المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فائدة: قال القرطبي في غير هذه الآية: عشرون، وثلاثون، وأربعون … - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌فائدة: قال القرطبي في غير هذه الآية: عشرون، وثلاثون، وأربعون …

‌فائدة:

قال القرطبي في غير هذه الآية: عشرون، وثلاثون، وأربعون

إلخ، كل واحد منها موضوع على صورة الجمع لهذا العدد، فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين، وفتح، أول ثلاثين وما بعده إلى ثمانين إلا ستين؟ فالجواب عند سيبويه-رحمه الله تعالى-: أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر أول اثنين، والدليل على هذا قولهم: ستون، وتسعون، كما قيل: ستة، وتسعة. انتهى. احفظه فإنه جيد. والله ولي التوفيق.

هذا؛ وقال صاحب مختار الصحاح: وإذا أضفته-أي: لفظ العقود-أسقطت النون. فقلت:

هذه عشروك، وعشريّ.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسمها. والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أَخِي:} يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون بدلا من {هذا} فيكون منصوبا، والثاني أن يكون خبرا، فيكون مرفوعا، والفتحة على الأول، والضمة على الثاني كلتاهما مقدرتان على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {تِسْعٌ:} مبتدأ مؤخر. (تسعون): معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {نَعْجَةً:} تمييز، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان على اعتبار:{أَخِي} خبرا، وهي الخبر على اعتباره بدلا. انتهى. شذور الذهب. {وَلِيَ:} الواو:

حرف عطف. (لي): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {نَعْجَةً:} مبتدأ مؤخر.

{واحِدَةٌ:} صفة. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

والجملة الاسمية: {إِنَّ هذا..} . إلخ بينات لك في آخر شرح الآية السابقة: أنها مقولة لقول محذوف. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {أَخِي،} تقديره: «هو» . {أَكْفِلْنِيها:} فعل أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول، و (ها) مفعول به ثان، ويجوز فصل ضمير الغيبة، ووصله، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

وصل أو افصل هاء سلنيه وما

أشبهه في كنته الخلف انتمى

وجملة: {أَكْفِلْنِيها..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على الجملة المقدرة في آخر شرح الآية السابقة. {وَعَزَّنِي:} الواو: حرف عطف. (عزني): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {أَخِي} أيضا، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {فِي الْخِطابِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} معطوفة على جملة: (قال

) إلخ لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 129

{قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24)}

الشرح: {قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ:} قال النحاس-رحمه الله تعالى-: فيقال:

هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم، هل كان هذا كذا، أو لم يكن فهذا قول. وقال-رحمه الله تعالى-: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم؛ منهم: عبد الله بن مسعود، وابن عباس-رضي الله عنهم-فإنهم قالوا:

ما زاد داود-صلّى الله عليه نبينا، وعليه، وسلم-على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، فعاتبه الله عز وجل على ذلك، ونبهه عليه، وليس هذا بكبير معصية، ومن تخطى إلى غير هذا، فإنه يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم، وإنما عاتبه الله عليه؛ لأنه نبي، وكان له تسع وتسعون امرأة، فأنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. وقد قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهما-لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن إحداهما.؟ وفي رواية عن أحسنهما، فقال له عبد الرحمن:

بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء؛ يجوز طلبه، وليس في القرآن: أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا؛ ويسند، وعلى من في نقله يعتمد.؟!. انتهى.

هذا؛ وذكر الطبري-رحمه الله تعالى-في أحكامه في قول الله عز وجل: {وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ..} . إلخ قوله: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء-عليهم السلام-عن الكبائر أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال: هو أوريا، فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأول، ولم يكن داود عارفا، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك، فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها، فلم يفعل ذلك من حيث أعجب بها، إما وصفا، أو مشاهدة على غير تعمد، وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبهه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض؛ لكي يفهم من ذلك موقع العتب، فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة. {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ:} الشركاء الذين خلطوا أموالهم، جمع: خليط {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ:} ليتعدى ويظلم، وقرئ بفتح الغين على تقدير النون الخفيفة وحذفها، ومثله قول طرفة بن العبد وهو الشاهد رقم [1099] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المنسرح]

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس

ص: 130

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي: فإنهم لا يظلمون أحدا. {وَقَلِيلٌ ما هُمْ} أي: الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين لا يظلمون أحدا غيرهم قليل. وروي: أن عمر-رضي الله عنه سمع رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر-رضي الله عنه:

ما هذا الدعاء؟! فقال: أردت قول الله عز وجل {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ، فقال: كل الناس أفقه منك يا عمر، وتقدم مثله في الآية رقم [13] من سورة (سبأ).

{وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ} أي: ابتليناه واختبرناه بتلك الحكومة، هل يتنبه بها، وظن هنا بمعنى: أيقن، لا يحتمل غير اليقين. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن داود لما دخل عليه الملكان وحكم بما تقدم؛ تحولا في صورتهما، وعرجا، وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، فعلم داود عليه السلام إنما عني به. وذكر النسفي: أن داود سأل الآخر عن ما ادعى به الأول فاعترف، ولكنه لم يحك في القرآن؛ لأنه معلوم، ويروى: أنه قال: أنا أريد أن آخذها منه، وأكمل نعاجي مئة، فقال له داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا، وهذا (وأشار إلى طرف الأنف والجبهة) فقال: يا داود! أنت أحق أن يضرب منك هذا، وهذا، وأنت فعلت كيت، كيت، ثم نظر، فلم ير أحدا، فعرف ما وقع فيه. {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ:} من ذنبه {وَخَرَّ راكِعاً:} ساجدا على تسمية السجود ركوعا؛ لأنه مبدؤه، أو: خر للسجود راكعا؛ أي: مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار، أي: بركعتي التوبة، وهذا عند الشافعي، فإن سجود التلاوة عنده، ولو كان في الصلاة، لا يؤدى في الركوع. وقال السادة الحنفية: وفيه دليل على أن الركوع يقوم مقام السجود في الصلاة؛ إذا نوي؛ لأن المراد مجرد ما يصلح تواضعا عند هذه التلاوة، والركوع في الصلاة يعمل هذا العمل، بخلاف الركوع في غير الصلاة. هذا؛ والتعبير عن السجود بالركوع موجود في اللغة العربية، قال الشاعر:[المتقارب]

فخرّ على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كلّ ذنب

{وَأَنابَ:} ورجع إلى الله بالتوبة. وقيل: إنه بقي ساجدا أربعين يوما وليلة، لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة، أو ما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه؛ حتى نبت العشب من دمعه، ولم يشرب ماء، إلا وثلثاه دمع.

تنبيه: اختلف العلماء في سجدة سورة (ص)، هل هي من عزائم السجود؟ فذهب الشافعي -رحمه الله تعالى-إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة، قال: لأنها توبة نبي، فلا توجب سجدة التلاوة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: هي من عزائم سجود التلاوة، واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة. وعند الشافعي تبطل الصلاة إذا سجد فيها لتلاوة آية (ص)، وذكرت لك في سورة (الحج) رقم [77] أن الشافعي يعتبر تلك الآية آية سجدة، وعن أحمد-رحمه الله تعالى-في سجدة (ص) روايتان، وقد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها.

ص: 131

فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: سجدة (ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. رواه البخاري. قال مجاهد: قلت لابن عباس: أسجد في (ص)، فقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} حتى أتى على قوله تعالى:{فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} فقال: نبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، فسجدها داود؛ فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللنسائي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص)، وقال: سجدها داود توبة، فنسجدها شكرا. انتهى. خازن بتصرف.

تنبيه: نسجد لها خارج الصلاة، ولا نسجد لها في الصلاة، وإذا سجدت لتلاوتها أيها القارئ الكريم فقل بعد تسبيحات السجود ثلاثا: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع بها عني وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. هذا؛ ويسن سجود الشكر عند هجوم نعمة، أو اندفاع نقمة، ولرؤية فاسق متظاهر، ويظهرها للمتظاهر، ولرؤية مبتلى ويسرها؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جاءه أمر يسرّ به؛ خر ساجدا شاكرا لله.

رواه أبو داود، والترمذي. هذا؛ وسجود التلاوة، وسجدة الشكر يشترط لهما شروط الصلاة من الطهارة، واستقبال القبلة، وتكبيرة الإحرام، والسّلام. والأفضل أن يصلي لله تعالى ركعتين تامتين للشكر، قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى يوم بشّر برأس أبي جهل ركعتين. وخرّج من حديث أبي بكرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره خر ساجدا شكرا لله، وهذا دليل الشافعي، وغيره على: أنه يكتفى بسجدة واحدة للشكر.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى داود. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ظَلَمَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى أحد الخصمين، تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به، والجملة جواب القسم المقدر، لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ لَقَدْ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بِسُؤالِ:} متعلقان بما قبلهما، و (سؤال) مضاف، و {نَعْجَتِكَ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: بسؤاله نعجتك، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلى نِعاجِهِ:} متعلقان بالمصدر، أو بمحذوف حال، التقدير: مضمومة إلى نعاجه. وقيل: التقدير: ليضمها إلى نعاجه، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال، (إن): حرف مشبه بالفعل. {كَثِيراً:} اسم (إنّ). {مِنَ الْخُلَطاءِ:} متعلقان ب: {كَثِيراً،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة له. {لَيَبْغِي:} اللام: هي المزحلقة. (يبغي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {بَعْضُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر (إنّ). والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير الغيبة العائد إلى أحد الخصمين، والرابط: الواو فقط. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مستثنى من: {بَعْضُهُمْ} .

ص: 132

وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَقَلِيلٌ:} الواو: واو الحال، (قليل): خبر مقدم. {ما:}

صفة. {بَعْضُهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. وقيل: {ما} بمعنى:

الذين، وتقديره: وقليل الذين هم، ولا وجه له ألبتة. والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة.

{وَظَنَّ:} الواو: حرف عطف. (ظن): فعل ماض. {داوُدُ:} فاعله. {أَنَّما:} كافة ومكفوفة. {فَتَنّاهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، و {أَنَّما فَتَنّاهُ:} في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (ظن). والجملة الفعلية هذه معطوفة على جمل محذوفة مقدرة، انظر الشرح، والكلام كله مستأنف لا محل له. {فَاسْتَغْفَرَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {داوُدُ}. {رَبَّهُ:}

مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَظَنَّ..} . إلخ. {وَخَرَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {داوُدُ} أيضا. والجملة معطوفة على ما قبلها. {راكِعاً:} حال. {وَأَنابَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {داوُدُ} أيضا، والمتعلق محذوف، تقديره: أناب إلى الله، والجملة الفعلية معطوفة أيضا على ما قبلها.

{فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}

الشرح: {فَغَفَرْنا لَهُ} أي: غفرنا لداود ذنبه، وخطيئته. {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى:} له قربة، ومكانة عند الله يوم القيامة. {وَحُسْنَ مَآبٍ:} حسن مرجع، ومنقلب، وهو الجنة. هذا؛ وقد ذكر الكثير من بكاء داود على خطيئته. وخذ من قوله ما يلي: إلهي إذا ذكرت خطيئتي؛ حزنت وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وإذا ذكرت رحمتك؛ فرحت، وعادت إلي روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك لمداواة علتي، وخطيئتي؛ كلهم دلوني عليك.

فأوحى الله إليه: يا داود! لو يعلم المدبرون عني تعداد انتظاري لهم، وشوقي إليهم، ورفقي بهم؛ لتركوا المعاصي، ولتقطعت أوصالهم لمحبتي، ولماتوا شوقا إليّ، يا داود! هذه إرادتي للمدبرين عني، فكيف تكون إرادتي للمقبلين عليّ، يا داود! بكاء التائبين أحب إليّ من صراخ العابدين، يا داود! أطعتنا، فأطعناك، وسألتنا، فأعطيناك، فإن عصيتنا؛ أمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك؛ قبلناك.

الإعراب: {فَغَفَرْنا:} الفاء: حرف استئناف. (غفرنا): فعل، وفاعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واللام

ص: 133

للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنَّ:}

الواو: واو الحال، (إن): حرف مشبه بالفعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) مقدم. {عِنْدَنا:} ظرف مكان متعلق بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَزُلْفى:}

اللام: لام ابتداء. (زلفى): اسم (إنّ) مؤخر منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط:

الواو، والضمير. (حسن): معطوف على: (زلفى)، وهو مضاف، و {مَآبٍ} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها.

{يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: إن ترافع إليك الخصمان، فكان لك في أحدهما قرابة، أو نحوها؛ فلا تشته في نفسك الحق له ليفلج على صاحبه، فإن فعلت؛ محوت اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي، ولا أهل كرامتي، فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة، أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة، أو صداقة، أو غيرهما.

روى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي زرعة، وكان قد قرأ الكتاب الأول: أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة، فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن، وفقهت فيه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قلت: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله، أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله جمع له النبوة، والخلافة، ثم توعده في كتابه، فقال تعالى:{يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً..} . إلخ.

{يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً:} استخلفناك على الملك في هذه الدنيا، أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. {فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ} أي: بحكم الله. {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى} أي: لا تمل مع ما تشتهي؛ إذا خالف أمر الله تعالى. {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: فيضلك، ويبعدك الهوى عن دين الله، وطريقه المستقيم، ونهجه القويم. {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: يحيدون عن الحق، ويزيغون عن الصراط المستقيم. {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} أي: في الآخرة.

{بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ:} بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن السبيل، أو بسبب ترك الإيمان بيوم الحساب. وقيل: بتركهم العمل لذلك اليوم. وقيل: بترك العدل في الحكم، والقضاء.

ص: 134

الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (داود): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بأداة النداء. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {جَعَلْناكَ خَلِيفَةً:} ماض، وفاعله، ومفعولاه. والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). والجملة الاسمية، والجملة الندائية جملتان ابتدائيتان، لا محلّ لهما. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان ب: {خَلِيفَةً،} أو بمحذوف صفة له. {فَاحْكُمْ:} الفاء: هي الفصيحة.

(احكم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أي:

ملتبسا {بِالْحَقِّ،} وجملة: {فَاحْكُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم. التقدير:

وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا فاحكم

إلخ، (لا تتبع): فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» . {الْهَوى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَيُضِلَّكَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية، والفاعل يعود إلى:{الْهَوى،} والكاف مفعول به؛ و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق. التقدير: لا يكن منك اتباع للهوى، فإضلال. هذا؛ وقيل:

الفعل معطوف على ما قبله، فهو مجزوم، وفتحت اللام لالتقاء الساكنين، وهو ضعيف. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما. و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها. {يَضِلُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما.

و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {شَدِيدٌ:} صفة: {عَذابٌ،} والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر وللنهي السابقين. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية.

{نَسُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {يَوْمَ:} مفعول به، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْحِسابِ} مضاف إليه، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب:{عَذابٌ} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو غير وجيه، انظر تقديره في الشرح، واعتبار (ما) موصولة ضعيف.

تنبيه: لقد ذكر بعض المفسرين حول هذه الآيات المتعلقة بداود عليه الصلاة والسلام قصة تحط من كرامة الأنبياء، وهذه القصة من القصص الإسرائيليات، وفحواها: أن داود علق امرأة جندي من جنوده، وأخذ يحتال على قتله حتى تم له ذلك، وتزوج امرأته. وهي كذب، وافتراء، وبالإضافة لما ذكرته فيما سبق أنقل لك ما كتبه الخازن-رحمه الله تعالى-في هذا الصدد، فخذه بحروفه:

ص: 135

اعلم: أن من اختصه الله تعالى بنبوته، وأكرمه برسالته، وشرفه على كثير من خلقه، وائتمنه على وحيه، وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس؛ لاستنكف أن يحدث به عنه؛ فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء، والصفوة الأمناء ذلك.

روى سعيد بن المسيب، والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-أنه قال:

(من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مئة وستين جلدة، وهو حد الفرية على الأنبياء). وقال القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب؛ الذين بدلوا، وغيروا، ونقله بعض المفسرين، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه الله في قصة داود {وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ} وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم، هذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود عليه السلام.

قال الإمام فخر الدين: حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته، وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه السلام هذا. وقال غيره:

إن الله أثنى على داود قبل هذه القصة، وبعدها، وذلك يدل على استحالة ما نقلوه من القصة، فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم، ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه؛ لاستهجنه العقلاء، ولقالوا: أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه في أثناء مدحك، والله منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.

فإن قلت: في الآية ما يدل على صدور الذنب منه، وهو قوله تعالى:{وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ} وقوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} وقوله: {وَأَنابَ} وقوله: {فَغَفَرْنا لَهُ} قلت: ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك، وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات، وأعلاها، فيطالبون بأكمل الأخلاق، والأوصاف، وأسناها، فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية، عاتبهم الله تعالى على ذلك، وغفره لهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

فإن قلت: فعلى هذا القول، والاحتمال، فما معنى الامتحان في الآية؟ قلت: ذهب المحققون من علماء التفسير، وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه السلام ما زاد على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأكفلنيها، فعاتبه الله تعالى على ذلك، ونبهه عليه، وأنكر عليه شغله في الدنيا.

وقيل: تمنى داود أن تكون امرأة أوريا له، فاتفق أن أوريا هلك في الحرب، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه، كما جزع على غيره من جنده، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت، فهي عظيمة عند الله تعالى. وقيل: إن أوريا قد خطب تلك المرأة، ووطن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود، فزوجت نفسها منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا،

ص: 136

فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها، وعنده تسع وتسعون امرأة، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة، ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها، فعوتب داود بسببين: أحدهما: خطبته على أخيه، والثاني:

إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وقيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا، والمرأة، وإنما هو بسبب الخصمين، وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر. وقيل:

هو قوله لأحد الخصمين: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ} فحكم على خصمه بكونه ظالما بمجرد الدعوى، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب؛ اشتغل داود بالاستغفار، والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

وينبغي أن تعلم: أن اليهود، والنصارى يعدون داود، وسليمان ملكين، وليسا بنبيّين. هذا؛ وقد عاش داود مئة عام، وقد دام ملكه أربعين سنة.

{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ (27)}

الشرح: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما:} من الخلق. {باطِلاً} أي: خلقا باطلا، لا لحكمة بالغة. أو: مبطلين عابثين، كقوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [16]:{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} وتقديره: ذوي باطل، أو عبثا، فوضع باطلا موضعه، أي:

ما خلقناهما، وما بينهما للعبث، واللعب، ولكن للحق المبين، وهو أنا خلقنا نفوسا، أودعناها العقل، ومنحناها التمكين، وأزحنا عللها، ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها عاقبة، وجزاء حسب أعمالهم، وانظر سورة (الدخان) رقم [38].

{ذلِكَ:} الإشارة إلى خلق السموات والأرض باطلا. {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا:} الظن بمعنى:

المظنون، أي: خلق السماء والأرض للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا، وإنما جعلوا ظانين: أنه خلقها للعبث، لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما لقوله تعالى في كثير من الآيات:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} . {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ} أي: بسبب ذلك الظن، فهو تهديد، ووعيد لهم. والمعنى: ويل لهم يوم معادهم، ونشورهم من النار المعدة لهم.

هذا؛ والباطل ضد الحق، والباطل بمعنى: الفاسد، وجاء هنا بمعنى: العبث، والبطلان؛ عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته، ونفعه. هذا؛ وبطل من باب: دخل، والبطل بفتحتين: الشجاع، والبطل بضم فسكون: الباطل والكذب، والبطالة: التعطل والتفرغ

ص: 137

من العمل. ويجمع باطل على أباطيل شذوذا، كما شذ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع في جمع: حديث، وعريض، وفظيع. هذا؛ ومبطل: اسم فاعل من أبطل الرباعي، وانظر شرح (الحق) في الآية رقم [84] الآتية.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل.

{السَّماءَ:} مفعول به. (الأرض): معطوف على ما قبله. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على {السَّماءَ وَالْأَرْضَ} . {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {باطِلاً:} يجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، التقدير: خلقا باطلا، أو هو حال من فاعل:{خَلَقْنَا} أي: مبطلين، أو ذوي باطل، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله، أي: للباطل، وهو العبث، وجملة:{وَما خَلَقْنَا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {ظَنُّ:} خبره، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَوَيْلٌ:} الفاء: حرف عطف. (ويل): مبتدأ. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {مِنَ النّارِ:}

متعلقان بمحذوف خبر ثان، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ (28)}

الشرح: قيل: إن كفار قريش قالوا للمؤمنين: إنما نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون.

وهذا على فرض وتقدير الآخرة في زعمهم؛ إن كان هناك آخرة، بل إنهم يرون: أنهم يكونون في الآخرة على فرض وجودها أسعد حظا، وأوفر نصيبا من الفقراء المؤمنين، وهذا على زعمهم أن السعيد في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة، وهذا الادعاء رده الله على العاصي بن وائل، وأمثاله في الآيات رقم [77 - 79] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا} هذا؛ والمراد: بالذين آمنوا، والمتقين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالمفسدين، والفجار: كفار قريش، وهو يشمل كل مؤمن، وفاجر، ومفسد إلى يوم القيامة؛ لأن خصوص السبب لا يمنع التعميم، كما قررته مرارا، وتكرارا. هذا؛ ولا تنس: الاحتراس، وهو ذكر العمل الصالح مقرونا بالإيمان، وقد نبهت عليه مرارا.

ص: 138

ولا تنس: المقابلة بين المؤمنين، والمفسدين، وبين المتقين، والفجار، وهذه المقابلة من ألطف أنواع البديع، وبعضهم يسميها مطابقة.

ومعنى الآيتين هنا: النفي، والإنكار؛ أي: لا نفعل، ولا نسوي بين المؤمنين، والمفسدين، ولا بين المتقين، والفاجرين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها الفاجر. وتدل العقول السليمة، والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد، وجزاء، فإنا نرى الظالم الباغي في هذه الدنيا يزداد ماله، وولده، ونعيمه، ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بد من حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء، وهذه المواساة. انتهى. مختصر ابن كثير، ومثل هاتين الآيتين في الإنكار على الكافرين الزاعمين التسوية بين الصالح والطالح، والنافع، والضار، والمحسن، والمسيء قوله تعالى في سورة الجاثية:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} وقوله تعالى في سورة (ن): {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى: «بل» ؛ التي هي للإضراب الانتقالي. {نَجْعَلُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {كَالْمُفْسِدِينَ:} الكاف: اسم بمعنى: مثل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به ثان، والكاف مضاف، و (المفسدين) مضاف إليه، وهذا أولى من اعتبارهما جارا ومجرورا، والجملة الفعلية:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها.

{كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)}

الشرح: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ} أي: هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك يا محمد، عظيم جليل، كثير الخيرات، والمنافع الدينية، والدنيوية. {لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ} أي: أنزلناه؛ ليتدبروا آياته، ويتفكروا بما فيها من الأسرار العجيبة، والحكم الجليلة. {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} أي: وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة.

قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: والله ما تدبّره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا؛ وقد أسقطه والله كله! ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق، ولا عمل! رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري.

هذا؛ وقال الزمخشري في كشافه: وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة، والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلو؛

ص: 139

لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور، لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. انتهى. هذا؛ وقد استدل بهذه الآية من يجيز التفسير بالرأي، والاجتهاد. قالوا:

والتدبر، والتذكر لا يكون إلا بالغوص عن أسرار القرآن، والاجتهاد في فهم معانيه، فهل يعقل أن يكون تأويل ما لم يستأثر الله بعلمه محظورا على العلماء مع أنه طريق العلم، وسبيل المعرفة؟. انتهى. علوم القرآن للصابوني.

هذا؛ و {أُولُوا} بمعنى: أصحاب، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده: ذو المضاف، إن كان مرفوعا، و: ذا المضاف إن كان منصوبا، و: ذي المضاف إن كان مجرورا، والألباب: العقول، واحده: لبّ، وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك لأحد وجهين:

إما لبنائه من: لبّ بالمكان: أقام به، أو هو من اللباب، وهو الخالص من كل شيء. هذا؛ واللبيب: العاقل الفاهم، والجمع: ألباء، والأنثى: لبيبة وجمعها: لبيبات، ولبائب، واللب:

خالص كل شيء. هذا؛ والملاحظ: أنه لم يرد في القرآن الكريم منه صيغة المفرد، وإنما يستعمل مرادفها مكانها، وهو القلب، وذلك في نحو قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} رقم [37] من سورة (ق)، وذلك؛ لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم تحسن اللفظة؛ أسقطها من نظمه ألبتة، وقد جمع:«لبّ» على: «ألبّ» ، كما جمع: بؤس على: أبؤس، و: نعم على: أنعم. قال أبو طالب: [الرجز]

قلبي إليه مشرف الألبّ

وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر، قال الكميت:[الطويل]

إليكم ذوي آل النبيّ تطلّعت

نوازع من قلبي ظماء وألبب

الإعراب: {كِتابٌ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هذا كتاب. {أَنْزَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{كِتابٌ} .

{مُبارَكٌ:} خبر ثان للمبتدأ المقدر، أو هو خبر لمبتدأ محذوف آخر، ولا يجوز أن يكون نعتا ثانيا ل:{كِتابٌ؛} لأنه لا يتقدم عند الجمهور غير الصريح على الصريح، ومن يرى ذلك استدل بظاهرها، وهو تعلق:{لِيَدَّبَّرُوا} ب: {أَنْزَلْناهُ،} وقرئ: «(مباركا)» بالنصب على الحال اللازمة؛ لأن البركة لا تفارقه. انتهى. جمل نقلا عن السمين. والجملة الاسمية: «هذا كتاب

» إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لِيَدَّبَّرُوا:} فعل مضارع منصوب، ب:«أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان

ص: 140

بالفعل: {أَنْزَلْناهُ} . {آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَلِيَتَذَكَّرَ:} إعرابه مثل سابقه، وبعد التأويل فالجار والمجرور معطوفان على ما قبلهما. {أُولُوا:} فاعله مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولُوا} مضاف، و {الْأَلْبابِ} مضاف إليه.

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (30)}

الشرح: {وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ:} ابنه. قال الجمل: أي: من المرأة التي أخذها من أوريا، ولم يقل به غيره. وقد خصه الله بالذكر مع كونه كان له أولاد كثيرون؛ لأنه كان تحته مئة امرأة حرائر ما عدا السراري؛ لأنه هو الذي ورث النبوة، كما قال تعالى في سورة (النمل) رقم [16]:

{وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ..} . إلخ، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [100] من سورة (الصافات) بشأن لفظ الهبة. {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ} أي: نعم العبد سليمان، فإنه كان كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإنابة، وفيه ثناء على سليمان كبير.

الإعراب: {وَوَهَبْنا:} الواو: حرف عطف. (وهبنا): فعل، وفاعل. {لِداوُدَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {سُلَيْمانَ:} مفعول به، وجملة:{وَوَهَبْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {نِعْمَ:} فعل ماض جامد لإنشاء المدح. {الْعَبْدُ:} فاعله، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: هو {سُلَيْمانَ،} والجملة الفعلية مستأنفة، ولا يجوز اعتبارها حالا؛ لأنها إنشائية، وبعضهم يجيز اعتبارها حالا من:{سُلَيْمانَ} . {إِنَّهُ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {أَوّابٌ:} خبرها، والجملة الاسمية تعليل للمدح، لا محل لها.

{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصّافِناتُ الْجِيادُ (31)}

الشرح: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ:} على سليمان. {بِالْعَشِيِّ:} هو الوقت مساء. وقال الأزهري:

(العشي) ما بين زوال الشمس، وغروبها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [18] من سورة (الروم).

{الصَّافّاتِ:} فيه وجهان: أحدهما: أن صفونها قيامها. قال القتبي، والفراء: الصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل، أو غيرها. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من سرّه أن يقوم له الرّجال صفونا، فليتبوّأ مقعده من النّار» . أي: يديمون له القيام. حكاه قطرب أيضا، وأنشد قول النابغة:[الطويل]

لنا قبّة مضروبة بفنائها

عتاق المهارى والجياد الصّوافن

ص: 141

وهذا قول قتادة أيضا. الثاني: أن صفونها: رفع إحدى اليدين، أو الرجلين-وهو أولى- على طرف الحافر، حتى يقوم على ثلاث، كما قال الشاعر، وهو الشاهد رقم (600) من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» : [الكامل]

ألف الصّفون فما يزال كأنّه

ممّا يقوم على الثّلاث كسيرا

{الْجِيادُ} أي: الخيل، جمع جواد للفرس، وهو يطلق على الذكر، والأنثى، كما يقال للإنسان: جواد: إذا كان كثير العطية غزيرها، ويقال: قوم أجواد، وخيل جياد. وقيل: إنها الطويلة الأعناق، مأخوذ من الجيد، وهو العنق؛ لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فراهتها. وقال الجلال: جمع جواد، وهو السابق. المعنى: أنها إذا استوقفت سكنت، وإن ركضت؛ سبقت.

هذا؛ واختلف في هذه الخيل التي عرضت عليه، فقال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق، ونصيبين، فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقال الحسن: بلغني: أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة.

وقاله الضحّاك؛ وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة. وقال ابن زيد:

أخرج الشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر، وكانت لها أجنحة. وقيل: كانت مئة فرس. وفي الخبر عن إبراهيم التيمي: أنها كانت عشرين ألفا. فالله أعلم. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره:

اذكر، أو هو مفعول به لهذا المقدر، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون ظرفا ل: {أَوّابٌ} . وأن يكون العامل فيه {نِعْمَ} . {عُرِضَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بِالْعَشِيِّ:} متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من العرض المفهوم من {عُرِضَ}. {الصّافِناتُ:} نائب فاعل، وهو صفة لموصوف محذوف. {الْجِيادُ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف. وجملة: {عُرِضَ عَلَيْهِ} في محل جر بإضافة (إذ) إليها.

{فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32)}

الشرح: {فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي..} . إلخ: المعنى: آثرت حب الخير. وفسر بالخيل التي رأيتها في الآية السابقة، فقد روي: أنه قعد يوما بعدما صلى الظهر على كرسيه، واستعرضها، فلم تزل تعرض عليه؛ حتى غربت الشمس، وغفل عن صلاة العصر، وكانت فرضا عليه، فاغتم لما فاته، فاستردها، وعقرها تقربا لله تعالى، فبقي مئة منها، فما بقي في أيدي الناس من الجياد، فمن نسلها. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيرا منها، وهي الريح تجري بأمره، ومن المؤكد: أنه لم يتركها عمدا، بل نسيانا، كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر،

ص: 142

حتى صلاها بعد الغروب، وذلك ثابت في الصحيحين عن جابر-رضي الله عنهما-قال: جاء عمر-رضي الله عنه-يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، ويقول:

يا رسول الله! والله ما كدت أصلي العصر؛ حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وأنا والله ما صليتها!» . قال: فقمنا إلى بطحان، فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

هذا؛ والتعبير بالخير عن الخيل؛ لأنها معقود بنواصيها الخير: الأجر، والغنيمة. وقيل:

حب الخير حب المال، ومنه الخيل التي عرضت عليه، والمراد: ب: {ذِكْرِ رَبِّي} الصلاة التي مر ذكرها. وقيل: كان له ورد خاص. {حَتّى تَوارَتْ} أي: غابت الشمس. {بِالْحِجابِ:} المراد به الليل، سمي بذلك؛ لأنه يستر ما فيه، وما قيل: إنه جبل لم يثبت. هذا؛ والضمير في قوله تعالى: {حَتّى تَوارَتْ} يعود إلى غير مذكور، فإن المراد: الشمس، وهو مفهوم يدل عليه المقام، والحال المشاهدة، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (هود):{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} إذ المراد: السفينة، وقوله تعالى في سورة (القيامة):{كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ} أي: بلغت الروح التراقي، وقوله تعالى في سورة (الواقعة):{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} أي: بلغت الروح الحلقوم، ومثل هذه الآيات قول سوار بن المضرب السعدي، وهو الشاهد رقم [191] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]

إذا كان لا يرضيك حتّى تردّني

إلى قطريّ لا إخالك راضيا

وأيضا قول حاتم الطائي: [الطويل]

لعمرك ما يغني الثّراء عن امرئ

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

ومثل الآية الكريمة في إضمار الشمس على غير مذكور قول لبيد-رضي الله عنه-في معلقته رقم [65]: [الكامل]

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

الإعراب: {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {سُلَيْمانَ}. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{أَحْبَبْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.

{حُبَّ:} مفعول به على اعتبار: {أَحْبَبْتُ} بمعنى: آثرت، و «عن» بمعنى:«على» ، أو هو مفعول مطلق على أنه مصدر محذوف الزوائد، والناصب له {أَحْبَبْتُ،} أو هو مصدر تشبيهي، التقدير:

أحببت حبا مثل حب الخير، أو هو مفعول لأجله، على اعتبار {أَحْبَبْتُ} من أحب البعير: إذ

ص: 143

أسقط، وبرك من الإعياء، فيكون المعنى: قعدت عن ذكر ربي لأجل حبي الخير. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وقد تصرفت فيه تصرفا كبيرا. و {حُبَّ} مضاف، و {الْخَيْرِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله وفاعله محذوف، التقدير: حبي الخير. {عَنْ ذِكْرِ:} متعلقان بالمصدر، أو بالفعل {أَحْبَبْتُ،} و {ذِكْرِ} مضاف، و {رَبِّي} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، على معنى: عن أن أذكر ربي. فيكون الفاعل محذوفا. أو من إضافة المصدر لفاعله على معنى: عن أن يذكرني ربي. فيكون المفعول محذوفا. {حَتّى:} حرف غاية وجر، بعدها:«أن» مقدرة.

{تَوارَتْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الشمس المفهومة من المقام، كما رأيت في الشرح، والتاء للتأنيث. {بِالْحِجابِ:} متعلقان بما قبلهما. و «أن» المقدرة بعد: {حَتّى} والفعل:

{تَوارَتْ} في تأويل مصدر في محل جر ب: {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل، أو بالمصدر. هذا؛ وبعضهم، يعتبر {حَتّى} في مثل هذا الموضع حرف ابتداء، والجملة بعدها مستأنفة، والمعنى على الأول أقوى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم

{رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)}

الشرح: {رُدُّوها عَلَيَّ} أي: ردوا الخيل علي. {فَطَفِقَ} أي: شرع. {مَسْحاً} أي: يمسح مسحا. {بِالسُّوقِ:} جمع ساق، وهو ما بين الكعب، والركبة من الإنسان، والحيوان، و «الساق» مؤنثة، وتجمع على: سوق، وسيقان، وأسوق، وساق الشجرة: جذعها. {وَالْأَعْناقِ} أي:

أعناق الخيل جمع: عنق، أي: كان يضرب سوق الخيل، وأعناقها بالسيف. هذا قول ابن عباس، وأكثر المفسرين، وكان ذلك مباحا له؛ لأن نبي الله سليمان لم يكن ليقدم على محرم، ولم يكن ليتوب عن ذنب-وهو ترك الصلاة-بذنب آخر، وهو عقر الخيل. هذا؛ وقد كنى عن العقر، والذبح بالمسح، وهي كناية بليغة.

وقال محمد بن إسحاق: لم يعنفه الله على عقره الخيل؛ إذ كان ذلك أسفا على ما فاته من فريضة ربه، عز وجل. وقيل: إنه ذبحها، وتصدق بلحومها. وقيل: معناه: أنه حبسها في سبيل الله تعالى، وكوى سوقها، وأعناقها بكيّ الصدقة. وحكي عن علي-رضي الله عنه: أنه قال: معنى {رُدُّوها عَلَيَّ} يقول بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها عليّ، فردوها عليه، فصلى العصر في وقتها.

قال الإمام فخر الدين: بل التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه في ديننا كذلك، ثم إن سليمان-عليه الصلاة والسلام-احتاج إلى غزو، فجلس، وأمر بإحضار الخيل، وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا، ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله، وتقوية دينه، وهو المراد بقوله:{عَنْ ذِكْرِ رَبِّي،} ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعدائها، وإجرائها حتى توارت بالحجاب، أي: غابت عن بصره، ثم

ص: 144

أمر برد الخيل إليه، وهو قوله:{رُدُّوها عَلَيَّ} فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها، وأعناقها.

والغرض من ذلك المسح أمور:

الأول: تشريفا لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو. الثاني: أنه أراد أن يظهر: أنه في ضبط السياسة، والمملكة يبلغ أن يباشر الأمور بنفسه. الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل، وأمراضها، وعيوبها من غيره، فكان يمسح سوقها، وأعناقها حتى يعلم: هل فيها ما يدل على المرض؟ فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن، ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات، والمحظورات، والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة؟!

فإن قيل: فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه، فما قولك فيه؟ فنقول: لنا ههنا مقامان:

المقام الأول: أن يدّعى: أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه؛ التي ذكروها، وقد ظهر، والحمد لله أن الأمر كما ذكرنا ظهورا، لا يرتاب عاقل فيه. المقام الثاني: أن يقال: هب أن لفظ الآية يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وإن الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات. انتهى. خازن.

هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: ومن قال: إن الهاء في {رُدُّوها} ترجع للشمس، فذلك من معجزاته؛ أي: سليمان، وقد اتفق مثل ذلك لنبينا، وحبيبنا، وشفيعنا صلى الله عليه وسلم. خرّج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس-رضي الله عنها-من طريقين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه، ورأسه في حجر عليّ-رضي الله عنه-فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أصليت العصر يا علي؟» قال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إنّه كان في طاعتك، وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس» . قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر. قال الطحاوي: وهذان الحديثان ثابتان، ورواتهما ثقات.

قال القرطبي: وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث، فقال: وغلو الرافضة في حب علي-رضي الله عنه-حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، منها: أن الشمس غابت، ففاتت عليا عليه السلام العصر، فردّت له الشمس. وهذا من حيث النقل محال، ومن حيث المعنى؛ فإن الوقت قد فات، وعودها طلوع متجدد لا يردّ الوقت. انتهى. بتصرف مني.

وأنا أقول من جانبي: إن هذا الحديث مردود من جهتين: الأولى: إن أسماء بنت عميس رضي الله عنها-لم تكن عند علي، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت عند أبي بكر، فإنه هو الذي تزوجها بعد زوجها الأول جعفر بن أبي طالب-رضي الله عنه. وولدت منه محمد بن أبي بكر، ثم بعد وفاة أبي بكر تزوجها علي. والجهة الثانية لم يكن معقولا أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ولا يصليها علي، ثم هو صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر عليّ، وهل كان علي-رضي الله عنه-يتخلف عن صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم؟!.

ص: 145

الإعراب: {رُدُّوها:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف. التقدير: قال: {رُدُّوها عَلَيَّ} فأضمر، وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟ قال: ردوها علي

إلخ.

{عَلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فَطَفِقَ:} الفاء: حرف عطف. (طفق): فعل ماض ناقص من أفعال الشروع، واسمه يعود إلى (سليمان). {مَسْحاً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: يمسح مسحا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(طفق)، وجملة:«طفق يمسح مسحا» معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فردوها عليه، {فَطَفِقَ..}. إلخ. {بِالسُّوقِ:}

متعلقان بالفعل المحذوف. {وَالْأَعْناقِ:} معطوف على ما قبله.

{وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)}

الشرح: لقد نقل كثير من المفسرين في فتنة سليمان-عليه الصلاة والسلام-من الإسرائيليات مثل ما نقلوه من فتنة أبيه داود من الافتراآت، والأباطيل، وقد قال أبو حيان -رحمه الله تعالى-في تفسيره: نقل المفسرون في هذه الفتنة، وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وهي إما من وضع اليهود، أو الزنادقة، ولم يبين الله الفتنة، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان. إلى أن قال: لم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوّه به، ويستحيل عقلا وجود ما ذكروه، كتمثل الشيطان بصورة نبي، حتى يلتبس أمره على الناس، ويعتقدوا: أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق برسالة نبي، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية. نسأل الله سلامة أذهاننا، وعقولنا منها. انتهى. حاشية القرطبي، والتعليق عليها.

ومن الغريب: أن الجلال على جلالة قدره واختصار تفسيره قال بهذا، وقال: وكان ملكه في خاتمه

إلخ، قال سليمان الجمل معلقا عليه، ومجاريا له: أي: كان مرتبا على لبسه؛ فإذا لبسه سخرت له الجن، والإنس، والرياح، وغيرها، وإذا نزعه؛ زال عنه الملك، وكان خاتمه من الجنة نزل به آدم، كما نزل بعصا موسى، والحجر الأسود المسمى باليمين، ويعود البخور، وبأوراق التين، ساترا عورته بها، وقد نظم الخمسة بعضهم في قوله:[الطويل]

وآدم معه أنزل العود والعصا

لموسى من الآس النّبات المكرّم

وأوراق تين واليمين بمكّة

وختم سليمان النبيّ المعظّم

هذا؛ وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: والذي ذهب إليه المحققون: أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال سليمان: لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة، كلّهنّ تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، فقال

ص: 146

له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهنّ جميعا، فلم تحمل منهنّ إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل، وايم الله الّذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون». وفي رواية: لأطوفن بمئة امرأة. فأجمعون توكيد لواو الجماعة، وبالنصب توكيد لفرسانا.

قال العلماء: والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وهي عقوبته، ومحنته؛ لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص، وغلب عليه من التمني. وقيل: نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله، ومراده فيه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [24] من سورة (الكهف) بشأن هذا الاستثناء. وقيل: إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه: أنه ولد له ولد، فاجتمعت الشياطين، وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء، فسبيلنا أن نقتل ولده، أو نخبله، فعلم بذلك سليمان-عليه السلام-فأمر السحاب، فحمله، فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين، فبينما هو مشتغل في بعض مهماته؛ إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه، فعاتبه الله على خوفه من الشياطين، ولم يتوكل عليه في ذلك، فتنبه لخطئه، فاستغفر ربه، وأناب؛ أي:

رجع إليه بالتوبة، والاستغفار. انتهى. خازن.

هذا؛ وقد نقل القرطبي عن ابن عباس في وصف الكرسي الشيء الكثير، وهو مما يدهش العقول، ويحير الألباب، وقال في آخر وصفه: فلما توفي سليمان بعث بختنصّر، فأخذ الكرسي، فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد إليه، ولم يكن له علم كيف يصعد إليه، فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا، ومات بختنصر، وحمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره، ولعله رفع. انتهى. والله أعلم، وأجل، وأكرم.

هذا؛ وقال محمد علي الصابوني في كتابه (صفوة التفاسير): واختار الإمام الفخر: أن الفتنة المذكورة في الآية الكريمة يقصد بها فتنته في جسده؛ حيث إن سليمان ابتلي بمرض شديد، نحل منه، وضعف، حتى صار لشدة المرض كأنه جسد ملقى على كرسي. قال: والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح. {ثُمَّ أَنابَ} أي: رجع إلى حالة الصحة. ولم أره لغيره، وعليه فالفعل يتعدى إلى مفعولين، حذف الأول، و {جَسَداً} هو المفعول الثاني، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من {جَسَداً} كان صفة له

إلخ، والتقدير: جسدا ملقى، أو مطروحا على كرسيه.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فَتَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. وهو يتضمن عطف قصة سليمان على

ص: 147

قصة أبيه داود، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. وانظر إعراب:{وَلَقَدْ} في سورة (يس) رقم [62]. {سُلَيْمانَ:} مفعول به. {وَأَلْقَيْنا:} الواو: حرف عطف. (ألقينا): فعل، وفاعل. {عَلى كُرْسِيِّهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. والهاء في محل جر بالإضافة.

{جَسَداً:} مفعول به. وانظر الشرح لاعتبار الفعل متعديا لمفعولين، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَنابَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{سُلَيْمانَ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (35)}

الشرح: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} أي: ذنبي. {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي:} يقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا، مع ذم الله تعالى لها، وبغضه لها، وحقارتها لديه؟ فالجواب: أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى، وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه، وحاشا سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا؛ لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح عليه الصلاة والسلام دمارها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك. وقيل: سأل الله ذلك ليكون علما، وآية لنبوته، ومعجزة دالة على رسالته، ودلالة على قبول توبته؛ حيث أجاب الله تعالى دعاءه، وأحب أن يخص بخاصية، كما خص داود بإلانة الحديد، وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، فسأله شيئا يختص به، كما روي في الصحيحين من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ عفريتا من الجنّ تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتّى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان {رَبِّ اغْفِرْ لِي..}. إلخ فرددته خاسئا» .

وروى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك» . ثم قال: «ألعنك بلعنة الله» . (ثلاثا) وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة؛ قلنا: يا رسول الله! سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك! قال صلى الله عليه وسلم:«إنّ عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك (ثلاث مرّات) ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامّة، فلم يستأخر (ثلاث مرّات) ثمّ أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة» . انتهى. مختصر ابن كثير.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {سُلَيْمانَ}. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة. وانظر الآية

ص: 148

رقم [100] من سورة (الصافات). {اِغْفِرْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . ومفعوله محذوف. {لِي:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول. {وَهَبْ:} الواو: حرف عطف. (هب): فعل دعاء. وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» . {لِي:} متعلقان بما قبلهما. {مُلْكاً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {لا:} نافية. {يَنْبَغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود ل:{مُلْكاً،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة له.

{لِأَحَدٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ بَعْدِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (أحد)، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد لاسم (إنّ) على المحل، أو هو ضمير فصل لا محل له. وعليهما ف:{الْوَهّابُ:}

خبر (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت: {أَنْتَ} مبتدأ، و {الْوَهّابُ} خبرا له، فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للدعاء، لا محل لها. هذا؛ وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36)}

الشرح: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً} أي: لينة مع قوتها، وشدتها؛ حتى لا تضر أحدا، وتحمله بعسكره، وجنوده، وموكبه، وكان موكبه فيما روي فرسخا في فرسخ، مئة درجة بعضها فوق بعض، في كل درجة صنف من المخلوقات، وهو في أعلى درجة مع جواريه، وحشمه، وخدمه، صلوات الله، وسلامه عليه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [12] و [13] من سورة (سبأ).

{حَيْثُ أَصابَ:} حيث قصد، وأراد. هذا معناه هنا، قال الشاعر:[المتقارب]

أصاب الكلام فلم يستطع

فأخطا الجواب لدى المفصل

وهو يحتمل معاني أخر، تقول: أصاب السهم، يصيب: لم يخطئ هدفه. وأصاب الرجل في قوله، أو في رأيه: أتى بالصواب. وأصاب فلانا البلاء، يصيبه: وقع عليه. وأصابهم المطر:

نزل عليهم. قال تعالى في سورة (الروم) رقم [48]: {فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وانظر شرح الريح في الآية رقم [16] من سورة (فصّلت).

الإعراب: {فَسَخَّرْنا:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: عاطفة على محذوف، التقدير:

فاستجبنا له دعاءه، وأعدنا له ملكه السليب، وسخرنا. وهو ضعيف كما رأيت في الشرح.

(سخرنا): فعل، وفاعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان به. {الرِّيحَ:} مفعول به، والجملة

ص: 149

الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر، تقديره:«هي» ، يعود إلى:{الرِّيحَ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من: {الرِّيحَ،} أو في محل نصب صفة لها على حد قوله تعالى في الآية رقم [37] من سورة (يس): {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} . {بِأَمْرِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {رُخاءً:} حال من: {الرِّيحَ} .

{حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب متعلق بالفعل: {تَجْرِي} . {أَصابَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {سُلَيْمانَ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: {حَيْثُ} إليها.

{وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)}

الشرح: {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ} أي: وسخرنا له الشياطين، وما سخرت لأحد قبله، منهم من يبني له ما يشاء من محاريب، وتماثيل، كما رأيت في الآية رقم [13] من سورة (سبأ).

ومنهم من يغوص في أعماق البحار؛ ليستخرج له اللآلئ الثمينة، وهو أول من استخرج له اللؤلؤ من البحر، كما قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [82]:{وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ..} .

إلخ. {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} أي: وسخرنا له مردة الشياطين حتى قرنهم في سلاسل الحديد، وقيود الحديد. قال عمرو بن كلثوم التغلبي من معلقته رقم [77]:[الوافر]

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

ومعنى {مُقَرَّنِينَ:} مشدودين في الأصفاد، وهي الأغلال، والقيود، واحدها: صفد، وصفد، ويقال: صفدته صفدا، أي: قيدته، والاسم الصّفد، فإذا أردت التكثير؛ قلت: صفّدته تصفيدا. وأصفدته إصفادا: أعطيته. وقيل: صفدته، وأصفدته جاريان في القيد، والإعطاء جميعا، فالصفد: العطاء؛ لأنه يقيّد ويعبد، قال أبو الطيب:[الطويل]

وقيّدت نفسي في ذراك محبّة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا

قال يحيى بن سلاّم: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا؛ أطلقهم، ولم يسخرهم.

أو يقيد من تمرد، وعصى، وامتنع من العمل، وأبى. أو قد أساء في صنيعه، واعتدى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالشَّياطِينَ:} الواو: حرف عطف. (الشياطين): معطوف على {الرِّيحَ،} أو هو مفعول به لفعل محذوف. التقدير: وسخرنا له الشياطين، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {كُلَّ:} بدل من الشياطين بدل بعض من كل، و {كُلَّ} مضاف، و {بَنّاءٍ} مضاف إليه. {وَغَوّاصٍ:} معطوف على ما قبله. (آخرين): معطوف على {كُلَّ،} فهو

ص: 150

مثله بدل منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مُقَرَّنِينَ:} صفة لما قبله منصوب مثله. وفيه، وفي سابقه ضمائر مستترة؛ لأن الثلاثة الأول اسم فاعل، وهذا اسم مفعول. {فِي الْأَصْفادِ:} متعلقان بما قبلهما.

{هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)}

الشرح: {هذا عَطاؤُنا} أي: هذا الذي أعطيناك من الملك والبسطة، والتسلط على ما لم يتسلط عليه غيرك عطاؤنا. {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ:} أعط من شئت، أو امنع من شئت، لا حساب عليك. قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان عليه السلام، فإن الله تعالى يقول:{هذا عَطاؤُنا..} . إلخ. وقيل: الإشارة إلى تسخير الشياطين. والمراد: بالمن والإمساك: إطلاقهم، أو إبقاؤهم في القيد. وقال قتادة: الإشارة إلى ما أعطيه من القوة، والجماع، وعلى هذا {فَامْنُنْ} من المنيّ، هذا قول مضروب به عرض الحائط، والنقل عن ابن عباس مكذوب عليه. قال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: ولعله لم يصح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك.

{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى:} له قربة في الدنيا، ومكانة عند الله يوم القيامة. {وَحُسْنَ مَآبٍ:} حسن مرجع ومنقلب وهو الجنة. وانظر الآية رقم [25]. ولا تنس: المطابقة، والمقابلة بين: امنن، وأمسك، وهي من المحسنات البديعية.

الإعراب: {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {عَطاؤُنا:} خبره. و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقلنا له هذا عطاؤنا.

{فَامْنُنْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (امنن): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَوْ:} حرف عطف. {أَمْسِكْ:} فعل أمر. وفاعله مستتر تقديره: «أنت» .

ومتعلق الفعلين محذوف. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير:

وإذا كان ذلك حاصلا لك؛ فامنن، أو أمسك. {بِغَيْرِ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما متعلقان ب: {عَطاؤُنا} أي: أعطيناك بغير حساب ولا تقدير. وهذا دلالة على كثرة الإعطاء. الثاني:

أنهما متعلقان بمحذوف حال من: {عَطاؤُنا} أي: في حال كونه غير محاسب عليه؛ لأنه كثير يعسر على الحساب ضبطه. الثالث: أنه متعلق ب: (امنن) أو {أَمْسِكْ،} ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من فاعلهما؛ أي: حال كونك غير محاسب عليه. انتهى. جمل نقلا عن السمين. {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} انظر الآية رقم [25] ففيها الكفاية. والجملة الاسمية هنا في محل نصب حال من (نا) في (سخرنا)، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 151