المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الدّخان {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الدخان)، وهي مكية - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الدّخان {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الدخان)، وهي مكية

‌سورة الدّخان

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سورة (الدخان)، وهي مكية بالإجماع إلاّ قوله تعالى:{إِنّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ} وهي سبع. وقيل: تسع وخمسون آية، وثلاثمئة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمئة وواحد وثلاثون حرفا. انتهى. خازن، وسميت سورة (الدخان) لأنّ الله تعالى جعله آية لتخويف الكفار؛ حيث أصيبوا بالقحط والمجاعة بسبب تكذيبهم لرسول الله، وبعث الله عليهم الدخان؛ حتى كادوا يهلكون، ثم نجاهم الله ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} .

هذا؛ وقد ورد في فضلها، والحثّ على قراءتها، ولا سيما في ليلة الجمعة أحاديث كثيرة، منها ما يلي: عن أبي رافع-رضي الله عنه-قال: «من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له، وزوّج من الحور العين» ، رواه الدارمي، ورفعه الثعلبي عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له» . وفي لفظ له آخر عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» . وعن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة» . انتهى. قرطبي.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (3)}

الشرح: {إِنّا أَنْزَلْناهُ} أي: أنزلنا القرآن. {فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ:} في ليلة القدر، ابتدئ فيها إنزال القرآن، وأنزل فيها من اللوح المحفوظ جملة إلى سماء الدنيا، ووضع في مكان اسمه بيت العزة، ثم أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي، والأيام في ثلاث وعشرين سنة، وبركتها لذلك، فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية، والدنيوية، ولما فيها من نزول الملائكة، والرحمة، وإجابة الدعوة، وقسم النعمة، وفصل الأقضية. ومعنى إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا: أنّ

ص: 657

جبريل عليه السلام أملاه منه على ملائكة السماء الدنيا، فكتبوه في صحف، وكانت عندهم في محل من تلك السماء يسمى بيت العزة، ثم نجّمته الملائكة المذكورون على جبريل في ثلاث وعشرين سنة، ينزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع، والأحداث، ومقتضيات الأحوال.

هذا؛ وقيل: إن المراد بالليلة المباركة: ليلة النصف من شعبان، والقول الأول هو الأكثر، بل والمعتمد، لقوله تعالى في سورة (القدر):{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ولمطابقة قوله هنا: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ولقوله تعالى في سورة (القدر) أيضا: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وليلة القدر في شهر رمضان على أصح الأقوال، وأقواها. {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ} أي: مخوفين، والمعنى: لتنذر به الخلق؛ لأنّ من شأننا، وعادتنا ألا نترك الناس دون إنذار، وتخويف وتحذير من العقاب؛ لتقوم الحجة عليهم.

هذا؛ و (نا): في قوله تعالى: {إِنّا كُنّا} و {أَنْزَلْناهُ} ونحو ذلك فقد قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في كتابه: «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح» : وقوله تعالى: (جعلنا)(وهبنا).

(نحن) و (إنا) لفظ يقع في جميع اللغات على من له شركاء، وأمثال، وعلى الواحد العظيم المطاع، الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا له شركاء، ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: فعلنا، وإنا، ونحن

إلخ، ولا يريدون: أنهم ثلاثة ملوك. فمالك الملك رب العالمين، ورب كل شيء، ومليكه هو أحق أن يقول: فعلنا، ونحن، وإنا

إلخ، مع أنه ليس له تعالى شريك، ولا مثل، بل له جنود السموات، والأرض. انتهى.

أقول: و (نا): هذه تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، كما يزعم الملحدون والكافرون، فالله لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم به العبد، ذكرا كان، أم أنثى، فيقول: أخذنا، وأعطينا

إلخ، وليس معه أحد، والغاية من هذا الكلام الرد على النصارى الذين يدخلون الشبهة على السذج من المسلمين بأن الإله ثلاثة أقانيم:

الأب، والابن، وروح القدس، ويدعمون شبهتهم هذه بالألفاظ الموجودة في القرآن، والتي ظاهرها يفيد الجمع. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْزَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {فِي لَيْلَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُبارَكَةٍ:} صفة: {لَيْلَةٍ،} والجملة الاسمية: {إِنّا أَنْزَلْناهُ..} .

إلخ جواب القسم. وقيل: الجملة الثانية جواب القسم، وهذه معترضة. وقيل: الثانية خبر ثان.

وقيل: هي مستأنفة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {مُنْذِرِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن

ص: 658

الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:

{كُنّا مُنْذِرِينَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا كُنّا..} . إلخ قد رأيت الأقوال السابقة فيها. وقيل: مستأنفة، وتفسيرية.

{فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر، ما كان من حياة، أو موت، أو رزق. وروى حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ربيعة بن كلثوم، قال: سأل رجل الحسن، وأنا عنده، فقال: يا أبا سعيد! أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والذي لا إله إلاّ هو، إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق، وأجل، ورزق وعمل إلى مثلها. وقال ابن عباس أيضا: يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت، وحياة، ورزق، ومطر؛ حتى الحج، يقال: يحج فلان ويحج فلان. وقال في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق؛ وقد وقع اسمه في الموتى. وهذه الإبانة لأحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق، ولم يزد ذلك في علم الله عز وجل. انتهى. قرطبي بتصرف كبير. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وقد بينات ضعفه في الآية السابقة.

وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة النصف من شعبان، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل، والصواعق، والخسف. ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم. ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم يعطى كل عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. انتهى. قرطبي وزمخشري.

الإعراب: {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {يُفْرَقُ:} مضارع مبني للمجهول.

{كُلُّ:} نائب فاعل، وهو مضاف، و {أَمْرٍ} مضاف إليه. {حَكِيمٍ:} صفة: {أَمْرٍ} . والجملة الفعلية يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون صفة ل:{لَيْلَةٍ} وما بينهما اعتراض. وقال الزمخشري:

فإن قلت: ما موقع هاتين الجملتين: {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ} و {فِيها يُفْرَقُ..} . إلخ؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم، الذي هو:{إِنّا أَنْزَلْناهُ} .

{أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (5)}

الشرح: أي: جميع ما نقدره في تلك الليلة، وما نوحي به إلى الملائكة من شؤون العباد هو أمر حاصل من جهتنا بعلمنا، وتقديرنا، وإنا نرسل الأنبياء إلى الخلق بالشرائع، والأحكام

ص: 659

الإلهية؛ لهدايتهم، وإرشادهم. وقال النقاش: الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده. والأول أقوى، وأصح.

الإعراب: {أَمْراً:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، وسماه الزمخشري منصوبا على الاختصاص، أو هو حال من كل أمر؛ أي بمعنى:

آمرين، أو من آمر لتخصيصه بالصفة، أو من ضميره المستتر في {حَكِيمٍ}. وقيل: هو مفعول مطلق، والتقدير: أنزلناه إنزالا. وأجيز اعتباره مفعولا لأجله، وناصبه إما:{أَنْزَلْناهُ،} وإما:

{مُنْذِرِينَ،} وإما: {يُفْرَقُ،} وهذا أضعف الأقوال، وأضعف منه تجويز أبي البقاء اعتباره بدلا من الهاء من:{أَنْزَلْناهُ} . {مِنْ عِنْدِنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَمْراً،} و (نا):

في محل جر بالإضافة. {إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ} وهي هنا مستأنفة، أو للتعليل، فلا محلّ لها على الاعتبارين. وقال النسفي: هي بدل من قوله: {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ} . هذا؛ وقرئ برفع (أمر) على تقدير: هو أمر.

{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في معنى الآية: رأفة مني بخلقي، ونعمة عليهم بعثت إليهم من الرسل. هذا؛ أو المراد إنزال القرآن في ليلة مباركة كان فيه رحمة للعباد. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ:} لأقوال العباد جميعها سرها، وجهرها. {الْعَلِيمُ:} بأفعالهم صغيرها، وكبيرها، وظاهرها، وخافيها. ولا تنس الالتفات من التكلم إلى الغيبة، ولو جرى الكلام على منوال ما تقدم؛ لقال: رحمة منا.

الإعراب: {رَحْمَةً:} فيه خمسة أوجه: مفعول لأجله، والعامل فيه، إما:{أَنْزَلْناهُ،} وإما:

{أَمْراً،} وإما: {يُفْرَقُ،} وإما: {مُنْذِرِينَ} . الثاني: أنه مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير:

رحمنا رحمة. الثالث: أنه مفعول به لمرسلين. الرابع: أنه حال من ضمير: {مُرْسِلِينَ؛} أي: ذوي رحمة. الخامس: أنه بدل من: {أَمْراً} . انتهى. جمل نقلا من السمين. {مِنْ رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {رَحْمَةً،} أو بمحذوف صفة لها، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِنَّهُ:}

حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {هُوَ:} ضمير فصل لا محلّ له، أو هو توكيد لاسم (إنّ) على المحل. {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} خبران ل:(إنّ). هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ، و {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} خبران عنه، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لما قبلها.

{رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)}

الشرح: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما:} مالك السموات، والأرض، وما بينهما، ومتصرف فيها تصرف الملاك، فإن وجودهما، وانتظامهما على هذا النمط البديع الصنع، من

ص: 660

أوضح الدلائل على وجود الله، ووحدانيته واستقلاله بملكهما، وتصرفهما. هذا؛ ولم يقل: وما بينهن؛ لأنّ المراد بين الصنفين، أو النوعين، أو الشيئين. وانظر ما ذكرته في (الشورى) رقم [29].

{إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أي: إن كنتم موقنين بأن الله رب السموات والأرض، والمتصرف فيهما وحده؛ فآمنوا به، ووحّدوه، واعلموا: أنه يرسل الرسل، وينزل الكتب السماوية لهداية الناس أجمعين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

الإعراب: {رَبِّ:} بالجر هو بدل من: {رَبِّكَ،} والجملة الاسمية معترضة بين البدل، والمبدل منه، ويقرأ بالرفع على أنه خبر ثالث ل:(إنّ)، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو رب، أو هو مبتدأ خبره الجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ} . وعليه فالجملة الشرطية معترضة بين المبتدأ، وخبره، و {رَبِّ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. «ما» : اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.

{مُوقِنِينَ:} خبره منصوب

إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف. انظر تقديره في الشرح.

{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}

الشرح: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} أي: لا رب غيره، ولا معبود سواه؛ لأنه المتصف بصفات الجلال، والكمال، ومتصف بالقدرة، والانتقام، قادر على الإماتة، والإحياء، فهو تقرير لوحدانيته تعالى. {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي: مالككم، ومالك من تقدّم منكم، فأنتم مربوبون له تعالى، ومقهورون. هذا؛ وبين {يُحْيِي} و (يميت) طباق.

الإعراب: {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، التقدير: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُوَ:} يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اعتباره بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع بالابتداء. والثاني:

اعتباره بدلا من {لا} واسمها؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: اعتباره بدلا من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. وهو الأولى، والأقوى، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ في الآية رقم [6]، أو هي خبر:{رَبُّ} في الآية السابقة على رفعه. {يُحْيِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{رَبِّ السَّماواتِ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنفصل، أو من الضمير المستتر في الخبر المحذوف،

ص: 661

وكلاهما عائد على {رَبِّ السَّماواتِ،} والرابط في الجملة الحالية: الضمير فقط. وجملة:

{وَيُمِيتُ} معطوفة عليها. {رَبُّكُمْ:} بدل، أو بيان، أو صفة ل:{رَبِّ السَّماواتِ} على قراءتي:

الجر، والرفع. وقال أبو البقاء: أي: هو ربكم. أي: أنه خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون خبرا آخر، وأن يكون فاعل:{وَيُمِيتُ،} وفي {يُحْيِي} ضمير يرجع إلى ما قبله، أو على شريطة التفسير، وفي اعتباره فاعلا ضعف ظاهر. {وَرَبُّ:} معطوف على ما قبله، و (ربّ) مضاف، و {آبائِكُمُ} مضاف إليه. {الْأَوَّلِينَ:} صفة: {آبائِكُمُ} مجرور

إلخ.

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}

الشرح: المعنى ليسوا موقنين فيما يظهرونه من الإيمان في قولهم: الله خالقنا، وخالق السموات والأرض، بل هم في شك كبير من أمر البعث بعد الموت، فهم يلعبون، ويسخرون.

قال شيخ زاده: التفات من الخطاب إلى الغيبة، فقال:{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} تحقيرا لشأنهم، وإبعادا لهم عن موقف الخطاب، لكونهم من أهل الشك، والامتراء، وكون أفعالهم الهزء واللعب لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وعدم تمييزهم بين الحق، والباطل، والضار، والنافع. ويقال لمن أعرض عن المواعظ: لاعب، وهو كالصبي الذي يلعب، فيفعل ما لا يدري عاقبته.

الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي شَكٍّ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وجملة:{يَلْعَبُونَ} في محل رفع خبر ثان، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10)}

الشرح: المعنى: انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان ظاهر حاله، لا يشك أحد في أنه دخان. وفي هذا الدخان أقوال ثلاثة: الأول: أنه من أشراط الساعة لم يجيء بعد، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما، يملأ ما بين السماء والأرض، فأمّا المؤمن فيصيبه منه مثل الزكام، وأما الكافر، والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويضيق أنفاسهم، وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال: إن الدخان لم يأت بعد: علي، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وزيد بن علي، والحسن، وابن أبي مليكة، وغيرهم-رضي الله عنهم أجمعين-.

وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا، ونحن نتذاكر الساعة، فقال:«ما تذاكرون؟» . قالوا: نتذاكر الساعة. قال: «إنّها لن تقوم

ص: 662

حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجّال، والدابّة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم».

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [61] من سورة (الزخرف).

القول الثاني: أن الدخان هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا. قاله ابن مسعود-رضي الله عنه. قال: وقد كشفه الله عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم، فقال: إنما كان هذا؛ لأنّ قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، عليه السلام، فأصابهم قحط، وجهد؛ حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى:

{فَارْتَقِبْ}

{عَذابٌ أَلِيمٌ} قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله استسق لمضر؛ فإنّها قد هلكت، قال:«لمضر؟ إنك لجريء!» فاستسقى، فسقوا، فنزلت:{إِنَّكُمْ عائِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية؛ عادوا إلى حالهم من العصيان، والطغيان، فأنزل الله عز وجل:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنّا مُنْتَقِمُونَ} قال: يعني يوم بدر. قال أبو عبيدة: والدخان: الجدب. قال القتبي: سمي دخانا ليبس الأرض منه حين يرتفع منها كالدخان، والذي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يدعو الله هو: أبو سفيان، وهو ما في السيرة الحلبية، وزيني دحلان.

القول الثالث: إنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة. قاله عبد الرحمن الأعرج.

انتهى. قرطبي بتصرف، واختصار مني، والقول الثالث ضعيف جدا، والقول الأول اعتمده ابن عباس-رضي الله عنهما.

هذا؛ وعد ما ذكر الله في هذه الآيات من الإخبار عن المغيبات التي تقع في المستقبل، قال الزرقاني-رحمه الله تعالى-: وفي هذه الآيات عند التأمل خمسة تنبؤات: أولها: الإخبار بما يغشاهم من القحط وشدة الجوع، حتى يرى الرجل بينه وبين السماء كهيئة الدخان. الثاني:

الإخبار بأنهم سيضرعون إلى الله حين تحلّ بهم هذه الأزمة. الثالث: الإخبار بأنّ الله سيكشف عنهم ذلك العذاب قليلا. الرابع: الإخبار بأنهم سيعودون إلى كفرهم، وعتوهم. الخامس:

الإخبار بأنّ الله سينتقم منهم يوم البطشة، وهو يوم بدر. ثم قال: ولقد حقق الله ذلك كله، ما انخرم منه ولا نبوءة واحدة، فأصيبوا بالقحط حتى أكلوا العظام، وجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من شدة جوعه، وجهده، ثم قالوا متضرعين:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ} ثم كشف الله عنهم العذاب قليلا، ثم عادوا إلى كفرهم، وعتوهم، فانتقم الله منهم يوم بدر، فبطش الله بهم البطشة الكبرى؛ حيث قتل منهم سبعون، وأسر سبعون، وأديل للمسلمين منهم. أرأيت ذلك كله؛ هل يمكن أن يصدر مثله من مخلوق؟! كلا بل هو الله العزيز الحكيم. انتهى. علوم القرآن للصابوني.

ص: 663

الإعراب: {فَارْتَقِبْ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة. (ارتقب): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يَوْمَ:} مفعول به. {تَأْتِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {السَّماءُ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها.

{بِدُخانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة: (دخان)، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الشك حاصلا منهم، وواقعا فارتقب

إلخ، والكلام كله مستأنف لا محلّ له.

{يَغْشَى النّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)}

الشرح: {يَغْشَى النّاسَ:} يحيط بهم، ويشملهم، ويلبسهم. {هذا عَذابٌ أَلِيمٌ} أي:

يقول الله لهم. وقيل: هم يقولون: هذا عذاب أليم. فمن قال: إنّ الدخان قد مضى؛ فهو حكاية حال ماضية، ومن جعله مستقبلا؛ فهو حكاية حال آتية.

الإعراب: {يَغْشَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى (دخان). {النّاسَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة:(دخان)، أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محلّ له. {عَذابٌ:} خبر المبتدأ. {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف. انظر الشرح.

{رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ (12)}

الشرح أي: يقولون: ربنا اكشف عنّا العذاب؛ أي: فهم يستغيثون بالله عز وجل أن يرفع عنهم العذاب. {إِنّا مُؤْمِنُونَ:} قال البيضاوي: وهذا؛ وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، وقد رأيت القولين في هذا العذاب، وهو الدخان، هل وقع لقريش، أو يكون من أمارات الساعة؟ قال ابن كثير: أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وانتقامه، سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلّت عظمته:{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} رقم [27] من سورة (الأنعام)، وكذا قوله جلّ وعلا:{وَأَنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} رقم [44] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {رَبَّنَا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اِكْشِفْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر، تقديره: أنت. {عَنَّا:}

متعلقان بما قبلهما. {الْعَذابَ:} مفعول به. {إِنّا:} حرف مشبّه بالفعل. و (نا): اسمها.

ص: 664

{مُؤْمِنُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب شرط محذوف، التقدير: إن تكشف عنا العذاب؛ فإنا مؤمنون. والآية بكاملها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقولون: ربنا

إلخ، والجملة على هذا التقدير في محل نصب حال من {النّاسَ} والرابط: الضمير فقط، وعليه فالجملة الفعلية المقدرة في الآية السابقة يقول الله لهم:{هذا عَذابٌ أَلِيمٌ} معترضة بين الحال، وعاملها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{أَنّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)}

الشرح: المعنى: كيف يتذكرون، ويتعظون بهذه الحالة التي هم فيها؛ وقد جاءهم ما هو أعظم، وأدخل في وجوب الطاعة، وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرات، والآيات البينات الباهرات، ومع ذلك لم يؤمنوا به، ولم يتبعوه؟!

الإعراب: {أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع خبر مقدم. وقيل: بمعنى:

«كيف» في محل نصب على الظرفية في محل رفع خبر مقدم. ولا وجه له، ولو قيل: هو بمعنى:

«من أين» لكان أوجه. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان. {الذِّكْرى:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول لقول محذوف، التقدير: يقول الله: أنى لهم الذكرى. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَهُمْ:} ماض، ومفعوله. {رَسُولٌ:} فاعله.

{مُبِينٌ:} صفة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا باللام، والرابط: الواو، والضمير.

{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)}

الشرح: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ:} أعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

متى يتعظون، والله أبعدهم من الاتعاظ والتذكر بعد توليهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم إياه؟! {وَقالُوا:} أي: كفار قريش. {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} أي: يعلمه بشر هو عدّاس غلام أعجمي لبعض ثقيف، قال تعالى في سورة (النحل) رقم [103]:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . {مَجْنُونٌ} أي: تلقي إليه الجن هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشى.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَقالُوا:}

ص: 665

فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مُعَلَّمٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو معلم. {مَجْنُونٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{إِنّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)}

الشرح: {إِنّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً} أي: وقتا قليلا، وعد أن يكشف عنهم ذلك العذاب قليلا؛ أي: في زمان قليل؛ ليعلم: أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه عنهم. قاله ابن مسعود-رضي الله عنه. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه. ومن قال: إن الدخان منتظر؛ قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية، وآية من آيات قيام الساعة. انتهى. قرطبي.

وقال البيضاوي: ومن فسّر الدخان بما هو من أشراط الساعة؛ قال: إذا جاء الدخان غوّث الكفار بالدعاء، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدون، ولا يتمهلون.

{إِنَّكُمْ عائِدُونَ:} فعلى قول ابن مسعود: المعنى: إنكم مبعوثون بعد الموت، وعلى قول ابن عباس: إنكم عائدون إلى نار جهنم بعد هذا الدخان.

وقال ابن كثير: يحتمل معنيين: أحدهما: أنّ المعنى: ولو كشفنا عنكم العذاب، ورجعناكم إلى الدار الدنيا؛ لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر، والتكذيب، كقوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} . والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا، بعد انفقاد أسبابه ووصوله إليكم؛ وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان، والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون قد باشرهم. كقوله تعالى في سورة (يونس) [98]:{إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} ولم يكن العذاب باشرهم، واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم، ثم عادوا إليه. انتهى. بحروفه.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبّه بالفعل، و (نا): اسمها. {كاشِفُوا:} خبر «إن» مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: كشفا قليلا، أو صفة زمان محذوف، التقدير: زمانا قليلا، فهو متعلق ب:{كاشِفُوا،} والجملة الاسمية جواب من جهته تعالى عن قولهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ (12)} بطريق الالتفات لمزيد التهديد، والتوبيخ، وما بينهما اعتراض. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمها. {عائِدُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، والجملة الاسمية مستأنفة مبينة أنهم مطبوعون على الكفر والعناد، ومخالفة رب العباد.

ص: 666

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنّا مُنْتَقِمُونَ (16)}

الشرح: {يَوْمَ نَبْطِشُ..} . إلخ: البطش الأخذ بقوة، وعنف. وبطشت اليد: إذا عملت، فهي باطشة، قال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته رقم [107]:[الوافر]

لنا الدّنيا ومن أضحى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

والبطشة الكبرى المراد بها: يوم بدر في قول ابن مسعود، وهو قول ابن عباس، وأبي بن كعب، ومجاهد، والضحاك. وقيل: عذاب جهنم يوم القيامة، قاله الحسن، وعكرمة، وابن عباس أيضا. وقال الرازي: القول الثاني أصح؛ لأنّ يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ، الذي يوصف به هذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، ولما وصف بكونها كبرى؛ وجب أن تكون أعظم أنواع البطش على الإطلاق، وذلك إنما يكون في القيامة. انتهى. صفوة التفاسير.

الإعراب: {يَوْمَ:} مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف لهذا المقدر، أو هو مفعول به لفعل محذوف دلّ عليه:{مُنْتَقِمُونَ} . وقيل: هو بدل من {يَوْمَ تَأْتِي،} والأول أقوى. {نَبْطِشُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {الْبَطْشَةَ:} مفعول به. وقيل: مفعول مطلق. {الْكُبْرى:} صفة:

{الْبَطْشَةَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {إِنّا مُنْتَقِمُونَ:} تقدّم مثلها، والجملة مستأنفة، ومبنية لقدرة الله تعالى على الانتقام.

{وَلَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)}

الشرح: {وَلَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ:} امتحناهم، واختبرناهم بإرسال موسى، وأخيه هارون إليهم. قال الجمل: أي: فعلنا بهم فعل الممتحن، وهو المختبر الذي يريد أن يعلم بحقيقة الشيء، وذلك الامتحان كان بزيادة الرزق، والتمكين في الأرض، وإرسال الرسل، فقوله:{وَجاءَهُمْ..} . إلخ من جملة ما امتحنوا به. انتهى. نقلا من الخطيب. وقوله: قبلهم؛ أي:

قبل هؤلاء؛ ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم، و {كَرِيمٌ} أي: على الله تعالى، أو على المؤمنين، أو في نفسه لشرف نسبه، وفضل حسبه.

الإعراب: {وَلَقَدْ فَتَنّا:} انظر الآية رقم [46] من سورة (الزخرف) ففيها الإعراب واف كاف. {قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {قَوْمَ:}

مفعول به، وهو مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {وَجاءَهُمْ:} الواو: حرف عطف.

ص: 667

(جاءهم): فعل ماض، والهاء مفعول به. {رَسُولٌ:} فاعل. {كَرِيمٌ:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير:«قد» قبلها.

{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)}

الشرح: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: جاءهم، فقال: اتبعوني. ف: {عِبادَ اللهِ} منادى، وعليه ابن هشام في المغني. وقال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله، وأطلقوهم من العذاب. ف:{عِبادَ اللهِ} على هذا: مفعول: مفعول. وقيل:

المعنى: أدوا إليّ سمعكم؛ حتى أبلغكم رسالة ربي. وعلى القول الثاني ففي الكلام استعارة، بمعنى: إطلاقهم وإرسالهم معه، وإليه الإشارة بقوله تعالى في سورة (الشعراء):{فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} . {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ:} غير متهم؛ لدلالة المعجزات على صدقي، أو لائتمان الله إياي على وحيه.

الإعراب: {أَنْ:} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير:«أنه» .

{أَدُّوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، التقدير: أدوهم، أو أدوا حق الله، وعليه ف:{عِبادَ} منادى، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ،} ويضعفه: أنّ الجملة الطلبية لا تقع خبرا للحرف المشبه بالفعل. وأجيز اعتبار (أن) مصدرية، وعلى الوجهين ف:{أَنْ} ومدخولها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأداء حق الله. هذا؛ وأجيز اعتبار (أن) حرف تفسير؛ لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وهي جملة:(جاءهم)، وعليه فالجملة مفسرة لا محلّ لها. {عِبادَ:} منادى، أو هو مفعول به حسب ما رأيت في الشرح، و {عِبادَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {رَسُولٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .

{رَسُولٌ:} خبر (إنّ). {أَمِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محلّ لها.

{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)}

الشرح: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ} أي: ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه، ورسوله، ولا ترتفعوا عن عبادته، وطاعته. وقال قتادة: لا تبغوا على الله. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:

لا تفتروا على الله. والفرق بين البغي، والافتراء: أنّ البغي بالفعل، والافتراء بالقول، وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله. وقال يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله. والفرق بين

ص: 668

التعظيم، والاستكبار: أنّ التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر. ذكره الماوردي انتهى. قرطبي. {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي: بحجة ظاهرة واضحة، وهي ما أرسلني به الله من الآيات البينات، والأدلة القاطعات. وانظر سورة (القصص)[32] شرح البرهان والسلطان.

الإعراب: {وَأَنْ لا تَعْلُوا:} الواو: حرف عطف. (أن): معطوفة على ما قبلها، ويجوز في هذه ما جاز في تلك من أوجه، فعلى اعتبارها ناصبة؛ فالفعل منصوب بها، و (لا): نافية، وعلى اعتبارها مفسرة، أو مخففة؛ ف (لا) ناهية، والفعل مجزوم بها، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية يقال فيها ما قيل بقوله ب:{أَدُّوا إِلَيَّ} . {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {آتِيكُمْ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وإن اعتبرته فعلا مضارعا؛ فهو مرفوع أيضا، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محلّ لها. هذا؛ وقرئ بفتح همزة «(أنّ)» ، وعليه ف:«(أنّ)» واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لكوني آتيكم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {بِسُلْطانٍ:} متعلقان ب: {آتِيكُمْ} على الاعتبارين. {مُبِينٍ:} صفة (سلطان).

{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)}

الشرح: {وَإِنِّي عُذْتُ:} التجأت إليه، وتوكّلت عليه. {أَنْ تَرْجُمُونِ:} أن تؤذوني ضربا، أو شتما، أو قتلا، ومعناه: أنه مستجير، ومستعين بربه، متكل عليه أن يعصمه منهم، ومن كيدهم، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من القتل، أو الرجم. صلّى الله على سيدنا محمد، وعلى موسى، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا.

الإعراب: {وَإِنِّي:} الواو: واو الحال. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.

{عُذْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{آتِيكُمْ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا. {بِرَبِّي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرَبِّكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَرْجُمُونِ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء

ص: 669