المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الزّخرف {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الزخرف)، وهي مكية - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الزّخرف {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الزخرف)، وهي مكية

‌سورة الزّخرف

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الزخرف)، وهي مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا..} . إلخ رقم [45] وهي تسع وثمانون آية، وألف وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمئة حرف. انتهى. خازن، وسميت سورة (الزخرف) لما فيها من التمثيل الرائع لمتاع الدنيا الزائل، وبريقها الخادع بالزخرف اللامع، الذي ينخدع به الكثيرون، مع أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولهذا يعطيها الله للأبرار والفجار، وينالها الأخيار، والأشرار. أمّا الآخرة فلا يمنحها الله إلاّ لعباده المتقين، فالدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء. انتهى. صفوة التفاسير.

هذا؛ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وإنّ الله عز وجل يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلاّ لمن أحبّ، فمن أعطاه الدّين؛ فقد أحبّه» . من حديث ابن مسعود-رضي الله عنه.

بسم الله الرحمن الرحيم

{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2)}

الشرح: {حم:} انظر أول سورة (غافر). {وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} أي: المبيّن الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والنافع من الضار، فأقسم الله بالكتاب، وهو القرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلال، وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة. وقيل: معنى {الْمُبِينِ} الواضح للمتدبرين.

الإعراب: {حم:} انظر سورة (غافر) لإعرابه، وأضيف هنا: أنّه قيل: {حم:} قسم.

{وَالْكِتابِ الْمُبِينِ:} قسم ثان، ولله أن يقسم بما شاء، والجواب:{إِنّا جَعَلْناهُ} . وقال ابن الأنباري: من جعل جواب {وَالْكِتابِ} {حم} -كما تقول: نزل والله، وجب والله-وقف على:{وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} . ومن جعل جواب القسم: {إِنّا جَعَلْناهُ} لم يقف على: {وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} . انتهى. قرطبي.

وقال البيضاوي: أقسم بالقرآن على أنّه جعله قرآنا عربيا، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم، والمقسم عليه، ولعلّ إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وبالقرآن من حيث إنّه معجز عظيم، مبيّن طرق الهدى، وما يحتاج إليه في الديانة، أو بيّن للعرب يدلّ على أنّه تعالى صبّره كذلك. انتهى. بتصرف.

ص: 563

{إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}

الشرح: هذه الآية مذكورة في سورة (يوسف) رقم [2] بحروفها مع إبدال {جَعَلْناهُ} هنا بأنزلناه هناك. هذا؛ و (قرآن) مشتق من: قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طرق الرشاد. وهو في اللغة مصدر بمعنى: الجمع، يقال: قرأت الشيء قرآنا: إذا جمعته. وبمعنى: القراءة، يقال: قرأت الكتاب قراءة، وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدفتين، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة (الناس). وهذا التعريف متفق عليه بين العلماء، والأصوليين، أنزله الله تبارك وتعالى ليكون دستورا للأمة، وهداية للخلق، وليكون آية على صدق الرسول، وبرهانا ساطعا على نبوته، ورسالته، وحجة قائمة إلى يوم الدين، تشهد بأنه تنزيل الحكيم الحميد، بل هو المعجزة الخالدة؛ التي تتحدى الأجيال والأمم على كرّ الأزمان، ومرّ الدهور، ولله درّ شوقي إذ يقول:[البسيط]

جاء النبيون بالآيات فانصرمت

وجئتنا بكتاب غير منصرم

آياته كلما طال المدى جدد

يزينهنّ جمال العتق والقدم

وللقرآن أسماء عديدة كلها تدل على رفعة شأنه، وعلو مكانته، وعلى أنه أشرف كتاب سماوي على الإطلاق، فيسمى: القرآن، والفرقان، والتنزيل، والذكر، والكتاب

إلخ. كما وصفه الله تبارك وتعالى بأوصاف جليلة عديدة، منها: نور، وهدى، ورحمة، وشفاء، وموعظة، وعزيز، ومبارك، وبشير، ونذير إلى غير ذلك من الأوصاف التي تشعر بعظمته، وقدسيته. ويحرم على المحدث حدثا أكبر قراءته وحمله، ومسه، وعلى المحدث حدثا أصغر حمله، ومسه، ولا يمنع من قراءته عن ظهر قلب. قال تعالى:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} .

هذا؛ وقال تعالى: {إِنّا جَعَلْناهُ} .. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: بلغتكم يا معشر قريش لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه، فعلى هذا يكون خاصا للعرب دون العجم. قاله ابن عيسى.

وقال ابن زيد: المعنى: لعلكم تتفكرون، فعلى هذا يكون خطابا عاما للعرب، والعجم. ويؤخذ من هذه الآية أنّه يجوز إطلاق اسم القرآن على بعضه؛ لأنّ سورة (الزخرف) وسورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام بعض القرآن، ولأنه اسم جنس يقع على الكل، والبعض. واختلف: هل يمكن أن يقال: في القرآن شيء بغير العربية، فأنكر أبو عبيدة على من يقول ذلك أشد النكير، وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة-رضي الله عنهم-أنّ فيه من

ص: 564

غير العربية، مثل:(سجّيل، والمشكاة، واليمّ، وإستبرق، وسندس) ونحو ذلك. وهذا هو الصحيح المختار؛ لأنّ هؤلاء أعلم من أبي عبيدة بلغة العرب، ولسانهم، وكلا القولين صواب، إن شاء الله تعالى، ووجه الجمع بينهما: أنّ هذه الألفاظ لما تكلّمت بها العرب، ودارت على ألسنتهم بسهولة صارت عربية فصيحة، وإن كانت غير عربية في الأصل.

هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها إنّما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يحصل منه ترجّ، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {جَعَلْناهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {قُرْآناً:} مفعول به ثان. {عَرَبِيًّا:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إن)، والجملة الاسمية جواب القسم، لا محلّ لها.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمها، وجملة:{تَعْقِلُونَ} في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية تعليل للجعل، لا محل لها.

{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)}

الشرح: {وَإِنَّهُ} أي: القرآن. {فِي أُمِّ الْكِتابِ} أي: مسجل في اللوح المحفوظ قديم الأزل. {لَدَيْنا:} عندنا. {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي: رفيع محكم، لا يوجد فيه اختلاف، ولا تناقض. قال تعالى في سورة (البروج):{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وقال تعالى في سورة (فصلت) رقم [42]{وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . وقال ابن جريج: المراد بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ} أي: أعمال الخلق من إيمان، وكفر، وطاعة، ومعصية. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، فالكتاب عنده، ثم قرأ:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ..} . إلخ انتهى. قرطبي.

هذا؛ وفي لفظ {أُمِّ} استعارة تصريحية، فقد استعير لفظ الأم للأصل.

هذا؛ و {لَدَيْنا} ظرف مكان بمعنى: «عند» وهي معربة مثلها، وقد تستعملان في الزمان، وإذا أضيف لدى إلى مضمر كما هنا قلبت ألفه ياء عند جميع العرب، إلاّ بني الحارث بن كعب، وبني خناعة، فلا يقلبونها تسوية بين الظاهر، والمضمر، كما لا يقلبون ألف على، وإلى، ونحوهما، وعلى لغتهم جاء قول الشاعر:[الوافر]

إلا كم يا خناعة لا إلانا

عزا النّاس الضراعة والهوانا

فلو برأت عقولكم بصرتم

بأنّ دواء دائكم لدانا

وذلكم إذا واثقتمونا

على قصر اعتمادكم علانا

ص: 565

ثم اعلم: أنّ «عند» أمكن من: «لدى» من وجهين: أحدهما: أنها تكون ظرفا للأعيان، والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب، وعند فلان علم به، ويمتنع ذلك في لدى، ذكره ابن الشجري في أماليه، ومبرمان في حواشيه. والثاني: أنك تقول: عندي مال، وإن كان غائبا، ولا تقول: لديّ مال إلاّ إذا كان حاضرا. قاله جماعة، منهم: الحريري، وأبو هلال العسكري، وابن الشجري، وزعم المعري: أنّه لا فرق بينهما، وقول غيره أصح. انتهى. «فتح القريب المجيب» .

الإعراب: {وَإِنَّهُ:} الواو: حرف عطف. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {فِي أُمِّ:} متعلقان ب: (عليّ) بعدهما، واللام لا تمنع ذلك، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها، صار حالا» .

و {أُمِّ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {لَدَيْنا:} ظرف مكان بدل من {فِي أُمِّ،} أو هو متعلق بمحذوف حال من: {الْكِتابِ،} فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء، لاتصاله ب:(نا)؛ التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَعَلِيٌّ:} اللام:

هي المزحلقة. (علي حكيم): خبران ل: (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الواقعة جوابا للقسم، لا محلّ لها مثلها. هذا؛ وأجيز اعتبار الجار والمجرور:{فِي أُمِّ} خبرا ل: (إنّ) وعليه فيكون قوله: {لَعَلِيٌّ} خبرا ثانيا، وهو معترض من حيث ما يلزم عليه من تقديم الخبر الغير مقرون باللام على المقرون بها، وهو ممتنع عند بعضهم. انتهى. جمل نقلا عن شيخه.

{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)}

الشرح: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً:} الخطاب لأهل مكة، والمعنى: أفنترك عنكم الوحي، ونمسك عن إنزال القرآن، فلا نأمركم، ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم، وتركتم الإيمان، فنعتبركم كالبهائم، فلا نعظكم ولا نذكركم بالقرآن؟! {أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} أي: لأجل أنكم مسرفون في التكذيب، والعصيان. لا، بل نذكركم، ونعظكم به إلى أن ترجعوا إلى طريق الحق. وقيل: المعنى أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين؟! أي:

معرضين عنكم. وقيل: معناه: أفنطوي الذكر عنكم طيا، فلا تدعون، ولا توعظون؟! وقيل:

أفنترككم، فلا نعاقبكم على كفركم؟!.

وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة؛ لهلكوا، ولكن الله عز وجل عاد بعائدته، وكرمه، ورحمته، فكرره عليهم عشرين سنة، أو ما شاء الله. قال ابن كثير: وقول قتادة لطيف المعنى جدا، وحاصله: أنّه تعالى من لطفه، ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي به من قدّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته. انتهى.

ص: 566

الإعراب: {أَفَنَضْرِبُ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: عاطفة على محذوف، التقدير: أنهملكم، فنضرب. (نضرب) فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:

«نحن» . {عَنْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الذِّكْرَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والكلام كله مستأنف، لا محلّ له. {صَفْحاً:} فيه أوجه: أحدها: أنّه مفعول مطلق، عامله من معناه، وهو نضرب؛ لأنّه بمعنى: نصفح. الثاني: أنّه حال بمعنى:

صافحين. الثالث: أنّه مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفا، نحو قوله تعالى:{صُنْعَ اللهِ} قاله ابن عطية. الرابع: أن يكون مفعولا من أجله. انتهى. جمل نقلا من السمين. وقيل: منصوب على الظرف أيضا. ولا وجه له. {أَنْ:} حرف مصدري.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {قَوْماً:} خبره. {مُسْرِفِينَ:}

صفة: {قَوْماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، و {أَنْ} والفعل:{كُنْتُمْ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لأن كنتم

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(نضرب) التقدير: لكونكم قوما مسرفين. هذا؛ وقرئ بكسر همزة (إن) على اعتبارها شرطية، وعليه ف:{كُنْتُمْ..} . إلخ فعل شرطها، وجوابها محذوف، دلّ عليه ما قبلها، التقدير: إن كنتم فنحن نضرب. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)}

الشرح: {وَكَمْ:} خبرية بمعنى: كثير هنا، وتأتي استفهامية، ويستعمل الأولى من يريد الافتخار، والتكثير، والثانية بمعنى: أي عدد، ويستعملها من يسأل عن كمية الشيء ومقداره، ويشتركان في خمسة أمور: الاسمية، والإبهام، والافتقار إلى التمييز، والبناء، ولزوم التصدير، ويفترقان في خمسة أمور.

أحدها: أنّ الكلام مع الخبرية محتمل للتصديق والتكذيب، بخلافه مع الاستفهامية.

الثاني: أن المتكلم بالخبرية لا يستدعي من مخاطبه جوابا؛ لأنه مخبر، والمتكلم بالاستفهامية يستدعيه، لأنه مستخبر.

الثالث: أنّ الاسم المبدل من الخبرية لا يقترن بالهمزة، بخلاف المبدل من الاستفهامية، يقال في الخبرية: كم عبيد لي، خمسون بل ستون! وفي الاستفهامية يقال: كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟

الرابع: أنّ تمييز الخبرية مفرد، أو مجموع، ولا يكون تمييز الاستفهامية إلاّ مفردا خلافا للكوفيين.

ص: 567

الخامس: أنّ تمييز الخبرية واجب الخفض، وتمييز الاستفهامية منصوب، ولا يجوز جرّه مطلقا، خلافا للفراء، والزجاج، وابن السراج وآخرين، بل يشترط أن تجر «كم» بحرف جر، فحينئذ يجوز في التمييز وجهان: النصب، وهو الكثير، والجر خلافا لبعضهم، وهو ب:«من» مضمرة وجوبا، لا بالإضافة، خلافا للزجاج.

وتلخص: أن في جر تمييزها أقوالا، الجواز، والمنع، والتفصيل، فإن جرت هي بحرف جر، نحو (بكم درهم اشتريت؟) جاز وإلاّ فلا. انتهى. «فتح القريب المجيب» .

الإعراب: {وَكَمْ:} الواو: حرف استئناف. (كم): خبرية مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنْ:}

حرف جر صلة. {نَبِيٍّ:} تمييز منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِي الْأَوَّلِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{نَبِيٍّ} .

{وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7)}

الشرح: {وَما يَأْتِيهِمْ} أي: ما أتاهم، فالمضارع بمعنى: الماضي، والمعنى: ما أتى الأمم السابقة نبي ولا رسول إلاّ استهزؤوا به، كاستهزاء قومك بك. ففي الآية الكريمة تعزية، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من استهزاء قومه به، والآية مذكورة بحروفها في سورة (الحجر) رقم [11] وفي سورة (يس) رقم [30]، مع إبدال {نَبِيٍّ} هنا ب:{رَسُولٍ} فيهما.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يَأْتِيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل نصب مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَبِيٍّ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {إِلاّ:}

حرف حصر. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية:{بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} في محل نصب خبر: {كانُوا،} والجملة الفعلية: {كانُوا..} . في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال.

{فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}

الشرح: {فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي: أشد بطشا من القوم المسرفين؛ أي: قومك، فكنى عنهم بعد أن خاطبهم في الآية رقم [5] والبطش: الأخذ بشدة، وقسوة، وغلظة. {وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي: وسبق في كثير من السور أحاديث إهلاكهم، مثل قوم صالح، وهود، ونوح،

ص: 568

وغيرهم؛ ليكونوا عظة، وعبرة لمن بعدهم من المكذبين. قال الإمام الفخر الرازي: إن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، فقد ضربنا لهم مثلهم. انتهى. صفوة التفاسير. وفي الآية وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر، والظفر بأولئك المشركين، ووعيد، وتهديد لأولئك المعاندين.

الإعراب: {فَأَهْلَكْنا:} الفاء: حرف عطف. (أهلكنا): فعل، وفاعل. {أَشَدَّ:} مفعول به.

{مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَشَدَّ} . {بَطْشاً:} تمييز. وقيل: حال. ولا وجه له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَمَضى:} الواو: حرف عطف.

(مضى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {مَثَلُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)}

الشرح: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمسؤول منهم أهل مكة. {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} ذكر الله من آثار قدرته، ودلائل عظمته خلق السموات والأرض، وخصهما بالذكر هنا، وفي كثير من الآيات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السموات دون الأرض، وهي مثلهن؛ لأنّ طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصفات، والآثار، والحركات. وقدمها؛ لشرفها، وعلوّ مكانها، وتقدم وجودها، ولأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في الأرض، وأيضا: لأنّها كالذكر، فنزول المطر من السماء على الأرض، كنزول المنيّ من الذكر في رحم المرأة؛ لأنّ الأرض تنبت، وتخضر بالمطر.

{لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي: ليقولن: خلقهن الله وحده، العزيز في ملكه، العليم بخلقه. قال القرطبي: أقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم، وسفها.

انتهى. وإنّما اعترفوا بذلك لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. هذا؛ وأصل: {لَيَقُولُنَّ} (يقول) فاتصلت به واو الجماعة، فصار (يقولون) فاتصلت به نون التوكيد الثقيلة، فصار:(ليقولوننّ) فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصار:(ليقولونّ) فالتقى ساكنان: واو الجماعة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد، فحذفت واو الجماعة لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على اللام لتدلّ عليها.

الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {سَأَلْتَهُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والهاء مفعوله الأول، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة

ص: 569

شرط غير ظرفي. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {السَّماواتِ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه ملحق بجمع المؤنث.

{وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب سدّت مسدّ المفعول الثاني. ل: (سأل) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {لَيَقُولُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (يقولنّ): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون حرف لا محلّ له. {خَلَقَهُنَّ:}

فعل ماض، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {الْعَزِيزُ:} فاعله.

{الْعَلِيمُ:} بدل منه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:

{لَيَقُولُنَّ..} . إلخ جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت، فهو ملتزم

والكلام: {وَلَئِنْ..} . إلخ مستأنف لا محلّ له.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}

الشرح: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً:} هذا؛ ويقرأ: «(مهادا)» مثل قوله تعالى في سورة (النبأ): {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً} فقيل: هما لغتان لما يبسط، ويفرش. وقيل:{مَهْداً} مصدر و {مَهْداً} جمع له، والمعنى: جعلها فراشا، وقرارا تستقرون عليها، ولو شاء لجعلها مزلة، لا يثبت فيها شيء، كما ترون من بعض الجبال، ولو شاء لجعلها متحركة، فلا يمكن الانتفاع بها في الزراعة، والأبنية، فالانتفاع بها إنّما حصل لكونها مسطحة قارة ساكنة. وهذا ابتداء كلام من الله جلّت قدرته وصف نفسه بكمال القدرة، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار؛ لقال: الذي جعل لنا.

{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً} أي: طرقا بين الجبال، والأودية، والبراري، تسلكونها من أرض إلى أرض؛ لتبلغوا منافعها. وفي سورة (طه) رقم [53]:{وَسَلَكَ} بدل {وَجَعَلَ} . {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:} لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك، فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل: لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم. قاله سعيد بن جبير-رضي الله عنه.

وانظر الترجي برقم [3].

ص: 570

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: قوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وما سرد من الأوصاف عقيبه، إن كان من قولهم، فما تصنع بقوله:{فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} وإن كان من قول الله؛ فما وجهه؟ قلت: هو من قول الله، لا من قولهم، ومعنى قوله:{لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ:} الذي من صفته كيت وكيت؛ لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه، وليسندنه إليه. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بدلا من الاسم الكريم قبله، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني، أو أمدح، ونحوهما. وعليهما يوقف على:{الْعَلِيمُ} . وعلى الأول لا يوقف. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد. {لَكُمُ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْأَرْضَ:} مفعول به أول. {مَهْداً:} مفعول به ثان على اعتبار الفعل من أفعال التصيير، وحال على اعتباره بمعنى:«خلق» . والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من:

{سُبُلاً:} كان صفة له على مثال ما رأيت في الآية رقم [4]. {سُبُلاً:} مفعول به. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:} الجملة الاسمية تعليل للجعل، وانظر إعراب مثلها في الآية رقم [3].

{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)}

الشرح: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ} أي: بمقدار ينفع، ولا يضر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا كالذي أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أهلكهم، بل هو بقدر، لا طوفان مغرق، ولا قاصر عن الحاجة حتى يكون معاشا لكم، ولأنعامكم. قال تعالى في سورة (الحجر) رقم [21]:{وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . {فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} أي: أحيينا بالماء أرضا ميتة لا نبات فيها، كما قال تعالى في سورة (الحج):{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} رقم [5]. {كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} أي: من قبوركم بعد دفنكم فيها. والمعنى: أنّ هذا الكلام كما دلّ على قدرة الله، وحكمته، ووحدانيته فكذلك يدلّ على قدرته على الحشر، والنشر للحساب، والجزاء يوم القيامة، ووجه التشبيه: أن جعلهم أحياء بعد الإماتة، كهذه الأرض التي انتشرت بعد ما كانت ميتة. وكذلك شبه الأرض قبل نزول المطر بالإنسان الميت، ثم أنشرها الله؛ أي: أحياها بالمطر. ففيه استعارة تبعية.

هذا؛ وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم، وهو ظاهر، وواضح، وللالتفات فوائد كثيرة: منها: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضّجر، والملال. لما جعلت عليه النفوس من

ص: 571

حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محله، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حث السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة.

هذا؛ ووصف {بَلْدَةً} ب: {مَيْتاً} وهو مذكر؛ لأنّ البلدة بمعنى: البلد، والمكان. وقال الليث: البلد كل موضع من الأرض عامر، أو غير عامر، خال، أو مسكون. والطائفة منه:

بلدة، والجمع بلاد. زاد غيره: والمفازة تسمى بلدة؛ لكونها مسكن الوحش، والجن. قال الأعشى في معلقته:[البسيط]

وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة

للجنّ في اللّيل في حافاتها زجل

وقال جران العود: وهو الشاهد رقم [418] من كتابنا: «فتح رب البرية» . [الرجز]

وبلدة ليس بها أنيس

إلاّ اليعافير، وإلاّ العيس

وتذكّر البلدة، قال تعالى:{*لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ} وقال رؤبة بن العجاج، وهو الشاهد رقم [178] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

بل بلد مثل الفجاج قتمه

لا يشترى كتّانه وجهرمه

الإعراب: {وَالَّذِي:} الواو: حرف عطف. (الذي): معطوف على ما قبله. {نَزَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الذي)، وهو العائد. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{السَّماءِ،} كان صفة له على مثال ما رأيت في الآية رقم [4].

{السَّماءِ:} مفعول به. {بِقَدَرٍ:} متعلقان بالفعل: {نَزَّلَ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَأَنْشَرْنا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {بَلْدَةً:} مفعول به.

{مَيْتاً:} صفة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {كَذلِكَ:} الكاف:

حرف تشبيه وجر، و «ذا»: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: تخرجون من قبوركم خروجا مثل خروج النبات من البلدة الميتة. {تُخْرَجُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، ويقرأ:«(يخرجون)» بالبناء للمعلوم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.

{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12)}

الشرح: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها:} أصناف المخلوقات من الإنسان، والحيوان، والنبات. وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى،

ص: 572

وصحة وسقم. وقال بعض المحققين: كل ما سوى الله تعالى، فهو زوج، كالفوق، والتحت، واليمين، واليسار، والقدام، والخلف، والماضي، والمستقبل، والذوات، والصفات، والصيف، والشتاء، والربيع، والخريف، وكونها أزواجا يدلّ على أنّها ممكنة الوجود، محدثة مسبوقة بالعدم، فأمّا الحق تعالى، فهو الفرد المنزّه عن الضد، والند، والمقابل، والمعاضد.

انتهى. جمل نقلا من الخطيب.

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} أي: السفن التي تمخر عباب البحار. {وَالْأَنْعامِ} أي: الإبل التي تجوب الصحراء. والمعنى: سخر لكم السفن، والإبل، وذللها لكم؛ لتستفيدوا من النقل، والحمل، والركوب في البر والبحر. هذا؛ ومن المعلوم: أنّه لا يركب من الأنعام إلاّ الإبل؛ إذ الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، فحينئذ في (الأنعام) هنا تغليب، فأريد بها ما يركب من الحيوان، وهو: الإبل، والخيل، والبغال، والحمير. وقرينة هذا قوله في سورة (النحل) رقم [8]:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها} .

الإعراب: {وَالَّذِي:} معطوف على ما قبله. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

(الذي) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {الْأَزْواجَ:} مفعول به.

{كُلَّها:} توكيد، و (ها): في محل جر بالإضافة. {وَجَعَلَ:} الواو: حرف عطف. (جعل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الذي). {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْفُلْكِ:} متعلقان بالفعل {تَرْكَبُونَ،} أو في محل نصب حال. و {مِنَ} بيان لما أبهم في {ما} .

{وَالْأَنْعامِ:} معطوف على ما قبله. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: وجعل لكم الذي تركبونه من الفلك والأنعام.

{لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)}

الشرح: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} أي: على ظهور الفلك، والأنعام. ذكّر الضمير، وأفرده نظرا للفظ (ما). وجمع (الظهر) وهو المضاف، نظرا لمعناها. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد؛ لأنّ المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش، والجند، فلذلك ذكّر، وجمع الظهور؛ أي: على ظهور هذا الجنس، والمراد: ظهور الإبل؛ لأنّ الفلك إنّما تركب بطونها، ولكنه ذكّرهما جميعا في أول الآية، وعطف آخرها على أحدهما، ويحتمل أن يجعل ظاهرهما باطنهما؛ لأنّ الماء غمره وستره، وباطنهما ظاهرهما؛ لأنّه انكشف للظاهرين، وظهر للمبصرين. انتهى. قرطبي بتصرف.

ص: 573

{ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي: إذا ركبتم عليه، وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر، والبحر. {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا} أي: ذلّل لنا هذا المركب. وفي قراءة: «(سبحان من سخّر لنا هذا)» . والضمير في {عَلَيْهِ} والإشارة فيهما مراعاة للفظ (ما) أيضا. {وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي: مطيقين في قول ابن عباس، والكلبي. وقال الأخفش، وأبو عبيدة: ضابطين. وقيل: مماثلين في الأيد، والقوة؛ من قولهم: هو قرن فلان:

إذا كان مثله في القوة. ويقال: فلا مقرن لفلان؛ أي: ضابط له، ومن مجيئه بمعنى: مطيقين ما أنشده قطرب من قول عمرو بن معديكرب الزبيدي-رضي الله عنه: [الوافر]

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النائبات بمقرنينا

وقال آخر: [الوافر]

ركبتم صعبتي أشرا وحيفا

ولستم للصعاب بمقرنينا

هذا؛ ويقال: أقرن الشيء: إذا أطاقه. قال ابن هرمة: [الطويل]

وأقرنت ما حملتني ولقلّما

يطاق احتمال الصّدّ يادعد والهجر

هذا؛ و {مُقْرِنِينَ} بتشديد الراء بمعنى: مقيدين بالسلاسل، والأغلال.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: علمنا الله ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى في سورة (هود):{*وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ،} فكم من راكب دابة عثرت به، أو شمست، أو تقحمت، أو طاح من ظهرها فهلك، وكم من راكبين سفينة انكسرت بهم، فغرقوا، فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور، واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألاّ ينسى عند اتصاله به موته، وأنّه هالك لا محالة، فمنقلب إلى الله عز وجل، غير منفلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه، ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله، وهو غافل عنه.

قال ابن العربي: وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا، وليس بواجب ذكره باللسان، فيقول متى ركب-وخاصة في السفر-إذا تذكر:{سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ} اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل، والمال. يعني بالحور بعد الكور: تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه.

وذكر الثعلبي عن علي-رضي الله عنه «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال:

(بسم الله) فإذا استوى قال: الحمد لله على كلّ حال. {سُبْحانَ الَّذِي} إلى قوله {لَمُنْقَلِبُونَ} وإذا نزلتم من الفلك والأنعام، فقولوا:{رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ»} .

ص: 574

الإعراب: {لِتَسْتَوُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(جعل).

وجوز ابن عطية اعتبار اللام للأمر، وفيه بعد؛ لقلة دخولها على أمر المخاطب. {عَلى ظُهُورِهِ:}

متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {تَذْكُرُوا:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، والواو فاعله. {نِعْمَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِذَا:}

ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله، وهو مجرد عن الشرطية، على المعتمد. وقيل: شرطية، والجواب محذوف، وهو ضعيف. {اِسْتَوَيْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذَا} إليها. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{وَتَقُولُوا:} معطوف على ما قبلها، منصوب مثله، والواو فاعله، والألف للتفريق. {سُبْحانَ:}

مفعول مطلق لفعل محذوف، وهو مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والفعل المقدر، والمصدر جملة فعلية في محل نصب مقول القول. {سَخَّرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه لا محلّ له. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {لَهُ:}

جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُقْرِنِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{وَما كُنّا..} . إلخ في محل نصب حال من: (نا)، والرابط: الواو، والضمير.

{وَإِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}

الشرح: هذه الآية من تتمة الكلام، الذي يسن أن يقوله المسلم عند ركوبه الفلك، والأنعام. ومعنى {لَمُنْقَلِبُونَ:} لراجعون إلى الله تعالى، والمنصرفون من هذه الدنيا، ومراكبها إلى دار الاستقرار، والبقاء، ويتذكر المسلم بالحمل على السفينة، والدابة الحمل على الجنازة.

وهذا الرجوع، وهذا الانصراف لا رجوع بعده إلى هذه الدار الفانية، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي. وفيه إشارة إلى الرد على المشركين في إنكارهم البعث، والحساب، والجزاء بعد الموت. انتهى. بتصرف كبير.

وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله تعالى، وسبّح، وكبر ثلاثا، ثم قال: «{سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا..} . إلخ اللهمّ إنا نسألك في

ص: 575

سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى! اللهمّ هوّن علينا سفرنا هذا، واطو عنّا بعده! اللهمّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل! اللهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل، والمال، والولد!» وإذا رجع قالهنّ، وزاد فيهن:«آيبون، تائبون عابدون لربّنا حامدون» . أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والإمام أحمد.

وعن علي بن ربيعة: قال: شهدت علي بن أبي طالب-رضي الله عنه، وقد أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب؛ قال: بسم الله. فلما استوى على ظهرها؛ قال:

الحمد لله، سبحان الذي سخر

) إلخ ثم قال: الحمد لله (ثلاث مرّات) ثم قال: الله أكبر (ثلاث مرات) ثم قال: سبحانك إنّي ظلمات نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، ثم ضحك، فقلت: يا أمير المؤمنين! ممّ ضحكك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت فقلت: يا رسول الله! من أيّ شيء ضحكت؟ قال: «إنّ ربّك يعجب من عبده إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب غيرك» . أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

الإعراب: {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {إِلى رَبِّنا:} متعلقان بما بعدهما، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَمُنْقَلِبُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (منقلبون): خبر «إن» مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير.

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)}

الشرح: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً:} هذه الآية متصلة بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي:

ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض؛ ليعترفنّ به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزآ، فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى:{مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} أن قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزآ له، وبعضا منه، كما يكون الولد بضعة من والده، وجزآ له. انتهى. كشاف.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: عجّب الله المؤمنين من جهلهم؛ إذ أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكا، أو ولدا، ولم يعلموا: أن من قدر على خلق السموات والأرض، لا يحتاج إلى شيء يعتضد به، أو يستأنس به؛ لأنّ هذا من صفات النقص. انتهى.

{إِنَّ الْإِنْسانَ} أي: الكافر، والملحد. {لَكَفُورٌ مُبِينٌ:} لجحود للنعم بيّن ظاهر الجحود.

هذا؛ و {مُبِينٌ} اسم فاعل من: أبان الرباعي، أصله: مبين بسكون الباء وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأنّ الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة. ولا تنس: أنّ اسم الفاعل من بان الثلاثي: بائن، أصله: باين، وإعلاله مثل إعلال: قائل.

ص: 576

الإعراب: {وَجَعَلُوا:} الواو: واو الحال. (جعلوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة بقوله:{لَيَقُولُنَّ} في الآية رقم [9]، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها. وقيل: مستأنفة. {مِنْ عِبادِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول ثان تقدم على الأول. {جُزْءاً:} مفعول به أول. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{الْإِنْسانَ:} اسم: {إِنَّ} . {لَكَفُورٌ:} اللام: هي المزحلقة. (كفور): خبر: {إِنَّ} .

{مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْإِنْسانَ..} . إلخ تعليل لجعلهم لله جزآ.

{أَمِ اِتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)}

الشرح: {أَمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ..} . إلخ: أي: بل اتخذ، والهمزة للإنكار تجهيلا لهم، وتعجبا من شأنهم حيث ادعوا: أنّه اختار لنفسه المنزلة الأدنى، ولهم الأعلى. {وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ} أي: اختصكم بالذكور، وأخلصكم بهم. يقال: أصفيته بكذا؛ أي: آثرته به. وأصفيته الود:

أخلصته له، وصافيته وتصافينا: تخالصنا. عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد؛ إن توهم جاهل أنّه اتخذ لنفسه ولدا؛ فهلاّ أضاف إليه أرفع الجنسين؟! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين، وله الأخس؟! وهذا كما قال تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} . انتهى. قرطبي.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (النحل) رقم [57]: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} وقال فيها أيضا رقم [62]: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ،} وقال في سورة (الإسراء) رقم [40] موبخا لهم: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} وقال جلّ ذكره في سورة (الصافات) رقم [153]: {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ،} وقال تعالت حكمته في سورة (الطور) رقم [39]: {أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} انظر شرح هذه الآيات في محالها. هذا؛ وتقديم البنات على البنين، وتنكيرهن وتعريف البنين في هذه الآية انظر مثله في الآية رقم [49] من سورة (الشورى).

الإعراب: {أَمِ:} حرف عطف بمعنى: «بل» التي للإضراب. {اِتَّخَذَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الله. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما). اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {يَخْلُقُ:} فعل مضارع والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أم اتخذ من الذي، أو من شيء يخلقه. {بَناتٍ:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنّه ملحق بجمع المؤنث السالم، والمفعول الثاني الجار والمجرور تقدّم عليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، وقال الجلال:{أَمِ} بمعنى: همزة الإنكار،

ص: 577

والتقريع، والتوبيخ، والقول مقدر؛ أي: أتقولون: اتخذ

إلخ. {وَأَصْفاكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {بِالْبَنِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)}

الشرح: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً} أي: بالجنس الذي جعله له مثلا؛ أي:

شبها؛ لأنه إذا جعل الملائكة جزآ لله وبعضا منه، فقد جعله من جنسه، ومماثلا له؛ لأنّ الولد لا يكون إلاّ من جنس الوالد، والمعنى: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومن حالهم: أن أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت؛ اغتم واربدّ وجهه غيظا، وتأسفا، وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب: أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت:[الرجز]

ما لأبي حمزة لا يأتينا؟

وإنما نأخذ ما أعطينا

حكمة ربّ ذي اقتدار فينا

{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا:} صار وجهه أسود في الغاية؛ لما يعتريه من الكآبة. هذا؛ وقرئ «(مسودّ)» و «(مسوادّ)» برفعهما. {وَهُوَ كَظِيمٌ:} ممتلئ غيظا، وغما من سوء ما بشر به. قال الإمام الفخر الرازي: والمقصود من الآية التنبيه على قلة عقولهم، وسخافة تفكيرهم، فإن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد، كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى. هذا؛ وانظر الآيتين [58] و [59] من سورة (النحل) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

هذا؛ و (أحد) أصله: وحد؛ لأنّه من الوحدة، فأبدلت الواو همزة، وهذا قليل في المفتوحة، إنما يحسن في المضمومة والمكسورة، مثل قولهم: وجوه، وأجوه، ووسادة، وإسادة، وهو مرادف للواحد في موضعين: أحدهما: وصف الباري جلّ علاه، فيقال: هو الواحد، وهو الأحد. والثاني: أسماء العدد، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون. وفي غير هذين الموضعين يفرق بينهما في الاستعمال، فلا يستعمل أحد إلاّ في النفي، وهو كثير في الكلام، أو في الإثبات مضافا، كما في قوله تعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بخلاف الواحد. وقولهم: ما في الدار أحد هو اسم لمن يعقل، ويستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال تعالى في سورة (الأحزاب):{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} وقال جلّ ذكره في سورة (الحاقة): {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} .

ص: 578

هذا؛ و (أحد) أكمل من الواحد، ألا ترى أنّك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد، جاز في المعنى أن يقوم له اثنان، فأكثر. بخلاف قولك: لا يقوم له أحد. وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار أحد، فيجوز أن يكون فيها من الدواب، والطير، والوحش والإنس، فيعمّ الناس، وغيرهم، بخلاف ليس في الدار واحد، فإنّه مخصوص بالآدميين.

ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى: الواحد، فيستعمل في النفي، والإثبات، نحو قوله تعالى في سورة (الإخلاص):{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أي: واحد، وقوله تعالى:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أي: واحدا منكم، وبغير معنى الواحد فلا يستعمل إلاّ في النفي، تقول: ما جاءني من أحد، ومنه قوله تعالى في سورة (البلد):{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} وواحد يستعمل فيهما مطلقا، وأحد يستعمل في المذكر، والمؤنث، والمفرد، والجمع، كما رأيته، بخلاف الواحد، فلا يقال:

كواحد من النساء بل كواحدة. والأحد له جمع من لفظه، وهو: الأحدون، والآحاد، وليس للواحد جمع من لفظه، فلا يقال: واحدون، بل يقال: اثنان، وثلاثة. والأحد ممتنع من الدخول في شيء من الحساب، بخلاف الواحد، فتلخص من ذلك سبعة فروق. ولا تنس الالتفات في الآيات.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {بُشِّرَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {أَحَدُهُمْ:} نائب فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {بِما:} متعلقان بما قبلهما.

{ضَرَبَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{أَحَدُهُمْ} . وهو بمعنى: «جعل» ينصب مفعولين، الأول محذوف، وهو عائد الصلة؛ إذ التقدير: بالذي ضربه. {لِلرَّحْمنِ:} متعلقان بالفعل:

{ضَرَبَ} . {مَثَلاً:} مفعول به ثان. {ظَلَّ:} فعل ماض ناقص. {وَجْهُهُ:} اسم: {ظَلَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {مُسْوَدًّا:} خبر: {ظَلَّ} . هذا؛ وأجاز أبو البقاء، ومكي اعتبار اسم:{ظَلَّ} مستترا فيه. {وَجْهُهُ:} بدلا من الضمير المستتر. وعلى قراءة «(مسودّ)» بالرفع؛ فاسم {ظَلَّ} مستتر فيه، و {وَجْهُهُ:} مبتدأ، و «(مسود)» خبره، والجملة الاسمية في محل نصب خبر:{ظَلَّ،} وجملة: {ظَلَّ..} . إلخ جواب (إذا)، لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَظِيمٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ وأجاز مجيء الحال من المضاف إليه لأنّ المضاف جزؤه، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ما له أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

ص: 579