ابن عباس، والقرظي، ومنه قول امرئ القيس:[الطويل]

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وإن كانت الغول لا تعرف، ولكن لما تصوّر من قبحها في النفوس، وذلك من باب التمثيل، والتخييل، وذلك: أن كل ما يستقبح في الطباع، والصورة يشبّه بما يتخيله الوهم، وإن لم يره.

ص: 39

والشياطين وإن كانوا موجودين، لكنهم غير مرئيين للعرب، إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات. هذا؛ وإن رأس الشياطين شجر بعينه بناحية يسمى الأستن، وهو شجر مر، منكر الصورة، سمته العرب بذلك تشبيها برؤوس الشياطين في القبح، ثم صار أصلا يشبه به، فهو تشبيه حقيقي. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وقد ادعى كثير من العرب رؤية الشياطين، والغيلان. وقال الزجاج، والفراء: الشياطين حيات لها رؤوس، وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وأخبثها، وأخفها جسما، قال الراجز، وقد شبه المرأة بحية لها عرف:[الرجز]

عنجرد تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف

الحماط: نوع من النبات، الواحدة: حماطة، والأعرف: الذي له عرف، والعنجرد:

المرأة السليطة، أو الخبيثة أو السيئة الخلق. انتهى. قاموس. وقال الشاعر يصف ناقته:[الطويل] تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه

تعمّج شيطان بذي خروع قفر

التعمّج: الاعوجاج في السير، وسهم عموج: يتلوّى في ذهابه، وتعمجت الحية: إذا تلوت في سيرها. وقال الزمخشري في تفسير الزقوم: هو شجر خشن، منتن، منكر الصورة يسمى ثمره: رؤوس الشياطين. انتهى. قرطبي، وكشاف، وغيرهما. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَذلِكَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي لأهل النار. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، والقائل هو الله، أو الملائكة حسب ما تقدم، وقيل: التقدير قل يا محمد لهؤلاء الكافرين: {أَذلِكَ خَيْرٌ..} . إلخ، والمعنى لا يؤيده. {نُزُلاً:} تمييز، وقيل: حال، وهو قول الزمخشري، فإنه قال: ولك أن تجعله حالا، كما تقول: أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا؟ {أَمْ:} حرف عطف. {شَجَرَةُ:} معطوف على اسم الإشارة، و {شَجَرَةُ} مضاف، و {الزَّقُّومِ} مضاف إليه، وحذف ما بعده لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: أم شجرة الزقوم خير نزلا. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {جَعَلْناها فِتْنَةً:} ماض ومفعولاه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية من جملة المقول، وهو يقوي، ويؤيد: أن القائل لأهل النار هذا الكلام إنما هو الله تعالى. {لِلظّالِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {فِتْنَةً} أو بمحذوف صفة له.

{إِنَّها:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها. {شَجَرَةُ:} خبرها. والجملة الاسمية مستأنفة، ومبينة لحقيقة:{شَجَرَةُ الزَّقُّومِ،} لا محل لها. {تَخْرُجُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ،} والجملة الفعلية في محل رفع صفة: {شَجَرَةُ،} أو في محل رفع خبر ثان ل:

(إنّ). {فِي أَصْلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أو هما متعلقان بالفعل:{تَخْرُجُ،} و {أَصْلِ} مضاف، و {الْجَحِيمِ} مضاف إليه. {طَلْعُها:} مبتدأ، و (ها): ضمير

ص: 40

متصل في محل جر بالإضافة. {كَأَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {رُؤُسُ:} خبر: (كأنّ) وهو مضاف، و {الشَّياطِينِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:

{كَأَنَّهُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان ل: (إنّ)، أو في محل نصب حال من فاعل {تَخْرُجُ} المستتر، والرابط: الضمير فقط.

{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}

الشرح: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها} أي: من شجرة الزقوم. {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي: يأكلون منها حتى يملؤوا بطونهم. فقد ذكر الله تعالى أنهم يأكلون من شجرة الزقوم؛ التي لا أبشع منها، ولا أقبح من منظرها، مع ما هي عليه من سوء الطعم، ونتن الريح، وخبث الطبع، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها؛ لأنهم لا يجدون إلا إياها، وما هو في معناها، كما قال تعالى في سورة (الغاشية):{لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} .

فقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، وقال:

«اتقوا الله حقّ تقاته، فلو أنّ قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدّنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!» . أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها} أي: بعد ما شبعوا منها، وغلبهم العطش. {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: مزجا من حميم. وقال غيره: يعني: يمزج لهم الحميم بصديد، وغساق مما يسيل من فروجهم، وعيونهم. وعن سعيد بن جبير-رضي الله عنهما-قال:(إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارّا مرّ بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش، فيستغيثون، فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم أشوى من حره لحوم وجوههم؛ التي سقطت عنها الجلود، ويصهر ما في بطونهم، فيمشون تسيل أمعاؤهم، وتتساقط جلودهم، ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور). هذا حديث موقوف على تابعي، أخرجه ابن أبي حاتم. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وهو مأخوذ فحواه من قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ،} وقوله تعالى في سورة الحج رقم [20]: {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ،} وقوله تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم رقم [15]: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} وينبغي أن تعلم أن كل واحد مما ذكر مميت، ومهلك، ولكن لا موت، كما قال

ص: 41

تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [17]:{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ} .

هذا و (شوبا) بفتح الشين مصدر على أصله، وقيل: يراد به اسم المفعول، ويدل على قراءة بعضهم:«(لشوبا)» بضم الشين. قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى: المشوب، كالنقض بمعنى: المنقوض، والفعل منه: شابه، يشوبه من باب: قال: إذا خلطه، فهو الخلط.

{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} أي: مصيرهم، ومرجعهم إلى دركات الجحيم. قال مقاتل:

الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، ثم يردون إلى الجحيم. وقال أبو السعود:

الزّقوم، والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها. وقال النسفي: أي إنهم يذهب بهم عن مقارّهم، ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يمتلئوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم. انتهى. وهو كلام جيد، وجدير بالاعتبار.

هذا؛ و {ثُمَّ} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم. والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في مغني اللبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل ليس، فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح.

هذا؛ و (ثم) هذه غير: «ثمّ» بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة فيقال: ثمّة.

الإعراب: {فَإِنَّهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{لَآكِلُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (آكلون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. وفاعله مستتر فيه. {مِنْها:}

جار، ومجرور متعلقان بما قبلهما وهما في محل المفعول به، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَمالِؤُنَ:} الفاء: حرف عطف. (مالئون): معطوف على (آكلون) مرفوع مثله. {مِنْها:} متعلقان بما قبلهما. {الْبُطُونَ:} مفعول (مالئون). {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ،} تقدم على اسمها. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما تعلق به ما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان. {لَشَوْباً:} اللام: لام الابتداء. (شوبا): اسم {إِنَّ} مؤخر. {مِنْ حَمِيمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (شوبا). والجملة الاسمية: {إِنَّ لَهُمْ..} . إلخ. معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {مَرْجِعَهُمْ:} اسم: {إِنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله. {لَإِلَى:} اللام: هي المزحلقة. (إلى الجحيم):

متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} . والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

ص: 42

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)}

الشرح: {إِنَّهُمْ} أي: أهل مكة. {أَلْفَوْا:} وجدوا. {آباءَهُمْ:} في الضلال فاقتدوا بهم، وساروا على نهجهم. وهو ما حكاه الله عنهم بقوله:{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} . الآية رقم [170] من سورة (البقرة). ومثلها في سورة (لقمان) رقم [21]. هذا؛ و «ضلّ» : بمعنى: كفر، وأشرك. وهو المراد في هذه الآية وهو ضد: اهتدى، واستقام، ومصدره الضلال، ويأتي:«ضلّ» بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ،} ويأتي بمعنى: خفي، يخفى، وغاب يغيب أيضا. قال تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى لفرعون:{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} رقم [52]. و {ضَلَّ} الشيء: ضاع، وهلك. و «ضلّ» أخطأ في رأيه، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب لقولهم في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} . وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . و «ضلّ» : تحير، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (الضحى):{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} . هذا؛ وأضلّ، يضل غيره من الرباعي، ومصدره: الإضلال، فهو متعد، والثلاثي لازم. هذا؛ والضلال:

الخروج عن جادة الحق، والانحراف عن الصراط المستقيم. وينبغي أن تعلم: أن طريق الهدى واحدة، لا اعوجاج فيها، ولا التواء، وأما الضلال؛ فطرقه كثيرة، ومتشعبة، قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} . الآية رقم [32] وقال الشاعر الحكيم: [البسيط]

الطّرق شتّى وطرق الحقّ مفردة

والسّالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والناس في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد

{فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي: فهم يسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل، ولا برهان، قال مجاهد: شبهه بالهرولة كمن يسرع إسراعا نحو الشيء، والإهراع: الإسراع برعدة. قاله الفراء. هذا؛ وقيل: هذا الفعل ملازم للبناء للمفعول، مثل: أولع، يولع، والصواب: أنه يأتي بصيغة المبني للفاعل، وبه قرأ جماعة في الآية رقم [78] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ويكون من الباب الثالث، مثل: فتح، يفتح، ولكن الأول أكثر، وأشهر، قال مهلهل:[الوافر]

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى

نقودهم على رغم الأنوف

ص: 43

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ:} كفر، وأشرك قبل أهل مكة. {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} أي: الأمم الماضية، لذا ما الإيمان بجانب الكفر إلا كشامة بيضاء في جلد ثور أسود. وقد بينته مرارا. هذا؛ و {الْأَوَّلِينَ} جمع: أول، وفيه مسائل:

الأولى: الصحيح: أنه أصله: (أوأل) بوزن أفعل، قلبت الهمزة الثانية واوا، ثم أدغمت في الأولى، بدليل قولهم في الجمع: أوائل، وقيل: إن أصله: (ووّل) بوزن فوعل، قلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على (أواول) لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.

الثانية: الصحيح: أن أول لا يستلزم ثانيا، وإنما معناه ابتداء الشيء، ثم قد يكون له ثان، وقد لا يكون، تقول: هذا أول مال اكتسبته، وقد لا تكتسب بعده شيئا، وقد تكتسب، وقيل: إنه يستلزم ثانيا، كما أن الآخر يقتضي أولا، فلو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا، فأنت طالق، فولدت ذكرا، ولم تلد غيره؛ وقع الطلاق على الأول دون الثاني.

الثالثة: لأول استعمالان: أحدهما: أن يكون صفة، أي: أفعل تفضيل بمعنى: الأسبق، فيعطى هذا حكم أفعل التفضيل من منع الصرف، وعدم تأنيثه بالتاء، ودخول من عليه، نحو هذا أوّل هذين، ولقيته عاما أوّل، والثاني: أن يكون اسما مصروفا، نحو لقيته عاما أولا، ومنه قولهم: ما له أول، ولا آخر، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: في محفوظي: أن هذا يؤنث بالتاء، ويصرف أيضا، فيقال: أوّلة وآخرة بالتنوين. انتهى. جمع الجوامع شرح همع الهوامع للسيوطي.

الإعراب: {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {أَلْفَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق.

{آباءَهُمْ:} مفعول به أول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ضالِّينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية: تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم):

مبتدأ. {عَلى آثارِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{يُهْرَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، وإن كانت صيغته للمفعول، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم، (قد): حرف تحقيق، يقرب الماضي من الحال. {ضَلَّ:} فعل ماض، {قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله.

والهاء في محل جر بالإضافة. {أَكْثَرُ:} فاعل: {ضَلَّ،} وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ} مضاف

ص: 44

إليه مجرور

إلخ، وجملة: (لقد

) إلخ جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [62] من سورة (يس).

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ} أي: في الأولين. {مُنْذِرِينَ} أي: رسلا خوفوهم غضب الله، وعقابه الشديد، وعذابه الأليم في الآخرة، فكذبوهم. {فَانْظُرْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه النظر نظر تبصر، واعتبار، فيعتبر العاقل، وينزجر بذلك الاعتبار عن الأعمال القبيحة، والأفعال الخبيثة. {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ:} الذين كذبوا، وأعرضوا عن الإيمان بالله، ورسله، وعاقبة كل شيء: آخره ونتيجته، ولم يؤنث الفعل:{كانَ} لأن {عاقِبَةُ} مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير، والتأنيث، أو لأن:{عاقِبَةُ} اكتسبت التذكير من المضاف إليه. {إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: لكن عباد الله المخلصين الموحدين؛ الذين استخلصهم الله من الكفر. وانظر تتمة الكلام في الآية رقم [38]. هذا؛ وبين (المنذرين) و {الْمُنْذَرِينَ} جناس ناقص لاختلاف المعنى، واختلاف حركة الذال فيهما.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية السابقة. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {فِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما مفعول ثان تقدم على الأول. {مُنْذِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة: (لقد

) إلخ، جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {فَانْظُرْ:} الفاء: حرف استئناف. (انظر): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ كانَ:} في {كانَ} وجهان: أحدهما: أنها الناقصة، و {عاقِبَةُ:} اسمها، و {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبرها، تقدم عليها، وعلى اسمها. والثاني: أنها تامة، و {عاقِبَةُ:}

فاعلها، و {كَيْفَ:} في محل نصب حال من: {عاقِبَةُ} تقدمت على عاملها، وصاحبها.

و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الْمُنْذَرِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ، في محل نصب سدت مسد مفعول:(انظر)، وجملة:{فَانْظُرْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

هذا؛ وإن اعتبرت الفاء الفصيحة؛ فالجملة الفعلية تكون جوابا لشرط مقدر ب: «إذا» التقدير:

وإذا كان ما ذكر واقعا؛ فانظر

إلخ، والكلام كله مستأنف لا محل له. {إِلاّ:} أداة استثناء. {عِبادَ:} استثناء منقطع؛ لأن ما قبله وعيد، وهم لم يدخلوا في هذا الوعيد.

و {عِبادَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {الْمُخْلَصِينَ:} صفة: {عِبادَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ.

ص: 45

{وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)}

الشرح: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ} أي: ولقد دعانا نوح حين أيس من قومه، فقال:{أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ،} وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً} . {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي: دعانا فأجبناه، وأهلكنا قومه، والجمع دليل العظمة، والكبرياء، وانظر (نا) في الآية رقم [34] من سورة (يس) والمعنى: إنا أجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون.

{وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ} أي: ومن آمن به، وأولاده. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي: من الغم الذي لحق قومه، وهو الغرق. {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال، والنساء إلا ولده، ونساءه، فذلك قوله تعالى:{وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} . وقال سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-: كان ولد نوح ثلاثة، والناس كلهم من ولد نوح، فسام أبو العرب، وفارس، والروم، واليهود، والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند، والهند، والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر، وغيرهم.

ويافث أبو الصقالبة، والترك، واللان، والخزر، ويأجوج، ومأجوج، وما هنالك. وقال قوم:

كان لغير ولد نوح أيضا نسل، بدليل قوله تعالى:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ} . رقم [3] من سورة (الإسراء)، وقوله تعالى:{أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ..} .

إلخ رقم [58] من سورة (مريم)، وقوله تعالى:{قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ..} . إلخ. رقم [48] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

فعلى هذا معنى الآية: وجعلنا ذريته، وذرية من آمن معه هم الباقين، دون ذرية من كفر، فإنهم أغرقوا بسبب كفرهم.

{وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي: تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، فهو كناية لطيفة عن ذلك، فإنه محبب إلى الجميع، حتى إن في المجوس من يقول: إنه أفريدون، وقيل المراد في الآخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الأنبياء؛ إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً..} . إلخ الآية رقم [13] من سورة (الشورى). هذا والذكر الحسن الجميل للإنسان بعد موته عمر ثان له، كما قال أحمد شوقي -رحمه الله تعالى-:[الكامل]

دقّات قلب المرء قائلة له

إنّ الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها

فالذّكر للإنسان عمر ثان

ص: 46

هذا؛ ونوح اسمه: السكن، وقيل: عبد الغفار، وسمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، وكان نوح نجارا، واختلفوا في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: إخسأ يا قبيح! فأوحى الله إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟! وقيل:

أنطق الله الكلب، فقال له: أتسخر من الخالق، أم من المخلوق؟ وهو أول رسول بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وكان أول من عذبته أمته لردهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وكان أطول الأنبياء عمرا، عمر ألفا وخمسين سنة. وقيل: أكثر. لم تنقص قوته، ولم يشب، ولم تسقط له سن، وصبر على أذى قومه طول عمره، وكان أبواه مؤمنين بدليل دعوته لهما بالمغفرة في الآية الآخرة من سورة (نوح). يروى: أن جبريل-عليه الصلاة والسلام-قال له: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار، لها بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر.

هذا؛ والأهل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، والأهل: العشيرة، وذوو القربى، ويطلق على الزوجة، وعلى الأتباع بدليل قوله تعالى:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} . والجمع: أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وأهلات، وبالأولين قرئ قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} الآية رقم [6] من سورة (التحريم).

الإعراب: {وَلَقَدْ} انظر الآية رقم [69]. {نادانا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، و (نا): ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {نُوحٌ:} فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم. والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {فَلَنِعْمَ:} الفاء: حرف عطف.

اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (نعم): فعل ماض جامد لإنشاء المدح. {الْمُجِيبُونَ:}

فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة

إلخ، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: نحن، وجملة:«لنعم المجيبون نحن» جواب القسم المحذوف، والقسم المحذوف وجوابه كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {وَنَجَّيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم، لا محل لها مثله. {وَأَهْلَهُ:} معطوف على الضمير المنصوب، وجوز اعتباره مفعولا معه، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْكَرْبِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَظِيمِ:} صفة: {الْكَرْبِ} . {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {ذُرِّيَّتَهُ:} مفعول به أول. والهاء في محل جر بالإضافة. {هُمُ:} ضمير فصل، لا محل له. {الْباقِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وجملة {وَجَعَلْنا..} . إلخ، معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَتَرَكْنا:} فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف، التقدير: تركنا ثناء حسنا. {عَلَيْهِ:} جار

ص: 47

ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية للموصوف المحذوف. {فِي الْآخِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، أو هما المفعول الثاني للفعل:(تركنا)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)}

الشرح: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} أي: سلام عاطر من الله تعالى، والخلائق على نوح باق على الدوام بدون انقطاع. قال سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-: بلغني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من قال حين يمسي: سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب» . ذكره أبو عمر في التمهيد.

وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم-رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نزل منزلا، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق فإنه لا يضرّه شيء حتى يرتحل» . {إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ:} هذا تعليل لما فعل بنوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-من إكرامه بإجابة دعائه، وإبقاء ذريته، وذكره الجميل، وتسليم العالمين عليه، فعلّل ذلك بكونه من زمرة المأمورين بالإحسان، الراسخين فيه، وإن ذلك من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان. {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ:} فهذا تعليل لإحسانه بإيمانه، إجلالا لشأن الإيمان وشرفه، وترغيبا في تحصيله، والثبات عليه، والازدياد منه، كما قال تعالى في مدح إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى، فلا يرد: كيف مدح نوحا، وإبراهيم، وغيرهما كموسى، وعيسى عليهما الصلاة والسّلام بذلك مع أن مرتبة الرسل فوق مرتبة المؤمنين. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

هذا؛ والإضافة في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا} إضافة تشريف، وتعظيم، وتبجيل، وذكر العبودية مقام عظيم. والعبد: الإنسان حرا كان، أو رقيقا، ويجمع على عبيد، وعباد، وأعبد، وعبدان، وعبدة، وغير ذلك.

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أي: أغرقنا الكافرين؛ الذين لم يؤمنوا بنوح عن بكرة أبيهم، فلم تبق منهم عين تطرف، ولا ذكر، ولا أثر. هذا؛ و {الْآخَرِينَ} جمع: آخر، ومؤنثه: أخرى، وكلاهما بمعنى: غير، وأخرى تجمع على: أخر، وأخريات، والآخر (بفتح الخاء) يكون ما قبله، وما بعده من جنسه. هذا؛ والآخر (بكسر الخاء) لا يكون بعده شيء غيره، ومؤنثه:

أخرى، وآخرة أيضا، وجمع الأولى: أخريات، وجمع الثانية: أواخر. هذا؛ والأخرى: دار البقاء، وكلاهما ضد الأول. هذا؛ و {ثُمَّ} هنا ليست للتراخي، بل هي لتعداد النعم، والمعنى:

ثم إني أخبركم: أني قد أغرقت الآخرين، وهم الذين أعرضوا عن الإيمان.

ص: 48

الإعراب: {سَلامٌ:} مبتدأ. {عَلى نُوحٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة؛ لأنه في معنى الدعاء. {فِي الْعالَمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محلها أوجه: أحدها: مفسرة لمفعول (تركنا) المحذوف. والثاني: هي في محل نصب مفعول به ل: (تركنا). وقيل: ضمن (تركنا) معنى:

«قلنا» . وقيل: هي في محل نصب مقول القول لقول محذوف. وقيل: هي مستأنفة، لا محل لها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده. التقدير: نجزي المحسنين جزاء كائنا مثل الجزاء الذين جزيناه نوحا عليه السلام، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {نَجْزِي:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره:

«نحن» . {الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لإكرام نوح. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مِنْ عِبادِنَا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، و (نا): في محل جر بالإضافة. {الْمُؤْمِنِينَ:} صفة: {عِبادِنَا} مجرور مثله، والجملة الاسمية تعليل لإحسانه، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَغْرَقْنَا:}

فعل، وفاعل، {الْآخَرِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

(نجيناه

) إلخ لا محل لها مثلها.

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)}

الشرح: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ} أي: من أهل دينه وسنته ومنهاجه، وإن اختلفت فروع شرائعهما. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي، أو أكثري؛ وإن طال الزمان بينهما، وهو ألفان وستمئة وأربعون سنة، أفاده الجلال، والبيضاوي، وفي جامع الأصول: أن بينهما ألفا ومئة، واثنتين وأربعين سنة، وكان بينهما رسولان: هود، وصالح، وكان قبل نوح ثلاثة: إدريس، وشيث، وآدم، فجملة الرسل قبل إبراهيم ستة، على نبينا، وحبيبنا وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وفي الآيتين مراعاة الفواصل وهو من المحسنات البديعية، وهو من خصائص القرآن الكريم، وفيه من الروعة، والجمال، وحسن الوقع على السمع ما يزيد الكلام روعة وجمالا، وهو كثير في القرآن الكريم مثل سورة (الواقعة) ونحوها، ولا يجوز أن نسمّيه: سجعا.

هذا؛ وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وأشياع، وأصله من التشيع، ومعنى الشيعة: الجماعة الذين يتبع بعضهم بعضا. وقيل: الشيعة: هم الذين يتقوى بهم الإنسان. وفي القاموس المحيط: وشيعة الرجل بالكسر: أتباعه، وأنصاره، والفرقة

ص: 49

على حدة، وتقع على الواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث. وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علي بن أبي طالب، وأهل بيته، رضوان الله عليهم أجمعين، حتى صار اسما لهم خاصة، قال الكميت-وهو الشاهد رقم (412) من كتابنا:«فتح ربّ البرية» -: [الطويل]

ومالي إلاّ آل أحمد شيعة

ومالي إلاّ مذهب الحقّ مذهب

وجمع شيعة: شيع، مثل: سدرة، وسدر، والأشياع: جمع الجمع، فهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد فيه الكبار؛ حتى تستوقد. انتهى. قرطبي. هذا؛ والمشايعة:

المناصرة، والمعاونة، أخذت من الشياع أيضا، وهو دقاق الحطب لمعاونته النار على الإيقاد في الحطب الجزل. قال عنترة رقم [101] من معلقته:[الكامل]

ذلل ركابي حيث شئت مشايعي

قلبي وأحفزه بأمر مبرم

{إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من آفات القلوب، أو من العلائق الدنيوية، خالص لله. ومعنى المجيء به ربه: إخلاصه له، كما جاء به متحفا إياه، وحقيقة المجيء بالشيء: نقله من مكانه.

وهذا المعنى لا يتصور فيما نحن فيه، فكان الظاهر: جاء ربه سليم القلب. ففي {جاءَ} استعارة تصريحية، تبعية، شبه إخلاصه قلبه بمجيئه بتحفة في أنه فاز بما يستجلب رضاه. انتهى. جمل نقلا من الشهاب، وزاده. هذا؛ ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده، وطاعته. والثاني: عند إلقائه في النار. وقال عوف: فقلت لمحمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة حق، وأن الله يبعث من في القبور.

الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف مشبه بالفعل. {مِنْ شِيعَتِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، تقدم على اسمها، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَإِبْراهِيمَ:} اللام: لام الابتداء. (إبراهيم): اسم (إنّ) مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها؛ لأن الواو عطفت قصة إبراهيم على قصة نوح. هذا؛ وإن اعتبرت الجملة الاسمية في محل نصب حال من نوح، أو من الضمير العائد عليه؛ فلست مفندا، والرابط: الواو، والضمير، فالمعنى لا يأباه. تأمل. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {شِيعَتِهِ} لما فيه من معنى المتابعة، والمشايعة، أو هو متعلق بمحذوف، أو هو مفعول به لهذا المحذوف المقدر ب: اذكر. وهو قول الزمخشري، وأبي البقاء، وغيرهما. {جاءَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (إبراهيم).

{رَبَّهُ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِقَلْبٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {سَلِيمٍ:} صفة:

(قلب). وجملة: {جاءَ..} . إلخ في محل جر بإضافة: {إِذْ} إليها.

ص: 50

{إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85)}

الشرح: في هذه الآية توبيخ لهم، وإنكار على أبيه، وقومه على عبادة من لا يستحق العبادة. والمعنى: ما هذا الذي تعبدونه من الأوثان، والحجارة، والأصنام؟! وانظر ما ذكرته في شرح (أبيه) في الآية رقم [74] من سورة (الأنعام) ففيها الكفاية.

الإعراب: {إِذْ:} بدل مما قبلها، أو هو متعلق بالفعل {جاءَ،} أو ب: {سَلِيمٍ} . والأول أقوى. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم). {لِأَبِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَقَوْمِهِ:} معطوف على ما قبله. {ماذا:} (ما) اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي تعبدونه. هذا؛ ويجوز اعتبار: {ماذا} اسم استفهام مركبا مبنيا على السكون في محل نصب مفعولا مقدما، وعليه:

فالجملة فعلية، وعلى الأول فهي اسمية. وعلى الاعتبارين فهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}

الشرح: {أَإِفْكاً:} الإفك: أسوأ الكذب، والأفاك: كثير الإفك، وهو الكذب، قال تعالى في سورة (الجاثية) الآية رقم [7]:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ} . {دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} أي: غير الله تعبدون من أجل الإفك، والكذب، والزور، والبهتان. {فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ} أي: شيء تظنونه بربكم؛ وقد عبدتم غيره، وقد علمتم: أنه المنعم، والمتفضل على الحقيقة، فكان جديرا بالعبادة، ولكنكم عبدتم الحجارة، والأوثان من دونه.

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان قومه يتعاطون علم النجوم، فعاملهم من حيث كانوا يتعاطون، ويتعاملون به، لئلا ينكروا عليه، وذلك: أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم، ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد عيد، ومجمع، فكانوا يدخلون على أصنامهم، ويقربون لها القرابين، ويضعون بين أيديها الطعام، قبل خروجهم إلى عيدهم، وزعموا التبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم؛ أكلوه، فقالوا لإبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم-: ألا تخرج معنا إلى عيدنا؟ فنظر في النجوم، فقال: إني سقيم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: مطعون،

ص: 51

وكانوا يفرون من المطعون فرارا عظيما. وقيل: مريض. وقيل: متساقم. وهو من معاريض الكلام. وقيل: إنه خرج معهم إلى عيدهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال: إني سقيم، أشتكي رجلي. انتهى. خازن.

هذا؛ ونقل القرطبي عن الضحاك قوله: معنى (سقيم): سأسقم سقم الموت؛ لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، وهذا تورية وتعريض. وقال الزمخشري: والذي قاله إبراهيم-عليه السلام-معراض من الكلام، ولقد نوى به: أن من في عنقه الموت سقيم، ومنه المثل: كفى بالسلامة داء، وقول لبيد-رضي الله عنه:[الكامل]

فدعوت ربّي بالسّلامة جاهدا

ليصحّني فإذا السّلامة داء

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «لم يكذب إبراهيم النبيّ قطّ إلاّ ثلاث كذبات: ثنتين منهنّ في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ،} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ،} وواحدة في شأن سارّة» . رواه مسلم، وغيره. هذا؛ والواحدة في شأن سارّة هي قوله للجبار في مصر حين سأله عنها، فقال له: هذه أختي. هذا؛ وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم كذبات، ومعناه: أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات، ولما كان مفهوم ظاهرا خلاف باطنها، أشفق إبراهيم-على حبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-منها بمؤاخذته بها، لذا يعتذر عليه الصلاة والسلام عن الشفاعة في الموقف العظيم، يقول:«وإني كذبت ثلاث كذبات» . انظر حديث الشفاعة الطويل في كتاب: «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري، وقد خرجه البخاري، ومسلم.

قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي:

أنه عليه الصلاة والسلام قال: لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات: اثنتين ما حل بهما عن دين الله، وهما قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ،} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ولم يعد قوله: «هذه أختي» في ذات الله تعالى، وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه، وحماية أهله؛ لم يجعلها في ذات الله، وذلك؛ لأنه لا يجعل في جنب الله، وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال تعالى:{أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} . وهذا لو صدر منا لكان لله، ولكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا، والله أعلم. انتهى. قرطبي في سورة (الأنبياء). وقال هنا: فإبراهيم صادق، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم، واصطفائهم؛ عد هذا ذنبا، ولهذا قال:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} . الآية رقم [82] من سورة (الشعراء).

هذا؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» . أي: إن في التعريض ما يمنع المسلم عن الوقوع في الكذب المحرم. فليس إذا في كلام إبراهيم ما يدل على تعمد

ص: 52

الكذب؛ الذي يخل بعصمة الأنبياء، وإنما هو من التعريض المباح، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

الإعراب: {أَإِفْكاً:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي، (إفكا): فيه أوجه: أحدها:

أنه مفعول من أجله، أي: أتريدون آلهة دون الله إفكا ف: {آلِهَةً} مفعول به، و {دُونَ} ظرف ل:{تُرِيدُونَ،} وقدمت معمولات الفعل اهتماما بها، وحسنه كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول لأجله على المفعول به اهتماما به؛ لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك، وباطل، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري. الثاني: أن يكون مفعولا به ب: {تُرِيدُونَ،} ويكون {آلِهَةً} بدلا منه جعلها نفس الإفك مبالغة، فأبدلها منه، وفسره بها، ولم يذكر ابن عطية غيره. الثالثة: أنه حال من فاعل: {تُرِيدُونَ} أي: أتريدون آلهة آفكين، أو ذوي إفك؟ وإليه نحا الزمخشري. قال الشيخ: وجعل المصدر حالا يطرد إلا مع نحو: أما علما فعالم. انتهى. جمل نقلا عن السمين. و {دُونَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة فعلية على جميع وجوه الإعراب، وهي في محل نصب مقول القول.

{فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{ظَنُّكُمْ:} خبر المبتدأ، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، {بِرَبِّ:} جار ومجرور متعلقان بالمصدر، وهما مفعوله في المعنى، و (رب) مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلامة الجر الياء

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة في المعنى، وهي من مقول إبراهيم، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{فَنَظَرَ:} الفاء: حرف استئناف. (نظر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم).

{نَظْرَةً:} مفعول مطلق. {فِي النُّجُومِ:} متعلقان ب: {نَظْرَةً،} أو بمحذوف صفة لها، وتعليقهما بالفعل جيد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها من قول الله تعالى، وليست من قول إبراهيم. {فَقالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم). {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {سَقِيمٌ:} خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَتَوَلَّوْا:} الفاء: حرف عطف. (تولوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{مُدْبِرِينَ:} حال من واو الجماعة، وهي حال مؤكدة، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

ص: 53

{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)}

الشرح: {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ} أي: مال إليهم سرا. وراغ، يروغ، روغا، وروغانا: إذا مال.

وطريق رائغ، أي: مائل، قال صالح بن عبد القدوس:[الكامل]

لا خير في ودّ امرئ متقلّب

حلو اللسان وقلبه يتلهّب

يلقاك بحلف أنه بك واثق

وإذا توارى عنك فهو العقرب

يعطيك من طرف اللّسان حلاوة

ويروغ عنك كما يروغ الثعلب

أي: يميل عنك، كما يميل الثعلب في سيره. {فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ:} يخاطب الأصنام استهزاء بها كما يخاطب العقلاء؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة في دعائهم لها، وعبادتهم إياها، ومثله:

{ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} وقد رأيت أنهم كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام ليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم. {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ:} خص الضرب باليمين؛ لأنها أقوى، والضرب بها أشد. قاله الضحاك، والربيع بن أنس، والفراء، وانظر الآية رقم [26]. وقيل: المراد باليمين: اليمين التي حلفها حين قال: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} فجعل تلك الأوثان جذاذا، كما صرحت بذلك سورة (الأنبياء). وكانت اثنين وسبعين صنما، بعضها من حجر، وبعضها من خشب، وبعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعضها من نحاس، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وكان كبيرها من ذهب مكللا بالجواهر، وكان في عينيه ياقوتتان تتقدان نورا، وهذا الذي علق الفأس برقبته، وتركه سالما، وعزى إليه تكسير سائر الأصنام؛ حيث قال:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} .

{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ:} إلى إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بعد أن رجعوا، ورأوا أصنامهم مكسرة محطمة، وسألوا عن كاسرها. انظر المحاورة بينه وبينهم في سورة (الأنبياء). {يَزِفُّونَ:} يسرعون. قاله ابن زيد. وقال قتادة، والسدي: يمشون. وقال يحيى بن سلاّم: يرعدون غضبا. وقال مجاهد: يختالون، وهو مشي الخيلاء، ومنه: أخذ زفاف العروس إلى زوجها. قال الفرزدق: [الطويل]

وجاء قريع الشّول قبل إفالها

يزفّ وجاءت خلفه، وهي زفّف

والزفيف: عدو النعام؛ إذا أسرع، والدفيف طيران الطائر إذا أسرع في الحال؛ التي يكون فيها قريبا من الأرض، ففي الآية الكريمة استعارة الزفيف لسرعة الرجال، يقال: زف الرجل،

ص: 54

يزف زفيفا: إذا أسرع، وقد استعار الحارث بن حلزة الزفيف لسرعة الناقة بقوله في معلقته رقم [9 و 10]:[الخفيف]

غير أنّي قد أستعين على الهم

م إذا خفّ بالثّويّ النّجاء

بزفوف كأنّها هقلة أم

م رثال دوّيّة سقفاء

{قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ:} هذا جواب لقولهم الذي حكاه الله تعالى عنهم في سورة (الأنبياء) رقم [65]{لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} والمعنى: أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم؟! والنحت: النجر، والبري. والمنحت: ما ينحت به. {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ:} المعنى:

خلقكم، وخلق الأصنام؛ التي تصنعونها بأيديكم من الخشب، ونحوه. وهذا على اعتبار (ما) موصولة، والأحسن اعتبارها مصدرية، فيكون التقدير: والله خلقكم وعملكم، وهذا مذهب أهل السنة: أن الأفعال خلق لله عز وجل، واكتساب للعباد، وفي هذا إبطال مذهب القدرية، والجبرية، ومذهب المعتزلة أيضا، فقد روى أبو هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الله خالق كلّ صانع وصنعته» . ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل صنع كلّ صانع وصنعته، فهو الخالق، وهو الصانع سبحانه» . انتهى. قرطبي، وللزمخشري كلام طويل في دعم مذهبه الاعتزالي. انظر ما ذكرته في الآية رقم [37] من سورة (غافر) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {فَراغَ:} الفاء: حرف عطف. (راغ): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم).

{إِلى آلِهَتِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم) أيضا، {أَلا:} حرف تحضيض، أو هو حرف توبيخ، وتأنيب.

وقيل: الهمزة حرف استفهام، و (لا) نافية. {تَأْكُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لا:} نافية. {تَنْطِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال اسم الاستفهام، والجملة الاسمية:{ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} في محل نصب مقول القول، وقدر بعضهم الكلام كما يلي: فلم ينطقوا، فقال: ما لكم لا تنطقون؟ {فَراغَ:} الفاء: حرف عطف. (راغ): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم). تقديره:«هو» . {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ضَرْباً:}

حال من الفاعل المستتر. التقدير: فراغ عليهم ضاربا. أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف.

ص: 55

التقدير: يضرب ضربا. والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من فاعل: (راغ) المستتر.

هذا؛ وأجاز الزمخشري اعتباره مفعولا مطلقا لفعل: (راغ). قال: كأنه قال: فضربهم ضربا؛ لأن «راغ عليهم» ، بمعنى: ضربهم، وبقوله قال البيضاوي، والنسفي كعادتهما في اتباعه؛ لأن تفسيريهما مأخوذان من الكشاف بلا ريب. {بِالْيَمِينِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {ضَرْباً،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{فَراغَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فلم يجيبوا، فراغ

إلخ. {فَأَقْبَلُوا:} الفاء: حرف عطف. (أقبلوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يَزِفُّونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وجملة:{فَأَقْبَلُوا..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فكسرها، فبلغ قومه من رآه، فأقبلوا

إلخ، والجمل كلها معطوفة على جملة: (راغ

) إلخ لا محل لها مثلها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم). {أَتَعْبُدُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي، (تعبدون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أتعبدون الذي، أو شيئا تنحتونه بأيديكم. والمصدرية ضعيفة، وأضعف منها اعتبارها استفهامية. والجملة:{أَتَعْبُدُونَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال، (الله): مبتدأ.

{خَلَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وأجيز اعتبارها مستأنفة. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): فيها أربعة أوجه: أحدها: أنها بمعنى: الذي، أي: خلق الذي تصنعونه، فالعمل هنا التصوير، والنحت، وعليه ف:(ما) مبنية على السكون في محل نصب معطوفة على الكاف، وعليه يصح اعتبار (ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيئا تعبدونه. الثاني: اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب معطوف على الكاف. التقدير: خلقكم، وأعمالكم، وجعلها الأشعري دليلا على خلق الله تعالى لأفعال العباد، وهو الحق. والثالث: اعتبار (ما) استفهامية للتوبيخ، وعليه فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، وهذا لا يؤيده المعنى، ولا المحل الإعرابي؛ لأن التقدير: وأي: شيء تعملون؟ والرابع: اعتبار (ما) نافية، التقدير: إن العمل في الحقيقة ليس لكم، فأنتم لا تعملون شيئا. وهذا كالذي قبله لا يؤيده المعنى، ولا المحل الإعرابي أيضا. والأوجه الأربعة قالها السمين، وأنا توسعت في شرحها وإعرابها، وخذ ما يلي:

ص: 56

قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: (ما): في موضع نصب ب: (خلق)، عطف على الكاف والميم في خلقكم، وهي مع الفعل مصدر، أي: والله خلقكم وعملكم، وهذا أليق بها؛ لأنه تعالى قال:{مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ} فأجمع القراء المشهورون وغيرهم على إضافة {شَرِّ} إلى {ما،} وذلك يدل على خلقه للشر عز وجل كما خلق الخير.

وقد فارق عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة جماعة المسلمين، فقرأ:«(من شرّ ما خلق)» بالتنوين ليثبت أن مع الله خالقا يخلق الشر، تعالى الله عما قاله علوا كبيرا، وقوله إلحاد، والصحيح:

أن الله جل ذكره أعلمنا: أنه خلق الشر، وأمرنا أن نتعوذ منه، وهو خالق الخير بلا اختلاف بين المسلمين، والملحدين، فدل ذلك: أن الله تعالى خلق أعمال العباد كلها، من خير وشر، فيجب أن تكون {ما} والفعل مصدرا، فيكون معنى الكلام إن الله عمّ جميع الأشياء أنها مخلوقة له، قال جل ذكره:{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} أي: وعملكم.

وقد قالت المعتزلة: إن (ما) بمعنى: الذي؛ فرارا من أن يقروا بعموم الخلق لله، فإنما أخبر على قولهم أنه خلقهم وخلق الأشياء التي نحتت منها الأصنام، وبقيت الأعمال، والحركات غير داخلة في خلق الله، تعالى الله عن ذلك، بل كل شيء خلق لله وحده، لا خالق لشيء إلا هو، وخلق الله لإبليس-الذي هو الشر كله-يدل على خلق الله لجميع الأشياء كلها، وقد قال تعالى ذكره:{هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ} . ويجوز أن تكون (ما) استفهاما في موضع نصب ب: {تَعْمَلُونَ} على التحقير لعملهم، والتصغير له. انتهى. بحروفه.

{قالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}

الشرح: {قالُوا} أي: قال قوم إبراهيم عليه السلام متشاورين فيما بينهم لما غلبهم بالحجة حسب ما رأيت في سورة (الأنبياء). {اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً:} واملؤوه حطبا، واضرموا فيه النار، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: بنوا حائطا من حجارة، طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وملؤوه نارا، ثم طرحوه فيه. قال عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: فلما صار في البنيان، قال: حسبي الله، ونعم الوكيل. والألف واللام في (الجحيم) بدل من الضمير العائد إلى البنيان، التقدير: فألقوه في جحيمه؛ أي: في ناره المستعرة، فكانت عليه بردا، وسلاما. {فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً} أي: شرا، وهو أن يحرقوه. والكيد: المكر. {فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ:} المقهورين المغلوبين؛ لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، وكيدهم. وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في سورة (الأنبياء)، فإنك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {قالُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {اِبْنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، ويقال: لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير

ص: 57

متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{بَنَيْنا،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {بَنَيْنا:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، {فَأَلْقُوهُ:} فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فِي الْجَحِيمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب؛ التقدير: ألقوه مطروحا في الجحيم.

وجملة: {قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَأَرادُوا:} الفاء: حرف عطف. (أرادوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما؛ لأنه مصدر. {كَيْداً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة بالفاء العاطفة على جملة:{قالُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ:} فعل ماض ومفعولاه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}

الشرح: {وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ:} لما نجاه الله من النار، وخلصه من كيد الكفار؛ هجر قومه، واعتزلهم. والمعنى: إني مهاجر من بلاد قومي إلى حيث أمرني ربي، قال مقاتل -رحمه الله تعالى-: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط ابن أخيه، وسارة زوجته إلى الأرض المقدسة، وهي أرض الشام. وقيل: المعنى: إني ذاهب بعملي، وعبادتي، وقلبي، ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن، والواقع يرد هذا قطعا؛ لأنه هاجر ببدنه محافظة على دينه وعبادته.

وقيل: قال هذا قبل إلقائه في النار. ولا وجه له ألبتة، وما بعده، يرده. وقوله هذا كان بعد نجاته من النار. ومعنى {سَيَهْدِينِ:} سير شدني إلى ما فيه صلاحي في ديني، ويوفقني لطاعته وعبادته. والأوجه: أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.

وقال ذلك ثقة بالله، وتنبيها لقومه على أن الهداية من الله تعالى.

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ} أي: ارزقني ولدا من الصالحين يؤنسني في غربتي عن وطني الذي عشت فيه. قال ابن كثير: يعني: أولادا مطيعين، يكونون عوضا من قومه، وعشيرته؛ الذين فارقهم. هذا؛ ولفظ {هَبْ} دليل واضح على أن الولد الصالح هبة، ومنحة من الله للوالدين، فلم يقل عليه الصلاة والسلام: اعطني، وارزقني، وإنما قال:{هَبْ لِي،} وقال علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه-لابن عباس-رضي الله عنهما-حين هنأه بولده علي

ص: 58

أبي الأملاك: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب، وموهب. وقال الشاعر الحكيم:[الكامل]

نعم الإله على العباد كثيرة

وأجلّهنّ نجابة الأولاد

هذا؛ فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، فقد تمنى إبراهيم ذلك بقوله:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} رقم [83] من سورة (الشعراء)، وتمنى ذلك سليمان بقوله:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} رقم [19] من سورة (النمل)، وتمنى ذلك يوسف بقوله:{تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} رقم [101] من السورة المسماة باسمه؟ والجواب: أن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله، ولا يفعل معصية، ولا يهم بها، وهذه درجة عالية، فإذا كلمة الصلاح ليست بالهيّن.

{فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي: فاستجبنا دعاءه، وبشرناه بغلام يكون حليما في كبره. قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة: أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما؛ لأن الصغير لا يوصف بذلك، وهذا الغلام هو إسماعيل، على نبينا، وحبيبنا وعليهم ألف صلاة، وألف سلام، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم ست وثمانون سنة، وولد إسحاق، وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة، وعندهم: أن الله تبارك وتعالى أمره أن يذبح ابنه الوحيد، وفي نسخة أخرى: بكره، فأقحموا هاهنا كذبا وافتراء إسحاق، ولا يجوز هذا؛ لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق؛ لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب.

قال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: ودليلي على أن الذبيح هو إسماعيل من التوراة نفسها؛ إذ إن الذبيح وصف بأنه ابن إبراهيم الوحيد، الذي ليس له سواه؛ إذ سخاوة نفس إبراهيم بولده الوحيد يذبحه امتثالا لأمر ربه له في المنام أدل على امتثال الأمر ونهاية الطاعة، وهذا هو الإسلام بعينه، وإذا رجعنا إلى إسحاق لم نجده وحيدا لإبراهيم في يوم من الأيام؛ لأن إسحاق ولد وعمر إسماعيل نحو (14) سنة، كما هو صريح التوراة، وبقي إسماعيل إلى أن مات إبراهيم، وحضر إسماعيل وفاته، ودفنه، وأيضا فإن ذبح إسحاق يناقض الوعد الذي وعد به إبراهيم: أن إسحاق سيكون له نسل، وكذلك فإن مسألة الذبح وقعت في مكة، وإسماعيل هو الذي ذهب به أبوه إلى مكة رضيعا، لا إسحاق، والله أعلم. انتهى. هذا؛ وذكرت لك في سورة (هود) رقم [71] أن إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام-. قد تزوج غير هاجر، وسارة، وولد له، أولاد غير إسماعيل، وإسحاق.

ص: 59

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة-رضي الله عنهم، وليس ذلك في كتاب، أو سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك:{وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ} ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: {إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} . رقم [53] من سورة (الحجر)، وقال تعالى:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} رقم [28] من سورة (الذاريات)، وقال تعالى:{فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} رقم [71] من سورة (هود)، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، أي: يولد في حياة إبراهيم وزوجته سارّة ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب، ونسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا؟ وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد: [الكامل]

إنّ الذّبيح هديت إسماعيل

نطق الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خصّ الإله نبيّنا

وأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمّته فلا تنكر له

شرفا به قد خصّه التّفضيل

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» فالأول جده إسماعيل، والآخر أبوه عبد الله، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا؛ إن سهل الله له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة من الذكور، فلما تحقق له ذلك؛ همّ بذبح عبد الله، فقام في وجهه زعماء قريش، وكان ذلك بعد أن أقرع بين أولاده، وخرجت القرعة على عبد الله، ففداه بمئة من الإبل، ولذلك ثبتت الدية مئة من الإبل، وانظر تفصيل ذلك في كتب السيرة.

وروى الحاكم في المستدرك عن معاوية بن أبي سفيان؛ قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله! خلفت البلاد يابسة، والمال عابسا، هلك المال، وضاع العيال، فعد عليّ مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين! قال معاوية: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه.

وروي فيما ذكره المعافى بن زكريا: أنّ عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-سأل رجلا أسلم من علماء اليهود، أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: يا أمير المؤمنين والله إن اليهود ليعلمون: أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون الذبيح أباكم، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون: أنه إسحاق. انتهى. زيني دحلان بتصرف كبير مني.

أقول: صريح قوله تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ} رقم [110]، أقوى دليل على أن الذبيح إسماعيل. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم. وانظر الكلام فيما يلي. هذا؛

ص: 60

و «غلام» يطلق على الصبي دون البلوغ، وجمعه: غلمان، وغلمة، وأغلمة، كما يطلق على العبد، والأجير؛ وإن كانا كبيرين. هذا؛ وقد يقال للأنثى: غلامة، خذ قول الشاعر:[الطويل]

فلم أر عاما عوض أكثر هالكا

ووجه غلام يشترى وغلامه

هذا؛ وانظر شرح البشارة في الآية رقم [11] من سورة (يس).

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل مستتر، تقديره:

«هو» يعود إلى إبراهيم. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {ذاهِبٌ:} خبرها وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وقدر الجلال قبلها جملة محذوفة كما يلي: فخرج من النار سالما، وقال

إلخ. وعليه؛ فالكلام مستأنف لا محل له. {إِلى رَبِّي:} جار ومجرور متعلقان ب: {ذاهِبٌ،} والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {سَيَهْدِينِ:} السين: حرف استقبال يفيد تحقق الوقوع. (يهدين): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {رَبِّي،} والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل:(إنّ). {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، وانظر إعراب {يا قَوْمِ} في الآية رقم [20] من سورة (يس)، {هَبْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر وجوبا، تقديره:«أنت» . {لِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، {مِنَ الصّالِحِينَ:} متعلقان بما قبلهما أيضا، والكلام:{رَبِّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، {فَبَشَّرْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (قال

) إلخ لا محل لها مثلها.

وقيل: معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فاستجبنا له، فبشرناه. {بِغُلامٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {حَلِيمٍ:} صفة (غلام).

{فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ (102)}

الشرح: {فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي: فاستجبنا له دعاءه، ووهبنا له الغلام، فلما بلغ معه المبلغ الذي يسعى فيه مع أبيه في أمور دنياه، معينا له على أعماله، قال المفسرون: هو سن الثالثة عشرة، قاله الفراء، وغيره.

{قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ:} رأى ذلك إبراهيم-عليه السلام-ثلاث ليال متتابعات. أي: في المنام، وهذا من قبيل الوحي. قال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه:

ص: 61

كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى، أيقاظا، ورقودا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم:«إنّا معاشر الأنبياء تنام عيوننا ولا تنام قلوبنا» . ورحم الله البوصيري إذ يقول: [البسيط]

لا تنكر الوحي من رؤياه إنّ له

قلبا إذا نامت العينان لم ينم

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: رؤيا الأنبياء وحي، واستدل بهذه الآية، ويقال: إن إبراهيم عليه السلام، رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روّى في نفسه، أي: فكّر: أهذا الحلم من الله، أم من الشيطان؟ فسمّي يوم التروية، فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا. وقيل له: الوعد، فلما أصبح؛ عرف: أن ذلك من الله، فسمّي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره، فسمّي يوم النحر. وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرار الرؤيا.

{فَانْظُرْ ماذا تَرى:} من الرأي، وإنما شاوره في ذلك، وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبّت قدمه إن جزع، ويأمن عليه إن سلم، وليوطن نفسه عليه، فيهون عليه، ويكتسب المثوبة، بالانقياد له قبل نزوله. هذا؛ وقرئ:{تَرى} بقراآت كثيرة.

{قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} أي: ما تؤمر به، فحذف الجار، كما حذف من قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي-رضي الله عنه-وينسب لغيره:[البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

فوصل الفعل إلى الضمير، فصار: تؤمره، ثم حذفت الهاء، كقوله تعالى:{وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} أي: اصطفاهم. وإنما أجاب إسماعيل عليه السلام بهذا الجواب؛ لأنه فهم من كلام أبيه: أنّه رأى: أنه يذبحه مأمورا به. أو علم: أن رؤيا الأنبياء حق، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بالأمر. {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ:} على الذبح، أو على قضاء الله تعالى. والمعنى: امض لما أمرك الله به من ذبحي فستجدني إن شاء الله صابرا على تنفيذ أوامر الله تعالى، وهو جواب من أوتي الحلم، والصبر، وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله تعالى. وقد وفى بذلك، كما بينات الآيات التالية، ولذا مدحه الله بقوله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا} سورة (مريم) الآية رقم [54].

{يا بُنَيَّ:} تصغير: ابن، تصغير إشفاق، وإرفاق، لا تصغير تحقير، وإهانة، فأصل ابن: بنو، فلما صغر صار:(بنيو) فلما اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون؛ قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ثم ألحقت به ياء المتكلم، فاجتمع ثلاث ياآت، فحذفت الثانية منهن؛ التي هي لام الكلمة، ولم تحذف الأولى؛ لأنها ياء التصغير، وقد أتي بها لغرض خاص، ولم

ص: 62

تحذف الثالثة التي هي ياء المتكلم؛ لأنها كلمة برأسها. هذا؛ ويقرأ بإسكان الياء، وكسرها، وفتحها في هذه الآية، وغيرها.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف، (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {بَلَغَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الغلام، الذي بشر به.

{مَعَهُ:} ظرف مكان، فإن المتبادر تعلقه بالفعل قبله، قال الزمخشري: ولا يتعلق ب: {بَلَغَ} لاقتضائه أنهما بلغا معا حد السعي، ولا ب:{السَّعْيَ؛} لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، وإنما هي متعلقة بمحذوف على أن يكونا بيانا؛ أي: حالا، كأنه قيل: فلما بلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي، فقيل: مع من؟ فقيل: مع أعطف الناس عليه، وهو أبوه، أي: أنه لم يستحكم قوته بحيث يسعى مع غير مشفق. انتهى. مغني اللبيب لابن هشام. {السَّعْيَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها من الإعراب، على اعتبار (لما) حرفا. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم). (يا):

أداة نداء تنوب مناب أدعو. (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الإدغام، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل تقديره:«أنا» . {فِي الْمَنامِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَذْبَحُكَ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:{أَرى؛} لأنها منامية، وهي تنصب مفعولين، كما رأيت في سورة (يوسف) وسورة (الأنفال)، وجملة:{أَرى..} . إلخ في محل رفع خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية والندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَانْظُرْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (انظر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {ماذا تَرى:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب {ماذا تَعْبُدُونَ} في الآية رقم [83] بلا فارق، وهي هنا في محل نصب مفعول به للفعل:(انظر) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وجملة:{فَانْظُرْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط محذوف التقدير:

وإذا كان ذلك واقعا وحاصلا فانظر، والكلام كله في محل نصب مقول القول.

ص: 63

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الغلام الذي بشر به. {يا أَبَتِ:} من المعروف: أنّ في الاسم المضاف لياء المتكلم إذا كان صحيح الآخر ومنادى ستّ لغات: أحدها: حذف الياء، والاستغناء عنها بالكسرة، مثل: يا عبد، وهذا هو الأكثر. الثاني: إثبات الياء ساكنة، نحو يا عبدي. وهذا دون الأول في الكثرة. الثالث: قلب الياء ألفا، وحذفها، والاستغناء عنها بالفتحة، نحو: يا عبد. الرابع: قلبها ألفا وإبقاؤها، وقلب الكسرة فتحة، نحو: يا عبدا.

الخامس: إثبات الياء محركة بالفتحة، نحو: يا عبدي. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

واجعل منادى صحّ إن يضف ليا

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

السادس: ضم الاسم بعد حذفها كالمفرد، اكتفاء بنية الإضافة، وإنما يكون ذلك فيما يكثر نداؤه مضافا للياء كالرب والأبوين والقوم، قرئ قوله تعالى:{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ..} . إلخ بضم الباء، وحكي: يا ربّ اغفر لي. هذا؛ ويضاف إلى ذلك إذا كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم أبا، أو أما أربع لغات: إحداها: إبدال الياء تاء مكسورة، وبها قرأ السبعة ما عدا ابن عامر في قوله تعالى:{يا أَبَتِ} من سورة (يوسف) وسورة (مريم)، الثانية: إبدالها تاء مفتوحة، وبها قرأ ابن عامر ما تقدم. الثالثة:«يا أبتا» بالتاء، والألف، وبها قرئ ما تقدم شاذا، وقال رؤبة بن العجاج:[الرجز]

تقول بنتي: قد أنى أناكا

يا أبتا علّك، أو عساكا

وهذا هو الشاهد رقم (271) من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . الرابعة: «يا أبتي» وعليه قول الشاعر: [الطويل]

أيا أبتي لا زلت فينا فإنّما

لنا أمل في العيش ما دمت عائشا

قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في قطر الندى: وهاتان اللغتان قبيحتان، والأخيرة أقبح من التي قبلها، وينبغي ألا تجوز إلا في ضرورة الشعر. وقال الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل: ضرورة لكن الأولى أهون؛ لذهاب صورة الياء المعوض عنها. بل قيل: لا ضرورة فيه؛ لأن هذه الألف لم تنقلب عن الياء، بل هي التي تلحق المنادى البعيد، والمندوب، والمستغاث، فتكون لغة عاشرة. والله أعلم.

{اِفْعَلْ:} أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {فَلَمّا:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {تُؤْمَرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، انظر تقديره في الشرح. وجوز اعتبار {فَلَمّا} مصدرية، ولا وجه له ألبتة. {سَتَجِدُنِي:} السين: حرف استقبال.

ص: 64

(تجدني): فعل مضارع، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول، والفاعل تقديره:«أنت» .

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {شاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط.

{اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف يدل عليه المقام، والجملة الفعلية لا محل لها، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن شاء الله توفيقي، ومعونتي؛ فستجدني. والجملة الشرطية معترضة بين الفعل (تجد) وبين الجار والمجرور:{مِنَ الصّابِرِينَ} اللذين هما متعلقان به، وهما مفعوله الثاني. هذا؛ والكلام:{يا أَبَتِ افْعَلْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَلَمّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}

الشرح: {فَلَمّا أَسْلَما:} استسلما لأمر الله، أو سلم الذبيح نفسه، وإبراهيم سلم ابنه، وهو من: سلم هذا لفلان إذا خلص له، فإنه سلم من أن ينازع فيه. هذا؛ وقرئ:«(سلّما)» أي: فوضا أمرهما إلى الله. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: صرعه، وأسقطه على شقه. وقال قتادة: كبه وحول وجهه إلى القبلة. وقيل: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أضجعه على جبينه على الأرض: فلما فعل ذلك، قال له ابنه: اشدد رباطي كيلا أضطرب، واكفف عني ثيابي؛ حتى لا ينتضح عليها شيء من دمي، فينقص أجري، وتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك، وأسرع مر السكين على حلقي، ليكون أهون عليّ، فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي، فاقرأ عليهاالسّلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي؛ فافعل، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني. فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله! ففعل إبراهيم ما طلبه منه ابنه، ثم أقبل عليه يقبله، وهو يبكي؛ وقد ربطه، والابن يبكي، ثم إنه وضع السكين على حلقه، فلم تقطع شيئا، ثم إنه حدها مرتين، أو ثلاثا بالحجر، كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئا.

فقال الابن عند ذلك: يا أبت كبّني لوجهي، فإنك إذا نظرت وجهي؛ رحمتني، وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى، وأنا لا أنظر إلى الشفرة، فأجزع منها، ففعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك، ثم وضع السكين، على قفاه، فانقلبت، ونودي:{يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} .

هذا؛ وروى كعب الأحبار، وابن إسحاق عن رجال قالوا: لما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ابنه؛ قال الشيطان: لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم، لا أفتن منهم أحدا أبدا، فتمثل الشيطان في صورة رجل، وأتى أم الغلام، فقال لها. هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به ليحتطبا من هذا الشّعب. قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه. قالت: كلا هو

ص: 65

أرحم به، وأشد حبا له من ذلك! قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك. قالت: إن كان ربه أمره بذلك، فقد أحسن أن يطيع ربه. فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن، وهو يمشي على أثر أبيه، فقال: يا غلام! هل تدري أين: يذهب بك أبوك؟ قال: نحتطب لأهلنا من هذا الشعب. قال: لا والله ما يريد إلا أن يذبحك! قال: ولم؟ قال: إن ربه أمره بذلك، قال:

فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا، وطاعة. فلما امتنع الغلام منه أقبل على إبراهيم، فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: هذا الشّعب لحاجة لي فيه، قال: والله إني لأرى الشيطان في منامك، فأمرك بذبح ابنك هذا! فعرفه إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فقال: إليك عني يا عدو الله، فو الله لأمضين لأمر ربي! فرجع إبليس بغيظه، لم يصب من إبراهيم، وآله شيئا مما أراد، وامتنعوا منه بعون الله تعالى. انتهى. خازن بحروفه.

وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن إبراهيم على نبينا، وحبيبنا وعليه ألف صلاة، وألف سلام، لما أراد أن يذبح ابنه؛ عرض له الشيطان بهذا المشعر، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات؛ حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات؛ حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات؛ حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله عز وجل، وهو قوله تعالى:{فَلَمّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} انتهى. خازن، ومثله في القرطبي.

هذا؛ وفي المصباح المنير: والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ.

وهما جبينان عن يمين الجبهة، وشمالها. قاله الأزهري، وابن فارس، وغيرهما. فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه: جبن بضمتين، مثل: بريد، وبرد، وأجبنة، مثل: أسلحة، انتهى. جمل نقلا عنه. هذا؛ واللام الجارة بمعنى:«على» .

{وَنادَيْناهُ} أي: نودي من الجبل، وهل النداء من الله مباشرة، كما حصل ووقع النداء من الله إلى موسى من الشجرة، أو هو نداء جبريل الأمين بأمر الحكيم الخبير العليم؟ الأظهر: أنه الثاني. {يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أي: حصل المقصود من تلك الرؤيا، حيث ظهر منه كمال الطاعة، والانقياد لأمر الله تعالى منك، ومن الولد. {إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي:

نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا، والآخرة. {إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ:} الاختبار، والامتحان الواضح؛ الذي لا خفاء فيه، وأي اختبار، وامتحان أعظم من اختبار الإنسان بذبح ولده، ونحر فلذة كبده، وثمرة قلبه، وفؤاده، ولهذا مدح الله إبراهيم بقوله:{وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى} هذا؛ وانفرد القرطبي بتفسير البلاء بالنعمة، وأورد قول زهير بن أبي سلمى:[الطويل]

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

ص: 66

{وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: بما يذبح بدله، فيتم الفعل، و {عَظِيمٍ} بمعنى: عظيم الجثة، سمين، أو عظيم القدر. وهو أولى؛ لأنه فدى الله به نبيا ابن نبي، وما خرج من نسله، وهو سيد المرسلين صلّى الله عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليما. هذا؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الكبش الذي تقرب به هابيل، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وقال الحسن البصري: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. وهذا قول عليّ، رضي الله عنه. فلما رآه إبراهيم؛ أخذه؛ فذبحه وأعتق ابنه، وقال: يا بني اليوم وهبت لي! وقال أبو إسحاق الزجاج: قد قيل: إنه فدي بوعل، والوعل التيس. والمعتمد هو الأول. وعليه فيكون قد نزعت منه صفة الحيوانية مدة وجوده في الجنة، واتصف بصفة الملائكة الذين لا يأكلون، ولا يشربون، فلما هبط به جبريل إلى الأرض؛ نزعت منه صفة الملائكة وعادت إليه صفة الحيوانية؛ التي رفع فيها.

قيل: نظر إبراهيم فإذا هو بجبريل الأمين، ومعه كبش أقرن أملح، فقال: هذا فداء ابنك، فاذبحه دونه! فكبر إبراهيم، وكبر ابنه، وكبر جبريل، وكبر الكبش، فأخذه إبراهيم، وأتى به المنحر من منى، فذبحه. هذا؛ والذّبح: بمعنى: المذبوح، وجمعه: ذبوح، كالطحن: بمعنى:

المطحون، والذّبح بفتح الذال المصدر. هذا؛ وفي أبي السعود: روي: أنه لما ذبحه؛ قال جبريل عليه السلام: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فقال: الذبيح: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال إبراهيم عليه السلام: الله أكبر، ولله الحمد، فبقي هذا سنة. انتهى. جمل.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لما): انظر الآية السابقة.

{أَسْلَما:} فعل ماض، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لما) إليها، أو لا محل لها حسب ما رأيت. {وَتَلَّهُ:} الواو: حرف عطف. (تله): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (إبراهيم)، والهاء في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{لِلْجَبِينِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب؛ إذ التقدير: ألقاه، أو طرحه مطروحا على الجبين. {وَنادَيْناهُ:} الواو: حرف عطف. (ناديناه): فعل، وفاعل، ومفعول به. {أَنْ:} حرف تفسير، لسبقه بجملة فيها معنى القول دون حروفه. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (إبراهيم): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا)، والجملة الندائية لا محل لها؛ لأنها مفسرة لمعنى ما قبلها، وجواب (لما) محذوف، التقدير: فلما أسلما، وتله للجبين؛ فديناه بكبش، وجملة:

{وَنادَيْناهُ..} . إلخ معطوفة على هذا المحذوف المقدر، وهذا عند البصريين، وقال الكوفيون:

الجواب جملة (ناديناه

) إلخ، والواو زائدة مقحمة، ومثله ما رأيت بقوله تعالى:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ..} . إلخ رقم [97] من سورة (الأنبياء)، وقوله تعالى:{فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا..} . إلخ رقم [15]، من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف

ص: 67

سلام وقال بعض الكوفيين: جواب: (لما) جملة: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} والواو زائدة فيها. هذا؛ وقال امرؤ القيس، في معلقته رقم [37]:[الطويل]

فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل

أي: انتحى، والواو زائدة، وقال آخر:[الكامل]

حتّى إذا حملت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إنّ اللئيم الفاجر الخبّ

أراد: قلبتم. هذا؛ وقال النحاس: الواو من حروف المعاني، لا يجوز أن تزاد. وانظر الشاهد رقم (678) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {صَدَّقْتَ:} فعل، وفاعل. {الرُّؤْيا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (إبراهيم) والرابط: الضمير. {إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [78] فهو مثله إفرادا، وجملا. {إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} إعراب هذه الآية مثل إعراب الآية رقم [58] بلا فارق بينهما، وهي هنا مبينة لما قبلها. (فديناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:(ناديناه).

{بِذِبْحٍ:} متعلقان بما قبلهما. {عَظِيمٍ:} صفة: (ذبح).

{وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)}

شرح هذه الآيات وإعرابها تقدم في الآيات رقم [78] و [79] و [80] و [81] على هذا الترتيب فلا حاجة إلى إعادة شيء مما ذكرته هناك، ولا إلى الزيادة عليه.

هذا؛ وقد عاش سيدنا إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-مئة وخمسا وسبعين سنة على أصح الروايات، ولما انتقل إلى جوار ربه دفنه ولده في مغارة المكفيلة؛ التي دفنت فيها سارة من قبل، وهي البلدة التي تسمى الآن: الخليل، وقد ذكرت في سورة (هود) رقم [71] أنه تزوج غير سارة، وولد له أولاد من غيرها، وأما إسماعيل-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فقد عاش مئة وسبعا وثلاثين سنة، ودفن بمكة قريبا من الحجر الذي بجوار البيت العتيق قرب أمه هاجر صلوات الله عليهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين، أما إسحاق، فإنه دفن مع أبيه.

هذا؛ وولد لإسماعيل اثنا عشر ولدا ذكرا، وهم كلهم رؤساء قبائل، وقد ذكرت أسماؤهم في التوراة، فيكونون بمنزلة الأسباط من أولاد يعقوب، كما ولدت له بنت زوجها لابن أخيه

ص: 68

العيص بن إسحاق. ومن نسل إسماعيل كانت العرب المستعربة، ثم كانت خاتمة المطاف بولادة سيدنا، وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين من نسل إسماعيل.

{وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}

الشرح: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ:} ذكرت لك أن هذه الآية دليل قاطع على أن الذبيح إنما هو إسماعيل؛ لأن هذه الجملة معطوفة على جملة: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} والعطف يقتضي المغايرة، فدل العطف على أن القصة الماضية في غير إسحاق، وأجاب القائلون بأن الذبيح هو إسحاق: بأن البشارة الأولى كانت بأصل وجوده، والثانية كانت بنبوته. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: بشر بنبوته، وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين، فعلى هذا الذبيح هو إسحاق، بشر بنبوته جزاء على صبره، ورضاه بأمر ربه، واستسلامه له.

{وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ} أي: ثنينا عليهما النعمة. وقيل: كثرنا ولدهما؛ أي: باركنا على إبراهيم، وعلى أولاده، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه، وقد قيل: إن الكناية في: {عَلَيْهِ} تعود على إسماعيل، وأنه هو الذبيح. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن: أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة:{وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ثم قال: {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقال: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ} أي: على إسماعيل، وعلى إسحاق، كنى عنه؛ لأنه قد تقدم ذكره، ثم قال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما} فدل على أنها ذرية إسماعيل، وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. انتهى. قرطبي.

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ:} لما ذكر الله البركة في الذرية، والكثرة؛ قال: منهم محسن، ومنهم مسيء، وأن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة، فاليهود، والنصارى، وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن، والمسيء، والمؤمن، والكافر، وقد حكى الله عن اليهود، والنصارى قولهم:{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} أي: أبناء رسل الله، فرأوا لأنفسهم فضلا، انظر الآية رقم [18] من سورة (المائدة).

هذا؛ و (محسن) معناه لنفسه بطاعة الله، وامتثال أوامره حيث يدخلها جنات تجري من تحتها الأنهار، ومحسن للناس أيضا، يبرهم، ويساعدهم، ويحسن إليهم بالقول أيضا، يرفق بهم، ويتلطف بهم، وظالم لنفسه بالكفر، أو بتعديه حدود الشرع من إهمال الطاعات، أو من اجتراح السيئات. وفي الآية الكريمة تنبيه على أن الخبيث، والطيب، لا يجري أمرهما على العرق، والعنصر، فقد يلد الفاجر البر، والبر الفاجر، ورحم الله من يقول:[الطويل]

ص: 69

إذا المرء لم يخلق سعيدا تخلّفت

ظنون مربّيه وخاب المؤمّل

فموسى الّذي ربّاه جبريل كافر

وموسى الذي ربّاه فرعون مرسل

وهذا مما يهدم أمر الطبائع، والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقاب إسماعيل، وإسحاق لم يعد عليهما بعيب، ولا نقيصة، وأن الإنسان إنما يعاب بسوء فعله، ويعاقب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله، وفرعه. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَبَشَّرْناهُ:} الواو: حرف عطف. (بشرناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} لا محل لها مثلها. {بِإِسْحاقَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {نَبِيًّا:} حال من (إسحاق)، وهي حال مقدرة. {مِنَ الصّالِحِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {نَبِيًّا،} أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، فتكون حالا متداخلة، أو بمحذوف حالا ثانية من:(إسحاق). {وَبارَكْنا:} الواو: حرف عطف. (باركنا): فعل، وفاعل.

{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله في المعنى. {وَعَلى إِسْحاقَ:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. (من ذريتهما): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مُحْسِنٌ:}

مبتدأ مؤخر. (ظالم): معطوف على ما قبله. وفيه وفي سابقه ضمير مستتر هو فاعلهما.

{لِنَفْسِهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: (ظالم)، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{مُبِينٌ:} صفة: (ظالم). هذا؛ و {مُحْسِنٌ} و (ظالم) في الحقيقة صفتان لموصوفين محذوفين، التقدير: شخص محسن، وشخص ظالم لنفسه مبين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

هذا؛ والحال بالنسبة للزمان على ثلاثة أقسام: حال مقارنة: وهي الغالبة، نحو قوله تعالى حكاية عن قول امرأة إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} وحال مقدرة: وهي مستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ} وما في الآية الكريمة منه، وحال محكية: وهي الماضية، نحو: جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة لصفة بعدها؛ لأن المقصود الصفة، وهذا كثير في القرآن الكريم، خذ قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} وقوله تعالى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} .

تنبيه: إعراب الجملة الاسمية السابقة المتقدم إنما هو بحسب الظاهر، والأصح أن مضمون الجار والمجرور:(من ذريتهما) مبتدأ. و {مُحْسِنٌ} هو الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض، التقدير: وبعض ذريتهما محسن، وبعض ذريتهما ظالم لنفسه، وتثنية الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى:{مِنْهُمُ}

ص: 70

الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ من الآية رقم [110] من سورة (آل عمران)، فعطف (أكثرهم) على منهم يؤيد: أن معناه بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل]

منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: (منهم) بما هو مبتدأ، أعني لفظة:(بعضهم) وهذا مما يدل على أن مضمون (منهم) مبتدأ. هذا؛ وليوث جمع: ليث، وهو الأسد، (لا ترام): لا تقصد. (قمشت):

جمعت من هنا، وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الردئ من كل شيء.

{وَلَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)}

الشرح: {وَلَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وَهارُونَ:} أنعمنا عليهما بالنبوة، وغيرها من المنافع الدينية، والدنيوية. {وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ:} وهو قهر فرعون لقوم موسى، وما كان يفعل في حقهم من الإساءة العظيمة، من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس الأشياء، ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم، وأقر أعينهم بهلاكهم، وأورثهم أرضهم، وديارهم، وأموالهم. قال تعالى:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} . الآية رقم [137] من سورة (عمران).

{وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ} أي: التوراة. {الْمُسْتَبِينَ:} الواضح الجلي، الذي فيه تبيين الحلال، والحرام، وفيه تفصيل الأحكام، كما قال تعالى في سورة (الأنبياء) [48]:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} . {وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: دللناهما وثبتناهما على الطريق المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه، وهو دين التوحيد الذي ابتعث به أنبياءه، ورسله، ومنه قوله تعالى في سورة الفاتحة:{اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} .

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله! والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَنَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، وانظر الآية رقم [62] من سورة (يس). {عَلى مُوسى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة المقدرة على الألف للتعذر.

وهذه الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. (هارون): معطوف على {مُوسى} مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف

ص: 71

للعلمية، والعجمة، {وَنَجَّيْناهُما:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَقَوْمَهُما:} معطوف على الضمير المنصوب، وأجيز اعتباره مفعولا معه، والأول أقوى. {مِنَ الْكَرْبِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْعَظِيمِ:} صفة: (كرب).

{وَنَصَرْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَكانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{نَصَرْناهُمْ:} توكيد لواو الجماعة، أو هو بدل منه، أو هو ضمير فصل لا محل له. {الْغالِبِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَآتَيْناهُمَا:}

فعل، وفاعل، ومفعوله الأول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {الْمُسْتَبِينَ:} صفة: {الْكِتابَ،} {وَهَدَيْناهُمَا:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {الصِّراطَ:} مفعول به ثان، أو هو منصوب بنزع الخافض. {الْمُسْتَقِيمَ:} صفة (الصراط) والجملتان الفعليتان معطوفتان على ما قبلهما، لا محل لهما أيضا.

{وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)}

شرح هذه الآيات وإعرابها تقدم في الآيات رقم [78] و [79] و [80] و [81] على هذا الترتيب، فلا حاجة إلى إعادة شيء مما ذكرته هناك، ولا إلى الزيادة عليه.

{وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (128)}

الشرح: قال محمد بن إسحاق: إلياس بن بشر، بن فنحاص، بن العيزار، بن هارون، بن عمران، وكان القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع بن نون كالب بن يوقنا، ثم حزقيل، ثم لما قبض الله حزقيل النبي؛ عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا الله، وعبدوا الأوثان من دونه، فبعث الله إليهم إلياس نبيا، وتبعه اليسع، وآمن به، فلما عتا عليه بنو إسرائيل؛ دعا ربه أن يريحه منهم، فقيل له: اخرج يوم كذا، وكذا إلى موضع كذا، وكذا، فما استقبلك من شيء فاركبه، ولا تهبه، فخرج ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به؛ أقبل فرس من نار.

وقيل: لونه كالنار حتى وقف بين يدي إلياس، فوثب عليه، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع:

ص: 72

يا إلياس ما تأمرني، فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر العهد به، ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم، وقطع الله عنه لذة المطعم، والمشرب، وكساه الريش، وألبسه النور، فطار مع الملائكة، وصار إنسيا ملكيا، سماويا أرضيا.

قال ابن قتيبة: وذلك: أن الله تعالى قال لإلياس: سلني أعطك، قال: ترفعني إليك، وتؤخر عني مذاقة الموت، فصار يطير مع الملائكة. وقال بعضهم: كان قد مرض، وأحس الموت، فبكى، فأوحى الله إليه لم تبك؟ حرصا على الدنيا، أو جزعا من الموت، أو خوفا من النار؟ قال: لا، ولا شيء من هذا؛ وعزتك، إنما جزعي، كيف يحمدك الحامدون بعدي، ولا أحمدك، ويذكرك الذاكرون بعدي، ولا أذكرك، ويصوم الصائمون بعدي، ولا أصوم، ويصلي المصلون بعدي، ولا أصلي. فقيل له: يا إلياس وعزتي لأؤخرنك إلى وقت لا يذكرني فيه ذاكر. يعني: قبل يوم القيامة.

وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: إن إلياس والخضر-عليهما السلام-يصومان شهر رمضان في كل عام ببيت المقدس يوافيان الموسم في كل عام. وذكر ابن أبي الدنيا: إنهما يقولان عند افتراقهما عن الموسم: ما شاء الله! ما شاء الله! لا يسوق الخير إلا الله. ما شاء الله! ما شاء الله! لا يصرف السوء إلا الله. ما شاء الله! ما شاء الله! ما يكون من نعمة فمن الله. ما شاء الله! ما شاء الله! توكلت على الله حسبنا الله، ونعم الوكيل. وقيل: إن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار. وكان الحسن البصري-رحمه الله تعالى-يقول: قد هلك إلياس، والخضر، ولا تقول كما يقول الناس: إنهما حيان. انتهى. قرطبي وخازن، ونسفي بتصرف.

هذا؛ وذكر القرطبي قصة الله أعلم بصحتها، وفحواها: أن إلياس اجتمع بالنبي بفج الناقة عند الحجر، وهو راجع من غزوة تبوك، ولم أره لغيره، ونقله الجمل من الخصائص الكبرى للسيوطي. والله أعلم. هذا؛ ولم يذكر إلياس-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في غير هذه السورة، وقد ذكر في سورة (الأنعام) رقم [85] في جملة المرسلين فقط. ولم يذكره عبد الوهاب النجار في كتابه، ولم يذكر اليسع أيضا، ولكن الثعلبي قد ذكر قصتهما بإسهاب، والمعروف: أنه ينقل عن الإسرائيليات، وكثيرا ما ينقل الخازن عنه، والله أعلم.

{إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} أي: بني إسرائيل: {أَلا تَتَّقُونَ:} ألا تخافون الله عز وجل، وتخشون حسابه، وعقابه. {أَتَدْعُونَ بَعْلاً:} اسم صنم لهم كانوا يعبدونه، وبذلك سميت مدينتهم بعلبك؛ التي هي موجودة في شرقيّ لبنان، وغربي شمالي دمشق. وهذا قاله ثعلب، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس-رضي الله عنهما، ولابن عباس قول آخر؛ قال: ربّا. قال النحاس: والقولان صحيحان، والمعنى: أتدعون صنما عملتموه ربّا، ومنه سمي الزوج بعلا،

ص: 73

قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً..} . إلخ رقم [128] من سورة (النساء) وجمعه:

بعول. قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ رقم [228] من سورة (البقرة)، وقال أبو دؤاد، ونسب في الكامل لعبد الله بن الزّبعرى:[مجزوء الكامل]

ورأيت بعلك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا

وقيل: كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به، وعظموه حتى أخدموه أربعمئة سادن، وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها، ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك، وكان موضعه يقال له: بكّ، فركب فصار بعلبك، والنسبة إليها، بعليّ، أو بكيّ، كما بالنسبة لعبد شمس، تقول: عبديّ، أو شمسيّ.

{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ} أي: أحسن من يقال له: خالق. وقيل: المعنى أحسن الصانعين؛ لأن الناس يصنعون، ولا يخلقون. فاندفع بذلك ما يتوهم من ثبوت الخلق لغيره تعالى؛ لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه. وأجاب الشهاب بأن خلق الله بمعنى:

الإيجاد، وخلق العباد كسبهم، وهو على مذهب المعتزلة ظاهر؛ لأن المراد: أحسن من يطلق عليه ذلك بأي: معنى كان، كما قاله الآمدي. انتهى. جمل نقلا عن الشهاب وهو السمين.

{فَكَذَّبُوهُ:} فلم يؤمنوا، بل بقوا في ضلالهم يعمهون. {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: في العذاب.

{إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: من قومه، فإنهم نجوا من العذاب، وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه، فلذلك استثنوا، ولم يذكر أحد نوع العذاب الذي أخذوا به في الدنيا، قال الخازن: ونبأ الله اليسع، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، وأوحى إليه وأيده، فآمنت به بنو إسرائيل، وكانوا يعظمونه، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: قد حكى سيبويه-رحمه الله تعالى-: أن (تدعون بعلا) بمعنى: أتسمون بعلا إلها. وهذا يفيد: أن الفعل: «دعا» إذا كان بمعنى: سمى فهو ينصب مفعولين، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

دعتني أخاها أمّ عمرو ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان

دعتني أخاها بعد ما كان بيننا

من الفعل ما لا يفعل الأخوان

وأيضا قول النمر بن تولب الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل]

دعاني الغواني عمّهنّ وخلتني

لي اسم فلا أدعى به وهو أوّل

الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف، أو هي حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {إِلْياسَ:} اسمها. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من المرسلين): جار ومجرور

ص: 74

متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي معطوفة على ما قبلها؛ لأن الواو عطفت قصة إلياس على ما سبقها. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف. تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف. وقال السمين: هو ظرف متعلق ب: {الْمُرْسَلِينَ،} وقال أبو البقاء الوجهين. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{إِلْياسَ} . {لِقَوْمِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{إِلاّ:} حرف تحضيض. {تَتَّقُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{أَتَدْعُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (تدعون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بَعْلاً:} مفعول به، والمفعول الثاني محذوف. انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، و {أَحْسَنَ} مضاف، و {الْخالِقِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، وجوز بعضهم اعتبار الجملة الفعلية:{وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، ولا يصح هذا إلا على تقدير مبتدأ قبلها؛ لأن الجملة المضارعية المثبتة الواقعة حالا، لا تقترن بالواو. {اللهَ:} بدل من: {أَحْسَنَ الْخالِقِينَ} وحكى أبو عبيد: أنه على النعت، وليس بشيء؛ لأنه ما فيه معنى المشتق، وأجاز أبو البقاء نصبه ب:«أعني» محذوفا، {رَبَّكُمْ:} بدل من لفظ الجلالة. هذا؛ ويقرأ برفعهما على أنه خبر لمبتدأ محذوف. التقدير:

هو الله، وهو قول أبي حاتم، أو هو مبتدأ، خبره:{رَبَّكُمْ،} وهو أوضح معنى، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. (رب): معطوف على ما قبله على القراءتين، و (رب) مضاف، و {آبائِكُمُ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْأَوَّلِينَ:}

صفة: {آبائِكُمُ} والكاف في محل جر بالإضافة.

{فَكَذَّبُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {فَإِنَّهُمْ:} الفاء: الفصيحة. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَمُحْضَرُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط محذوف، التقدير: وإذا حصل هذا منهم فإنهم

إلخ. {إِلاّ:} أداة استثناء. {عِبادَ:} مستثنى من واو الجماعة، فهو استثناء متصل، وقيل: مستثنى من الضمير في: (محضرون) على أنه منقطع، والأول أقوى، و {عِبادَ} مضاف، و {الْمُخْلَصِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ.

ص: 75

{وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}

شرح هذه الآيات وإعرابها تقدم في الآيات رقم [78] و [79] و [80] و [81] على هذا الترتيب فلا حاجة إلى إعادة شيء مما ذكرته هناك، ولا إلى الزيادة عليه. هذا؛ وأما (آل ياسين) بفتح الهمزة ومدها، فهو على الإضافة، ففيه وجهان: أحدهما: أن المراد: إلياس، ومن آمن معه فجمعوا معه تغليبا، كقولهم للمهلب، وقومه: المهلبون، وعليه فهو مجموع جمع السلامة بالياء والنون. والوجه الثاني: أن المراد بآل: إلياس، وبياسين: أبوه. وأما على قراءته بكسر الهمزة، والياء والنون؛ فقد جعلوه جمعا منسوبا إلى إلياسين، وإلياسين جمع إلياس، وهو جمع السلامة لكنّ الياء المشدودة في النسب حذفت منه، وأصله: الياسيّ، وتجمع فتقول: إلياسيّين، فالسلام على من نسب إلى إلياس من أمته، والسّلام في الوجه الأول على أهل ياسين، قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} في سورة (الشعراء) رقم [198] وأصله في النسب:

الأعجميّين بياء مشددة، ولكن حذفت لثقلها، وثقل الجمع. هذا؛ وقال ابن كثير: أي: إلياس، والعرب تلحق النون في أسماء كثيرة، وتبدلها من غيرها، كما تقول إسماعيل وإسماعين، وإسرائيل وإسرائين، وإلياس وإلياسين.

قال محمد علي الصابوني: وإنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فضل الإحسان، والإيمان، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعا من المتصفين بهذه الصفات، فلذلك استحقوا التحية والسّلام، والذكر الحسن بين الأنام، صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين.

{وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)}

الشرح: {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ:} تقدمت قصة لوط-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-مفصلة في سورة (الأعراف) وفي سورة (هود) وغيرهما. {إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي:

أنجى الله لوطا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ومن معه من أهله، ولم يكن معه سوى ابنتيه، فلم يؤمن به أحد لقوله في سورة (هود):{أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} فلم يوجد فيهم رجل رشيد يهتدي إلى الحق والصواب، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وانظر شرح (نا) برقم [34] من سورة (يس).

ص: 76

{إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ:} وهي امرأته، فإنها كانت تسر الكفر، واسمها: واهلة كانت من الغابرين، أي: الذين بقوا في العذاب. والتذكير لتغليب الذكور على الإناث، مثل قوله تعالى في حق مريم:{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} . هذا؛ والغابر: اسم فاعل من: غبر الشيء: بقي، وغبر أيضا: مضى، فهو من الأضداد، وبابه: دخل. انتهى. مختار. ولذا يمكن أن يقال: في غابر الأزمان، وحاضرها، كما يقال: في غابر الأزمان، وماضيها، وقال أبو ذؤيب الهذلي من رثاء أولاده:[الكامل]

فغبرت بعدهمو بعيش ناصب

وإخال أنّي لاحق مستتبع

وانظر الأضداد في الآية رقم [57] من سورة (النمل) فإنه جيد. هذا؛ وعجوز: امرأة طاعنة في السن، ويقال أيضا: شهلة، وشهربة، وشهبرة، وشمطاء، وشيخة لكل امرأة طاعنة في السنّ.

قال صاحب مختار الصحاح: ولا تقل: عجوزة، والعامّة تقوله، والجمع عجائز، وعجز، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الجنة لا يدخلها العجز» .

{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ:} أي: أهلكناهم، وكان الإهلاك بقلب قراهم، وجعل عاليها سافلها، ثم بإرسال حجارة من السماء عليهم. انظر ما ذكرته في سورة (الشعراء) رقم [170]، وما بعدها.

{وَإِنَّكُمْ:} خطاب لقريش وللعرب جميعا. {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} أي: تمرون على منازلهم، وديارهم في ذهابكم، وإيابكم إلى بلاد الشام للتجارة في الليل، والنهار، والصباح، والمساء، وكنت ذكرت لك مرارا: أن قرى قوم لوط كانت في بلاد الأردن، وهي من أرض الشام. هذا؛ وفي الآيات التفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو ظاهر، وواضح، وللالتفات فوائد كثيرة؛ منها: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر، والملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محله، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حث السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصه بالمواجهة.

{أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أتشاهدون ديارهم الخربة، ومنازلهم المدمرة، ثم لا تعتبرون، ولا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم. هذا؛ والعقل: نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواس الظاهرة، وكثيرا ما يتبجح بعض الناس، فيسأل: أين يوجد العقل؟. فهذا تبجح لا مبرر له، وانظر شرح النفس في الآية رقم [28] من سورة (الروم). وسمي العقل: عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، أي: يمنعه من فعل الرذائل، والقبائح، لذا فإن كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح، وخذ ما يلي:[البسيط]

لم يبق من جلّ هذي الناس باقية

ينالها الوهم إلاّ هذه الصّور

لا يدهمنّك من دهمائهم عدد

فإنّ جلّهم بل كلّهم بقر

ص: 77

يقول: لا يدهمنك من جماعتهم الكثيرة عدد فيهم غناء، ونصرة، فإن كلهم كالأنعام، والبهائم، ولله در القائل:[المنسرح]

لا يدهمنك اللّحاء والصّور

تسعة أعشار من ترى بقر

في شجر السّرو منهم شبه

له رواء، وما له ثمر

ورضي الله عن حسان بن ثابت إذ يقول: [البسيط]

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم الجمال وأحلام العصافير

فقد ورد: أن رجلا معتوها مرّ على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم:(هذا رجل مجنون) فقال سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق:«هذا مصاب إنّما المجنون من أصرّ على معصية الله تعالى» . هذا؛ والعقل: الدية، سميت بذلك؛ لأن الإبل المؤداة دية تعقل بباب ولي القتيل. والعقال بكسر العين: الحبل الذي تربط به ركبة الجمل عند بروكه، ليمنعه من القيام، والمشي. والعقال أيضا: صدقة عام، قال شاعر يهجو عاملا على الصدقات في عهد بني أمية:[البسيط]

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟

لأصبح الناس أوبادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

تنبيه: الهمزة في كلمة: {أَفَلا} ومثلها: أولم، وأولا، ونحوهما للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء، والواو؛ لأنهما حرفا عطف، وكذا تقدم على «ثم» تنبيها على أصالتها في التصدير. نحو قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ، وقوله جل شأنه:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ، وقوله تعالت حكمته:{أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ..} . إلخ وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ،} وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينهما وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ..} . إلخ، {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ..} . إلخ أمكثوا فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم فنضرب عنكم

إلخ؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات

إلخ؟. ويضعفه ما فيه من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى. مغني اللبيب بتصرف.

الإعراب: {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ:} انظر الآية رقم [124]، فالإعراب مثلها لا يتغير.

{نَجَّيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. (أهله):

ص: 78

معطوف على الضمير المنصوب. وقيل: مفعول معه. والأول أقوى، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَجْمَعِينَ:} توكيد ل: (أهله) منصوب مثله، أو هو توكيد للضمير وما عطف عليه، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وساغ ذلك؛ لأن:«أهل» اسم جمع، كما قد عرفت. {إِلاّ:} أداة استثناء.

{عَجُوزاً:} مستثنى من: «أهله» . {فِي الْغابِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {عَجُوزاً} .

{ثُمَّ:} حرف عطف. {دَمَّرْنَا:} فعل، وفاعل. {الْآخَرِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{نَجَّيْناهُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها.

{وَإِنَّكُمْ:} الواو: واو الحال. (إنكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَتَمُرُّونَ:} اللام: لام الابتداء، وتسمى المزحلقة. (تمرون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مُصْبِحِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:

{لَتَمُرُّونَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من: {الْآخَرِينَ} . والرابط: الواو، والضمير المجرور محلا ب:(على). {وَبِاللَّيْلِ:} الواو: حرف عطف. (بالليل): جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ومعطوفان على:{مُصْبِحِينَ} .

{أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. الفاء: حرف عطف. {تَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير:

أتشاهدون ديارهم، ولا تتدبرون، وتعتبرون بما حصل لهم؟! والكلام كله مستأنف، لا محل له.

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}

الشرح: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ:} {يُونُسَ} هو ذو النون، وهو ابن متّى. وقالوا:«متى» هي أمه، ولم ينسب إلى أمه من الرسل غير يونس، وعيسى، على نبينا، وحبيبنا، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام. ويتصل نسبه ببنيامين أحد أولاد يعقوب، وهو أخو يوسف الصديق، أرسله الله إلى أهل نينوى من أرض الموصل في العراق، وكانوا يعبدون الأصنام، ولهم صنم ضخم يسمونه: عشتار، ثم تابوا. انظر ما ذكرته في الآية رقم [98] من السورة المسماة باسمه، وما ذكرته في الآية رقم [87] من سورة (الأنبياء) ففيها فضل بيان يسر القلب، ويثلج الصدر. {إِذْ أَبَقَ:} هرب، وأصله الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه؛ حسن إطلاقه عليه، فهو من باب المجاز المرسل من استعمال المقيد في المطلق،

ص: 79

أو الاستعارة التصريحية، حيث شبه خروجه بغير إذن ربه بإباق العبد من سيده. {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ:} انظر الآية رقم [41] من سورة (يس).

{فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي: المغلوبين المقهورين في القرعة. قال الفراء: يقال:

دحضت حجته، وأدحضها الله، وأصله من الزلق، قال الشاعر:[الوافر]

قتلنا المدحضين بكلّ فجّ

فقد قرّت بقتلهم العيون

و (ساهم): فقارع أهل السفينة، والمساهمة: إلقاء السهام على جهة القرعة، وقد كنت ذكرت لك في سورة (يونس) وسورة (الأنبياء) أن يونس-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-قد برم بقومه لطول ما ذكّرهم، فلم يذّكّروا، وأقاموا على كفرهم، وظن: أن خروجه بدون إذن من الله يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله تعالى وأنفة لدينه، وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن ينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت، فيكون المعنى: غضب على قومه من أجل كفرهم بربه، فخرج عنهم، وتركهم من غير إذن من الله، وخروجه بدون إذن من الله كان ذنبا منه.

وقال ابن عباس، ووهب: كان يونس قد وعد قومه العذاب، فتأخر عنهم، فخرج كالمستور منهم، فقصد البحر، فركب السفينة، فوقفت. وقيل: تلاعبت بها الأمواج حتى أشرفت على الغرق.

هذا؛ وذكر الطبري: أن يونس-عليه السلام-لما ركب في السفينة؛ أصاب أهلها عاصف من الريح، فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم-وكان من عادتهم: أن السفينة إذا كان فيها آبق، أو مذنب لم تسر. وكان ذلك بدجلة. انتهى. جمل نقلا عن الشهاب-فقال يونس، وقد عرف: أنه هو صاحب الذنب: هذه خطيئتي، فألقوني في البحر، فأبوا عليه؛ حتى أفاضوا بسهامهم. {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} فقال لهم: قد أخبرتكم: أن هذا الأمر بذنبي، فأبوا عليه؛ حتى أفاضوا بسهامهم الثانية، فكان من المدحضين، فأبوا أن يلقوه في البحر؛ حتى أعادوا سهامهم الثالثة، فكان من المدحضين، فلما رأى ذلك؛ ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فابتلعه الحوت. انتهى. قرطبي.

{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ:} ابتلعه الحوت. {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: آت بما يلام عليه، أو مليم نفسه، يقال:

ألام فلان: إذا فعل ما يلام عليه، فأوحى الله إلى الحوت: إني لم أجعله لك رزقا، ولكن جعلت بطنك له وعاء. فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة. وقيل: ثلاث ليال. وقيل: سبع ليال، وقال مجاهد: التقمه ضحى، ولفظه عشية، وأعتمد الأول، وهو قول السدي، والكلبي، ومقاتل بن سليمان، فنادى في الظلمات:{أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} .

تنبيه: في شرعنا لا يجوز الاقتراع على إلقاء آدميّ في البحر، وإنما كان ذلك في يونس، وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه، فإنه لا يجوز في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لمن كان عاصيا أن يقتل، أو يرمى به في النار، أو في البحر، وإنما تجري عليه الحدود، والتعزير على مقدار جنايته، ومن فعل ذلك بنفسه؛ فقد حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار، وخذ ما يلي:

ص: 80

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنّم، يتردّى فيها خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا، فقتل نفسه؛ فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا» . رواه البخاري ومسلم والترمذي.

{فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: من الذاكرين الله عز وجل قبل ذلك، وكان كثير الذكر.

قال الحسن البصري: ما كانت له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملا صالحا، فشكر الله تعالى له طاعته القديمة، وفي رواية عنه: ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء، فذكره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر؛ وجد متكأ. قال بعضهم: اذكروا الله في الرخاء؛ يذكركم في الشدة، فإن يونس كان عبدا صالحا ذاكرا لله تعالى، فلما وقع في الشدة في بطن الحوت؛ شكر الله تعالى له ذلك، فقال:{فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . هذا؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس-رضي الله عنهما: «تعرّف إلى الله في الرّخاء؛ يعرفك في الشّدّة» .

{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ:} قال قتادة: أي: لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.

هذا؛ وروى الطبري من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت؛ أوحى الله إلى الحوت: أن خذه، ولا تخدش لحما، ولا تكسر عظما، فأخذه، ثم هوى به إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه؛ وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دوابّ البحر. قال: فسبّح، وهو في بطن الحوت، قال: فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، قال: ذلك عبدي يونس، عصاني، فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح، الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟! قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت بقذفه في الساحل، كما قال تعالى: {وَهُوَ سَقِيمٌ} وكان سقمه الذي وصفه به الله تعالى: أنه ألقاه الحوت على الساحل كالصبي المنفوس، قد نشر اللحم والعظم» . انتهى. قرطبي بتصرف.

وقال ابن العربي-رحمه الله تعالى-أخبرني غير واحد عن إمام الحرمين-رحمه الله تعالى- أنه سئل عن الباري: في جهة؟ فقال: لا، هو يتعالى عن ذلك، قيل له: ما الدليل عليه؟ قال:

الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» . فقيل له: ما وجه الدليل في هذا الخبر؟ فقال: إن يونس بن متّى رمى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، فصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى:{لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} كما أخبر الله تعالى عنه، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفوف الأخضر، وارتقى به صعدا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وناجاه ربه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في بطن الحوت في ظلمة البحر. انتهى. قرطبي بتصرف.

ص: 81

الإعراب: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ:} انظر الآية رقم [124] ففيها الكفاية؛ إذ الإعراب لا يتغير. {أَبَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {يُونُسَ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِلَى الْفُلْكِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْمَشْحُونِ:} صفة: {الْفُلْكِ} . {فَساهَمَ:}

ماض، والفاعل يعود إلى {يُونُسَ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل جر مثلها، (كان): ماض ناقص، واسمه يعود إلى {يُونُسَ} أيضا. {مِنَ الْمُدْحَضِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان). والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَالْتَقَمَهُ:} الفاء: حرف عطف وتعقيب. (التقمه): فعل ماض، والهاء مفعول به. {الْحُوتُ:} فاعله. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها

إلخ. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مُلِيمٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.

{فَلَوْلا:} الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {يُونُسَ} .

{مِنَ الْمُسَبِّحِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} في محل رفع خبر: (أنّ). هذا؛ وقيل بزيادة: «كان» وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر: (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ. والخبر محذوف. التقدير: فلولا تسبيحه موجود، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {لَلَبِثَ:}

اللام: واقعة في جواب: (لولا). (لبث): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {يُونُسَ} أيضا. {فِي بَطْنِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: لبث مستقرا في بطنه. والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل (لبث)، أو بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: لبثا كائنا إلى يوم. {يُبْعَثُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمِ} إليها، وجملة:{لَلَبِثَ..} . إلخ جواب (لولا)، لا محل لها، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)}

الشرح: {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ:} طرحناه في المكان الخالي، لا نبات فيه، ولا شجر، ولا ماء.

وقال أبو عبيدة: العراء: وجه الأرض، وأنشد لرجل من خزاعة:[الكامل]

ورفعت رجلا لا أخاف عثارها

ونبذت بالبلد العراء ثيابي

ص: 82

روي: أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. قال الخازن: إنما أضاف النبذ إلى نفسه، وإن كان الحوت هو النابذ؛ لأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى. هذا؛ والنبذ: الطرح، والرمي، والقذف. {وَهُوَ سَقِيمٌ:} عليل مما ناله من التقام الحوت، ومكثه في بطنه المدة التي ذكرتها لك، حتى عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، أو كالفرخ الممعّط؛ الذي لا ريش له. هذا؛ وجمع سقيم: سقامى، وسقام، وسقمى، وسميت الأرض التي لا نبات فيها بالعراء تشبيها لها بالإنسان العاري، الذي لا ثياب عليه تستره. هذا؛ وقال تعالى في سورة {ن وَالْقَلَمِ:} {لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} والجواب: أن الله عز وجل أخبر هاهنا: أنه نبذه بالعراء، وهو غير مذموم، ولولا رحمة الله عز وجل؛ لنبذ بالعراء؛ وهو مذموم. قاله النحاس.

هذا؛ وأذكر: أن مكث يونس-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-المدة التي ذكرتها في بطن الحوت؛ وقد جاب به أعماق البحار، وبقي حيا حتى نبذه الحوت إلى الأرض اليابسة، وبطن الحوت مغلق محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء إنما هو معجزة باهرة، وعظة بالغة لقوم يتعظون؛ لأن كل واحد منا يدرك: أن كل ذي روح إذا حبس عنه الهواء لحظات يموت، وما أشبه هذه المعجزة بمعجزة موسى عليه السلام الذي وضع في تابوت محكم الإغلاق، وبقي حيا حتى التقطه آل فرعون، كما هو معروف لدى كل إنسان.

{وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ:} {عَلَيْهِ} بمعنى: عنده. وقيل: بمعنى: له، وسئل أبو هريرة:

ما اليقطينة؟ قال: شجرة الدّبّاء. وقيل: إنما خص اليقطين بالذكر؛ لأنه لا ينزل عليه ذباب، ولأنه يجمع كبر الورق، وبرد الظل، وجودة تغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئا، ومطبوخا لبه، وقشره أيضا. هذا؛ والدّبّاء نوع من أنواع القرع معروف. وقال الثعلبي: كانت تظله، فرأى خضرتها، فأعجبته، فيبست، فجعل يتحزن عليها، فقيل له: يا يونس أنت الذي لم تخلق، ولم تسق، ولم تنبت تحزن على شجيرة، فأنا الذي خلقت مئة ألف من الناس أو يزيدون، تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة، وقد تابوا وتبت عليهم، فأين رحمتي يا يونس؛ وأنا أرحم الراحمين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل الثريد باللحم، والقرع، وكان يحب القرع، ويقول:«إنها شجرة أخي يونس» . وقال أنس-رضي الله عنه: قدّم للنبي صلى الله عليه وسلم مرق فيه دباء، وقديد، فجعل يتبع الدّبّاء حوالي القصعة، قال أنس: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. أخرجه الأئمة. {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ:} قال سعيد بن جبير، ووهب، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم-رضي الله عنهم: إن قوم يونس عليه السلام كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل، وكانوا أهل شرك وكفر، فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس-عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله، وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه، فقيل له: أخبرهم: أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبا قطّ، فانظروا فإن بات فيكم الليلة، فليس بشيء، وإن لم يبت؛ فاعلموا: أن العذاب مصبحكم، فلما كان جوف

ص: 83

الليل؛ خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا؛ تغشاهم العذاب، فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن العذاب كان قد أهبط على قوم يونس عليه السلام، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا؛ كشف الله عنهم ذلك.

وقال مقاتل: قدر ميل، وقال سعيد بن جبير: غشي قوم يونس العذاب، كما يغشى الثوب القبر، وقال وهب: غامت السماء غيما أسود، هائلا يدخن دخانا شديدا، فهبط حتى غشي مدينتهم، واسودت أسطحتهم، فلما رأوا ذلك؛ أيقنوا بالهلاك، فطلبوا نبيهم يونس عليه السلام، فلم يجدوه، فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم، ونسائهم، وصبيانهم، ودوابّهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا التوبة، والتوحيد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس، والدوابّ، فحنّ البعض إلى البعض، فحن الأولاد إلى الأمهات، والأمهات إلى الأولاد، وعلت الأصوات، وعجّوا إلى الله، وتضرعوا إليه، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس، وتابوا إلى الله، وأخلصوا النية، فرحمهم ربهم، فاستجاب دعاءهم، وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة. وهذا فحوى قوله تعالى في السورة المسماة باسمه رقم [98]{فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} .

هذا؛ وقال الخازن في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فإن قلت: كيف كشف الله العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم، وقبل توبتهم، ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن به، ولم يقبل توبته، قلت: أجاب العلماء عن هذا بأجوبة: أحدها أن ذلك كان خاصّا بقوم يونس، والله يفعل ما يشاء. الجواب الثاني: أن فرعون ما آمن إلا بعد مباشرة العذاب، وهو وقت اليأس من الحياة، وقوم يونس دنا منهم العذاب، ولم ينزل بهم، ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت، ويرجو العافية. والجواب الثالث: أن الله عز وجل علم صدق نيتهم في التوبة، فقبل توبتهم، بخلاف فرعون، فإنه ما صدق في إيمانه، ولا أخلص في توبته، فلم يقبل الله منه إيمانه. انتهى.

تنبيه: لقد اختلف في معنى «أو» فقال الفراء: هي بمعنى: «بل» وعليه قول جرير من قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك، وهذا هو الشاهد رقم (101) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

ماذا ترى في عيال قد برمت بهم؟

لم أحص عدّتهم إلاّ بعدّاد

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لولا رجاؤك قد قتّلت أولادي

وقال غير الفراء: {أَوْ} هنا بمعنى: الواو لمطلق الجمع، وعليه قول جرير من قصيدة يمدح فيها الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو الشاهد رقم [96] من كتابنا المذكور:[البسيط]

ص: 84

جاء الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

وهذا على قول الكوفيين، ولا يصح هذان القولان عند البصريين، وأنكروا كون:«أو» بمعنى: «بل» ، وبمعنى: الواو؛ لأن «بل» للإضراب عن الأول، والإيجاب لما بعده، وتعالى الله عن ذلك، أو خروج من شيء إلى شيء، وليس هذا موضع ذلك، والواو معناه خلاف معنى (أو) فلو كان أحدهما بمعنى الآخر؛ لبطلت المعاني، ولو جاز ذلك؛ لكان: وأرسلناه إلى أكثر من مئتي ألف أخصر. وقال المبرد: المعنى: وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم؛ لقلتم: هم مئة ألف، أو أكثر، وإنما خوطب العباد على ما يعرفون. انتهى. قرطبي.

هذا؛ وللبصريين فيها أقوال: قيل: هي للإبهام. وقيل: هي للتخيير، بمعنى: إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول: هم مئة ألف، أو يقول: هم أكثر. وقيل: هي للشك مصروفا إلى الرائي. وقيل: هي للإباحة، أي: فأنت مخير بأن تحزرهم، وتقدر عددهم كيف تشاء. وقيل:

هي للشك بمعنى: أن الرائي يشك في عددهم، هل هم مئة أو يزيدون؟ والمبرد بصري المذهب، وانظر مبحث (أو) وشواهدها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» ؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وقد نقل الجمل عن العلماء في (أو) المذكورة هنا، وفي قوله تعالى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} رقم [19] من سورة (البقرة) جواز إطلاق جميع المعاني؛ التي ذكرها ابن هشام في مغني اللبيب على (أو) في هاتين الآيتين.

هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: زادوا على مئة ألف عشرين ألفا. قال مقاتل بن حيان: زادوا سبعين ألفا على مئة ألف.

هذا؛ وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: ولعله إنما لم يختم قصة يونس وقصة لوط بما ختم سائر القصص، تفرقة بينهما، وبين أصحاب الشرائع الكبراء، وأولي العزم من الرسل، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.

هذا؛ والتمتع: التلذذ بالشيء، والانتفاع به، ومثله: الاستمتاع، والاسم: المتعة، فهنيئا لمن تمتع، واستمتع بالمباح الحلال، وويل، ثم ويل لمن تمتع، واستمتع بالحرام. هذا؛ والمتعة بكسر الميم وضمها: اسم للتمتيع، والزاد القليل، وما يتمتع به من الصيد، والطعام.

ومتعة المرأة: ما وصلت به بعد الطلاق من نحو قميص، وزاد وملحفة، قال تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . هذا؛ وأمره سبحانه وتعالى للكفار في كثير من الآيات بأن يتمتعوا بدنياهم قليلا، أو بعبادتهم الأوثان، أو باتباعهم الأهواء، فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها، وفي التهديد لهم بصيغة الأمر إيذان بأنّ المهدّد عليه كالمطلوب؛ لإفضائه إلى المهدّد به. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [24] من سورة (يس).

ص: 85

ومعنى قوله تعالى: {فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} إلى منتهى آجالهم، وانظر شرح (الحين) في الآية رقم [88] من سورة (ص).

الإعراب: {فَنَبَذْناهُ:} الفاء: حرف عطف. (نبذناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة (التقمه الحوت) فهي في محل جر مثلها، وعليه ف:(لولا) ومدخولها كلام معترض بين الجملتين المتعاطفتين. وقيل: الجملة معطوفة على جملة محذوفة، التقدير:

أمرنا الحوت بنبذه فنبذه {بِالْعَراءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، والجملة الاسمية:{وَهُوَ سَقِيمٌ:} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. (أنبتنا): فعل، وفاعل. {عَلَيْهِ:} متعلقان به.

{شَجَرَةً:} مفعول به. {مِنْ يَقْطِينٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {شَجَرَةً} . والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَأَرْسَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا. {إِلى مِائَةِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و {مِائَةِ} مضاف، و {أَلْفٍ} مضاف إليه. {أَوْ:} حرف عطف. {يَزِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، وهو لازم هنا لم ينصب مفعولا، والمعنى يفيد أن له مفعولا مطلقا محذوفا، التقدير: يزيدون شيئا قليلا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف. التقدير: أو هم يزيدون، والجملة الاسمية هذه معطوفة على الجملة الفعلية قبلها. {فَآمَنُوا:} الفاء: حرف استئناف. (آمنوا):

ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف لدلالة المقام عليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وهي بمنزلة جواب لسؤال مقدر، فكأن سائلا سأل ماذا فعلوا؟ فقيل:

آمنوا بالله وصدقوا يونس، وجملة {وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ:} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)}

الشرح: {فَاسْتَفْتِهِمْ:} أي: اسأل أهل مكة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ:} قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: الكلام معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة، أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى؛ التي قسموها؛ حيث جعلوا لله الإناث، ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهنّ، ووأدهنّ واستنكافهم من ذكرهنّ.

ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر: أحدها: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام. والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا، أوضع الجنسين له، وأرفعهما لهم،

ص: 86

كما قال تعالى: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} الزخرف [17] و [18] والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه، وأقربهم إليه؛ حيث أنثوهم، ولو قيل لأقلهم، وأدناهم: فيك أنوثة، أو شكلك شكل النساء؛ للبس لقائله جلد النمر، ولانقلبت حماليقه، وذلك في أهاجيهم بيّن مكشوف، فكرر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرات، ودل على فظاعتها في آيات كثيرة، انتهى. هذا؛ والذين زعموا: أن الملائكة بنات الله هم قبيلة جهينة، وخزاعة، وبنو مليح، وبنو سلمة، وبنو عبد الدار.

{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ} أي: حاضرون لخلقنا إياهم إناثا، وهذا كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} سورة الزخرف رقم [19]{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ:} من كذبهم، وافترائهم. وانظر الآية رقم [84]. {لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ} أي: صدر منه الولد بزعمهم. {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ:} فيما يقولون ويفترون على الله. {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ} أي: أي شيء يحمله على أن له البنات دون البنين، فهو كقوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [40]:{أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} .

هذا؛ والهمزة في قوله: {أَصْطَفَى} هي همزة الاستفهام؛ التي هي للتوبيخ، دخلت على ألف الوصل، وأصله:(أاصطفى) فحذفت الألف الثانية؛ لأنها ألف وصل. فإن قيل: فهلا أتوا بمدة بعد الألف، فقالوا: آصطفى؟ كقوله تعالى: {اللهِ خَيْرٌ،} وقوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ..} . إلخ قيل له: كان الأصل: (أألله)(أألذّكرين)، فأبدلوا من الألف الثانية مدة؛ ليفرقوا بين الاستفهام والخبر، وذلك لو أنهم قالوا: الله خير بلا مدّ، لالتبس الاستفهام بالخبر، ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله:(آصطفى) لأن ألف الاستفهام مفتوحة، وألف الخبر مكسورة، وذلك: أنك تقول في الاستفهام: (أطّلع، أفترى، أصطفى، أستغفرت) بفتح الألف، وتقول في الخبر:(اطّلع، افترى، اصطفى، استغفرت لهم) بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح، والكسر، ولم يحتاجوا إلى فرق آخر. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {فَاسْتَفْتِهِمْ:} الفاء: حرف عطف. (استفتهم): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {أَلِرَبِّكَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي.

(لربك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْبَناتُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان للفعل قبلهما المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، والجملة الاسمية:{وَلَهُمُ الْبَنُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مفعول به مثلها،

ص: 87

والجملة الفعلية: {فَاسْتَفْتِهِمْ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [9] وهذا قول الزمخشري، وغيره، واستبعده ابن هشام، فإنه يرى الاستئناف أقوى. والفاء هنا عاطفة تعقيبية بخلافها في المعطوف عليه فإنها الفصيحة، كما رأيت. (أم): حرف عطف. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل.

{الْمَلائِكَةَ:} مفعول به أول. {إِناثاً:} مفعول به ثان، وهذا على تضمين:{خَلَقْنَا} معنى:

جعلنا. وقيل: هو حال. ولا وجه له؛ لأنه اسم جامد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها، والجملة الاسمية:(هم شاهدون) في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الواو، والضمير. {أَلا:} حرف تنبيه، واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {إِنَّهُمْ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مِنْ إِفْكِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {لَيَقُولُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (يقولون): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَدَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف يدل عليه المقام. {وَإِنَّهُمْ:} الواو: واو الحال. (إنهم): (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَكاذِبُونَ:} اللام: هي المزحلقة.

(كاذبون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير. {أَصْطَفَى:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (اصطفى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله. {الْبَناتُ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {عَلَى الْبَنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{أَصْطَفَى..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: لكاذبون في قولهم: اصطفى

إلخ، وقيل: الجملة بدل من قوله: {وَلَدَ اللهُ} والأول أقوى، والجملة:{وَلَدَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)}

الشرح: {ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ:} هذا تسفيه لهم، وتجهيل، أي: أي شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر؟! كيف يختار لنفسه أخس الجنسين على زعمكم؟! أي: ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟! {أَفَلا تَذَكَّرُونَ:} أفلا تتذكرون بطلان ادعائكم ببديهة العقل، فإن كل عاقل يدرك ذلك بداهة، سواء كان ذكيا، أم غبيا. {أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ} أي: أم لكم برهان بين، وحجة

ص: 88

واضحة على أن الله تعالى اتخذ الملائكة بنات له. {فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: فائتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون! ولا كتاب لهم، والغرض تعجيزهم، وبيان: أنهم لا يستندون في أقوالهم الباطلة على دليل شرعي، ولا منطق عقلي، وإنما هو هراء؛ لا قيمة له، ولا اعتبار. وفيه سخرية بهم، واستهزاء؛ لأن الله يعلم بأنهم لا كتاب لهم. هذا؛ ولا تنس:

الالتفات من الغيبة في الآيات السابقة إلى الخطاب في هذه الآيات.

أما: (ائتوا)، فهو أمر من: أتى، يأتي، والأمر بهمزتين: همزة الوصل؛ التي يتوصل بها إلى النطق بالساكن، والثانية هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فإذا ابتدأت الكلام قلت: إيتوا بإبدال الثانية ياء لكسر ما قبلها، فإذا وصلت الكلام زالت العلة في الجمع بين همزتين، فتحذف همزة الوصل، وتعود الهمزة الأصلية، فتقول ائت، ومثل ذلك قل في إعلال: أذن يأذن، إءذن.

الإعراب: {ما:} اسم استفهام إنكاري توبيخي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {كَيْفَ:} اسم استفهام وتعجب مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله ما بعده. {تَحْكُمُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، لدلالة المقام عليه. هذا؛ وقال الجمل نقلا عن السمين: الجملتان استفهاميتان، ليس لإحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب، استفهم أولا عما استقر لهم، وثبت، استفهام إنكار، وثانيا استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر، وهو أنهم نسبوا أخس الجنسين، وما يتطيرون به، ويتوارى أحدهم من قومه عند بشارته به إلى ربهم، وأحسن الجنسين إليهم. انتهى. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} في الآية رقم [138].

{أَمْ:} حرف عطف. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سُلْطانٌ:} مبتدأ مؤخر. {مُبِينٌ:} صفة له. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. وجملة: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {فَأْتُوا:} الفاء: هي الفصيحة فيما أرى، ومن يجيز عطف الإنشاء على الخبر يعتبرها عاطفة، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، (ائتوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِكِتابِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها، لا محل لها مثلها.

ص: 89

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ (159) إِلاّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}

الشرح: {وَجَعَلُوا} أي: كفار قريش، والعرب. {بَيْنَهُ} أي: بين الله. {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} أي:

الملائكة، سمّوا جنة لاجتنانهم، أي: لاختفائهم عن الأبصار. {نَسَباً} أي: مصاهرة، وقرابة؛ حيث قالوا: إنه نكح من الجن، فولدت له الملائكة! {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} أي: الملائكة. {إِنَّهُمْ} أي: المشركين. {لَمُحْضَرُونَ} أي: في العذاب يوم القيامة، لا يمنعهم مانع من عذاب الله.

{سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ:} تنزه الله، وتقدس، وتعالى عما يصفه به المشركون من اتخاذ الولد من الملائكة، أو غيرهم، فهو أجل، وأعظم. هذا؛ ولا تنس الالتفات من الخطاب في الآية السابقة إلى الغيبة في هذه الآيات.

هذا؛ والجنة بكسر الجيم: الملائكة، وهي أيضا الجنّ، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ،} وقال تعالى:

{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} من سورة (هود) رقم [119]، ومن سورة (السجدة) رقم [13] وعلى هذا فهما جنس واحد، ولكن من خبث من الجن، ومرد، وكان شرّا كله؛ فهو شيطان، ومن طهر منهم، ونسك، وكان خيرا كله، فهو ملك، فذكرهم الله في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم، وتقصيرا بهم، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة؛ التي أضافوها إليهم، انتهى. كشاف. وهذا مردود قطعا؛ لأن الملائكة مخلوقون من نور، والجن مخلوقون من نار، وشتان ما بين المادتين، وما قاله الزمخشري يقال في مؤمني الجن وكافريهم، فمن طهر منهم؛ فهو مؤمن، وكان خيرا كله، ومن خبث منهم؛ فهو شيطان، وكان شرّا كله، ولكن تبقى التسمية جائزة على الملائكة، والجن؛ لعدم رؤيتنا لهم بسبب اجتنانهم، أي: اختفائهم عن الأبصار. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [43] من سورة (الأحزاب)؛ إن أردت الزيادة، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وجنة بكسر الجيم أيضا: الجنون، أي: ذهاب العقل، قال تعالى في سورة (الأعراف)، رقم [184]:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ،} وقال في سورة (المؤمنون) رقم [70]: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ..} . إلخ. والجنة بفتح الجيم: البستان والحديقة، وأيضا: جنة عدن التي وعد الله عباده المؤمنين، وسميت بذلك لكثرة أشجارها التي تجن، أي: تستر، وتخفي من يدخل فيها. وجنّة بضم الجيم: وقاية وحفظ من الشر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم من وصيته لمعاذ بن جبل-رضي الله عنه:«والصيام جنّة» . وقال تعالى في الآية رقم [16] من سورة (المجادلة)، والآية رقم [2] من سورة (المنافقون):{اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} ومن

ص: 90

ذلك: الجنين الذي يكون في بطن المرأة أيام حملها، وجمعه: أجنة، قال تعالى في سورة النجم رقم [32]:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} .

هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى: وسط بسكون السين، لا يدخل إلا على متعدد لفظا، أو حكما، تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض، ومن استعماله بمعنى: الوصل ما قرئ به في سورة (الأنعام) رقم [94]: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} حيث قرئ برفعه. ومن استعماله بمعنى: الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-من قصيدته؛ التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الشاهد رقم [809] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

وانظر الأضداد في الآية رقم [57] من سورة (النمل) فإنه جيد.

الإعراب: {وَجَعَلُوا:} الواو: حرف استئناف. (جعلوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بَيْنَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل: متعلق بمحذوف مفعول ثان تقدم على الأول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَ:} معطوف على ما قبله، و (بين) مضاف، و {الْجِنَّةِ} مضاف إليه. {نَسَباً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلَقَدْ} انظر الآية رقم [114] تجد الإعراب وافيا كافيا. {عَلِمَتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {الْجِنَّةِ:} فاعله، وهو معلّق عن العمل لفظا بسبب لام الابتداء، ولذا كسرت همزة (إن) قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

وكسروا من بعد فعل علّقا

باللاّم كاعلم إنّه لذو تقى

{إِنَّهُمْ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، الهاء اسمها. {لَمُحْضَرُونَ:} اللام: هي المزحلقة.

(محضرون): خبر (إنّ) مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية في محل نصب سدت مسد المفعول به، وجملة:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ..} . إلخ جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {سُبْحانَ:} مفعول مطلق، عامله محذوف، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول به محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {سُبْحانَ،} و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو عن شيء يصفونه به، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: سبحان الله، أي: تنزه الله عن وصفهم له بما ذكر، وهذا الكلام مستأنف، لا محل له. {إِلاّ:} أداة استثناء،

ص: 91

بمعنى: لكن. {عِبادَ:} استثناء منقطع؛ لأنّ ما قبله وعيد، وهم لم يدخلوا في هذا الوعيد، و {عِبادَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {الْمُخْلَصِينَ:} صفة: {عِبادَ} منصوب مثله. هذا؛ وقال أبو السعود: هذا الكلام من هنا إلى قوله تعالى: {وَإِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} من كلام الملائكة، وعلى هذا فالاستثناء من واو الجماعة بقوله:{يَصِفُونَ} والمعنى يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصون برآء من أن يصفوه به. أو هو استثناء منقطع من المحضرين معناه: ولكن المخلصين ناجون من النار، و {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ} اعتراض بين الاستثناء، وبين ما وقع منه. انتهى. نسفي بتصرف. وما قاله أبو السعود، أولى بالاعتبار؛ ليبقى الكلام من قوله:{سُبْحانَ..} . إلخ من كلام الملائكة كما رأيت، وقول النسفي مأخوذ من قول الزمخشري، والبيضاوي جاراه في ذلك.

{فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)}

الشرح: {فَإِنَّكُمْ} خطاب لأهل مكة. {وَما تَعْبُدُونَ} أي: من الأصنام، والآلهة الباطلة. {ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي: على الله. {بِفاتِنِينَ} أي: بمضلين أحدا. ومعنى هذه الآية: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم، وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار؛ الذين سبق في علمه: أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. ومعنى: يفتنونهم على الله: يفسدونهم عليه بإغوائهم، واستهزائهم، من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه، وخببها عليه. «إلا من هو صالي الجحيم» أي: إلا من سبق له في علم الله تعالى الأزلي الشقاوة، وأنه سيدخل النار. هذا؛ وقرأ الحسن شاذا برفع صال، وأنا أثبت الياء في الرسم على الأصل. ولا تنس الالتفات من الغيبة في الآيات السابقة إلى الخطاب في هذه الآيات، وانظر الالتفات في الآية رقم [135].

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية ردّ على القدرية. قال عمرو بن ذر: قدمنا على عمر بن عبد العزيز-رحمه الله تعالى-، فذكر عنده القدر، فقال عمر: لو أراد الله ألاّ يعصى؛ ما خلق إبليس، وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله عز وجل، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ثم قرأ قوله تعالى:{فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ} إلا من كتب الله عليه أن يصلى الجحيم. وقال: فصلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني: أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي؛ ولو علم الله أنه يهتدي لحال بينه وبينهم، وعلى هذا قوله تعالى:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} رقم [64] من سورة (الإسراء) أي: لست تصل منهم إلى شيء إلا إلى ما في علمي، وقال لبيد-رضي الله عنه-في تثبيت القدر، فأحسن:[الرمل]

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

أحمد الله فلا ندّ له

بيديه الخير ما شاء فعل

ص: 92

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: فتنت الرجل. وأهل نجد، يقولون: أفتنته. انتهى. قرطبي.

هذا؛ والقرآن جاء بلغة أهل الحجاز، وهو كثير لا يعد، ولا يحصى، قال تعالى في سورة (البروج):{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} . و (فاتنين): اسم فاعل من الثلاثي، و (صالي): اسم فاعل من: صلي فلان النار بالكسر يصلى صليّا، أي: احترق. وقال الجوهري: يقال: صليت الرجل نارا: إذا أدخلته النار، وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء، كأنك تريد الاحتراق؛ قلت:

أصليته بالألف، وصلّيته تصلية. ويقال أيضا: صلي بالأمر: إذا قاسى حره، وشدته. واصطليت بالنار، وتصليت بها؛ إذا استدفأت بها، وفلان لا يصطلى بناره: إذا كان شجاعا لا يطاق.

الإعراب: {فَإِنَّكُمْ:} الفاء: حرف استئناف. (إنكم): (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {وَما:} الواو: واو المعية. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول معه، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: إنكم مع الذي، أو:

الذين تعبدونهم، وإن اعتبرت (ما) مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول معه، التقدير: فإنكم مع معبوديكم، وخبر (إنّ) محذوف لسد المفعول معه مسده، التقدير: فإنكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها، وعلى هذا يحسن السكوت على {تَعْبُدُونَ،} كما يحسن في قولك: كل رجل وضيعته، أي: مقترنان. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) معطوفة على اسم (إنّ)، وعليه فلا يحسن الوقف على {تَعْبُدُونَ،} وعلى هذا فيكون من أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط، الفاسق بن الفاسق يحض معاوية على حرب عليّ كرم الله وجهه:[الوافر]

فإنّك والكتاب إلى عليّ

كدابغة وقد حلم الأديم

أي: فإنك مع كتابتك إليه كدابغة حال حلم الأديم، فلا يمكن الانتفاع به، والحلم بالتحريك:

أن يفسد الإهاب في العمل، ويقع فيه دود فيتنقب، تقول منه: حلم الأديم بالكسر. {ما:} نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» ، أو هي مهملة تميمية. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم {ما} . {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {بِفاتِنِينَ:} الباء: حرف جر صلة، (فاتنين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، أو هو خبر المبتدأ على إهمال {ما} مجرور لفظا مرفوع محلا، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها على الوجه الأول في {ما،} وفي محل رفع خبر (إنّ) وما عطف عليه على الوجه الثاني فيها، وهو عطفها على اسم (إنّ). {إِلاّ:} حرف حصر. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ل: (فاتنين)، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وإن اعتبرت المفعول محذوفا، فالموصول في محل نصب على الاستثناء، التقدير: ما أنتم عليه بفاتنين أحدا، إلا من

إلخ. {هُوَ:} مبتدأ. {صالِ:}

خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، و {صالِ} مضاف، و {الْجَحِيمِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها.

ص: 93

{وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}

الشرح: {وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ:} ذكرت لك فيما سبق: أن هذا الكلام من قول الملائكة تعظيما لله عز وجل، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم. قال مقاتل-رحمه الله تعالى-:

هذه الثلاث الآيات نزلت؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى، فتأخر جبريل عليه السلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أهنا تفارقني؟» . فقال: ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني. وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة: {وَما مِنّا إِلاّ لَهُ..} . إلخ الآيات.

قالت عائشة-رضي الله عنها-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السماء موضع قدم إلاّ عليه ملك ساجد، أو قائم» . وعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ، ما فيها موضع أربع أصابع، إلاّ وملك واضع جبهته ساجدا لله! والله لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله! لوددت أنّي كنت شجرة تعضد» . أخرجه أبو عيسى الترمذي-رحمه الله تعالى-، والجملة الأخيرة مدرجة من كلام الراوي فيما يظهر. هذا؛ والأطيط: أصوات الإبل، وحنينها من ثقل أحمالها. وقيل: أصوات الأقتاب؛ التي على الإبل من ثقل الأحمال. ومعنى الحديث: ما في السماء من الملائكة قد أثقلها، حتى أطت، وهذا مؤذن بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثمّ أطيط. انتهى. خازن. والحديث موجود في القرطبي بكامله.

وقال قتادة: كان يصلي الرجال، والنساء جميعا حتى نزلت هذه الآية:{وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} قال: فتقدم الرجال، وتأخر النساء، وهذا يعني: أن الآيات مدنية، وليس بشيء يعتد به.

{وَإِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ:} قال الكلبي: صفوفهم كصفوف أهل الدنيا في الأرض. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة-رضي الله عنه-قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في المسجد، فقال:«ألاّ تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها» . فقلنا: يا رسول الله! كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمّون الصفوف الأول، ويتراصّون في الصف» . وكان عمر-رضي الله عنه يقول إذا قام للصلاة: أقيموا صفوفكم، واستووا، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها، ويقرأ:{وَإِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر.

{وَإِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي: المصلون. قاله قتادة. وقيل: أي: المنزهون الله عما أضافه إليه المشركون. والمراد: أنهم يخبرون: أنهم يعبدون الله بالتسبيح، والصلاة، وليسوا معبودين، ولا بنات الله. انتهى. قرطبي. هذا؛ ولا تنس الالتفات من الخطاب في الآيات السابقة إلى التكلم في هذه الآيات.

ص: 94

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {مِنّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والمبتدأ المؤخر محذوف؛ إذ التقدير: وما منّا أحد. أو: وما منّا ملك.

فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه. هذا هو المتبادر والمفهوم من أقوال المفسرين الإجمالي، وعند التأمل يتبين لك: أن الجار والمجرور {مِنّا} متعلقان بمحذوف صفة المبتدأ المحذوف، التقدير: وما أحد منا، والخبر الجملة الاسمية الواقعة بعد {إِلاّ} ومثل هذا منقول عن السمين. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [46]:{مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ،} وقوله تعالى في سورة (مريم) رقم [71]: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ، وأيضا قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [167]:{وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ،} وأيضا قوله تعالى في سورة (الجن): {وَأَنّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَمِنّا دُونَ ذلِكَ؛} إذ التقدير في الآيتين: ومنا ناس دون ذلك، ومن الأبيات الشعرية قول سحيم بن وثيل الرياحي:[الوافر]

أنا ابن جلا وطلاّع الثّنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

وهذا هو الشاهد رقم [289] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ؛ إذ التقدير: أنا ابن رجل جلا

إلخ، وانظر أيضا الشاهد رقم [290] منه، ومثلهما قول تميم بن عقيل:[الطويل]

وما الدّهر إلاّ تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

{إِلاّ:} حرف حصر. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَقامٌ:} مبتدأ مؤخر. {مَعْلُومٌ:} صفة له. والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، وهذا عند البصريين، وقال الكوفيون التقدير: وما منا إلا من له مقام، ثم حذف الموصول، وأقيمت الصلة مقامه.

وهو ضعيف لا يعتد به، والجملة الاسمية:{وَما مِنّا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنّا:}

الواو: حرف عطف. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَنَحْنُ:} اللام: هي المزحلقة. (نحن): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {الصَّافُّونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا، لا محل له، فخبر (إنّ) هو:{الصَّافُّونَ،} ودخلت اللام على ضمير الفصل؛ لأنه إذا جاز أن تدخل على الخبر، فدخولها على الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَإِنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من (نا) فلست مفندا، والرابط: الواو، والضمير. والجملة الاسمية:{وَإِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} معطوفة عليها، والإعراب بحاله لا يتغير.

ص: 95

{وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}

الشرح: {وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ:} واو الجماعة عائدة على كفار قريش، وعاد الالتفات من التكلم إلى الغيبة، فقد كانوا إذا عيّروا بالجهل قالوا:{لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} . أي: لو بعث إلينا نبي ببيان الشرائع، وأنزل عليه كتاب مثل موسى، وعيسى؛ لآمنا به، واتبعناه. {لَكُنّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: لكنا أعظم إيمانا منهم، وأكثر عبادة، وأشدّ إخلاصا لله منهم. هذا؛ وقد حكى الله عنهم في سورة (فاطر) رقم [42] حلفهم الكاذب حيث قال جل ذكره:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً،} ومثله قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [109]: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها..} . إلخ.

{فَكَفَرُوا بِهِ} أي: جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بكتاب، فكفروا به. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: فسوف يرون عاقبة كفرهم بالله، وآياته. فهو وعيد، وتهديد. وهذه الجملة تكرّر وتردّد كثيرا في الآيات القرآنية، كما أن (سوف) تصدرت جملا كثيرا مفادها الوعد بفضل الله الكثير مثل قوله تعالى:

{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} .

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة مهمل، لا عمل له. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {لَيَقُولُونَ:} اللام: هي الفارقة بين النفي، والإثبات. (يقولون): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، وهذا الإعراب إنما هو على مذهب البصريين، وأما الكوفيون؛ فيعتبرون:(إن) نافية، واللام بمعنى: إلاّ. واستدل الكوفيون على ذلك بقول الشاعر، وهو الشاهد رقم [420] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

أمسى أبان ذليلا بعد عزّته

وما أبان لمن أعلاج سودان

وصفوة القول: إن البصريين، والكوفيين متفقون على إهمال إنّ إذا خففت، ولزوم اللام بعدها، وإن اختلفوا في معناها، ومعنى اللام الواقعة بعدها، وتفسيرهما. قال ابن مالك -رحمه الله تعالى-:[الرجز]

وخفّفت إنّ فقلّ العمل

وتلزم اللاّم إذا ما تهمل

{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {عِنْدَنا:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {إِنْ:} تقدم على اسمها. {ذِكْراً:} اسم {إِنْ} المؤخر. {مِنَ الْأَوَّلِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {ذِكْراً،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛

ص: 96

لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و {إِنْ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، تقديره: ولو حصل، أو نزل كون ذلك.

وهذا الفعل شرط (لو) عند المبرد. وقال سيبويه: هو في محلّ رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو كون ذكر حاصل من الأولين عندنا، وقول المبرد هو المرجح في هذه المسألة؛ لأن {لَوْ} لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر، وفاعله المؤول على قول المبرد جملة فعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَكُنّا:} اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (كنا): فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {عِبادَ:} خبر (كان)، و {عِبادَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {الْمُخْلَصِينَ:} صفة: {عِبادَ اللهِ} منصوب مثله، وجملة:{لَكُنّا..} . إلخ جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَيَقُولُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.

{فَكَفَرُوا:} الفاء: حرف عطف. (كفروا): فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، انظر تقديرها في الشرح، والكلام كله مستأنف، وقدر الجمل تبعا للخازن الكلام كما يلي:

فلما أتاهم الكتاب كفروا به، وهو جيد معنى. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (سوف):

حرف تسويف، واستقبال. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها أيضا. هذا؛ وعاد الجمل فاعتبر الفاء تبعا لأبي السعود الفصيحة، كما في قوله تعالى:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} الآية رقم [63] من سورة (الشعراء) ولكن بينات لك هناك: أن جملة: {فَانْفَلَقَ} معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فضرب البحر، فانفلق، ومثل آية (الشعراء) قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [60]:

{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ،} وقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [160]:

{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} إذ التقدير:

فضرب، فانفجرت، فضرب، فانبجست. وهذا مشهور ومتعارف عليه، فلم يبق لما نقله الجمل عن أبي السعود اعتبار صحيح. تأمل، وتدبر.

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)}

الشرح: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أي: تقدم وعدنا لعبادنا المرسلين في قديم الأزل بعلو شأنهم، ونصرهم على عدوهم، وهو قوله تعالى:{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} كما قال تعالى في

ص: 97

الآية رقم [21] من سورة (المجادلة): {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي،} وقال في الآية رقم [51] من سورة (غافر): {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} . {وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} أي: لهم النصرة في العاقبة. كيف لا؛ وقد أوجبها على نفسه جلت قدرته، وتعالت حكمته حيث قال في سورة (الروم):{وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وهذا يفيد حتما:

أن الله لا ينصر الفاسقين، الذين يحاربونه، ويحاربون تعاليمه، ويعادون هدي نبيه صلى الله عليه وسلم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [47] من سورة (الروم)، وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ-وأعوذ بالله أن تدركوهن-: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتّى يعلنوا بها؛ إلاّ فشا فيهم الطّاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاّ أخذوا بالسّنين، وشدّة المؤونة، وجور السّلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلاّ منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلاّ سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيّروا فيما أنزل الله إلاّ جعل الله بأسهم بينهم» . رواه ابن ماجه، والبيهقي، والبزار.

هذا؛ وقد عبر الله بقوله: {كَلِمَتُنا} وهي كلمات في الحقيقة؛ لأنها لما انتظمت في معنى واحد، كانت في حكم كلمة مفردة، والمراد: الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج، وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [211]:

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} . وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا؛ نصروا في العقبى. والحاصل: أن قاعدة أمرهم، وأساسه، والغالب منه الظفر، والنصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء، والمحنة، كالذي وقع للمسلمين في غزوة أحد، وفي غزوة الخندق، والعبرة للغالب، وقد حقق الله وعده ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده بعد غزوة الأحزاب، وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وما تحقق من انتصارات في عهد الخلفاء الراشدين، أكبر شاهد على ذلك.

تنبيه: في (كلمة) ثلاث لغات: الأولى: كلمة على وزن نبقة، وهي الفصحى ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم، كنبق. والثانية: كلمة على وزن: سدرة. والثالثة: كلمة على وزن: تمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى: كلم، كسدر، وجمع الثانية: كلم، كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن: فعل، نحو: كبد، وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق جاز فيه لغة رابعة، وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو فخذ، وشهد، وهي في الأصل: قول مفرد، مثل: محمد، ومحمود، وقام، وقعد،

ص: 98

وفي، ولن، وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في هذه الآية؛ التي نحن بصدد شرحها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» : [الطويل]

ألا كلّ شيء-ما خلا الله-باطل

وكلّ نعيم-لا محالة-زائل

المراد ب: «كلمة» الشطر الأول بكامله، وتقول: قال فلان كلمة. والمراد: بها كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربية في القديم، والحديث.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر إعراب هذه الكلمة في الآية رقم [114]. {سَبَقَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {كَلِمَتُنا:} فاعل، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لِعِبادِنَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (نا) في محل جر بالإضافة. {الْمُرْسَلِينَ:} صفة لما قبله مجرور مثله، وجملة:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ..} . إلخ جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} انظر إعراب مثل هذه الآية برقم [165] فهو مثله بلا فارق، والجملة الاسمية بدل من:{كَلِمَتُنا،} أو هي مفسرة لها. وأجيز اعتبارها مستأنفة، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} معطوفة عليها، والإعراب واحد لا يتغير.

هذا؛ والجند: الأنصار والأعوان، والجمع: أجناد، وجنود، والواحد: جندي، فالياء للوحدة، مثل: روم، ورومي. وجمع {الْغالِبُونَ} على المعنى، ولو كان على اللفظ؛ لكان: هو الغالب، مثل قوله تعالى:{جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ} الآية رقم [11] من سورة (ص) وقال الشيباني: جاء هاهنا على الجمع من أجل: أنه رأس آية.

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)}

الشرح: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ:} أعرض عنهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بالإعراض عن كفار قريش، والمعنى: اصبر على أذاهم لك، وانتظر إلى وقت مؤجل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر. {وَأَبْصِرْهُمْ} أي: انظرهم، وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، ولذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد:{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: سيرون وينظرون ما يحل بهم من العذاب والمقت والنكال. قال قتادة: سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار.

هذا؛ وسوف من الله للوجوب، وهي هنا للوعيد، وليس للتبعيد؛ إذ ليس المقام مقامه، كما تقول: سوف أنتقم منك وأنت متهيئ للانتقام.

{أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ:} استفهام إنكاري للتهديد، والوعيد، والمعنى: أيستعجلون بعذاب الله؟! فكانوا كلما نزلت آيات تخوفهم العقاب الشديد، والعذاب الأليم، قالوا:«متى هذا الوعد، إن كنتم صادقين؟» بل قد حكى الله قولهم في سورة (الأنفال) رقم [33]: {وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} . هذا؛ ويكثر النهي

ص: 99

في القرآن الكريم عن العجلة، واستعجال الشيء قبل أوانه، وهذا النهي أكثر ما يوجه للكافرين، الذين طلبوا استعجال العذاب، وقد يوجه إلى بني آدم جميعا، وقد توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} رقم [114] من سورة (طه) بينما حث الله على المسارعة إلى فعل الطاعات، فقال في (آل عمران):{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ رقم [133]، وقال في سورة (الحديد):{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ رقم [21] كما وصف أنبياءه، ورسله بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وهذا لا يناقض ما روي:

«العجلة من الشّيطان، والتّأنّي من الرّحمن» . لأن المسارعة إلى الطاعات مستثناة من ذلك، كما أن هنالك أمورا تسن المبادرة إلى فعلها، كأداء الصلاة المكتوبة إذا دخل وقتها، وقضاء الدين بحق الموسر، وتزويج البكر البالغ إذا أتى الكفؤ لها، ودفن الميت، وإكرام الضيف إذا نزل. وخذ ما يلي: فعن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «يا عليّ! ثلاث لا تؤخّرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت كفؤا» . رواه الترمذي.

الإعراب: {فَتَوَلَّ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة، (تول): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:

«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها، سواء أكانت مستأنفة، أو جوابا لشرط مقدر ب:«إذا» .

{عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {حَتّى حِينٍ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور ب:(عن) و {حَتّى} بمعنى:

«إلى» هنا. {وَأَبْصِرْهُمْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف تعليل. (سوف): حرف تسويف، واستقبال. {يُبْصِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها تعليل للأمر قبلها. {أَفَبِعَذابِنا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري.

الفاء: حرف استئناف. (بعذابنا): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف. {يَسْتَعْجِلُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها مع ما يقدر قبلها.

{فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}

الشرح: {فَإِذا نَزَلَ} أي: العذاب. {بِساحَتِهِمْ} أي: بدارهم. والساحة: الفناء الخالي من الأبنية، وجمعها: سوح، فألفها منقلبة عن واو فتصغر على سويحة. قال أبو ذؤيب الهذلي، وهو الشاهد رقم [97] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

ص: 100

وكان سيّان أن لا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح

ويقال: احمرّ اللّوح، واغبرت السوح: إذا وقع الجدب. ويقال في معرض الدعاء: عمر الله تعالى بك ساحتك. {فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ} أي: بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب. وخص الصباح بالذكر؛ لأن العذاب كان يأتيهم فيه، ومنه الحديث الذي رواه أنس-رضي الله عنه قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر؛ وكانوا خارجين إلى مزارعهم، ومعهم المساحي، فقالوا:

محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين» . أخرجه البخاري، ومسلم، والمراد: بقولهم: الخميس: الجيش.

هذا؛ وفي الآية الكريمة استعارة تمثيلية: مثّل للعذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم، فأناخ بفنائهم بغتة، ونصحهم بعض النصائح، فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم؛ حتى اجتاحهم الجيش، فشنّ عليهم الغارة، وقطع دابرهم. وما فصحت هذه الآية، ولا كانت لها الروعة؛ التي تحس بها، ويروقك موردها، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، انتهى. كشاف، وغيره. وقال البيضاوي: والصباح مستعار من صباح الجيش المبيّت لوقت نزول العذاب.

ولما كثر فيهم الهجوم، والغارات في الصباح؛ سموا الغارة: صباحا؛ وإن وقعت في وقت آخر.

{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ..} . إلخ: أعاد هاتين الآيتين ليكون تسلية على تسلية، وأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد، وفيه فائدة زائدة، وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصر، وهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة، وأنواع المساءة. وقيل: أريد بالأول عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة. انتهى. كشاف.

هذا {وَتَوَلَّ:} أعرض. والتولي، والإعراض، والإدبار عن الشيء يكون بالجسم، ويستعمل في الإعراض عن الأمور، والاعتقادات اتساعا، ومجازا. هذا؛ ويجوز في الآية الأولى أن يكون (ساء) على بابه من التصرف، والتعدي، ومفعوله محذوف، أي: ساءهم صباح المنذرين، وأن يكون جاريا مجرى بئس، فيحول إلى «فعل» بالضم، ويمتنع تصرفه، ويصير للذم، ويكون المخصوص بالذم محذوفا، كما تقرر غير مرة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [13]. {نَزَلَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى العذاب المفهوم من الفعل السابق. {بِساحَتِهِمْ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَساءَ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ساء):

فعل ماض جامد دال على إنشاء الذم. {صَباحُ:} فاعله، و {صَباحُ} مضاف، و {الْمُنْذَرِينَ} مضاف إليه مجرور، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: فساء صباح المنذرين صباحهم هذا.

وقدر الجلال الكلام كما يلي: فبئس صباحا صباح المنذرين. قال سليمان الجمل-رحمه الله

ص: 101

تعالى-: أشار بهذا إلى أن ضمير بئس يعود إلى المخصوص، وأن التمييز محذوف، وأن المذكور مخصوص، لا فاعل. انتهى. وانظر اعتباره تاما متصرفا في الشرح، وجملة:{فَساءَ..} .

إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} لا حاجة إلى إعادة إعراب هاتين الجملتين.

{سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)}

الشرح: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ..} . إلخ: ينزه الله تبارك وتعالى نفسه الكريمة، ويقدسها، ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون، تعالى، وتنزه، وتقدس عن قولهم علوا كبيرا. {عَمّا يَصِفُونَ} أي: من الصاحبة، والولد، وعن كل سوء، وعيب، ونقص. وسئل محمد بن سحنون عن معنى قوله تعالى:{رَبِّ الْعِزَّةِ:} لم جاز ذلك، والعزة من صفات الذات، ولا يقال: رب القدرة، ونحوها من صفات ذاته جل وعز؟ فقال: العزة تكون صفة ذات، وصفة فعل، فصفة الذات، نحو قوله تعالى:{فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} الآية رقم [10] من سورة (فاطر)، وصفة الفعل نحو قوله تعالى:{رَبِّ الْعِزَّةِ} والمعنى رب العزة التي يتعازّ بها الخلق فيما بينهم، فهي من خلق الله عز وجل. وقال الماورديّ:{رَبِّ الْعِزَّةِ} يحتمل وجهين: أحدهما: مالك العزة، والثاني: رب كل شيء متعزّز من ملك، أو متجبّر. انتهى. قرطبي.

{وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أي: الذين بلغوا الرسالة، والتوحيد عن الله تعالى. وقيل: المعنى:

لهم أمن من الله عز وجل يوم الفزع الأكبر. وقال أنس-رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إذا سلّمتم عليّ؛ فسلّموا على المرسلين، فإنّما أنا رسول من المرسلين» . أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم مرسلا، ورواه ابن أبي حاتم مسندا عن أبي طلحة-رضي الله عنه.

{وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي: له الحمد في الأولى، والآخرة على كل حال، والحمد لله على جميع ما أنعم الله به على الخلق أجمعين. وقيل: على هلاك المشركين. دليله قوله تعالى:

{فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} الآية رقم [45] من سورة (الأنعام). وقيل:

الحمد لله على إرسال المرسلين مبشرين ومنذرين. والكل مراد، والحمد يعم. انتهى. قرطبي.

تنبيه: روى الثعلبي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل أن يسلم: «سبحان ربّك ربّ العزّة

إلخ». وعنه-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا مرتين يقول في آخر صلاته، أو حين ينصرف: «سبحان ربّك

إلخ». وروى ابن أبي حاتم والماوردي عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم:

{سُبْحانَ رَبِّكَ..} . إلخ». رواه الثعلبي من حديث علي-رضي الله عنه.

ص: 102

هذا؛ وقد وردت أحاديث كثيرة في كفارة المجلس مذكورة في كتاب: «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري، أكتفي بما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جلس مجلسا كثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك، وأتوب إليك؛ إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك» . رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، والحاكم، وابن حبان.

هذا؛ و {الْعالَمِينَ} جمع: عالم بفتح اللام، وجمع لاختلاف أنواعه، وهو جواب عما يقال: إنه اسم جنس يصدق على كل ما سوى الله، والجمع لا بد أن يكون له أفراد ثلاثة فأكثر، وجمع بالياء والنون تغليبا للعقلاء على غيرهم، وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدل له قول موسى-على نبينا، وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-لما قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . هذا؛ والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف، في البر، والبحر؛ إذ كل جنس من المخلوقات يقال له: عالم، قال الله تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} .

هذا؛ و (سلام) اسم مصدر، لا مصدر؛ لأن المصدر: تسليم؛ لأنه من سلّم، يسلّم بتشديد اللام فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: عطاء، وعذاب، ونبات؛ لأعطى؛ وعذّب، وأنبت.

أما {سُبْحانَ} فهو اسم مصدر، وقيل: هو مصدر، مثل: غفران، وليس بشيء؛ لأن الفعل سبّح بتشديد الباء، والمصدر تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله، مثل معاذ الله، وقد أجري علما على التسبيح، بمعنى: التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى: [السريع] قد قلت لمّا جاءني فخره:

سبحان من علقمة الفاخر؟

وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} .

وقد نزه الله ذاته في كثير من الآيات بنفسه تنزيها لائقا بجلاله، وعظمته، وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب، من رفع، وجر، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجئ من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء. ولم ينصرف؛ لأن في آخره زائدتين: الألف، والنون، ومعناه: التنزيه والبراءة لله-عز وجل-من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى، لا يصلح لغيره. وقد روي عن طلحة الخير بن عبيد الله-أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين-أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال:

«تنزيه الله من كلّ سوء» . والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر له من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء. فالتقدير عنده: أنزّه الله تنزيها. فوقع (سبحان الله) مكان قولك: تنزيها لله.

ص: 103

الإعراب: {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، كما رأيت في الشرح، و {سُبْحانَ} مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والفعل المقدر، والمصدر جملة فعلية مستأنفة، لا محل لها، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {رَبِّ:} بدل مما قبله، ويجوز في العربية نصبه على المدح بفعل محذوف، ورفعه على إضمار مبتدأ محذوف. و {رَبِّ} مضاف، و {الْعِزَّةِ} مضاف إليه

إلخ.

{عَمّا يَصِفُونَ} انظر الإعراب مفصلا في الآية رقم [159].

{وَسَلامٌ:} الواو: حرف استئناف. (سلام): مبتدأ. {عَلَى الْمُرْسَلِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَالْحَمْدُ:} الواو: حرف عطف. (الحمد): مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {رَبِّ:} بدل من لفظ الجلالة، أو صفة له، ويجوز في العربية نصبه ورفعه مثل سابقه، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه

إلخ. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

انتهت سورة الصافات، بحمد الله وتوفيقه شرحا وإعرابا، والحمد الله رب العالمين.

ص: 104