المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الجاثية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الجاثية) وتسمى سورة - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الجاثية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الجاثية) وتسمى سورة

‌سورة الجاثية

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الجاثية) وتسمى سورة (الشريعة) كلها مكية في قول الحسن، وجابر، وعكرمة. وقال ابن عباس، وقتادة-رضي الله عنهم أجمعين-: إلاّ آية، هي:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ} رقم [14] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب-رضي الله عنه. ذكره الماورديّ.

وقال المهدويّ، والنحاس عن ابن عباس-رضي الله عنهما: إنها نزلت في عمر-رضي الله عنه-حين شتمه رجل من المشركين في مكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به، فأنزل الله عز وجل:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ ثم نسخت بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ..} .

إلخ رقم [5] من سورة (التوبة). فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف، وهي سبع وثلاثون آية. وقيل: ست وثلاثون آية، وأربعمئة، وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومئة وواحد وتسعون حرفا. انتهى. قرطبي، وخازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)}

الشرح: {إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: في خلق السموات، والأرض، وهما خلقان عظيمان يدلاّن على قدرة القادر المختار لما فيهما من الصفات العجيبة، والأحوال الغريبة، والأمور البديعة. {لَآياتٍ:} لعلامات واضحة، ودلالات باهرة على كمال قدرة الله، وحكمته.

{لِلْمُؤْمِنِينَ:} الذين يصدقون بوجود الله، ووحدانيته. وخصّهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين يتفكرون في صنع الله، فيتعظون، ويتذكرون، ولذا وصفهم الله بالآيتين التاليتين بالإيقان، والتعقل، وآية البقرة رقم [164] قد جمعت ما في الآيات الثلاث من دلالات على وجود الله ووحدانيته، وكمال قدرته، وحكمته. هذا؛ والتأكيد ب:{إِنَّ} واللام؛ لأنّ المخاطبين منكرون لوحدانية الله عز وجل.

ص: 695

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} . مقدم. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم {إِنَّ} . مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.

{لِلْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة: (آيات)، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.

{وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)}

الشرح: أي: وفي خلقكم أيها الناس من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، متقلبة في أطوار مختلفة إلى تمام الخلق، وفيما ينشره الله تعالى، ويفرقه من أنواع المخلوقات؛ التي تدب على وجه الأرض آيات باهرة، ودلالات واضحة أيضا لقوم يصدقون عن إذعان، ويقين بقدرة رب العالمين.

هذا؛ و {دابَّةٍ} تشمل كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، وحيوان، وطير، وهوام، وجمعها: دوابّ. هذا؛ وقال الجمل: وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل، الأولى:{لِلْمُؤْمِنِينَ،} الثانية: {يُوقِنُونَ،} الثالثة: {يَعْقِلُونَ} ووجه التغاير بينها: أن المنصف من نفسه إذا نظر في السموات، والأرض، وأنه لا بد لهما من صانع؛ آمن، وإذا نظر في خلق نفسه، ونحوها؛ ازداد إيمانا، فأيقن، وإذا نظر في سائر الحوادث؛ عقل، واستحكم علمه. وفي البيضاوي: ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة، والظهور. انتهى.

فأظهرها السموات، والأرض، والنظر الصحيح فيها يفيد العلم بأنها مصنوعة لا بدّ لها من صانع، فيؤدي إلى الإيمان بالله، وأدق منها خلق الإنسان، وانتقاله من حال إلى حال، وخلق ما على الأرض من صنوف الحيوانات، من حيث إن التفكر فيها، وأحوالها يستلزم ملاحظة السموات والأرض، لكونها من أسباب تكون الحيوانات، وانتظام أحوالهم، ولما كانت هذه الآية أدق بالنسبة إلى الأولى، كان التفكر فيها مؤديا إلى مرتبة اليقين، وأدق منها سائر الحوادث المتجددة في كل وقت من نزول المطر، وحياة الأرض بعد موتها، وغير ذلك من حيث استقصاء النظر في أحوال هذه الحوادث يتوقف على ملاحظة السموات والأرض لكونها من أسباب هذه الحوادث ومحالها، وعلى ملاحظة الحيوانات المبثوثة على الأرض من حيث إن تجدد هذه الحوادث إنما هو لانتظام أحوالها، وتحقق أسباب معاشها، ولما كانت هذه أدق بالنسبة إلى الأوليين وكانت متجددة حينا فحينا بحيث تبعث على النظر والاعتبار كلما تجددت؛ كان النظر فيها مؤديا إلى استحكام العلم، وقوة اليقين، وذلك لا يكون إلاّ بالعقل الكامل. فظهر بهذا التقرير: أنّ المراد بالمؤمنين، والموقنين، والعاقلين من يؤول حالهم إلى هذه الأوصاف. انتهى.

جمل نقلا من زاده على البيضاوي.

ص: 696

الإعراب: {وَفِي:} الواو: حرف عطف. (في خلقكم): معطوفان على: {فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير:

وفي خلقه إياكم. (ما): فيه وجهان: أظهرهما: أنه معطوف على: {خَلْقِكُمْ} المجرور ب: (في) على تقدير: خلق ما. الثاني: أنه معطوف على الضمير المخفوض بالخلق، وهو الكاف على مذهب من يجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار. انتهى. من السمين، وعلى الوجهين فهي مبنية على السكون في محل جر. {يَبُثُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية صلة (ما)، والعائد محذوف، التقدير: والذي يبثه. {مِنْ دابَّةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما). {آياتٌ:} فيه وجهان:

أحدهما: أنه مبتدأ مؤخر، و {وَفِي خَلْقِكُمْ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{إِنَّ فِي السَّماواتِ..} . إلخ فالمعطوف غير مؤكد، والمعطوف عليه مؤكد ب:{إِنَّ} الثاني: أن يكون {آياتٌ} معطوفا على (آيات) الأولى باعتبار المحل قبل دخول الناسخ عند من يجوز ذلك. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {آياتٌ،} وجملة: {يُوقِنُونَ} صفة: (قوم).

والجملة الاسمية: {وَفِي خَلْقِكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{وَاِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}

الشرح: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} أي: بالظلام، والضياء، والطول، والقصر، والاعتدال، وتعاقبهما دائبين لا يفتران. {وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ:} من مطر فيه حياة البشر في معاشهم، وأرزاقهم، وسماه الله رزقا؛ لأنّه سبب الرزق. {فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها:} بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها، ولا حياة، كما قال تعالى في سورة (الحج) رقم [5]:{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . و {وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ} أي:

جنوبا، وشمالا، وشرقا، وغربا، برية، وبحرية، ليلية، ونهارية، ومنها ما هو لتلقيح السحاب، ومنها ما هو لتلقيح النبات، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم، لا ينتج، ولا ينبت، ولا ينعش، ومنها الحارة، والباردة. ل:{آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:} لقوم لهم عقول نيرة، وبصائر مشرقة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَاخْتِلافِ:} مجرور ب: «في» مقدرة؛ أي: وفي اختلاف، فحذفت «في» لتقدم ذكرها، وأنشد سيبويه في الحذف قول أبي دؤاد الإيادي-وهو الشاهد [539] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [المتقارب]

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد في اللّيل نارا

ص: 697

وحسّن حذف «في» تقدمها في قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ} وهذا ما جرى عليه أبو حيان، وعلي. فالجار، والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {وَاخْتِلافِ:} مضاف، و {اللَّيْلِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {وَالنَّهارِ:} معطوفة على: {اللَّيْلِ} . {وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: والذي أنزله الله. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في الموصول، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{رِزْقٍ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» {مِنْ رِزْقٍ:} متعلقان بمحذوف حال من: {السَّماءِ،} على الوجه الأول في تعليقهما، أو بمحذوف حال من الضمير المحذوف على الوجه الثاني في تعليق:{مِنَ السَّماءِ} .

{فَأَحْيا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْأَرْضَ:} مفعول به. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: (أحيا)، وهو مضاف، و {مَوْتِها} مضاف إليه. و «ها» في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَتَصْرِيفِ:}

معطوف على: {وَاخْتِلافِ،} وهو مضاف، و {الرِّياحِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله، وهو أقوى، وفاعله محذوف، التقدير: وتصريفه الرياح. {آياتٌ:} مبتدأ مؤخر.

{لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {آياتٌ،} وجملة: {يَعْقِلُونَ} صفة (قوم).

تنبيه: قال النسفي تبعا للزمخشري رحمهما الله تعالى: قرئ: {آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بالنصب، وبالرفع. وهذا من العطف على عاملين، سواء نصبت، أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت:{إِنَّ} و {فِي} أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} والنصب في {آياتٌ}. وإذا رفعت فالعاملان:«الابتداء» وحرف: {فِي} عملت الواو الرفع في: {آياتٌ} والجر في {وَاخْتِلافِ} هذا مذهب الأخفش؛ لأنه يجوّز العطف على عاملين، وأما سيبويه فإنه لا يجيزه، وتخريج الآية عنده أن يكون على إضمار «في» والذي حسنه تقديم ذكر {فِي} في الآيتين قبل هذه الآية، ويؤيده قراءة ابن مسعود-رضي الله عنه:«(وفي اختلاف الليل والنهار)» ويجوز أن ينتصب {آياتٌ} على الاختصاص، بعد انقضاء المجرور معطوفا على ما قبله، أو على التكرير توكيدا ل:{آياتٌ} في الأولى، كأنه قيل: آيات آيات، ورفعها بإضمار:«هي» . انتهى.

{تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}

الشرح: {تِلْكَ:} إشارة إلى الآيات المتقدمة؛ أي: تلك الآيات آيات الله؛ أي: حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته، وقدرته. {نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ:} نقرؤها عليك يا محمد بالصدق، الذي لا باطل فيه، ولا كذب. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ..}. إلخ أي: إذا لم يصدق كفار مكة بهذا

ص: 698

القرآن، ولم يؤمنوا بحججه وبراهينه، فبأي: كلام يؤمنون، ويصدقون؟ والغرض استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه، وإعجازه.

الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ لها. {آياتُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {نَتْلُوها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{آياتُ اللهِ} والرابط: الضمير فقط، والعامل اسم الإشارة. {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بِالْحَقِّ} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر؛ أي: ملتبسين بالحق، أو من المفعول به؛ أي: ملتبسة بالحق.

{فَبِأَيِّ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. انظر تقديره في الشرح.

(بأي): متعلقان بالفعل بعدهما، و (أي). مضاف، و {حَدِيثٍ} مضاف إليه. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة: {حَدِيثٍ،} و {بَعْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَآياتِهِ:} معطوف على لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» .

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8)}

الشرح: {وَيْلٌ:} انظر سورة (الزخرف) رقم [65]. {أَفّاكٍ:} شديد الإفك، وهو الكذب.

وانظر سورة (الزخرف) رقم [87]. {أَثِيمٍ:} كثير الآثام؛ أي: الذنوب، والمعاصي، والمراد: به النضر بن الحارث. وقيل: المراد به أبو جهل الخبيث كما في الآية رقم [44] من سورة (الدخان). {يَسْمَعُ آياتِ اللهِ:} آيات القرآن. {تُتْلى عَلَيْهِ:} يقرأها الرسول صلى الله عليه وسلم. {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} أي: يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد. مأخوذ من: صرّ الصرة: إذا شدها. وفي القاموس: صرّ الفرس والحمار بأذنه، وأصر بها: سوّاها، ونصبها للاستماع. وفي سورة (لقمان) رقم [7]:{وَلّى مُسْتَكْبِراً} بمعنى: أعرض عن تدبرها متكبرا رافعا نفسه عن الإصغاء لآيات القرآن. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها:} يشبه حاله في ذلك من لم يسمعها، وهو سامع، وفي سورة (لقمان) زيادة:{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} أي: صمما.

{فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ؛} أعلمه: أنّ العذاب يحيق به لا محالة. هذا؛ والبشارة: عبارة عن الخبر السار، الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان

ص: 699

تغير بشرة الوجه؛ كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثرهما على الوجه، وهو الكمودة؛ التي تعلو الوجه عند حصول الغم، والحزن، فثبت بهذا: أنّ البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار، والخبر المحزن، فصحّ قوله تعالى في سورة (النحل):{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} ولكن قد تستعمل البشارة بالشر، وبما يسوء على سبيل التهكم، والاستهزاء، كما في هذه الآية، وهو كثير في القرآن الكريم.

هذا؛ والفعل: «يسمع» من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات؛ تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات؛ تعدى إلى اثنين، الثاني منهما جملة فعلية مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار الفارسي. واختار ابن مالك، ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا.

الإعراب: {وَيْلٌ:} مبتدأ. {لِكُلِّ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، و (كل): مضاف، و {أَفّاكٍ} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: لكل شخص أفاك. {أَثِيمٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف. {يَسْمَعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى: شخص أفاك، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية للموصوف المحذوف، أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وهو أقوى. {آياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {آياتِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {تُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى: {آياتِ اللهِ} والجملة الفعلية في محل نصب حال من: {آياتِ اللهِ} والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال اسم الإشارة. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُصِرُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

(كل أفّاك) والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {يَسْمَعُ..} . إلخ. {مُسْتَكْبِراً:} حال من الفاعل المستتر. {كَأَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفّف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير:

كأنه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسْمَعْها:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} والفاعل يعود إلى: (كل أفاك)، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{كَأَنْ،} والجملة الاسمية في محل نصب حال ثانية من فاعل: {يُصِرُّ} المستتر، والرابط: ضمير الشأن المحذوف. {فَبَشِّرْهُ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يرى جواز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير:

وإذا كان ذلك حاصلا منه فبشره. (بشّره): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {بِعَذابٍ:} متعلقان به. {أَلِيمٍ:} صفة: (عذاب)، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» .

ص: 700

{وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اِتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)}

الشرح: {وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً} أي: بلغه شيء من آياتنا، وعلم أنه منها، نحو قوله في الزقوم: إنه الزّبد والتمر. وقوله في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.

{اِتَّخَذَها:} اتخذ الآيات، ولم يقل: اتخذه للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، ويجوز أن يرجع الضمير إلى (شيء)؛ لأنه في معنى الآية، كقول أبي العتاهية الصوفي:[البسيط]

نفسي بشيء من الدنيا معلقة

الله والقائم المهدي يكفيها

حيث أراد عتبة جارية المهدي العباسي وكنّى عنها بشيء. {هُزُواً:} يقرأ بسكون الزاي والهمز، وبضم الزاي والهمز، وبضم الزاي بلا همز، وهو بجميع قراآته مصدر: هزأ، يهزأ هزآ من باب: فتح، ويأتي من باب: تعب. {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} أي: شديد يهينهم لإهانتهم الحق باستئثارهم الباطل. هذا؛ وجمع اسم الإشارة العائد إلى: (كل أفاك) وهو مفرد لشموله كل الأفاكين.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {عَلِمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{أَفّاكٍ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {مِنْ آياتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {شَيْئاً:}

مفعول به. {اِتَّخَذَها:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{أَفّاكٍ،} و (ها): مفعول به أول.

{هُزُواً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُهِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنها مستأنفة.

{مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)}

الشرح: {مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ} أي: من وراء ما هم فيه من التعزز في الدنيا، والتكبر عن الحق جهنم. هذا؛ و (الوراء) يأتي بمعنى: ما خلف الظهر، ويأتي بمعنى: قدام، وأمام، فهو من الأضداد، قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [79]:{وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي:

ص: 701

أمامهم وقال جلّ شأنه في سورة (المؤمنون) رقم [100]: {وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقال عبيد بن الأبرص: [الطويل]

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

أدبّ مع الولدان أزحف كالنّسر

وخذ قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل]

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أخبّر أخبار القرون التي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع

المعنى: أليس أمامي، وقدامي. هذا؛ واللغة العربية غنية بالكلمات التي تعني الضدين، وتحتمل معنيين متقابلين منه ما رأيته من لفظ (وراء)، ومنها: الغابر في كثير من الآيات {كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} فإنه يحتمل من الباقين ومن الهالكين، ومنها لفظ جلل للعظيم، والحقير، فمن الأول قول الحارث بن وعلة بن ذهل بن شيبان الذهلي-وهو الشاهد رقم [192] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

فلئن عفوت لأعفون جللا

ولئن سطوت لأوهنن عظمي

ومن الثاني قول امرئ القيس لما قتل أبوه وهو الشاهد رقم [193] من كتابنا المذكور: [المتقارب] بقتل بني أسد ربّهم

ألا كلّ شيء سواه جلل

أي: هين، وحقير لا قيمة له. ومنه: الجون للأبيض، والأسود، والبين: للقرب والبعد، والصريم: لليل والنهار، وبهما فسر قوله تعالى في سورة (ن):{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} فمن قال: الصريم:

الليل يكون المعنى: احترقت فاسودّت. ومن قال النهار يكون المعنى: يبست، وذهبت خضرتها.

والناصع: للأبيض، والأسود، والناهل: للرّيّان، والظمان، والسليم: للديغ، والصحيح، وشعبت الشيء: أصلحته، وشققته، والصارخ: للمغيث، والمستغيث، والهاجد: للمصلي في الليل، والنائم، والوهدة: للانحدار، والارتفاع، والتعزيز: للإكرام، والإهانة، والتقريظ: للمدح، والذم، وترب: للغني، والفقير، والإهماد: للسرعة في السير، والإقامة، وعسعس: إذا أقبل، وإذا أدبر، قال تعالى في سورة التكوير:{وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ} والقرء: للحيض، والطهر.

ومنه قيل في قوله تعالى في سورة (طه) رقم [62] وفي سورة (الأنبياء) رقم [3]: {وَأَسَرُّوا النَّجْوى:} إن أسروا يحتمل أن يكون بمعنى: أظهروا، وأن يكون بمعنى: أخفوا، فهو من الأضداد، وأيضا قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:

{وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ} كما قيل به في قول امرئ القيس-وهو الشاهد رقم [472] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وهو من معلقته رقم [32] -:[الطويل]

ص: 702

تجاوزت أحراسا عليها ومعشرا

عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

{وَلا يُغْنِي:} لا ينفع، ولا يدفع. {عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً} أي: من الأموال، والأولاد. قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [10]:{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً} . {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ} أي: لم تنفعهم الأصنام التي اتخذوها آلهة من دون الله.

الإعراب: {مِنْ وَرائِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {جَهَنَّمُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: واو الحال. (لا): نافية. {يُغْنِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل.

{عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ولا يغني عنهم الذي، أو شيء كسبوه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ولا يغني عنهم كسبهم. {شَيْئاً:} مفعول: {يُغْنِي} . {وَلا مَا اتَّخَذُوا:} معطوف على: {ما كَسَبُوا} فهو مثله إعرابا، وتأويلا. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، وهو العائد، أو الرابط، والمفعول الأول، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَوْلِياءَ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» ، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَوْلِياءَ:} مفعول به، وجملة:{وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير، وهو أقوى وأولى من العطف على الجملة الاسمية. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ:} صفة: {عَذابٌ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب حال، وهو أقوى من الاستئناف.

{هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}

الشرح: {هذا هُدىً} أي: القرآن، وكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هدى، ونور، وضياء للناس.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ:} جحدوا القرآن، وأنكروه، وقالوا: سحر، أو كهانة. {لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ:} الرجز: هو العذاب الشديد، كما قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [59]:{فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ} .

الإعراب: {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {هُدىً:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

ص: 703

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات): مضاف، و {رَبِّهِمْ:}

مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر «الذين» ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {مِنْ رِجْزٍ:} متعلقان ب: {عَذابٌ،} أو بمحذوف صفة له. {أَلِيمٌ:} صفة: {عَذابٌ،} ويقرأ بالجر على أنه صفة: {رِجْزٍ} .

{اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}

الشرح: {اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ:} ذلّله لكم بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب، ولا يمنع الغوص فيه على ضخامته، وعظمه. {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} أي:

لتسير السفن على سطحه بمشيئة الله، وإرادته، وقدرته. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: ولتطلبوا من فضل الله تعالى بسبب التجارة والغوص في البحر على اللؤلؤ، والمرجان، وصيد الأسماك وغيرها. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: ولأجل أن تشكروا الله على ما أنعم به عليكم، وتفضل. قال القرطبي: ذكر الله كمال قدرته، وتمام نعمته على عباده، وبيّن: أنه خلق ما خلق لمنافعهم، وكل ذلك من فعله، وخلقه، وإحسان منه، وإنعام.

هذا؛ والفعل: شكر، يشكر يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له، والشكر: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، ومن أسماء الله تعالى: الشكور، ومعناه هو الذي يجازي على يسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، والشاكر يستحق المزيد من النعم، والجاحد يستوجب سلب النعم، والعقاب الشديد، قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [7]:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} .

هذا؛ والفلك بضم الفاء، وسكون اللام، يطلق على المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، فقد أفرد سبحانه وتعالى في هذه الآية، وذكّر، وقال تعالى في سورة (البقرة) [164]:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ} فأنّث، ويحتمل الإفراد، والجمع، وقال جلّ وعلا شأنه في سورة (يونس) رقم [22]:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع، وكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى معنى المركب، فتذكر، وإلى معنى السفينة، فتؤنث، وقد ألغز فيها الشاعر؛ حيث قال:[الطويل]

ص: 704

مكسّحة تجري ومكفوفة ترى

وفي بطنها حمل على ظهرها يعلو

فإن عطشت عاشت وعاش جنينها

وإن شربت ماتت وفارقها الحمل

ولا تنس أنّ، أوّل من اخترع السفينة-وهي الفلك-نوح، على نبينا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ومن تصميمها، وشكلها أخذت البشرية تصنع السفن، وتتطور جيلا بعد جيل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحاضر. هذا؛ وقد كانت السفن في الزمن الماضي تسير بواسطة الرياح، وأمّا في أيامنا هذه، فإنها تسير بواسطة البخار، ففي الزمن الماضي كان البحارون يلقون العناء الشديد إذا اضطرب البحر، أو عاكست الرياح مسير السفينة، وقد عبّر المتنبي عن ذلك بقوله-وهو جار مجرى المثل-:[البسيط]

ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه

تأتي الرياح بما لا تشتهي السّفن

هذا؛ والفلك بفتحتين: مدار النجوم الذي يضمها، وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وجمعه: أفلاك ويجمع على فلك أيضا مثل: أسد، وأسد. وقيل: الفلك: السماء الذي فيه الكواكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر له أن يجري فيه. وقيل: الفلك: طاحونة كهيئة فلك المغزل، فهو الذي تجري فيه النجوم، وهو مستدير كاستدارة الرحى. وقيل غير ذلك.

وقال أصحاب الهيئة: الأفلاك: أجرام صلبة، لا ثقيلة، ولا خفيفة، غير قابلة للخرق، والالتئام، والنمو، والذبول. والحق: أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات إلاّ بإخبار الصادق، فسبحان الخالق، المدبر لخلقه بالحكمة، والقدرة الباهرة غير المتناهية.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {سَخَّرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْبَحْرَ:} مفعول به، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لِتَجْرِيَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {الْفُلْكُ:} فاعله، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{سَخَّرَ} . {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {بِأَمْرِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْفُلْكُ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَلِتَبْتَغُوا:} معطوف على: {لِتَجْرِيَ،} وهو مثله في الإعراب. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَلَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها، وجملة:{تَشْكُرُونَ} في محل رفع خبر: (لعلّ)، والجملة الاسمية معطوفة على التعليلين السابقين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 705