الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: تحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، فإنّه مجمع على تحريمهن. وقيل: لم يبعث الله نبيا إلاّ وصاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإقرار لله تعالى بالوحدانية، والطاعة.
فكان المعنى:، أوصيناك يا محمد بما أوصينا به نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والطاعات التي تهذب القلب، والجوارح، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وتحريم الكفر، والقتل، والزنى، والإذاية للخلق، فهذا كله مشروع دينا واحدا، وملة واحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وأزمانهم، وأماكنهم.
واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم. والمراد: فروع الشرائع، وهو فحوى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«الأنبياء بنو علاّت» وفي رواية أخرى: «نحن معشر الأنبياء، أولاد علاّت ديننا واحد» . وفحوى هذا: أنّ الأصل، وهو الأب واحد، واختلاف الأمهات يعني: اختلاف فروع الشرائع. وفي الحديث استعارة ظاهرة لا خفاء فيها. وانظر الإعراب يظهر المعنى، أوضح.
فائدة:
الرسل الخمسة المذكورون في هذه الآية هم أصحاب الشرائع المعظمة المستقلة المتجددة، فكل واحد منهم له شرع جديد، ومن عداهم من الرسل إنّما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله، فشيث، وإدريس بعثا بتبليغ شرع آدم. ومن بين نوح وإبراهيم، وهما هود وصالح بعثا بتبليغ شرع نوح، ومن بين إبراهيم وموسى بعثوا بتبليغ شرع إبراهيم. ومن بين موسى، وعيسى بعثوا بتبليغ شرع موسى.
وأمّا آدم فكان شرعه تنبيها على بعض الأمور، واقتصارا على ضرورات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة، والبقاء، واستمرّ ذلك إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، ووظّف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب، والديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء-صلوات الله، وسلامه عليهم-واحدا بعد واحد، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا، على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى. جمل. والرسل المذكورون في هذه الآية هم أولو العزم، وسموا بذلك؛ لأنّهم تحمّلوا المشاق أكثر من غيرهم، وصبروا على ما نالهم من إيذاء قومهم بعد أن تصدّوا لهدايتهم. وقد جمعهم بعضهم بقوله:[الطويل]
محمد إبراهيم موسى كليمه
…
فعيسى فنوح هم أولو العزم والعلم
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي: عظم، وشقّ عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد، وعبادة الله تعالى، ورفض عبادة الأوثان. {اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ} أي: يصطفي، ويختار لدينه، وتوحيده وعبادته من يشاء من عباده. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أي: يوفق لما ذكر من
رجع إلى الله بالتوبة والإنابة، وأقبل عليه بالعبادة والطاعة. هذا؛ وانظر شرح {الدِّينِ} في سورة (الصافات) رقم [20]، وانظر التعبير ب:(أوصينا) ونحوه في سورة (يس) رقم [50]. وفي الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى التكلم. انظر الالتفات في سورة (الصافات) رقم [137] فإنّه جيد.
وانظر (الوحي) في الآية رقم [7].
الإعراب: {شَرَعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} تقديره: «هو» . {لَكُمْ مِنَ الدِّينِ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: {مِنَ الدِّينِ:} متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. وقد رأيت فيما سبق جواز اعتبارها خبرا عاشرا لقوله:{ذلِكُمُ} في الآية رقم [10]. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. هذا؛ وإن علقت:{مِنَ الدِّينِ} بمحذوف مفعول به؛ التقدير: بين الله لكم، وسنّ طريقا واضحا من الدين؛ فتكون {ما} مفسرة للمفعول المحذوف، و (من) بيان للمفسّر، والمفسّر جميعا. {وَصّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى الله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نُوحاً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها. {وَالَّذِي:} الواو: حرف عطف. (الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على: {ما} . {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذي أوحيناه إليك.
{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب أيضا، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء.
{أَنْ:} حرف تفسير؛ لأنّها سبقت بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وأجيز اعتبارها مصدرية. {أَقِيمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها على اعتبار:{أَنْ} تفسيرية، وتؤول مع:{أَنْ} بمصدر على اعتبارها مصدرية، وهذا المصدر المؤول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو إقامة الدين، وتكون هذه الجملة مفسرة لجملة:{وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ..} . إلخ. وأجيز اعتبار المصدر المؤول بدلا من الموصول، فيكون في محل نصب، أو بدلا من:{الدِّينِ} فيكون في محل جر. وفي أبي السعود: ومحل: {أَنْ أَقِيمُوا} إمّا النصب على أنّه بدل من مفعول {شَرَعَ،} والمعطوفين عليه، أو الرفع على أنّه جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع، كأنّه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو إقامة الدين. وقيل: هو بدل من ضمير: {بِهِ} وليس بذاك؛ لأنّه مع إفضائه إلى خروجه من حيّز الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مستلزم لكون الخطاب في قوله تعالى:{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} للأنبياء المذكورين، عليهم الصلاة، والسّلام، وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر، مع أنّ الظاهر: أنّه متوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم، وأنهم المتفرقون، كما ستحيط به خبرا. انتهى. جمل. {الدِّينِ:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَتَفَرَّقُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)
الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها.
{كَبُرَ:} فعل ماض. {عَلَى الْمُشْرِكِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل:{كَبُرَ} . {تَدْعُوهُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (إلى).
{اللهُ:} مبتدأ. {يَجْتَبِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبره. {إِلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما.
{مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف. التقدير: يجتبي إليه الذي، أو شخصا يشاء اجتباءه. {وَيَهْدِي:} الواو: حرف عطف. (يهدي): مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} .
{إِلَيْهِ:} متعلقان به. {مِنَ:} مفعول به. {يُنِيبُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {مِنَ} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة له، أو صفة له، وجملة:{وَيَهْدِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {وَما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ..} . إلخ: هذا شروع في بيان حال أهل الكتاب عقيب الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك، وقال القرطبي: قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
يعني قريشا. {إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي.
دليله: قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [42]: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ..} . إلخ يريد نبيا. وقيل: أمم الأنبياء المتقدمين، فإنّهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى، فآمن قوم، وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضا: يعني: أهل الكتاب، دليله في سورة (البينة) قوله تعالى:
{وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} فالمشركون قالوا: لم خصّ بالنبوة؟! واليهود حسدوه لما بعث، وكذا النصارى.
{بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: بغيا من بعضهم على بعض طلبا للرياسة، فليس تفرقهم لقصور في البيان، والحجج، ولكن للبغي، والظلم، والاشتغال بالدنيا. انتهى. قرطبي. وأيضا: البغي: الظلم، والعدوان، والحسد، والعناد، والطغيان.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي: في تأخير عذاب الاستئصال عن هؤلاء، وهي كلمة الإنظار، والإمهال بتأخير تعذيب المجرمين إلى يوم القيامة، فإنّه يوم الفصل والجزاء. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى:} هو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدرة لهم في الدنيا. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بإنزال ما يستحقه المجرم والمكذب من العذاب ليتميز به عن المحق. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي: وإن قومك يا محمد لفي شك من القرآن موقع في الريبة، لتبلد عقولهم، وعمى أبصارهم.
هذا؛ وقيل: إن الكلمة التي سبقت هي قوله تعالى في الحديث القدسي: «سبقت رحمتي غضبي» . {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ} أي: التوراة، والإنجيل، وهم اليهود، والنصارى؛ أي:
الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} من بعد المختلفين الأولين في الحق، أو المراد:
كفار قريش الذين أورثوا القرآن من بعد اليهود، والنصارى. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي: من محمد صلى الله عليه وسلم، أو من القرآن، وعلى كلا الوجهين فالشك هنا ليس على معناه المشهور من اعتدال النقيضين، وتساويهما في الذهن، بل المراد به ما هو أعم؛ أي: مطلق التردد. انتهى. جمل نقلا من كرخي.
أمّا الريب فهو: الشك، تقول: رابني هذا الأمر، أي: أوقعني في شك، وحقيقة الريبة قلق النفس، واضطرابها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
تنبيه: في (كلمة) ثلاث لغات: الأولى: كلمة على وزن: نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبه نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم، كنبق. والثانية: كلمة على وزن: سدرة، وجمعها: كلم كسدر. والثالثة: كلمة على وزن: تمرة، وجمعها: كلم، كتمر.
وهما لغتا تميم. وكذلك كل ما كان على وزن فعل، نحو كبد، وكتف، فإنّه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق جاز فيه لغة رابعة، وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو فخذ وشهد، وهي في الأصل: قول مفرد، مثل: محمد، ومحمود، وقام، وقعد، وفي ولن.
وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [5]:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» : [الطويل]
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
…
وكلّ نعيم لا محالة زائل
المراد ب: «كلمة» الشطر الأول بكامله. وتقول: قال فلان كلمة، والمراد: بها: كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربية في القديم، والحديث، وانظر شرح (قضي) في سورة (فصلت)[12].
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {تَفَرَّقُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في المعنى في محل نصب على الاستثناء في أعم الأحوال. {ما:} مصدرية. {جاءَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {الْعِلْمُ:} فاعله.
{بَغْياً:} مفعول لأجله، وقيل: حال بمعنى: باغين. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بالمصدر بغيا، والهاء في محل جر بالإضافة، و {ما} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة:{بَعْدِ} إليه، التقدير: إلاّ من بعد مجيء العلم إليهم.
{وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط.
{كَلِمَةٌ:} مبتدأ. {سَبَقَتْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{كَلِمَةٌ،} والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{كَلِمَةٌ} . {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {سَبَقَتْ؛} أي: ممتدة إلى أجل. {مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، وخبر المبتدأ محذوف، التقدير: موجودة، والجملة الاسمية: «كلمة
…
موجودة» لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. {لَقُضِيَ:} اللام: واقعة في جواب (لولا). (قضي): فعل ماض مبني للمجهول. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، على أنّه نائب فاعله. وقيل: نائب الفاعل يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، التقدير: قضي القضاء، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [54] من سورة (سبأ)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والشبه بينهما شديد وقوي، وجملة:{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} جواب (لولا)، لا محلّ لها، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.
{وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {أُورِثُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة. (في شك): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {مِنْهُ:} متعلقان ب: {شَكٍّ} لأنّه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفته.
{مُرِيبٍ:} صفة: {شَكٍّ،} والجملة الاسمية: {وَإِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {فَلِذلِكَ:} فلأجل ذلك التفرق، أو لأجل ذلك الكتاب، أو لأجل ذلك العلم، الذي أوتيته يا محمد! {فَادْعُ} أي: إلى الاتفاق على الملة الحنيفية؛ التي بعثك الله بها،
وأيّدك، ونصرك من أجلها، أو الاتباع لما أوتيته. وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع «إلى» لإفادة الصلة، والتعليل. انتهى. بيضاوي بتصرف.
{وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ:} لما بيّن الله أمر المختلفين في التوحيد، والنبوة، وأطنب في شرح الوعد، والوعيد؛ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها، بلا إفراط، ولا تفريط، وهي تشمل العقائد، والأعمال، والأخلاق، فإنّها في العقائد: اجتناب التشبيه، والتعطيل. وفي الأعمال:
الاحتراز عن الزيادة، والنقصان، والتغيير، والتبديل. وفي الأخلاق: التباعد عن طرفي الإفراط، والتفريط. وهذا في غاية العسر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«شيّبتني سورة هود» . لأنّ هذه الجملة مذكورة فيها برقم [112]. وانظر (الاستقامة) في سورة (فصلت) رقم [30].
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ:} الباطلة المختلفة، وما اختلقوه، وكذبوه، وافتروه من عبادة الأوثان.
وقل يا محمد: {آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ} أي: بجميع الكتب السماوية؛ التي أنزلها الله على رسله، لا كالكافرين الذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، كما حكى الله عنهم قولهم في سورة (النساء) رقم [150]:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا} .
{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي: أمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم؛ إذا تحاكمتم إليّ، وتخاصمتم في شيء من الأشياء، فأنا مأمور بأن أحكم بينكم في العدل في جميع الأحوال، والأعمال، والشؤون، ولا أحيف على أحد منكم بأكثر مما يستحق. {اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ:}
خالقنا، وخالقكم، ورازقنا، ورازقكم، ويتولى جميع أمورنا، وأموركم، فيجب أن نخصه بالعبادة، والطاعة، والإنابة. {لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} أي: لنا جزاء أعمالنا، ولكم جزاء أعمالكم من خير، وشر، لا نستفيد من حسناتكم، ولا نتضرر من سيئاتكم. قال ابن كثير: هذا تبرؤ منهم؛ أي: نحن براء منكم، كقوله تعالى:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} رقم [41] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وقوله تعالى في سورة (الكافرون):{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .
{لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ:} لا حجاج بمعنى: لا خصومة بيننا، وبينكم؛ إذا الحق ظهر، ولم يبق للمحاجة مجال، ولا للخلاف مبدأ سوى العناد. {اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا:} يوم القيامة، فيفصل بيننا، وينتقم لنا منكم، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق، وقيام الحجة، والإلزام، قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف حوجزوا؟ وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل، وتخريب البيوت، وقطع النخيل، والإجلاء؟! قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة، لا المقاتلة. انتهى. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ:} المرجع والماب، فيجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ.
الإعراب: {فَلِذلِكَ:} الفاء: حرف استئناف. (لذلك) جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب. {فَادْعُ:} الفاء: زائدة، وقيل: تأكيد للأولى. وليس بشيء.
(ادع): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. هذا؛ وإن اعتبرت الفاء الفصيحة، والجملة لا محلّ لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الشك واقعا منهم، وجزاء كل من الفريقين: المؤمن، والصالح لا بد منه؛ فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية
…
إلخ؛ فلست مفندا. {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية.
{أُمِرْتَ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، والتقدير: استقم استقامة كائنة مثل أمر الله لك بها، أو التقدير: مثل التي أمرت بها. فتكون (ما) موصولة اسمية. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنّما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال، من المصدر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنّما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاّ في مواضع محصورة، وليس هذا منها.
وجملة: {وَاسْتَقِمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها على الوجهين المعتبرين فيها.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَتَّبِعْ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» . {أَهْواءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» . {آمَنْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
بالذي، أو بشيء أنزله الله. {مِنْ كُتُبٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:(ما)، وجملة:{وَقُلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.
{وَأُمِرْتُ:} الواو: واو الحال. (أمرت): ماض ونائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من تاء الفاعل ب:{آمَنْتُ،} والرابط: الضمير، والواو معا. {لِأَعْدِلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. هذا؛ وإن اعتبرت اللام صلة بدلا من:«أن» فحينئذ تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: أمرت أن أعدل. {بَيْنَكُمُ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {اللهُ:} مبتدأ. {رَبُّنا:} خبره. {وَرَبُّكُمْ:} معطوف عليه. و (نا) والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا
محلّ لها. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَعْمالُنا:} مبتدأ مؤخر، و (نا):
في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَلَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَعْمالُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
{لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {حُجَّةَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {لا} . {وَبَيْنَكُمُ:} معطوف على ما قبله، و (نا)، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{لا حُجَّةَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {اللهُ:} مبتدأ. {يَجْمَعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {وَإِلَيْهِ:} الواو: حرف عطف. (إليه): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{يَجْمَعُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
تنبيه: جاء في مختصر ابن كثير ما يلي: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها. قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي فإنّها أيضا عشرة فصول كهذه. انظرها برقم [255] من سورة (البقرة).
الشرح: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ:} المراد بهم: المشركون. {بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ:} قال مجاهد: من بعد ما أسلم الناس. قال: وهؤلاء قد توهموا: أنّ الجاهلية تعود. وقال قتادة:
الذين يحاجون في الله هم اليهود، والنصارى. ومحاجتهم قولهم: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب، وأنهم أولاد الأنبياء. هذا؛ والضمير راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من السياق الدال عليه الفعل. وفي البيضاوي: من بعدما استجاب له الناس، ودخلوا في دين الله، أو من بعدما استجاب الله لنبيه، فأظهر دينه، وأيده بنصره في غزوة بدر. انتهى. بتصرف.
{حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: لا ثبات لها كالشيء الذي يزلّ عن موضعه، يقال: دحضت حجته دحوضا: بطلت، وأدحضها الله. والإدحاض: الإزلاق. ومكان دحض ودحض: أي:
زلق، ودحضت رجله، تدحض دحضا: زلقت، ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت. هذا؛ وسماها الله حجة، وإن كانت شبهة؛ لزعمهم أنّها حجة، وفيها استعارة واضحة. {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ:} شديد من ربهم. {وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} أي: موجع في الآخرة.
عن أبي أسماء: أنّه دخل على أبي ذر-رضي الله عنه-وهو بالربذة، وعند امرأة سوداء مسغبة ليس عليها أثر المحاسن، ولا الخلوق، فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا عليّ بدنياهم، وإن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إليّ أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض، ومزلّة، وإنا إن نأت عليه، وفي أحمالنا اقتدار، واضطهار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه؛ ونحن مواقير؛ أي: مثقلون خائفون. أخرجه الإمام أحمد.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية:{يُحَاجُّونَ فِي اللهِ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما. {ما:} مصدرية. {اُسْتُجِيبَ:} ماض مبني للمجهول. {اللهِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعله، و {ما} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة:
{بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد استجابة الله له، واعتبار {ما} موصولة ضعيف. {حُجَّتُهُمْ:}
مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {داحِضَةٌ:} خبره. وأغرب مكي، فقال:{حُجَّتُهُمْ} بدل من الذين، وهو بدل اشتمال، و {داحِضَةٌ} الخبر. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {داحِضَةٌ،} و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جرّ بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{حُجَّتُهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَعَلَيْهِمْ:} الواو: حرف عطف. (عليهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {غَضَبٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة؛ فلست مفندا ويكون الرابط: الواو، والضمير، والجملة الاسمية:{وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} معطوفة عليها، على الوجهين المعتبرين فيها.
الشرح: {اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ} أي: القرآن، وسائر الكتب المنزلة من عنده على رسله؛ حيث فيها التشريع، وتبيين الحلال، والحرام، وتفصيل الأحكام. {بِالْحَقِّ} أي: ملتبسا بالحق بعيدا عن الباطل، والعبث. {وَالْمِيزانَ} أي: العدل، والإنصاف، سمي العدل ميزانا؛ لأنّ الميزان آلة العدل، والتسوية، وهو كقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ} سورة (الحديد) رقم [25]. {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ:} لعلّ إتيانها قريب منك، وأنت لا تدري، لذا فاعمل بالشرع، واتبع الكتاب، وواظب على العدل قبل أن يفجأك اليوم الذي توزن فيه أعمالك، وتوفى جزاءك، وقال في سورة (الأحزاب) رقم [63]:{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} .
وسبب نزول الآية: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعة، وعنده قوم من المشركين، فقالوا تكذيبا، واستبعادا، وكفرا، وعنادا: متى تكون الساعة؟! ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب، والميزان: أنّ الساعة يوم الحساب، ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم بالعدل، والتسوية، والعمل الصالح، فاعملوا بالكتاب، والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم، ووزن أعمالكم. هذا؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بعثت أنا والساعة كهاتين» . وأشار إلى السبابة، والوسطى. خرجه أصحاب السنن. هذا؛ ولم يؤنث {قَرِيبٌ} مع كونه راجعا إلى الساعة، وذلك على تأويلها باليوم، أو بالبعث، كما قيل في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [56]:{إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ذكّر {قَرِيبٌ} على تأويل الرحمة بالعفو. وذكر الفراء: أنّهم التزموا التذكير في: {قَرِيبٌ} إذا لم يرد قرب النسب قصدا للفرق؛ أي: بين المراد بها قرب النسب، والمراد بها غيره.
وقال الكسائي: {قَرِيبٌ} نعت ينعت به المذكر، والمؤنث، والجمع بمعنى، ولفظ واحد.
قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقال الشاعر: [الطويل]
وكنّا قريبا والديار بعيدة
…
فلمّا وصلنا نصب أعينهم غبنا
أقول: وهذا يخضع لقاعدة، وهي أنّ «فعيلا» يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع، كما في قوله:{وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} ومثله قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [38] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني
…
طلاقك لم أبخل وأنت صديق
فإن قيل: كيف قال في كثير من المواضع: إن الآخرة من الدنيا قريبة، وسمى الساعة قريبة، فقال:{اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ..} . إلخ، وقال:{اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ،} وقال هنا: {لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ} فالجواب: أنّ الماضي كالأمس الدابر، وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه، وبين الحاضر سنين؛ فإنّه آت، فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها، ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه. انتهى. نقلا عن كرخي.
هذا؛ و (ميزان) أصلها: موزان، قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها. ومثله: ميعاد، وميثاق، وميراث، وميقات. هذا؛ و {يُدْرِيكَ} ماضيه: درى بمعنى: علم، فهو من أفعال اليقين، فينصب مفعولين، كقول الشاعر وهو الشاهد رقم [6] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
دريت الوفيّ العهد يا عمرو فاغتبط
…
فإنّ اغتباطا بالوفاء حميد
وهو قليل؛ إذ الكثير المستعمل فيه أن يتعدّى إلى واحد بالباء، نحو: دريت بكذا، فإن دخلت همزة النقل عليه؛ تعدّى إلى واحد بنفسه، وإلى واحد بالباء، نحو قوله تعالى:{قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ} . قال شيخ الإسلام: ومحلّ ذلك إذا لم يدخل على الفعل استفهام، وإلاّ تعدّى إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قوله تعالى في سورة (القارعة):{وَما أَدْراكَ}
{مَا الْقارِعَةُ} فالكاف مفعول به أول، والجملة الاسمية بعده سدّت مسدّ المفعولين. انتهى. والذي في الهمع، والمغني، قيل: وهو الأوجه: أن الجملة الاسمية سدّت مسدّ المفعول الثاني المتعدى إليه بالحرف، فتكون في محلّ نصب بإسقاط الجار، كما في: فكرت: أهذا صحيح أم لا؟ أي: فكرت بما ذكره. انتهى. جرجاوي.
وينبغي أن تعلم: أنّ الفعل «أدرى» هنا معلق عن العمل لفظا بوقوع {لَعَلَّ} بعده.
والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في التعليق، إلاّ أن النحويين لم يعدوا لعلّ من المعلقات، والحق مع الكوفيين، وهو ظاهر في هذه الآية، وكقوله تعالى في سورة (عبس):
{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى،} وقوله تعالى في سورة (الأحزاب): {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} .
فإن كان (درى) بمعنى: ختل؛ أي: خدع كان متعديا إلى واحد بنفسه، مثل دريت الصيد؛ أي: ختلته وخدعته، قال الأخطل التغلبي:[الطويل]
فإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني
…
بسهمك فالرّامي يصيد ولا يدري
أي: يصيد، ولا يختل. ومثله قول الآخر:[الطويل]
فإن كنت لا أدري الظباء فإنني
…
أدسّ لهاتحت التّراب الدّواهيا
أي: لا أختل، وإن كانت بمعنى: حكّ، مثل: درى رأسه بالمدرى؛ أي: حكّ رأسه بالمشط، فهي كذلك. هذا؛ و {السّاعَةَ:} القيامة سميت بذلك؛ لأنّها تفجأ الإنسان بغتة في ساعة، لا يعلمها إلاّ الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأنّ حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة، أو أقل من ذلك، قال تعالى في كثير من الآيات:{إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} وانظر الآية رقم [61] من سورة (الزخرف).
تنبيه: قال المحققون من العلماء: سبب إخفاء الساعة، ووقت قيامها عن العباد؛ ليكونوا دائما على خوف، وحذر منها؛ لأنّهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت؛ كانوا على وجل، وخوف منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، والمسارعة إلى التوبة، وأزجر لهم عن المعصية، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» . متفق عليه. هذا؛ وقد أخفى الله أمورا أخرى، مثل: ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة؛ ليجتهد المؤمن، والمؤمنة في ليالي شهر رمضان في العبادة، وليكونا مجتهدين في الدعاء كل يوم الجمعة، وليلته، كما أخفى رضاه في الطاعة، وغضبه في المعصية، ليعمل العبد جميع الطاعات، ويكف عن جميع المعاصي. وانظر الآية رقم [61] من سورة (الزخرف) فهو جيد.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {أَنْزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد. {الْكِتابَ:} مفعول به. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْكِتابَ} . {وَالْمِيزانَ} معطوف على: {الْكِتابَ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَما:} الواو:
حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُدْرِيكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (ما)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {لَعَلَّ:} حرف مشبه بالفعل. {السّاعَةَ:} اسمها. {قَرِيبٌ:} خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب سدّت مسدّ المفعول الثاني للفعل يدريك.
الشرح: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها} أي: بالساعة، يستعجلونها؛ أي: يطلبون وقوعها عاجلا على طريق الاستهزاء، ظنّا منهم: أنّها غير آتية، أو إيهاما للضعفة: أنّها لا تكون. وما أكثر ما حكى القرآن عنهم: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} .
هذا؛ وقال الجمل: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها} أي: فلا يشفقون منها. وقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها} أي: فلا يستعجلونها، ففي الآية احتباك؛ حيث ذكر الاستعجال أولا، وحذف الإشفاق، وذكر الإشفاق ثانيا، وحذف الاستعجال. انتهى. نقلا من كرخي.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها} أي: خائفون وجلون من وقوعها لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة، كما قال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [60]:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} . {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي: ويعتقدون: أنّها كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها، عاملون من أجلها؛ لذا كانوا يسألون عنها خوفا من مفاجأتها؛ فعن أنس-رضي الله عنه-أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» . قال: لا شيء؛ إلاّ أني أحبّ الله، ورسوله. قال:«أنت مع من أحببت» . قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنت مع من أحببت» . قال أنس رضي الله عنه: (فأنا أحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إيّاهم). رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
{أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ:} يشكون، ويخاصمون في قيام الساعة، ويجادلون في وجودها.
{لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي: عن الحق، وطريق الاعتبار. و (الضلال) مصدر:«ضل» الثلاثي، والإضلال مصدر الرباعي، والأول مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضلالا، أو هو مجاز
عقلي، على حدّ: جدّ جدّه؛ لأنّ البعيد في الحقيقة إنّما هو الضال؛ لأنّه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، وانظر (الأحقاف)[28]. هذا؛ و {يُمارُونَ} من المماراة، وهي المجادلة، والمخاصمة. وهي مذمومة إلاّ عند الضرورة القصوى، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل» . ثم قرأ قوله تعالى: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً} . رواه الترمذي، وابن ماجه.
الإعراب: {يَسْتَعْجِلُ:} مضارع. {بِهَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الَّذِينَ:}
اسم موصول، مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد: واو الجماعة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَالَّذِينَ:} الواو: واو الحال. {الَّذِينَ:}
مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة له. {مُشْفِقُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه. {مِنْها:} متعلقان به، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالباء، والرابط: الواو، والضمير، ومن يجيز عطف الجملة الاسمية على الفعلية يعطفها على ما قبلها. {وَيَعْلَمُونَ:} الواو: حرف عطف. (يعلمون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {أَنَّهَا:} حرف مشبه بالفعل، و (ها):
اسمها. {الْحَقُّ:} خبرها، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي (يعلمون)، والجملة الفعلية معطوفة على:{مُشْفِقُونَ} فهي في محل رفع مثله.
{أَلا:} حرف تنبيه، واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {إِنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:
{يُمارُونَ فِي السّاعَةِ} صلة الموصول، لا محلّ لها من الإعراب. {لَفِي:} اللام: المزحلقة.
(في ضلال): متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} . {بَعِيدٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية:
{أَلا إِنَّ..} . إلخ، لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، أو مستأنفة.
{اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}
الشرح: {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ:} في إيصال المنافع، وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه، أو: هو بر بليغ البر بهم، وقد توصل بره إلى جميعهم. وقيل: هو من لطف بالغوامض علمه، وعظم عن الجرائم حلمه. أو هو من ينشر المناقب، ويستر المثالب. أو يعفو عمّن يهفو. أو يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه الطاعة دون الطاقة، وعن الجنيد: لطف بأوليائه فعرفوه، ولو لطف بأعدائه ما جحدوه. وقيل: لطيف بالبر والفاجر؛ حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم، يدلّ عليه قوله تعالى:{يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} أي: إن الإحسان، والبر إنعام في حق كل العباد، وهو إعطاء ما لا بدّ منه. فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن، وكافر، وذي روح، فهو ممن يشاء الله أن يرزقه.
وفي القرطبي: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} أي: ويحرم من يشاء. وفي تفضيل قوم بالمال حكمة؛ ليحتاج البعض إلى البعض، كما قال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [32]:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} وكان هذا لطفا بالعباد، وأيضا ليمتحن الغني بالفقير، والفقير بالغني، كما قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [20]:{وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} . انتهى. انظر شرحها هناك فإنّه جيد. {وَهُوَ الْقَوِيُّ:} الباهر القدرة، الغالب على كل شيء. {الْعَزِيزُ:} المنيع الذي لا يغلب، القاهر فوق عباده.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {لَطِيفٌ:} خبره. {بِعِبادِهِ:} متعلقان ب: {لَطِيفٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {يَرْزُقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يرزق الذي، أو شخصا يشاء رزقه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدأ، وفيها معنى التفسير ل:{لَطِيفٌ} . {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): مبتدأ، وما بعده خبران عنه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:
{يَرْزُقُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} أي: كسب الآخرة، والمعنى: من كان يريد بعمله الآخرة، فأدّى حقوق الله، وأنفق في سبيل الله. {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي: فإنّما نعطيه ثواب ذلك مضاعفا، للواحد عشرا إلى سبعمئة فأكثر، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [40]:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} . وقيل: المعنى: نوفقه للعبادة، ونسهلها عليه. {وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا} أي: المال، والسيادة، ورياسة الدنيا، والتمتع بالمستلذات، والشهوات المباحة، والمحظورة. {نُؤْتِهِ مِنْها:} فإنّا لا نحرمه منها. {وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: لا حظّ له في الآخرة؛ أي: لا ثواب له، ولا يدخل الجنة، قال تعالى في سورة (هود) رقم [15]:
فأنت ترى: أنّ ما هنا، وما في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، قد أطلق هذا الوعد بينما هو مقيد بمشيئة الله في الآية رقم [18] من سورة (الإسراء):{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ..} . إلخ. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: والصحيح: أنّه من باب الإطلاق، والتقييد، ومثله قوله تعالى:{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ}
{الدّاعِ إِذا دَعانِ} فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك لقوله تعالى:{فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} .
وقال قتادة: إن الله تعالى يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلاّ الدنيا، وقال أيضا: يقول الله تعالى: «من عمل لآخرته؛ زدناه في عمله، وأعطيناه من الدنيا ما كتبناه له، ومن آثر دنياه على آخرته؛ لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلاّ النار، ولم يصب من الدنيا إلاّ رزقا قد قسمناه له، لا بدّ أن كان يؤتاه مع إيثار، أو غير إيثار» . قرطبي.
تنبيه: (الحرث) في الأصل: إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال، ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة، من البذور، المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور. انتهى. نقلا من أبي السعود.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله: إنّه من توضأ تبردا: أنّه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظف عليه، فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة، والتبرد من حرث الدنيا، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية.
قاله ابن العربي.
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى:
{مَنْ} . {يُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} أيضا. {حَرْثَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانَ} . {نَزِدْ:}
مضارع جواب الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فِي حَرْثِهِ:} متعلقان به أيضا، والهاء في محل جر بالإضافة، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [10]. {وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا} إعرابه مثل سابقه. {نُؤْتِهِ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، وخبر المبتدأ مثل سابقه بلا فارق. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والكلام كلّه مستأنف لا محلّ له. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وبعضهم يجيز تعليقهما بمحذوف حال من:{نَصِيبٍ} على مثال ما رأيت في الآية رقم [6]. {مَنْ:} حرف جر صلة. {نَصِيبٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا} المراد بالشركاء: الشياطين؛ الذين زينوا لهم الكفر وإنكار البعث، والمعاصي، والمعاندة. أو المراد الأصنام، وأطلق عليها اسم الشركاء لأحد أمرين: أحدهما: أنّ المشركين يشركونها مع الله في العبادة، والتعظيم، والتقديس. وثانيهما:
أنّهم يشركونها في الأموال، والأنعام، والزروع، كما رأيت في سورة (الأنعام) رقم [138] وما بعدها. وجمع الضمير العائد عليهم بواو الجماعة؛ لأنهم كانوا يخاطبون الأصنام كما يخاطبون الذكور العقلاء، وهذا كثير ومستعمل في القرآن الكريم. وإضافتها إليهم؛ لأنّهم اتخذوها شركاء. وإسناد الشرع إليها؛ لأنّها سبب ضلالتهم، وافتتانهم بما تدينوا به. وقال الشيخ زاده:
وإسناد الشرع إلى الأوثان، وهي جمادات إسناد مجازي: من إسناد الفعل إلى السبب، وسماه دينا للمشاكلة، والتهكم.
وعلى القول الأول؛ فالشياطين هم الذين شرعوا لهم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة، والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات، والجهالات الباطلة. {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لولا أن الله حكم، وقضى في سابق أزله: أنّ الثواب، والعقاب إنّما يكونان يوم القيامة؛ لحكم بين الكفار، والمؤمنين بتعجيل العقوبة للظالم، وإثابة المؤمن المطيع. {وَإِنَّ الظّالِمِينَ:} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وارتكاب المعاصي، وجرهم ذلك على ظلم غيرهم. {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع في الآخرة، دائم غير منقطع.
هذا؛ و {عَذابٌ} اسم مصدر لا مصدر؛ لأنّ المصدر: تعذيب؛ لأنّه من: عذّب، يعذّب بتشديد الذال فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: عطاء، وسلام، ونبات ل:
أعطى، وسلم، وأنبت.
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى: «بل» الانتقالية. وقيل: التقدير: ألهم، فالهمزة للتقرير، والتقريع. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شُرَكاءُ:} مبتدأ مؤخر. {شَرَعُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُمْ مِنَ الدِّينِ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَأْذَنْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} .
{بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، وجملة:{شَرَعُوا..} . إلخ في محل رفع صفة: {شُرَكاءُ،} والجملة الاسمية: {لَهُمْ شُرَكاءُ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط.
{كَلِمَةُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و (الفصل) مضاف إليه، والخبر محذوف، التقدير: موجودة.
{لَقُضِيَ:} اللام: واقعة في جواب (لولا). (قضي): ماض مبني للمجهول. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل على أنّه نائب فاعله. وقيل: نائب الفاعل يعود إلى المصدر المفهوم، من الفعل السابق، التقدير: قضي القضاء بينهم. وانظر ما ذكرته في سورة (سبأ) رقم [54]، والجملة الفعلية جواب (لولا) لا محل لها. {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل.
{الظّالِمِينَ:} اسم (إن) منصوب
…
إلخ. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {عَذابٌ:}
فاعل بمتعلق الجار والمجرور. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، واعتبار:{عَذابٌ} مبتدأ مؤخرا، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية {وَإِنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {أَلِيمٌ:} صفة: {عَذابٌ} . هذا؛ وقرئ بفتح همزة (أن) على اعتبار المصدر المؤول منها ومن اسمها وخبرها معطوفا على: {وَلَوْلا كَلِمَةُ..} . إلخ والفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه بجواب (لولا) جائز، ويجوز أن يكون المصدر المؤول في محل رفع على تقدير: (وجب أن الظالمين
…
) إلخ، فيكون منقطعا عمّا قبله، كقراءة الكسر، فاعلمه. انتهى. قرطبي بتصرف.
الشرح: {تَرَى الظّالِمِينَ:} هذا خطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، وهذه الرؤية إنّما تكون في يوم القيامة. {مُشْفِقِينَ:} خائفين. {مِمّا كَسَبُوا:} في الدنيا من السيئات أن يجازوا عليها.
{وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} أي: الجزاء واقع بهم لا محالة؛ أشفقوا، أو لم يشفقوا. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [49]:{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ:} لأنّ هذه الروضات أطيب بقاع الجنة، فلذلك خصّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات بها. وفيه تنبيه على أنّ في الجنة منازل غير الروضات هي لمن دون هؤلاء الذين عملوا الصالحات من أهل القبلة. هذا؛ والروضة: كل أرض ذات نبات، وماء، ورونق، ونضارة. وقال أبو عبيد: الروضة: ما كان في سفل من الأرض، فإذا كانت مرتفعة فهي ترعة. وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ، كما قال الأعشى في معلقته رقم [12] وما بعده:[البسيط]
ما روضة من رياض الحزن معشبة
…
خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
…
مؤزّر بعميم النّبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة
…
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
انظر شرح هذه الأبيات، وإعرابها في كتابنا:«إعراب المعلقات العشر» تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. وقال القشيري: والروضة عند العرب: ما ينبت حول الغدير من البقول، ولم يكن عند العرب شيء أحسن منه. هذا؛ وجمع روضة: روض، ورياض، وروضات، كما هنا، وأصل رياض: رواض، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، مثل حوض، وحياض، وثوب، وثياب. ونحو ذلك.
{لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم. والعندية مجاز عن الكرامة التي أعدها الله لهم عنده في الآخرة. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [15] من سورة (الروم). {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما أعده الله للمؤمنين. {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي: لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته؛ لأنّ العلي القدير إذا قال:(كبير) فمن ذا الذي يقدر قدره؟!
هذا؛ و {تَرَى} ماضيه: رأى، وقياس المضارع: ترأي، وقد تركت العرب الهمز في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزه، فهمزته، كما في قول سراقة بن مرداس البارقي، وهو الشاهد رقم [504] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
أري عينيّ ما لم ترأياه
…
كلانا عالم بالتّرّهات
وربما جاء ماضيه بغير همز، وبه قرأ نافع في:{أَرَأَيْتَكُمْ} و {إِذا رَأَيْتَ} «(أرايتكم)» «(أرايت)» بدون همز وقال الشاعر: [الخفيف]
صاح هل ريت أو سمعت براع
…
ردّ في الضرع ما قرى في الحلاب؟
وإذا أمرت منه على الأصل قلت: ارء. وعلى الحذف ره بهاء السكت، وقل في إعلال ترى: أصله ترأي قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الراء للتخفيف.
الإعراب: {تَرَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» . {الظّالِمِينَ:} مفعول به. {مُشْفِقِينَ:} حال من: {الظّالِمِينَ} منصوب مثله، وعلامة النصب الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّهما جمعا مذكر سالمان، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُشْفِقِينَ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: مشفقين من
الذي، أو من شيء كسبوه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: مشفقين من جزاء، أو: من عقوبة كسبهم. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وهو العائد على المضاف المحذوف؛ الذي رأيت تقديره. {واقِعٌ:} خبر المبتدأ، وفاعله مستتر فيه، وهو على حذف مضاف، التقدير: وعقابه واقع بهم. {بِهِمْ:} متعلقان ب: {واقِعٌ،} والجملة الاسمية في محل نصب حال من المضاف المحذوف، والرابط: الواو، والضمير. والجملة:{تَرَى..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم. {فِي رَوْضاتِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {رَوْضاتِ:} مضاف، و {الْجَنّاتِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {لَهُمْ:}
متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِمّا:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
لهم الذي، أو: شيء يشاؤونه. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{لَهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها، أو هي في محل رفع خبر ثان، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط.
{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له. {الْفَضْلُ:} خبر المبتدأ. {الْكَبِيرُ:}
صفة: {الْفَضْلُ} . هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ، و {الْفَضْلُ:} خبره، والجملة الاسمية حينئذ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة:{ذلِكَ هُوَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ..} . إلخ: ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به، فحذف الجار ثم حذف العائد، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده حاصل لهم كائن لا محالة؛ لأنّه ببشارة الله تعالى لهم. {لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ، والنصح مالا، وإنّما أطلب أن تذروني أبلغ رسالات ربي، فلا تؤذوني بما بيني، وبينكم من القرابة. روى البخاري عن ابن عباس-رضي
الله عنهما-أنّه سئل عن قوله تعالى: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} فقال سعيد بن جبير-رضي الله عنهما: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت! إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلاّ كان له فيهم قرابة، فقال: إلاّ أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، أخرجه البخاري. وبقول ابن عباس قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي. وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس قال:
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجرا إلاّ أن تودّوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» . وروى الإمام أحمد عن مجاهد، عن ابن عباس:«لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا، إلاّ أن تودّوا الله تعالى، وأن تقرّبوا إليه بطاعته» .
وهذا كأنه تفسير بقول ثان، كأنّه يقول:{إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} أي: إلا أن تعملوا بالطاعة؛ التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث، وهو ما حكاه البخاري عن سعيد بن جبير: أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي؛ أي: تحسنوا إليهم، وتبروهم. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصية بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم، وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا، وحسبا، ونسبا. انتهى. مختصر ابن كثير.
وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خمّ: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» . وفي الصحيح: أنّ الصديق-رضي الله عنه-قال لعليّ-رضي الله عنه: «والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي» . وقال عمر بن الخطاب للعباس-رضي الله عنهما: «والله لإسلامك يوم أسلمت أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأنّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب» . وروى الإمام أحمد عن يزيد بن حيان، قال: انطلقت أنا، والحصين بن ميسرة، وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم-رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت معه، لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم؛ فاقبلوه، ومالا؛ فلا تكلفونيه، ثم قال-رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما بين مكة، والمدينة، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«أمّا بعد أيّها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهدى، والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به» .
فحثّ على كتاب الله ورغب فيه، وقال صلى الله عليه وسلم:«وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي!» . فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه لسن من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم
آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس-رضي الله عنهم. قال: كل هؤلاء حرم الله عليهم الصدقة؟ قال: نعم. أخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
وروى الترمذي عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» . وروى الترمذي أيضا عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول:«يا أيّها النّاس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به، لن تضلّوا كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» . انتهى. مختصر ابن كثير.
والمشهور: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أوصى بالتمسك في القرآن وسنته، وخذ ما يلي: عن ابن عباس رضي الله عنهما-أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب بالناس في حجة الوداع، فقال:«إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ممّا تحاقرون من أعمالكم فاحذروا! إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلّوا أبدا، كتاب الله، وسنة نبيّه» . رواه الحاكم، وقال:
صحيح الإسناد، وعن العرباض بن سارية-رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك» . رواه ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» ، والأحاديث التي تحث على التمسك بالسنة كثيرة مشهورة، وانظر فائدة في آخر سورة (الفتح) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. هذا؛ وفي قوله تعالى:{إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} مجاز مرسل، علاقته المحلية، فقد جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى شديد، تريد: أحبهم، وهم مكان حبي، ومحله. {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي: يكتسب، وأصل القرف: الكسب، يقال: فلان يقرف لعياله؛ أي: يكسب. والاقتراف: الاكتساب، وهو يشمل عمل الخير، وعمل الشر، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [113]:{وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ} . {نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً} أي: تضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [40]:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} . {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ} أي:
يغفر الكثير من السيئات. {شَكُورٌ:} يكثر القليل من الحسنات، فيستر، ويغفر، ويضاعف فيشكر. هذا؛ وغفور، وشكور صيغتا مبالغة. هذا؛ والشكور معناه: هو الذي يجازي على يسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب؛ لا محلّ له. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {يُبَشِّرُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {عِبادَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح. هذا؛ وقال ابن هشام في المغني: فأما وقوع {الَّذِي} مصدرية، فقال به يونس،
والفراء، والفارسي، وارتضاه ابن خروف، وابن مالك، وجعلوا منه قوله تعالى:{ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ،} وقوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [69]: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا،} وأورد قول جميل بثينة، وهو الشاهد رقم [951] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
أتقرح أكباد المحبين كالّذي
…
أرى كبدي من حبّ مية يقرح؟
وقد ذكرت لك في سورة (التوبة) أنّ هذا مذهب ضعيف لبعض النحاة لا يعتدّ به. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة:
{عِبادَهُ،} أو هو بدل منه، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَعَمِلُوا:} الواو: حرف عطف. (عملوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، وهو في الأصل صفة لموصوف محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {أَسْئَلُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{أَجْراً:} مفعول به ثان. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الْمَوَدَّةَ:} مستثنى، قيل: متصل. وقيل: منقطع.
{فِي الْقُرْبى:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {الْمَوَدَّةَ} التقدير: ثابتة في القربى، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَمَنْ:} (الواو): حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَقْتَرِفْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {حَسَنَةً:} مفعول به. {نَزِدْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {لَهُ فِيها:} كلاهما متعلقان بالفعل {نَزِدْ} . {حُسْناً:} مفعول به، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [10]، والجملة الاسمية (من
…
) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسم {إِنَّ} . {غَفُورٌ شَكُورٌ:} خبران ل: {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، أو تعليلية، لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي: يقول كفار قريش: اختلاق محمد القرآن، ونسبه إلى الله كذبا وافتراء. قال الخازن: فيه توبيخ لهم، معناه: أيقع في قلوبهم، ويجري على ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الكذب، وأنه افترى على الله كذبا، وهو أقبح أنواع الكذب؟. انتهى.
{فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} أي: لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون؛ لختم الله على قلبك، فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذبا، ولهذا أيدك، وسدّد خطاك. قال ابن كثير: وهذا كقوله جل وعلا في سورة (الحاقة): {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} . وقال أبو السعود: والآية استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان: أنّه عليه السلام لو افترى على الله تعالى؛ لمنعه من ذلك قطعا بالختم على قلبه؛ بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه. انتهى. صفوة التفاسير. هذا؛ وقال مجاهد، ومقاتل: إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم؛ حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم.
{وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ} أي: لو كان ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم باطلا؛ لمحاه الله، كما جرت سنته في المغترين. فهو كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنّه تعالى يمحو الباطل مطلقا، وسقطت الواو منه لفظا لالتقاء الساكنين، وخطا حملا له على اللفظ، كما كتبوا:{سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ} انتهى.
سمين. {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} أي: ويثبت الله الحق، ويوضحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم.
وقال الخازن: أي: يحق الإسلام بما أنزل من كتابه، وقد فعل الله تعالى ذلك، فمحا باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام. ولا تنس المقابلة بين:{وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ} و {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} .
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي: عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزلت: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} . وقع في قلوب قوم منها شيء. وقالوا: يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام، فأخبره: أنهم اتهموه، وأنزل الله هذه الآية، فقال القوم: يا رسول الله! فإنا نشهد أنك صادق! فنزلت الآية التالية، وانظر شرح (ذات) في سورة (الزمر) رقم [7].
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى: «بل» الانتقالية. وقيل: التقدير: أيقولون. فالهمزة للتقرير، والتقريع. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.
{اِفْتَرى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {كَذِباً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على كلام سابق، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين. {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَشَإِ:}
مضارع فعل الشرط. {اللهِ:} فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {يَخْتِمْ:} جواب الشرط، والفاعل يعود إلى:
{اللهِ،} تقديره: «هو» . {عَلى قَلْبِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف
لا محلّ له. {وَيَمْحُ:} الواو: حرف استئناف. (يمحو): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو. {اللهِ:} فاعله. {الْباطِلَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَيُحِقُّ:} الواو: حرف عطف. (يحق): مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} .
{الْحَقَّ:} مفعول به. {بِكَلِماتِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {عَلِيمٌ:} خبره. {بِذاتِ:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ،} و (ذات): مضاف، و {الصُّدُورِ:}
مضاف إليه، والجملة الاسمية تعليل لما قبلها، لا محلّ لها أيضا.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد:
أولياءه، وأهل طاعته. قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين الله تعالى وبين العبد، لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا. فإذا حصلت هذه الشروط؛ صحّت التوبة، وإن فقد أحد الثلاثة؛ لم تصحّ توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي؛ فشروطها أربعة، هذه الثلاثة، والشرط الرابع: أن يبرأ من حق صاحبها. فهذه شروط التوبة، وهذه هي التوبة النصوح التي ذكرها الله في سورة (التحريم). وقيل: التوبة الانتقال عن المعاصي نية، وفعلا، والإقبال على الطاعات نية، وفعلا. وقال سهل بن عبد الله التستري: التوبة:
الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة.
وقد رغّب الرسول صلى الله عليه وسلم في التوبة، وذكر تعليما لأمته، وتشجيعا لهم وترغيبا في التوبة: أنّه يتوب، ويستغفر في اليوم مئة مرة، وخذ ما يلي: عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه، وشرابه، فوضع رأسه، فنام نومة، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها؛ حتى إذا اشتد عليه الحر، والعطش، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام؛ حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها طعامه، وشرابه. فالله أشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده!» . متفق عليه. انتهى.
خازن.
هذا؛ و {عَنْ} بمعنى: «من» وقال البيضاوي: والقبول يعدى إلى مفعول ثان ب: «من» ، أو «عن» لتضمنه معنى الأخذ، والإبانة، وقد عرفت حقيقة التوبة، فلتضمنه معنى الأخذ يعدّى بمن، يقال: قبلته منه؛ أي: أخذته، ولتضمنه معنى الإبانة والتفريق يعدّى بعن، يقال: قبلته عنه؛ أي:
أزلته، وأبنته عنه.
روى جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
اللهم إنّي أستغفرك، وأتوب إليك، وكبّر، فلما فرغ من صلاته، قال له علي-كرّم الله وجهه، ورضي الله عنه-: يا هذا! إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: التوبة: اسم يقع على ستة معان: الندم على الماضي من الذنوب، واستدراك ما ضيع، وأهمل من الفروض بقضائه، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما ربيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. انتهى. كشاف بتصرف.
{وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ:} صغيرها، وكبيرها، دقّها، وجلّها، هزلها وجدها لمن شاء، هذا إذا تيب عن الكبائر، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. {وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة؛ أي: يجازي التائب، ويتجاوز عن غير التائب، وصدورهما عنه عز وجل عن إتقان منه وحكمة، وإن لم ندرك ذلك بعقولنا، فلا اعتراض لأحد عليه. انتهى. جمل. هذا؛ ويقرأ الفعل {تَفْعَلُونَ} بالتاء، وعليه يكون في الكلام التفات، ويقرأ بالياء، وعليه فلا التفات.
والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي:} الواو: حرف استئناف. (هو الذي): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {يَقْبَلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد. {التَّوْبَةَ:}
مفعول به. {عَنْ عِبادِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَيَعْفُوا:} الواو: حرف عطف. (يعفو): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {عَنِ السَّيِّئاتِ:} متعلقان بما قبلهما، (يعلم): مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} أيضا. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يعلم الذي، أو: شيئا تفعلونه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم فعلكم. تأمّل وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.
الشرح: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ..} . إلخ أي: يستجيب الله لهم، فحذف اللام، كما حذف في قوله تعالى:{وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} والمراد: إجابة الدعاء، والإثابة على الطاعة، فإنها كدعاء.
وطلب لما يترتب عليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل الدعاء الحمد لله» ، أو المعنى: يستجيبون
لله بالطاعة؛ إذا دعاهم إليها. هذا؛ وأجاب، واستجاب بمعنى واحد. هذا؛ ولا تنس الاحتراس بعطف العمل الصالح على الإيمان، وقد ذكرته مرارا فيما مضى.
{وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: على ما استحقوا، واستوجبوا له بالاستجابة. أو المعنى: يزيدهم ثوابا سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يشفعهم في إخوانهم، ويزيدهم من فضله بأن يشفعهم في إخوان إخوانهم. {وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ:} بدل ما للمؤمنين من الثواب، والتفضل. وفيه من المقابلة بين إثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين ما لا يخفى.
الإعراب: {وَيَسْتَجِيبُ:} الواو: حرف عطف. (يستجيب): فعل مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، أو الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهِ} و {الَّذِينَ} مفعول به، أو هو في محل نصب على نزع الخافض، كما رأيت في الشرح، وجملة:
{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. وجملة: {وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {وَيَزِيدُهُمْ:} الواو حرف عطف. (يزيدهم): فعل مضارع، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {وَالْكافِرُونَ:} الواو: حرف استئناف. (الكافرون): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنّه جمع مذكر سالم. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {عَذابٌ:} فاعل بمتعلق الجار والمجرور. {شَدِيدٌ:} صفة: {عَذابٌ} . هذا؛ وإن اعتبرت: {لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {عَذابٌ} مبتدأ مؤخرا، فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية: (الكافرون
…
) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ} أي: لو وسّع الله عليهم في الرزق ورغد العيش؛ {لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} أي: لتكبروا، وأفسدوا فيها بطرا، أو: لبغى بعضهم على بعض استيلاء، واستعلاء. وهذا على الغالب. وأصل البغي: طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى كمية، أو كيفية. انتهى. بيضاوي.
هذا؛ وذكروا في كون بسط الرزق موجبا للطغيان وجوها: الأول: أنّ الله لو سوى في الرزق بين الكل، امتنع كون البعض محتاجا إلى البعض، وذلك يوجب خراب العالم، وتعطيل المصالح.
ثانيها: أنّ هذه الآية مختصة بالعرب، فإنّهم كلّما اتسع رزقهم، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم، ومن العشب والكلأ ما يشبعهم؛ قدموا على النهب والغارة. ثالثها: أنّ الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى، والقدرة؛ عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية، وهو التكبر. وإذا وقع في شدة وبلية
ومكروه انكسر، وعاد إلى التواضع والطاعة. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة، ومركبا بعد مركب، وملبسا بعد ملبس. انتهى. جمل نقلا من الخطيب.
{وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ} أي: ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم. {إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ:} لو أغناهم جميعا؛ لبغوا، ولو أفقرهم؛ لهلكوا. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [12].
هذا؛ والإضافة بقوله (عباده) إضافة تشريف، وتكريم بالنسبة للمؤمنين، وإضافة قهر، وإذلال بالنسبة للكافرين، والملحدين، والفاسدين المفسدين. وعباد جمع: عبد، وهو الإنسان من بني آدم حرا كان، أو عبدا رقيقا، ويقال للمملوك: قن، وله جموع كثيرة، وأشهرها: عبيد، وعباد. قيل:
نزلت الآية الكريمة في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق، وقال خباب بن الأرت-رضي الله عنه: فينا نزلت، نظرنا إلى أموال بني النضير، وقريظة، وبني قينقاع، فتمنيناها، فنزلت.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال:
لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {لِعِبادِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.
{لَبَغَوْا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (بغوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محلّ لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {يُنَزِّلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {بِقَدَرٍ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل:
متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلهما، لا محلّ لها أيضا. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: ينزل بقدر الذي، أو: شيئا يشاء تنزيله. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {بِعِبادِهِ:} متعلقان بما بعدهما. {خَبِيرٌ بَصِيرٌ:} خبران ل: (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لما قبلها، ولا محلّ لها.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا} أي: يئس الناس منه، وذلك أدعى لهم إلى الشكر. قيل: حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، فذكرهم بنعمته؛ لأنّ الفرح بحصول النعمة بعد الشدة أتم. وهو قول مقاتل. وقيل: نزلت في الأعرابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المطر يوم الجمعة في خبر الاستسقاء. ذكره القشيري.
هذا؛ ويقرأ: {يُنَزِّلُ} بالتشديد والتخفيف، و:{يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} أي: المطر في وقته المقدر له، والمكان المعين له، لا يتجاوزه، ومن غير تقديم، ولا تأخير. وسمي المطر غيثا؛ لأنّه يغيث الناس، فيزيل همّهم، ويفرّج كربهم. ويطلق مجازا على الجواد الكريم، قال ذو الرمّة في مدح بلال بن أبي بردة الأشعري:[الوافر]
سمعت النّاس ينتجعون غيثا
…
فقلت لصيدح انتجعي بلالا
فقد جعله أجود من الغيث، وأنفع و: صيدح: اسم ناقته، وللزمخشري قوله:[البسيط]
لا تحسبوا أنّ في سرباله رجلا
…
ففيه غيث وليث مسبل مشبل
هذا؛ والقنوط من صفات الكافر، وأمّا المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة، ويصبر، ويرجوه عند الشدة. والفعل: قنط، يقنط يأتي من الباب الرابع، والثاني، وبهما قرئ في هذه الآية. وقرأ الأعمش أيضا: قنط يقنط من الباب السادس. {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي: المطر في كل شيء من السهل، والجبل، والنبات، والحيوان. {وَهُوَ الْوَلِيُّ:} الذي يتولى عباده بإحسانه، ونشر رحمته.
{الْحَمِيدُ:} المحمود بكل لسان على ما أسدى لعباده من النعماء.
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو الذي): مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، وجملة:{يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ بَعْدِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {ما:} مصدرية.
{قَنَطُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {ما} والفعل {قَنَطُوا} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة:{بَعْدِ} إليه. التقدير: من بعد قنوطهم.
{وَيَنْشُرُ:} الواو: حرف عطف. (ينشر): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} .
{رَحْمَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته الدالة على وحدانيته خلق السموات، والأرض بهذا الشكل البديع، فإنّها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم. {وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ} أي: وما نشر، وفرق في السموات، والأرض من مخلوقات. قال ابن كثير: وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن، وسائر الحيوانات على
اختلاف أشكالهم، وألوانهم، وأجناسهم وأنواعهم، وأطلق على الملائكة لفظ الدابة؛ لأنّ الدبيب في اللغة المشي الخفيف على الأرض، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، فيوصفون بالدبيب، كما يوصف الإنسان.
هذا؛ وقال بعض العلماء: لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة، والعوالم العلوية مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقات الأرض، وأن يكون فيها حيوانات تشبه الحيوانات؛ التي على أرضنا، كما تدل الدلائل الفلكية على وجود حياة في المريخ، واستدلوا بهذه الآية. أقول:
يحتمل أن يوجد في هذا الفضاء الواسع مخلوقات حية غير الإنسان، أمّا الإنسان فإننا نقطع بأنه لا يوجد إلاّ فوق سطح هذا الكوكب الأرضي، لقوله تعالى في سورة (الأعراف):{قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ} الأعراف [24]. انتهى. صفوة التفاسير للصابوني بتصرف.
هذا؛ ولم يقل: وما بثّ فيهن؛ لأنّه أراد ما بين الصنفين، أو النوعين، أو الشيئين، كقول القطامي:[الوافر]
ألم يحزنك أنّ حبال قيس
…
وتغلب قد تباينت انقطاعا
أراد: وحبال تغلب، فثنى، والحبال جمع فثناهما؛ لأنّه أراد الشيئين، أو النوعين، أو لأنّه ثناهما على تأويلهما بالجماعة، وتثنية الجمع جائزة على تأويل الجماعتين. قال الشاعر يذم عاملا على الصدقات:[البسيط]
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
…
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟
لأصبح النّاس، أوبادا ولم يجدوا
…
عند التفرّق في الهيجا جمالين
فقد ثنى: «جمال» الذي هو جمع: جمل، والعقال: صدقة عام، والسبد: المال القليل، واللبد: المال الكثير، وأوبادا هلكى جمع وبد، فهو يقول: صار عمرو عاملا على الصدقات في سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموال الناس بغير حق؛ حتى لم يبق لنا إلاّ شيء قليل من المال، فكيف تكون حالنا، أو كيف يبقى لأحد شيء لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟ ثم يقسم، فقال: والله لو صار عاملا سنتين لصارت القبيلة هلكى، فلا يكون لهم عند التفرق في الحرب جمالان، فيختل أمر الغزوات.
{وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ} أي: وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر، والحساب، والجزاء في أي وقت شاء. هذا؛ وفي الضمير تغليب العاقل على غيره، ولولا التغليب لكان يقال:
على جمعها؛ لأنّ الضمير عائد على: {دابَّةٍ،} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَمِنْ:} الواو: حرف عطف. (من آياته): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {خَلْقُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة
المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: خلقه السموات. وقال الجمل: من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: السموات المخلوقة، والأرض المخلوقة. ولا أراه قويا. {وَالْأَرْضِ:} الواو:
حرف عطف. (الأرض): معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على: {خَلْقُ،} أو في محل جر معطوف على لفظ:
{السَّماواتِ} . {بَثَّ:} ماض، وفاعله يعود إلى {اللهُ}. {فِيهِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذي بثه فيهما. {مِنْ دابَّةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، العائد على (ما): و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَلى جَمْعِهِمْ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالمصدر، وجملة:{يَشاءُ} مع الفاعل المستتر، والمفعول المحذوف في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل (بثّ) المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)}
الشرح: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ:} المراد بهذه المصائب: الأحوال المكروهة، نحو الأوجاع، والأسقام، والقحط، والغلاء، والغرق، والصواعق، وغير ذلك من المصائب. وقيل:
المصيبة هنا: الحدود على المعاصي. {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: كسبتم من الذنوب والمعاصي. وعبر بالأيدي؛ لأنّ أكثر الأفعال تزاول بها. {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي: إنّ الذنوب قسمان: قسم يعجل العقوبة عليه في الدنيا بالمصائب، وقسم يعفو عنه، فلا يعاقب عليها، وما يعفو عنه أكثر. وقال علي-رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وإذا كان يكفر عني بالمصائب، ويعفو عن كثير، فما يبقى بعد كفارته وعفوه شيء.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده ما من خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سخيلة-رضي الله عنه-قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَما أَصابَكُمْ..} . إلخ وسأفسرها لكم، فقال:«يا عليّ! (ما أصابكم من مصيبة) أي: من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا، {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» .
وقال عكرمة-رحمه الله تعالى-: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلاّ بذنب؛ لم يكن الله ليغفره له إلاّ بها، أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلاّ بها. وروي: أنّ رجلا قال لموسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: يا موسى! سل الله لي في حاجة يقضيها لي، هو أعلم بها، ففعل موسى، فلما نزل إذ هو بالرجل، قد مزق السبع لحمه، وقتله، فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: يا موسى إنّه سألني درجة علمت أنّه لم يبلغها بعمله، فأصبته بما ترى؛ لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة. فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى، ولكنه يفعل ما يشاء.
هذا؛ وروي: أنّ الله عز وجل ابتلى يعقوب-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بفقد ولديه: يوسف، وبنيامين، الثاني تلو الأول؛ ليصبر فيلحقه بدرجة أبيه إسحاق وجده إبراهيم، وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلّغه إيّاها» . رواه أبو يعلى، وابن حبان. وعن محمد بن خالد عن أبيه عن جده-وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ العبد إذا سبقت له من الله منزلة، فلم يبلغها بعمل؛ ابتلاه الله في جسده، أو ماله، أو ولده، ثمّ صبر على ذلك حتى يبلّغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل» .
رواه أحمد، وأبو داود، وأبو يعلى، والطبراني، والمرأة مثل الرجل في ذلك، والحمد لله.
وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: دخلنا على عمران بن حصين-رضي الله عنه فقال رجل له: لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع، فقال عمران-رضي الله عنه: يا أخي لا تفعل، فو الله إني لأحب الوجع، ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، قال الله تعالى:{وَما أَصابَكُمْ..} . إلخ فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر. والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وأكتفي بما يلي: عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ؛ حتى الشوكة يشاكها إلاّ كفّر الله بها من خطاياه» . رواه البخاري، ومسلم. ولا تنس: أن هذا في حق المؤمنين، وأمّا الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة، ومهما أصابه بلاء في الدنيا، فإن ذلك لا يخفف عقوبة الآخرة، والخلود في جهنم، وأما من لا جرم له كالأنبياء؛ فما أصابهم من بلاء، فإنه لرفع درجاتهم، وعلوّ مقامهم. ومن لا ذنب له كالأطفال، والمجانين فما أصابهم من بلاء فإنه يكون سببا لتطهير آبائهم، وأمهاتهم من ذنوبهم، وسيئاتهم. هذا؛ ولا تنس قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [45]:{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى،} وقوله جلّ ذكره في سورة (النحل) رقم [61]: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} .
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَصابَكُمْ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (ما)، تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به. {مِنْ مُصِيبَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما)، وعود الفاعل إلى الله لم يقل به أحد.
{فَبِما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (بما): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو بسبب الذي. {كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْدِيكُمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والجملة الاسمية المقدرة: «هو بسبب
…
إلخ» في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ الذي هو (ما) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [10]. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) اسما موصولا، فهي مبتدأ، والجملة الفعلية:{أَصابَكُمْ..} .
إلخ صلتها، والجار والمجرور (بما
…
) إلخ متعلقان بمحذوف خبره، ودخلت الفاء في الخبر لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، علما بأنه قرئ بإسقاط الفاء. {وَيَعْفُوا:} الواو: واو الحال. (يعفو): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل يعود إلى {اللهُ} تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: والله يعفو، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{أَيْدِيكُمْ،} والرابط: الواو فقط. {عَنْ كَثِيرٍ:}
متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{وَما أَصابَكُمْ..} . إلخ مستأنفة.
الشرح: {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: لا تعجزون ربكم عن إدراككم. بمعنى: لا تفوتونه؛ إن هربتم من حكمه، وقضائه. هذا؛ واقتصر هنا على ذكر الأرض، وقال في سورة (العنكبوت) رقم [22]:{وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} لأنّ الخطاب هنا لأهل مكة، ولغيرهم من الناس، وهم يعيشون على وجه الأرض بخلاف الخطاب في سورة (العنكبوت)، فإنّه لقوم فيهم النمرود، الذي حاول الصعود إلى السماء؛ بينما حذفا معا للاختصار في الآية رقم [51] من سورة (الزمر). {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ:} ليس لكم من دون الله ولي يتولى أموركم، وشؤونكم، وليس لكم نصير ينصركم من عذاب الله تعالى؛ إن أراد تعذيبكم. وانظر الآيتين رقم [8] و [9].
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» .
{أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {بِمُعْجِزِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (معجزين): خبر (ما)، مجرور لفظا، منصوب محلا، وفاعله مستتر فيه. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان به، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. والجملة الاسمية معطوفة
على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين. {وَما:} الواو: حرف عطف.
(ما): نافية. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {مِنْ:} حرف جر صلة. {وَلِيٍّ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المستتر ب:(معجزين) فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {نَصِيرٍ:} معطوف على ما قبله.
{وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32)}
الشرح: ومن علامات قدرته الدالة على توحيده، وتعظيمه، وتقديسه: السفن؛ التي تسير في البحر، كأنّها الجبال الراسيات، أو القصور الشامخات. وكل شيء مرتفع عند العرب فهو علم، قالت الخنساء، رضي الله عنها-ترثي أخاها صخرا:[البسيط]
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به
…
كأنّه علم في رأسه نار
هذا؛ وواحد الجواري: جارية، قال تعالى في سورة (الحاقة) رقم [11]:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} سميت جارية؛ لأنّها تجري في الماء، والجارية: المرأة الشابة، سميت بذلك؛ لأنّها يجري فيها ماء الشباب. هذا؛ والجوار بحذف الياء في الخط؛ لأنّها من ياآت الزوائد، وبإثباتها، وحذفها في اللفظ في كلّ من الوصل، والوقف قراآت سبعية. هذا؛ وكثيرا ما أطلق لفظ الفلك على السفينة مفردا، وجمعا، وانظر سورة (الرحمن) رقم [24].
قال محمد علي الصابوني: لما ذكر الله تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السموات والأرض، وما بث فيها من مخلوقات لا تحصى؛ أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإله القادر الحكيم، وهي السفن الضخمة؛ التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر، محملة بالأقوات، والأرزاق. وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي، وصدق القرآن.
الإعراب: {وَمِنْ آياتِهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. و {الْجَوارِ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء الثابتة، أو المحذوفة للتخفيف، وهو نعت لمحذوف، التقدير: السفن الجواري. هذا؛ وأجيز اعتبار الجواري فاعلا بالجار والمجرور؛ أي:
بالاستقرار؛ الذي يتعلقان به، التقدير: ثبت من آياته الجواري. وعلى هذا فالجار والمجرور {فِي الْبَحْرِ} متعلقان بمحذوف حال (من الجواري) وعلى الأول متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {كَالْأَعْلامِ:} متعلقان بمحذوف حال ثانية، والجملة الاسمية:
{وَمِنْ آياتِهِ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ} أي: لو شاء الله لأسكن الرياح، وأوقفها، فتبقى السفن سواكن، وثوابت على ظهر البحر لا تجري. ومن المعلوم: أنّ هذا كان في الأيام الخالية يوم كانت السفن تعتمد على الهواء في سيرها، وجريها، أما في أيامنا هذه، فإن السفن تعتمد على البخار في جميع حركاتها. هذا؛ وركد الماء ركودا: سكن، وكذلك الريح، والسفينة، والشمس إذا قام قائم الظهيرة، وكل ثابت في مكان فهو راكد. هذا؛ والمراد:
ب: (يظللن) الاستمرار، كما في قوله تعالى في سورة (الشعراء) حكاية عن قول قوم إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ} . هذا؛ وقد تحذف إحدى اللامين؛ إذا اتصل الفعل بضمير رفع متحرك، مثل قوله تعالى حكاية عن قول موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام للسامري:{وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً} وانظر سورة (الحجر) رقم [14].
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في تسيير السفن بواسطة الريح. {لَآياتٍ:} لدلالات على قدرة الله تعالى، وتوحيده. {لِكُلِّ صَبّارٍ:} كثير الصبر على البلاء، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، والمنكرات. {شَكُورٍ:} كثير الشكر لله على نعمه، وآلائه. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور؛ الذي إذا أعطي؛ شكر وإذا ابتلي؛ صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر.
وقال أبو حيان: وإنّما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة: أنّ الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة، ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها، ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سببا لسيرها، فإذا أراد أن ترسو؛ أسكن الرياح، فلا تبرح عن مكانها. انتهى. صفوة التفاسير.
الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَشَأْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى الله، والمفعول محذوف: تقديره: إن يشأ الله إيقاف السفن. والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {يُسْكِنِ:} فعل مضارع والفاعل يعود إلى الله.
{الرِّيحَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {فَيَظْلَلْنَ:}
الفاء: حرف عطف، وسبب. (يظللن): فعل مضارع ناقص مبني على السكون، ونون النسوة اسمه. {رَواكِدَ:} خبره، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثله. {عَلى ظَهْرِهِ:} متعلقان ب: {رَواكِدَ،} والهاء في محل جر بالإضافة.
{إِنْ:} حرف مشبّه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنْ} مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء.
(آيات): اسم: {إِنْ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم. {لِكُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (آيات)، و (كل): مضاف، و {صَبّارٍ:}
مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف؛ إذ التقدير: لكل إنسان صبار. {شَكُورٍ:} صفة ثانية، والجملة الاسمية:{إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محلّ لها على الاعتبارين.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)}
الشرح: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} أي: يغرقهن بعصف الريح بأهلهن. {بِما كَسَبُوا} أي: من الذنوب.
والمعنى: إن يشأ يسكن الريح، فيركدن، أو يعصفها، فيغرقن بعصفها. {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ:} من أهلها فلا يغرقهم معها. حكاه الماوردي. وقيل: المعنى: ويتجاوز عن كثير من الذنوب، فينجيهم الله من الهلاك. و {وَيَعْفُ:} معطوف على جواب الشرط، واستشكله القشيري، وقال:
لأنّ المعنى: إن يشأ يسكن الريح، فتبقى تلك السفن رواكد، أو يهلكها بذنوب أهلها. فلا يحسن عطف {وَيَعْفُ} على هذا؛ لأنّ المعنى يصير: إن يشأ يعف، وليس المعنى على ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة، فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم:«(ويعفو)» بالرفع، وهي جيدة في المعنى، كما قرئ بالنصب بإضمار أنّ بعد الواو كما قرئ:(يعلم) الآتي بالأوجه الثلاثة. ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من: «أن» المضمرة والفعل المضارع على مصدر متوهم من الفعل قبله، تقديره: أو يقع إيباق، وعفو عن كثير. فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى؛ إلاّ أنّ في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم، وفي تيك عطف فعل على مثله. انتهى. جمل نقلا من السمين.
هذا؛ ويعفو: يصفح، ويتجاوز، وهو كثير في القرآن بهذا المعنى كما يأتي:«عفا» بمعنى:
الكثرة، قال تعالى:{ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا} سورة (الأعراف) رقم [95] أي:
حتى كثروا ونموا في أنفسهم، وأموالهم، من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم، والوبر: إذا كثر، قال الحطيئة:[الطويل]
بمستأسد الغربان عاف نباته
…
بأسوق عافيات الشّحم كوم
وعفا المنزل، يعفو عفاء؛ إذا انمحت آثاره، وذهبت معالمه. قال الشاعر-وهذا هو الشاهد رقم [498] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
وبالصّريمة منهم منزل خلق
…
عاف تغيّر إلاّ النّؤي والوتد
وعفو المال: ما يفضل عن النفقة، قال تعالى:{وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي:
الفاضل عن الحاجة، والعافي: طالب المعروف، والإحسان. قال عروة بن الورد:[الطويل]
وإني امرؤ عافي إنائي شركة
…
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
وجمع العافي: عفاة. قال الأعشى: [المتقارب]
تطوف العفاة بأبوابه
…
كطوف النّصارى ببيت الوثن
الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {يُوبِقْهُنَّ:} مضارع معطوف على جواب الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {بِما:} الباء:
حرف جر. (ما): مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:
بكسبهم، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {وَيَعْفُ:} الواو: حرف عطف. (يعف):
معطوف على ما قبله، فهو مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} وعلى قراءته: (يعفو) فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، وانظر قراءة النصب في الشرح. {عَنْ كَثِيرٍ:} متعلقان بما قبلهما، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [30] فالكلام يشبه بعضه بعضا.
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
الشرح: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ..} . إلخ: أي: يعلم الكفار الذين يجادلون في آيات القرآن، ويقولون: هو سحر، أو كهانة
…
إلخ إذا توسطوا البحر، وغشيتهم الرياح من كل مكان، أو بقيت السفن رواكد؛ علموا: أنّه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم؛ إن أراد الله إهلاكهم، فيخلصون له العبادة. {مِنْ مَحِيصٍ:} من ملجأ، وهو مأخوذ من قولهم: حاص به البعير حيصة: إذا رمى به، ومنه قولهم: فلان يحيص عن الحق؛ أي: يميل عنه. انتهى. قرطبي. وقال الخازن وغيره: يعني يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله تعالى ما لهم من مهرب من عذابه. انتهى.
الإعراب: {وَيَعْلَمَ:} الواو: حرف عطف. (يعلم): هذا الفعل يقرأ بالنصب، والجزم، والرفع، فالنصب على إضمار:«أن» بعد الواو، والجزم بالعطف على جواب الشرط، والرفع على الاستئناف؛ أي: على اعتبار الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير:
وهو يعلم، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محلّ لها من الإعراب، وما ذكرته في هذه الآية من وجوه الإعراب مقرّر في القواعد النحوية كما يلي:«إذا عطف مضارع بالواو، أو بالفاء على فعل الشرط، يجوز جزمه ونصبه، وإذا عطف على الجواب مضارع بالواو، أو بالفاء يجوز نصبه، وجزمه، ورفعه» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
والفعل من بعد الجزا إن يقترن
…
بالفا أو الواو بتثليث قمن
وجزم أو نصب لفعل إثر فا
…
أو واو أن بالجملتين اكتنفا
وانظر آية البقرة رقم [283]. وعلى قراءة النصب تؤول «أن» المضمرة مع الفعل المضارع بمصدر معطوف على مصدر متوهم من الفعل السابق، التقدير: أو يقع إيباق، وعفو، وعلم.
وعلى رفع (يعلم) فالفاعل يعود إلى المبتدأ المقدر، والموصول مفعول به. وعلى النصب، والجزم فالموصول فاعل به. وجملة:{يُجادِلُونَ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {فِي آياتِنا:}
متعلقان بما قبلهما. و (نا): في محل جر بالإضافة. {ما:} نافية. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {مَحِيصٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية مستأنفة على قراءة الرفع، واعتبار الفاعل عائدا على المبتدأ، وفي محل نصب مفعول به على اعتبار الموصول فاعلا، ويكون الفعل معلقا على العمل بسبب (ما) النافية، وعلى الاعتبارين فالفعل من المعرفة، لا من العلم.
الشرح: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: من منافع الدنيا، كالمأكل، والمشرب، والملبس، والمنكح، والمسكن، والمركب. {فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا:} فإنما هو متاع في أيام قليلة تنقضي، وتذهب، فلا ينبغي أن يتفاخر به؛ لأنّه ظل زائل، وعرض حائل، وعارية مستردة. {وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي: وما عند الله من الثواب، والنعيم خير من الدنيا وما فيها؛ لأنّ نعيم الآخرة دائم مستمر، فلا تقدموا الفاني على الباقي. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: للذين صدقوا الله ورسوله، وصبروا على ترك الملاذ في الدنيا. {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: توكلوا، واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم، وهو كقوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [57]:{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} . هذا؛ وقال القرطبي وغيره: نزلت الآية الكريمة في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-حين أنفق جميع ماله في طاعة الله تعالى، فلامه الناس على ذلك، وجاء في الحديث: أنّه أنفق ثمانين ألفا.
الإعراب: {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان، تقدم على الفعل ومفعوله الأول؛ لأنّ الشرط له صدر الكلام. {أُوتِيتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {مِنْ شَيْءٍ:}
متعلقان بمحذوف حال من (ما)، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَمَتاعُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (متاع): خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو متاع، و (متاع) مضاف، و {الْحَياةِ} مضاف إليه. {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية المقدرة: «فهو متاع
…
إلخ». في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول:
لا محلّ لها. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: فالذي أوتيتموه، والخبر:(متاع الحياة)، والجملة:{فَما أُوتِيتُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها على جميع الاعتبارات. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {عِنْدَ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{فَمَتاعُ الْحَياةِ} والرابط: الواو فقط، وهو أقوى من اعتبارها معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة. {وَأَبْقى:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بأحد الاسمين السابقين على التنازع، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {وَعَلى رَبِّهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَتَوَكَّلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ} يعني: كل ذنب تعظم عقوبته، كالقتل، ونحوه. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«اجتنبوا السبع الموبقات» . قيل: يا رسول الله! ما هنّ؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة-رضي الله عنه. {وَالْفَواحِشَ:} جمع: فاحشة، وهي الزنى. وقال الخازن: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال. وقيل: الفواحش، والكبائر بمعنى واحد، فكرر لتعدد اللفظ؛ أي:
يجتنبون المعاصي؛ لأنها كبائر وفواحش.
{وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: يتجاوزون، ويحلمون عمن ظلمهم. وهذا من محاسن الأخلاق، فهم يشفقون على ظالمهم، ويصفحون عمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى، وعفوه، لقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [134]:{وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . وعن علي-رضي الله عنه-قال: اجتمع لأبي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الخير، فلامه المسلمون، وخطأه الكافرون، فنزل قوله تعالى:{فَما أُوتِيتُمْ}
{مِنْ شَيْءٍ..} . إلى {
…
وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: شتم رجل من المشركين أبا بكر، فلم يرد عليه شيئا. فنزلت الآية. وأنشد بعضهم:[الكامل]
إني عفوت لظالمي ظلمي
…
ووهبت ذاك له على علمي
ما زال يظلمني وأرحمه
…
حتى بكيت له من الظّلم
فعن معاذ بن أنس-رضي الله عنه-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا، وهو قادر على أن ينفّذه؛ دعاه الله سبحانه على رؤوس الخلائق؛ حتّى يخيّره من الحور العين ما شاء» . رواه أبو داود والترمذي. وفي رواية لأحمد وأبي داود: «من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه؛ ملأ الله قلبه أمنا، وإيمانا» . وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على ما قبله. وتوهم أبو البقاء: أنّ التلاوة بغير واو. {يَجْتَنِبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.
{كَبائِرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْإِثْمِ} مضاف إليه. {وَالْفَواحِشَ:} معطوف على ما قبله.
{وَإِذا:} الواو: حرف عطف، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {ما:} صلة. {غَضِبُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:(إذا) إليها. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. وجملة: {يَغْفِرُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على جملة الصلة، لا محلّ له مثلها، ويكون قد حذف الفاء من جواب:(إذا) والواجب اقترانه بها في مثل ذلك، انتهى. أبو البقاء. ولم يرتضه الجمل، بل قال:(إذا) هذه منصوبة ب:
{يَغْفِرُونَ،} و {يَغْفِرُونَ} خبر ل: {هُمْ} والجملة بأسرها عطف على الصلة، وهي:{يَجْتَنِبُونَ} فيكون قد عطف جملة اسمية على فعلية. ويجوز أن يكون {هُمْ} توكيدا للفاعل في قوله:
{غَضِبُوا،} وعلى هذا ف: {يَغْفِرُونَ} جواب الشرط. وقيل: {هُمْ} مرفوع بفعل مقدر يفسره:
{يَغْفِرُونَ} بعده، ولما حذف الفعل؛ انفصل الضمير.
الشرح: {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ:} قال عبد الرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالله، ورسوله حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبا منهم قبل الهجرة. {وَأَقامُوا الصَّلاةَ:}
أدوها في أوقاتها مع المحافظة على شروطها، وأركانها، وسننها، وآدابها. {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} أي: يتشاورون في جميع أمورهم الدينية، والدنيوية، والشورى مصدر شاورته مثل: البشرى، والذكرى، ونحوهن، فكانت الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمرا؛ تشاوروا فيه، ثم عملوا عليه، فمدحهم الله تعالى به، وأعظم ما تشاوروا فيه حين اجتمعوا لإنهاء حرب بعاث، واتفق رأيهم على تنصيب عبد الله بن أبي عليهم ملكا، ولولا نور الإسلام الذي بزغ في المدينة؛ لتم له ذلك، وهذا هو السبب في نفاقه، وكيده للإسلام والمسلمين في الخفاء، ولا تنس تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومجيء النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به، والنصرة له. انظر (استجاب) في سورة (فاطر) رقم [14]. وقال ابن العربي:
الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط؛ إلاّ هدوا لأرشد أمورهم. قال بشار بن برد:[الطويل]
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
…
برأي لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
…
فإن الخوافي قوة للقوادم
الخوافي: ريشات إذا ضمّ الطائر جناحيه خفيت. والقوادم: عشر ريشات في مقدم جناح الطائر، وهي كبار الريش، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، كالذي كان منه في غزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وقد قال الله له في سورة (آل عمران) رقم [159]:{وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فأمره الله عز وجل باستشارة أصحابه، وهو أرجحهم عقلا، وأقومهم رأيا، وأنضجهم فكرا، ليلفت نظر الأمة إلى ما في المشورة من آثار طيبة، ونتائج حميدة، وليكون لهم فيه أسوة حسنة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يبرم أمرا من الأمور الدنيوية، أو التي لم ينزل عليه فيها وحي إلاّ بعد أن يعرضه على ذوي العقول الراجحة، والأفئدة النيرة من أصحابه، حتى إذا محصته المشورة، وأقرته الجمهرة، نزل الجميع على ما رأته الأغلبية بحيث لا يخرجون عنه، ولا يخالفونه، احتراما للجماعة، وتقديرا لذوي الرأي، والمكانة، وجمعا للكلمة، وتوحيدا للصف.
وليس أدل على ما للشورى من أهمية كبرى في الإسلام من أنّ الله تعالى قد قرنها بهذه الآية الكريمة بركنين عظيمين من أركانه، وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فالآية الكريمة هادية إلى أنّ الشورى يجب أن تكون بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم، وهيئاتهم، بين المسلمين عامة، وبين أبناء القطر الواحد، وبين أبناء البلد الواحد، وبين أبناء القرية الواحدة، وهي من أسس الإسلام القويمة، ومبادئه الحقة، ورحم الله من يقول:[البسيط]
عقل الفتى ليس يغني عن مشاورة
…
كعفّة الخود لا تغني عن الرجل
إن المشاور إما صائب غرضا
…
أو مخطئ غير منسوب إلى الخطل
لا تحقر الرأي: قد يأتي الحقير به
…
فالنحل وهو ذباب طيب العسل
ولقد سار النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين هذه السيرة؛ التي أوجبها عليه القرآن الكريم؛ تطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وتركيزا لمبادئ الشورى بينهم، حتى يسير على ضوئها من يأتي بعده من الرؤساء، والزعماء، وذوي الرأي: من أهل الحل، والعقد. ورحم الله من يقول:[الكامل]
شاور صديقك في الخفيّ المشكل
…
واقبل نصيحة ناصح متفضّل
فالله قد أوصى بذاك نبيّه
…
في قوله: شاورهم وتوكّل
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية بعده صلته. {لِرَبِّهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{وَأَقامُوا الصَّلاةَ} معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {وَأَمْرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {شُورى:}
خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق ب: {شُورى،} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير. {وَمِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل:
{يُنْفِقُونَ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:
(من). {رَزَقْناهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: ينفقون من الذي، أو من شيء رزقناهم إياه، أو رزقناهموه، والجملة:{يُنْفِقُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها.
{وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)}
الشرح: قال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عمّن ظلمهم، فبدأ بذكرهم، وهو قوله تعالى:{وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} . وصنف ينتصرون من ظالمهم، وهو الذي ذكر في هذه الآية. وقال ابن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض
المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين: إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور، وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير، والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي-رحمه الله تعالى-: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفساق.
الثانية: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} سورة (البقرة) رقم [237]. {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} وقال أبو السعود: وهو وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران، فإن كلا في موضعه محمود.
هذا؛ وقيل العفو، والتسامح إغراء للسفيه. وقال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز، والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلّ بالمروءة، ولا واجبا، كما إذا انتهكت حرمات الله؛ فالواجب حينئذ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي-رحمه الله تعالى-:«من استغضب، ولم يغضب؛ فهو حمار» . وقال الشاعر: [الطويل]
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
…
إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم
وقال آخر: [الطويل]
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وقال عنترة بن شداد العبسي: [الكامل]
وإذا بليت بظالم كن ظالما
…
وإذا رأيت ذوي الجهالة فاجهل
وقال عمرو بن كلثوم التغلبي: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وصفوة القول: إن للحلم، والعفو، والصفح محالّ، وللجهل، والانتقام من المسيء محالّ، فقد انتقم الرسول صلى الله عليه وسلم من أبي عزّة الجمحي، ومن النضر بن الحارث؛ حيث أمر بقتلهما، وعفا صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه، وهو نائم، وعفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم، الذي سحره، وعفا عن المرأة التي وضعت له السم في ذراع الشاة على الأصح. وينبغي أن تتفهم ما يلي: وفد النابغة الجعدي-رضي الله عنه-على النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه بقصيدة طويلة، وفيها حكم، ومواعظ، ومن أبياتها ما يلي:[الطويل]
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
…
بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
…
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فأعجب النبي المعظم صلى الله عليه وسلم بهذين البيتين كل الإعجاب، وقال له:«لا يفضض الله فاك» ، فعاش مئة وعشرين سنة، لم تسقط له سن ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ والبغي: هو الظلم، والاعتداء على حق غيرك. وعواقبه ذميمة، ومال الباغي وخيم، وعقباه أليمة؛ ولو أنّ له جنودا بعدد الحصى، والرمل، والتراب. ورحم الله من يقول:[البسيط] لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا
…
جنوده ضاق عنها السّهل والجبل
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا، ولا تبغ، ولا تعن باغيا، ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} وقال: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} . وقال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه:
«ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه» . وتلا الآيات الثلاث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «أسرع الخير صلة الرحم، وأعجل الشرّ البغي، واليمين الفاجرة» . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنّه قال:
«لو بغى جبل على جبل؛ لدكّ الباغي» . ورحم الله من يقول: [البسيط]
يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة
…
فاربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل
…
لاندكّ منه أعاليه وأسفله
وكان المأمون العباسي يتمثل بهذين البيتين في أخيه الأمين، حين ابتدأ بالبغي عليه، قال الشاعر الحكيم:[مجزوء الكامل]
والبغي يصرع أهله
…
والظلم مرتعه وخيم
هذا؛ وانظر أنواع الظلم في رسالة: «الحج والحجاج في هذا الزمن» وأقبح أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه بارتكاب المعاصي، والسيئات، فيسبب لها الخلود في نار جهنم.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله. {إِذا:} انظر الآية رقم [37]. {أَصابَهُمُ:} ماض، ومفعوله. {الْبَغْيُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:
{إِذا} إليها، {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} انظر رقم [37] فالإعراب لا يختلف. و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول.
الشرح: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها:} فهذا مثل قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [194]:
{فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ،} وقوله في سورة (النحل) رقم [126]: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} سمى الجزاء سيئة؛ وإن لم يكن سيئة؛ لتشابههما في
الصورة. وقيل: لأنّ الجزاء يسوء من ينزل به. وما في الآيات الثلاث يسمى مشاكلة؛ أي:
أطلق على المجازاة ما يشبه السيئة المبدوء بها، والاعتداء المبدوء به. هذا؛ والمراد: مقابلة القبيح بمثله؛ إذا قال: أخزاك الله؛ فقل له: أخزاك الله. وإذا شتمك؛ فاشتمه بمثلها، ولا تعتد.
وقيل: هو في القصاص في الجراحات، والدماء يقتص بمثلها ما جني عليه. وبالجملة فالانتقام من المعتدي، والظالم مشروع. هذا؛ وخذ قول ابن الرقعمق في المشاكلة:[الكامل]
أصحابنا قصدوا الصّبوح بسحرة
…
وأتى رسولهم إلي خصيصا
قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه
…
قلت: اطبخوا لي جبّة وقميصا
وقال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلّقته رقم [114]: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى جزاء الجهل جهلا لازدواج الكلام، وحسن تجانس اللفظ، فالجملة الثانية على مثل لفظ الأولى، وهي تخالفها في المعنى؛ لأنّ ذلك أخف على اللسان، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا» . فمعناه: أنّ الله تعالى لا يقطع عنكم فضله؛ حتى تملوا من مسألته، وتزهدوا فيها؛ لأنّ الله لا يملّ في الحقيقة، وإنّما نسب الملل إليه؛ لازدواج اللفظين.
وقال السدّي: إنّما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به؛ أي: كما كانت العرب تفعله. وتأول الشافعي-رحمه الله تعالى-في هذه الآية: أنّ للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان:«خذي ما يكفيك، وبنيك بالمعروف» . فأجاز لها أخذ ذلك من غير علمه.
أقول: وقوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [33]: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} دليل واضح، وجلي على جواز الانتقام، والأخذ بالثأر بشرط عدم مجاوزة الحق.
{فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: من ترك القصاص، وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو؛ {فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أي: إن الله يثيبه، ويأجره على عفوه، وتجاوزه عن حقه.
قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة. هذا؛ وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم-قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس، فيقال: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: قبل الحساب؟ يقولون: نعم، يقولون: من أنتم؟ يقولون: نحن أهل الفضل، يقولون:
وما كان فضلكم؟ يقولون: كنا إذا جهل علينا؛ حلمنا، وإذا ظلمنا؛ صبرنا، وإذا أسيء إلينا؛ عفونا، يقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. انتهى. قرطبي بتصرف.
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ} أي: من بدأ بالظلم. قاله سعيد بن جبير. وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص، ويجاوز الحد. قاله ابن عيسى. انتهى. قرطبي، ومعنى عدم حب الله الظالمين:
سخطه عليهم، وطردهم من رحمته، وحرمانهم من جوده، وكرمه، وإحسانه. ومعنى حب الله المتقين من المؤمنين: رضاه عنهم، وتقريبهم من رحمته، وإغداق جوده وكرمه عليهم؛ لأنّ الله منزّه عن الحب، والبغض المتعارفين بين الناس.
الإعراب: {وَجَزاءُ:} الواو: حرف استئناف. (جزاء): مبتدأ، وهو مضاف، و {سَيِّئَةٍ} مضاف إليه. {سَيِّئَةٍ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِثْلُها:} صفة:
{سَيِّئَةٍ،} و «ها» : في محل جر بالإضافة. {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَفا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {وَأَصْلَحَ:}
معطوف على ما قبله، وفاعله يعود إلى (من). {فَأَجْرُهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(أجره): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [10]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية:{فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} خبره، واقترن الخبر بالفاء؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {الظّالِمِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَلَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}
الشرح: المعنى: إنّ المسلم إذا انتقم من الكافر، وأخذ بالثأر منه؛ فلا سبيل إلى لومه، بل يحمد على ذلك مع الكافر، ولا لوم إن انتصر الظالم من المسلم، فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب. {فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي: ليس عليهم إثم، ومؤاخذة في الانتصار ممن ظلمهم، وخذ ما يلي:
فعن عروة بن الزبير-رضي الله عنهما-قال: قالت عائشة-رضي الله عنها: (ما علمت حتى دخلت عليّ زينب بغير إذن، وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها! ثم أقبلت عليّ، فأعرضت عنها؛ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:«دونك فانتصري!» .
فأقبلت عليها؛ حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها، ما ترد عليّ شيئا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلّل وجهه). أخرجه النسائي، وابن ماجه. وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من دعا على من ظلمه، فقد انتصر» . أخرجه الترمذي، والبزار.
تنبيه: قال بعض العلماء: إن من ظلم، وأخذ له مال، فإن له ثواب ما احتبس عنه إلى موته، ثم يرجع الثواب إلى ورثته، ثم كذلك إلى آخرهم؛ لأنّ المال يصير بعد الموت للوارث.
قال أبو جعفر الداودي المالكي: وهذا صحيح في النظر، وعلى هذا القول: إذا مات الظالم قبل المظلوم، ولم يترك شيئا، أو ترك مالا لم يعلمه وارثه لم تنتقل تباعة المظلوم إلى ورثة الظالم؛ لأنّه لم يبق للظالم ما يستوجبه ورثة المظلوم. انتهى. جمل. وأقول: ومن برّ الوالدين بعد موتهما أن يعمل أولادهما على تبرئة الوالدين من مظالم الناس وتبعاتهم، ولكن البعض يرثون مال مورثهم، ثم إن طالبهم أصحاب الحقوق؛ يقولون لهم: اذهبوا، وانبشوا قبره، وخذوا حقكم. وهذا هو العقوق، وأي: عقوق بعد هذا؟!
الإعراب: {وَلَمَنِ:} الواو: حرف استئناف. اللام: لام الابتداء. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِنْتَصَرَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» . {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ} مضاف، و {ظُلْمِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: ظلم الظالم إياه. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له.
{ما:} نافية. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {لَمَنِ:} حرف جر صلة. {سَبِيلٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت {سَبِيلٍ} فاعلا بالجار والمجرور؛ أي: بالاستقرار المحذوف، التقدير: ما يقع عليهم سبيل فلست مفندا، وتكون الجملة فعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وبقية الكلام، كما في الآية السابقة، ولا تنس اعتبار (من) اسما موصولا كما في الآية السابقة.
الشرح: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي: الإثم، والمؤاخذة. {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ} أي: يعتدون على أعراضهم، وأموالهم، ويستبيحون حرماتهم، ويستحلون دماءهم
…
إلخ. {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: يتكبرون، ويتجبرون، ويفسدون في الأرض، والتقييد {بِغَيْرِ الْحَقِّ} لأنّ البغي قد
يكون مصحوبا بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه. {أُولئِكَ} أي: المعتدون بغير الحق.
{لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة.
هذا؛ والسبيل في الأصل: الطريق، يذكر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [146]:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} . ومن التأنيث قوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:
{قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} رقم [108]. والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل بضمتين، وقد تسكن الباء، كما في: رسل، وعسر، ويسر. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: رحم، وحلم، وأسد
…
إلخ.
الإعراب: {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {السَّبِيلُ:} مبتدأ. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة، لا محلّ لها، وجملة:{يَظْلِمُونَ النّاسَ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَيَبْغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محلّ لها مثلها. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (غير) مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر.
والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور {لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبر: {أُولئِكَ} ف: {عَذابٌ} يكون فاعلا بالاستقرار المحذوف. {أَلِيمٌ:}
صفة: {عَذابٌ،} والجملة الاسمية: {أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}
الشرح: {وَلَمَنْ صَبَرَ} أي: على الأذى. {وَغَفَرَ} أي: ترك الانتصار لوجه الله تعالى.
وهذا فيمن ظلمه مسلم. ويحكى أن رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن رحمه الله، فكان المسبوب يكظم غيظه، ويعرق، فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها؛ والله! وفهمها؛ إذ ضيعها الجاهلون. وبالجملة: العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبا إليه كما أوضحته فيما سبق، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [41] من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:«دونك فانتصري» .
{إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: لمن الأمور المشكورة عند الله، والأفعال الحميدة عند الناس؛ التي يثاب عليها فاعلها ثوابا جزيلا. وقال الفضيل بن عياض-رحمه الله تعالى-: إذا
أتاك رجل يشكو إليك رجلا، فقل: يا أخي اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى! فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني ربي عز وجل، فقل له: إن كنت تقدر أن تنتصر؛ وإلاّ فارجع إلى باب العفو، فإنّه باب واسع، فإنّه {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. انتهى. أقول: عند العجز على الانتصار لا يعد هذا من باب العفو، وإنّما هو من باب المظلوم، الذي يكل أمره إلى الله آناء الليل، وأطراف النهار، وخذ ما يلي:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: إنّ رجلا شتم أبا بكر-رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وجعل يعجب، ويبتسم، فلمّا أكثر الرجل؛ ردّ عليه الصديق بعض قوله، فغضب النبي، صلى الله عليه وسلم، وقام من مجلسه، فلحقه الصديق-رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! إنّه كان يشتمني؛ وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله؛ غضبت، وقمت! قال:«إنّه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان (أي: وذهب الملك) فلم أكن لأقعد مع الشيطان» . ثم قال: «يا أبا بكر! ثلاث كلّهنّ حقّ: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله؛ إلاّ أعزّه الله تعالى بها، ونصره. وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة؛ إلاّ زاده الله بها كثرة. وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة؛ إلاّ زاده الله عز وجل بها قلة» . وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو مناسب للصديق-رضي الله عنه. انتهى. مختصر ابن كثير.
هذا؛ والإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ ذلِكَ} راجعة إلى الصبر، والغفران. {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: مما عزمه الله، وأمر به، وقطعه قطع إيجاب، وإلزام. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» . أي: لم يقطعه، ويجزم به بالنية. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه» . وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لمن تحت يده: عزمت عليك إلاّ فعلت كذا! إذا قال ذلك؛ لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله، ولا مندوحة في تركه، وحقيقته أنّه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور؛ أي: مقطوعاتها، ومفروضاتها، ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل، أصله من عازمات الأمور من قوله تعالى:{فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} كقولك:
جدّ الأمر، وصدق القتال.
هذا؛ ودخلت لام الابتداء هنا، وهي للتوكيد، ولم تدخل في سورة (لقمان) رقم [17] ولا في (آل عمران) رقم [186] لأنّ الصبر على مكروه حدث بظلم، كقتل أشد من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم، كموت ولد. كما أن العزم على الأول آكد منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول، فكان أنسب بالتوكيد، وما في (لقمان) و (آل عمران) من القبيل الثاني، فكان أنسب بعدمه. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.
الإعراب: {وَلَمَنْ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء، (من صبر): انظر الآية رقم [41] فالإعراب واحد. {وَغَفَرَ:} معطوف على ما قبله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {ذلِكَ:}
اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم: {إِنَّ،} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {لَمَنْ:} اللام: هي المزحلقة. (من عزم): متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ،} و {عَزْمِ:} مضاف، و {الْأُمُورِ:} مضاف إليه. هذا؛ وعلى اعتبار (من) شرطية فالجملة الاسمية:
{إِنَّ ذلِكَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وكان الواجب اقترانها بالفاء، ولكنها حذفت، كما حذفت في قول عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري-وهو الشاهد رقم [86] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
من يفعل الحسنات الله يشكرها
…
والشّرّ بالشرّ عند الله مثلان
وإن كانت موصولة؛ فجملة: {صَبَرَ وَغَفَرَ} صلتها، وجملة:{إِنَّ ذلِكَ..} . إلخ في محل رفع خبرها، والرابط اسم الإشارة؛ لأنّه عائد على الصبر، والغفران المفهومين من الفعلين السابقين، وهو أولى من اعتبار الرابط محذوفا. والكثير اقترانها بالفاء لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم. واعتبار الحوفي وابن عطية اللام هنا، وفي الآية رقم [41] للقسم ليس بجيّد، ولا وجه له.
الشرح: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ} أي: يخذله، ويتخلى عنه. {فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ:} فما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه. {وَتَرَى الظّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي والسيئات. {لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ:} عاينوا العذاب عند الموت، أو في يوم القيامة. والتعبير في الماضي؛ لتحقق وقوعه. {يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} أي: من رجوع إلى الدنيا! فيطلبون ذلك ليؤمنوا، ويعملوا بطاعة الله، فلا يجابون إلى ذلك. وهذا التمني منهم كثير في آيات القرآن الكريم. هذا؛ وإعلال {رَأَوُا} مثل إعلال (نادوا) في الآية رقم [3] من سورة (ص).
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو في محل نصب مفعول به مقدم. {يُضْلِلِ:} فعل مضارع فعل الشرط، ومفعوله محذوف على اعتبار (من) مبتدأ. {اللهُ:} فاعله. {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {اللهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} حرف جر صلة. {وَلِيٍّ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {وَلِيٍّ،} والهاء في
محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{فَما لَهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [10]، والجملة الاسمية على اعتبار (من) مبتدأ، أو الفعلية على اعتباره مفعولا به مقدما. (من يضلال
…
) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {وَتَرَى:}
الواو: حرف استئناف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» . {الظّالِمِينَ:} مفعول به. {لَمّا:} ظرف بمعنى: «حين» مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {رَأَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين. والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْعَذابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{لَمّا} إليها. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {هَلْ:} حرف استفهام. {إِلى مَرَدٍّ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} حرف جر صلة. {سَبِيلٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من: {الظّالِمِينَ} .
والرابط: الضمير فقط، وجملة: (ترى
…
) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها فيما يظهر.
الشرح: {وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها} أي: على النار؛ لأنّها عذابهم، فكنّى عن العذاب المذكور في الآية السابقة بحرف التأنيث؛ لأنّ ذلك العذاب هو النار، ولو راعى اللفظ؛ لقال:
عليه. وقد اختلف في هذا العرض، هل هو في القبور؟ أو هل هو يوم القيامة؟ وانظر هذا العرض في سورة (الأحقاف) رقم [20]. {خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ:} متذللين، صاغرين، حقيرين، مما يلحقهم من الذل عند معاينة العذاب، والخشوع، والانكسار، والتذلل، والتواضع.
{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي: لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تاما؛ لأنّهم ناكسو الرؤوس، والعرب تصف الذليل بغض الطرف، كما يستعملون في ضده: حديد النظر؛ إذا لم يتهم بريبة، فيكون عليه منها غضاضة. وقال الجلال: ضعيف النظر مسارقة؛ أي: يسارقون النظر إليها خوفا منها، وذلا في أنفسهم، كما ينظر المقتول إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينه منه، ولا يفتحها فيه، وإنّما ينظر ببعضها. انتهى. نقلا من الخطيب.
{وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ..} . إلخ: أي: يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلّ بالكفار: إنّ الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإنّهم خسروا أنفسهم؛ لأنّهم في العذاب
المخلد، وخسروا أهليهم؛ لأنّ الأهل إن كانوا في النار، فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم، وبينهم.
هذا؛ وقد قيل في تفسير الخسران: أنّه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار، فذلك هو الخسران، وأي: خسران أعظم من هذا الخسران؟! وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلاّ له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات، فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله» ، فذلك قوله تعالى:{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} .
{أَلا إِنَّ الظّالِمِينَ:} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وارتكاب المعاصي. {فِي عَذابٍ مُقِيمٍ:}
دائم لا ينقطع، وأصله: مؤقوم؛ لأنّه من أقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب سكونها، ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، فصار مقيم وقد حذفت الهمزة منه حملا على المضارع المبدوء بالهمزة: أؤقوم، وقد ذكرت ذلك مرارا.
وأما الطرف؛ فهو تحريك جفن العين إذا نظرت. فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قول الشاعر:[الطويل]
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا
…
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الّذي لا كلّه أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقد وصف آصف سليمان بردّ الطّرف، ووصف الطرف بالارتداد. بقوله:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} في الآية رقم [40] من سورة (النمل) وقد يراد بالطرف: الجفن خاصة، كما في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل] أشارت بطرف العين خيفة أهلها
…
إشارة محزون، ولم تتكلّم
فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا
…
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
هذا؛ وفي المختار: الطرف: العين، ولا يجمع؛ لأنّه في الأصل مصدر، فيكون واحدا جمعا، قال تعالى:{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} وانظر سورة (ص) رقم [52] تجد ما يسرّك.
الإعراب: {وَتَراهُمْ:} الواو: حرف عطف. (تراهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {يُعْرَضُونَ:}
فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله. {عَلَيْها:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير
المنصوب، والرابط: الضمير فقط. {خاشِعِينَ:} حال من واو الجماعة-وهي حال متداخلة- منصوب
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه. {مِنَ الذُّلِّ:} متعلقان به. وقيل متعلقان بما بعدهما، وجملة:{يَنْظُرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، فهي حال متداخلة. {مِنْ طَرْفٍ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: {مِنَ} بمعنى: الباء. {خَفِيٍّ:} صفة: {طَرْفٍ،} وجملة:
{وَتَراهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
{وَقالَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (قال الذين): ماض، وفاعله، وجملة:
{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{الْخاسِرِينَ:} اسم: {إِنَّ} منصوب وعلامة نصبه الياء
…
إلخ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر: {إِنَّ،} وجملة: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} صلة الموصول. {وَأَهْلِيهِمْ:}
الواو: حرف عطف. (أهليهم): معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة.
{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {خَسِرُوا} وعليه؛ فالقول في الدنيا، أو هو متعلق ب:(قال) وعليه؛ فالقول يكون في القيامة، ويكون عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه. و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْخاسِرِينَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في الواو. {أَلا:} حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{الظّالِمِينَ:} اسم {إِنَّ} منصوب وعلامة نصبه الياء
…
إلخ. {فِي عَذابٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} . {مُقِيمٍ:} صفة: {عَذابٍ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الظّالِمِينَ..} . إلخ يجوز أن تكون من قول المؤمنين، ويجوز أن تكون مبتدأة من الله تعالى لا محلّ لها.
الشرح: {وَما كانَ لَهُمْ} أي: الخاسرين الذين خسروا أنفسهم. {مِنْ أَوْلِياءَ:} من أعوان، وأنصار. {يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: من عذاب الله، وسخطه. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ} أي: يخذله، ويتخلّى عنه. {فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي: طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، والنجاة في الآخرة؛ لأنّه قد سدت عليه جميع طرق النجاة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.
{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) تقدم على اسمها. {مِنْ:} حرف جر صلة.
{أَوْلِياءَ:} اسم {كانَ} مؤخر، مجرور لفظا، مرفوع محلا. {يَنْصُرُونَهُمْ:} فعل مضارع
مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر على اللفظ، أو في محل رفع على المحل صفة:{أَوْلِياءَ} . {مِنْ دُونِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية:{وَما كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ} في الآية رقم [44] بلا فارق.
الشرح: {اِسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أي: أجيبوا داعي الله-يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم-إلى ما دعاكم إليه من الإيمان بالله، والطاعة له. واستجاب، وأجاب بمعنى واحد. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ:} المراد به يوم القيامة. {لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ} أي: لا يرده الله بعد ما حكم به. أو المعنى: من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده، ولا يقدر أحد على دفعه. {ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ:} من مخلص ومهرب ومفرّ يوم القيامة. {وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي: إنكار لما اقترفتموه؛ لأنّه مدوّن في صحائفكم، وتشهد عليه ألسنتكم، وجوارحكم؛ إن أنكرتموه. وقيل: المعنى ليس لكم إنكار ما ينزل بكم من العذاب، وليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا مكان يستركم، وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى. قال تعالى في سورة (القيامة):{يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .
الإعراب: {اِسْتَجِيبُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{لِرَبِّكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَأْتِيَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} . {يَوْمٌ:} فاعله، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة قبل إليه. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {مَرَدَّ:} اسم {لا} مبنى على الفتح في محل نصب. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لا،} والجملة الاسمية: {لا مَرَدَّ لَهُ} في محل رفع صفة: {يَوْمٌ} . {مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمرد لأنّه مصدر ميمي، والجملة الفعلية:{اِسْتَجِيبُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية.
{ما:} نافية. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {مَلْجَإٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة:
{مَلْجَإٍ،} و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وتنوينه ينوب عن جملة محذوفة دلّت عليها الغاية، التقدير: يوم إذ تحشرون، أو تعاقبون، ونحوه، والجملة الاسمية:{وَما لَكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها، وجملة:{وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.
الشرح: {فَإِنْ أَعْرَضُوا:} عن الإيمان، ولم يقبلوا هداية الرحمن. {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي: حافظا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها. وقيل: موكلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا؛ أي: ليس لك إكراههم على الإيمان. {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ:} أي: ليس عليك إلاّ البلاغ يا محمد وقد فعلت. قال أبو حيان: والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأنيس له، وإزالة لهمّه، وهي منسوخة بآية القتال.
{وَإِنّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً:} نعمة من صحة، وعافية، وغنى، وخصب، ورخاء، وراحة بال، وهناءة ضمير {فَرِحَ بِها} أي: فرح بها فرح بطر، وكبر. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ:}
شدة من مرض، وفقر، وقحط، وغير ذلك مما يسوءهم. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: من الكفر، والظلم، وارتكاب المعاصي. ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي؛ نسبت الأعمال كلها إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب والأرجل، والعيون، والآذان تغليبا للأكثر على الأقل.
{فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ:} بليغ الكفران؛ أي: الجحود ينسى النعمة رأسا، ويذكر البلية، ويعظمها، ولا يتأمل سببها، وهذا؛ وإن اختصّ بالمجرمين؛ جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه، وتصدير الشرطية الأولى ب:{إِذا} والثانية ب: (إن) لأنّ إذاقة النعمة محققة من حيث إنّها مقضية بالذات، بخلاف إصابة البلية. وإقامة علة الجزاء مقامه، ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أنّ هذا الجنس موسوم بكفران النعمة. انتهى. بيضاوي.
وقال الإمام الفخر الرازي: نعم الله في الدنيا وإن كانت عظيمة إلاّ أنها بالنسبة لسعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سماها: ذوقا، فبين الله تعالى: أنّ الإنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا؛ فإنّه يفرح بها، ويعظم غروره بسببها، ويقع في العجب، والكبر، ويظن: أنّه فاز بكل المنى، وذلك لجهله بحال الدنيا وحال الآخرة. انتهى. صفوة التفاسير.
هذا؛ و (أل) في {الْإِنْسانَ} للجنس الذي يدخل تحته أفراد كثيرة، ولذا جمع الضمير الواقع بين اللفظين. وما ذكر في الآية الكريمة ليس حال المؤمن، وإنّما حاله ما ذكره الرسول صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «عجبا لأمر المؤمن! إنّ أمره له كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن: إن أصابته سرّاء؛ شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء؛ صبر، فكان خيرا له» . أخرجه مسلم عن صهيب الرومي-رضي الله عنه.
هذا؛ والفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب، وأكثر ما يستعمل في اللذات البدنية، وقد ذمّ الله الفرح في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} سورة (القصص) رقم [76]، وقوله جلّت قدرته:{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} رقم [10] من سورة (هود)، ولكنه مطلق، فإذا قيد الفرح لم يكن ذما لقوله تعالى في حق الشهداء رقم [170] من سورة (آل عمران):
{فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ..} . إلخ، وقال سبحانه في سورة (يونس) رقم [58]:{فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: برحمته، وجوده، وإحسانه. وقال تعالى في سورة (الروم): رقم [4]: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} .
الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {أَعْرَضُوا:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {حَفِيظاً:} مفعول به ثان. وقيل: حال. والمعتمد الأول. والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد. وقيل: جواب الشرط محذوف، التقدير: فلا تحزن، ولا تبتئس. وعليه فجملة:{فَما أَرْسَلْناكَ..} . إلخ تعليل للجواب المحذوف. و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {فَإِنْ:}
حرف نفي بمعنى: «ما» . {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية تعليل للنفي، لا محلّ لها.
{وَإِنّا:} الواو: حرف استئناف. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {إِذا:} انظر الآية رقم [37]. {أَذَقْنَا:} فعل، وفاعل. {الْإِنْسانَ:}
مفعول به أول. {مِنّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {رَحْمَةً،} أو بمحذوف حال منها، كان صفة لها، فلما قدم عليها؛ صار حالا على القاعدة: «نعت النكرة
…
إلخ». {رَحْمَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{أَذَقْنَا..} . إلخ في محل جر بإضافة: {إِذا} إليها على المشهور المرجوح، وجملة:{فَرِحَ بِها} جواب: {إِذا} لا محلّ لها، و {إِذا} ومدخولها في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{وَإِنّا..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها، واعتبارها حالا ينافي الاستقبال؛ الذي تفيده:{إِذا} . وإن اعتبرتها معترضة؛ فلا بأس به.
{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {تُصِبْهُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والهاء مفعول به. {سَيِّئَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها
…
إلخ. {بِما:} جار
ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما). تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء قدمته أيديهم.
والجملة الاسمية: {فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} في محل جزم جواب الشرط، وأجيز اعتبار الجواب محذوفا، وعليه فالجملة الاسمية تعليل لهذا المحذوف، وقدر أبو البقاء ضميرا محذوفا. فقال:
فإن الإنسان منهم كفور، و (إن) ومدخولها معطوف على (إن) السابقة ومدخولها، لا محلّ له مثله.
الشرح: {لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} وما فيها من عبيد، ومال، وخلق، وأفلاك، وكواكب في السماء، وما على ظهر الأرض من جبال، وأنهار وبحار
…
إلخ، فكل ذلك ملك لله تعالى، لا يشركه فيه أحد، وما يملكه الإنسان في هذه الدنيا الفانية؛ فإنّما هو ملك له في الظاهر، قد منحه الله له؛ ليتمتع به على سبيل الوكالة، والأمانة، وويل لمن قصر في الوكالة، وخان في الأمانة! فاللام مفيدة للملك الحقيقي؛ الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور.
{يَخْلُقُ ما يَشاءُ} أي: من الخلق من غير لزوم عليه، ولا مجال للاعتراض. هذا؛ والملك بالضم: الاستيلاء على الشيء، والتمكن من التصرف فيه. وفي المصباح: وملك على الناس أمرهم ملكا من باب ضرب: إذا تولى السلطنة، فهو ملك، والاسم: الملك بضم الميم.
{يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً:} فلا يولد له ذكر. {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ:} فلا يولد له أنثى، وأدخل الألف واللام على {الذُّكُورَ} دون الإناث؛ لأنهم أشرف منهن، فميزهم بسمة التعريف، وقال واثلة بن الأسقع الصحابي-رضي الله عنه: إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك أنّ الله تعالى قال:{يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً..} . إلخ فبدأ بالإناث. انتهى. قرطبي. وقال البيضاوي: ولعلّ تقديم الإناث؛ لأنّهنّ أكثر لتكثير النسل، أو لأنّ مساق الآية للدلالة على أنّ الواقع ما يتعلّق به مشيئة الله، لا مشيئة الإنسان، والإناث كذلك، أو لأنّ الكلام في البلاء، والعرب تعدهن بلاء، أو لتطييب قلوب آبائهن، أو للمحافظة على الفواصل، ولذلك عرف الذكور، أو لجبر التأخير. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه. و {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {يَخْلُقُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يخلق الذي، أو شيئا يشاء خلقه، والجملة الفعلية في
محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط. {يَهَبُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يهب للذي، أو: لشخص يشاؤه. {إِناثاً:} مفعول به، وجملة:
{يَهَبُ..} . إلخ بدل من جملة: {يَخْلُقُ..} . إلخ بدل البعض، والجملة بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.
الشرح: قال ابن عباس، وغيره: الآيتان نزلتا في الأنبياء خصوصا، وإن عمّ الحكم في الواقع، وهب للوط، ولشعيب الإناث ليس معهن ذكر، ووهب لإبراهيم ثمانية ذكور، ليس معهم أنثى، ووهب لإسماعيل، وإسحاق الذكور، والإناث. ووهب لسيدنا وحبيبنا الذكور، والإناث، وجعل عيسى، ويحيى عقيمين. وقال بعضهم المراد بقوله:{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ..} . إلخ أولاد آدم، كانت حواء تلد لآدم في كل بطن توأمين: ذكرا، وأنثى، وكان يزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التشريع في شرع نوح عليه الصلاة والسلام.
{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً:} لا ولد له، وهذا قد يكون في بعض الذكور، ويكون في بعض الإناث، يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم، يستوي فيه المذكر، والمؤنث، وعقمت المرأة تعقم عقما، مثل: حمد يحمد، وعقمت تعقم مثل: عظم يعظم، وأصله القطع، ومنه الملك العقيم؛ أي: تقطع فيه الأرحام بالقتل، والعقوق خوفا على الملك. وريح عقيم؛ أي: لا تلقح سحابا، ولا شجرا. ويوم القيامة يوم عقيم؛ لأنّه لا يوم بعده، ويقال: نساء عقم، وعقم، قال أبو دهبل يمدح عبد الله بن الأزرق المخزومي:[الكامل]
عقم النساء، فما يلدن شبيهه
…
إنّ النّساء بمثله عقم
وانظر {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} في سورة (الحج) رقم [55]. ومما يتعلّق بذلك فخذ ما يلي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا» . وكذلك في الصحيح أيضا: «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله» . وقد جاء في حديث ثوبان-رضي الله عنه-خرجه مسلم أيضا: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهودي: «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن الله، وإذ علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن الله» .
انتهى. قرطبي. {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ:} فيفعل ما يفعل بحكمة، واختيار. هذا؛ وفي هذه الآية، وسابقتها فن التقسم، وهو من المحسنات البديعية.
الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {يُزَوِّجُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به. {ذُكْراناً:} حال من الضمير. وقيل: مفعول ثان، ولا وجه له. {وَإِناثاً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَيَجْعَلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) أيضا. {مَنْ:} مفعول به أول، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يجعل الذي، أو شخصا يشاؤه. {عَقِيماً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} تعليل للكلام السابق لا محلّ لها.
الشرح: سبب نزول الآية: أنّ اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله، وتنظر إليه؛ إن كنت نبيا، كما كلّمه موسى عليه السلام، ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
إنّ موسى لم ينظر إليه، فنزل قوله:{وَما كانَ لِبَشَرٍ..} . إلخ ذكره النقاش، والواحدي والثعلبي.
{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ} أي: ما صح، وهذا التعبير و {وَما يَنْبَغِي} ونحوهما معناه:
الحظر، والمنع، فتجيء لحظر الشيء، والحكم بأنه لا يجوز، كما في هذه الآية، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى في سورة (النمل):{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} رقم [60] وربما كان العلم بامتناعه شرعا، كقوله تعالى في هذه السورة، ومثلها في (آل عمران) رقم [79]:{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة ونحو ذلك.
{إِلاّ وَحْياً:} قال مجاهد: نفث ينفث في قلبه، فيكون إلهاما، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ روح القدس نفث في روعي: إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب خذوا ما حلّ، ودعوا ما حرم» . وانظر شرح (الوحي) في الآية رقم [65] من سورة (الزمر). {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ:} كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً:} كإرساله جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من الرسل. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ:} وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقا، ويرونه عيانا، وهكذا كانت حال جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزل جبريل-عليه السلام-على كل نبي، فلم يره منهم إلاّ محمد، وعيسى، وموسى، وزكريا، عليهم السلام، فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما في المنام.
انتهى. قرطبي. هذا؛ وجاء في التسهيل: بين الله تعالى في الآية: أنّ كلامه لعباده على ثلاثة أوجه: أحدها: الوحي بطريق الإلهام، أو المنام. والآخر أن يسمعه كلامه من وراء حجاب.
والثالث: الوحي بواسطة الملك. وهذا خاص بالأنبياء، والثاني خاص بموسى، وبمحمد؛ إذ كلّمه الله ليلة الإسراء. وأمّا الأول فيكون للأنبياء، والأولياء. وقال الصاوي: وقد يقع الإلهام لغير الأنبياء، كالأولياء، غير أنّ إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان؛ لأنّهم غير معصومين، بخلاف الأنبياء، فإلهامهم محفوظ منه. انتهى. صفوة التفاسير. {إِنَّهُ عَلِيٌّ} أي: متعال عن صفات المخلوقين. {حَكِيمٌ:} يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلم تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، إما عيانا، أو من وراء حجاب.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} قال ابن هشام في المغني: تحتمل الأوجه الثلاثة؛ أي: النقصان، والتمام، والزيادة، فعلى اعتبارها ناقصة: الخبر إما: {لِبَشَرٍ،} و {وَحْياً} استثناء مفرغ من الأحوال، فمعناه: موحيا، أو موحى، أو {مِنْ وَراءِ حِجابٍ} بتقدير: أو موصّلا ذلك من وراء حجاب، أو {أَوْ يُرْسِلَ} بتقدير: أو إرسالا، أي: أو ذا إرسال. وإما {وَحْياً} والتفريغ في الأخبار؛ أي: ما كان تكليمهم إلاّ إيحاء، أو إيصالا من وراء حجاب، أو إرسالا. وجعل ذلك تكليما على حذف مضاف، و {لِبَشَرٍ} على هذا تبيين.
وعلى التمام والزيادة فالتفريغ في الأحوال المقدرة في الضمير المستتر في لبشر. انتهى. مغني.
ومثل هذا يقال في آية غافر رقم [78]: {وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} وفي آية (الأحزاب) رقم [36]: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ..} . إلخ.
{لِبَشَرٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} مقدم على نقصانها، ومتعلقان بها على تمامها، ومتعلقان بمحذوف خبر مقدم للمبتدأ المؤخر على زيادتها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ} اسم {كانَ} أو هو فاعلها، أو هو مبتدأ مؤخر. {إِلاّ:} حرف حصر. {وَحْياً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: إلا أن يوحي وحيا، والفعل المقدر مع:{كانَ} في تأويل مصدر في محل نصب حال، وهذا يعود إلى قول مكي، والزمخشري: وحيا مصدر في موضع الحال، وقال أبو البقاء: استثناء منقطع؛ لأنّ الوحي ليس بتكليم. {أَوْ:} حرف عطف. {مِنْ وَراءِ:}
متعلقان بمحذوف معطوف على المقدر العامل في {وَحْياً،} أي: أو إلاّ أن يكلمه من وراء حجاب، وقال الزمخشري:{أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى:
{وَعَلى جُنُوبِهِمْ} والتقدير: وما صحّ أن يكلّم أحدا إلاّ موحيا، أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا، و {وَراءِ:} مضاف، و {حِجابٍ:} مضاف إليه. {أَوْ:} حرف عطف. {يُرْسِلَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة جوازا بعد الواو المسبوقة باسم خالص من التقدير بالفعل، والفاعل يعود إلى الله. {رَسُولاً:} مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر
معطوف على: {وَحْياً،} كما رأيت تقديره. هذا؛ ومثل هذه الآية قول ميسون بنت بحدل الكلبية: [الوافر]
ولبس عباءة وتقرّ عيني
…
أحبّ إليّ من لبس الشفوف
وهذا هو الشاهد رقم [473] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وأيضا قول الآخر، وهو الشاهد رقم [139] من كتابنا:«فتح رب البرية» إعراب شواهد جامع الدروس العربية: [البسيط]
لولا توقّع معترّ فأرضيه
…
ما كنت أوثر أترابا على ترب
وأيضا قول أنس بن مدركة الخثعمي، وهو الشاهد رقم [140] من الكتاب المذكور:[البسيط] إني وقتلي سليكا ثمّ أعقله
…
كالثّور يضرب لمّا عافت البقر
انظر إعراب هذه الأبيات في محالها تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. هذا؛ ويقرأ الفعل {يُرْسِلَ} بالرفع، على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: أو هو يرسل، والجملة الاسمية هذه معطوفة على {وَحْياً} أي: فتكون في محل نصب حال مثله، أو الفعل {يُرْسِلَ} ينزل منزلة المصدر، كما في المثل العربي:«تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» فهو إذا معطوف على:
{وَحْياً} . انظر تقدير الكلام سابقا. (يوحي): معطوف على: {يُرْسِلَ} على جميع الوجوه المعتبرة فيه قراءة، وإعرابا. {بِإِذْنِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: فيوحي بإذنه الذي، أو شيئا يشاؤه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {عَلِيٌّ حَكِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية تعليل للكلام السابق، لا محلّ لها.
الشرح: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} أي: وكالذي أوحينا إلى الأنبياء من قبلك، أوحينا إليك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {رُوحاً} أي: نبوة. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وقال الربيع: هو جبريل. وقال الضحاك: هو القرآن، وهو قول مالك بن دينار، وسماه روحا؛ لأنّ فيه حياة من موت الجهل، وجعله من أمره، بمعنى: أنزله كما شاء على من يشاء من النظم المعجز، والتأليف المعجب، وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن! ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب، كما أنّ الغيث ربيع الأرض. ويمكن أن يحمل قوله تعالى في سورة (الإسراء):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ..} . إلخ على القرآن أيضا {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: يسألونك من أين لك هذا القرآن؟ قل: إنه من أمر الله أنزله عليّ معجزا. ذكره القشيري.
{ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ} المراد بالكتاب: القرآن، والمراد: بالإيمان: شرائعه، ومعالمه، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والختان، وإيقاع الطلاق، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة، والصهر. وهذا هو الحق، وبه اندفع ما يقال: كيف قال: {وَلا الْإِيمانُ} والأنبياء كلهم كانوا مؤمنين قبل الوحي إليهم بأدلة عقولهم، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعبّد على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويحج، ويعتمر، ويتبع شريعة إبراهيم على ما مرّت الإشارة إليه؟
وقال الكواشي: ويجوز أن يراد بالإيمان نفس الكتاب، وهو القرآن، وعطف عليه لاختلاف لفظيهما؛ أي: ما كنت تعرف القرآن، وما فيه من الأحكام. ويدلّ على هذا التأويل توحيد الضمير في:{جَعَلْناهُ} . وقيل: المراد بالإيمان: الكلمة التي بها دعوة الإيمان، والتوحيد، وهي: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. والإيمان بهذا التفسير، إنّما علمه بالوحي، لا بالعقل.
انتهى. نقلا من كرخي.
{وَلكِنْ جَعَلْناهُ} أي: الإيمان، أو القرآن، أو الوحي. {نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} أي: من نختاره للنبوة، كقوله تعالى في سورة (البقرة):{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} . {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} أي: لتدعو الناس. {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} إلى دين الإسلام. هذا؛ وانظر شرح {يُدْرِيكَ} في الآية رقم [17]. وإعلال {مُقِيمٍ} في الآية رقم [45] فإعلال {مُسْتَقِيمٍ} مثله.
الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: أوحينا إليك إيحاء كائنا مثل إيحائنا لمن كان قبلك من المرسلين. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل.
{إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رُوحاً:} مفعول به. {مِنْ أَمْرِنا:} متعلقان بمحذوف صفة: {رُوحاً} . وقال الجمل: متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له؛ لأنّ {رُوحاً} نكرة. و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {ما:} نافية. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَدْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب خبر «كان» ، وجملة:{ما كُنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط:
الضمير فقط.
{ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الْكِتابُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي الفعل {تَدْرِي}. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {الْإِيمانُ:} معطوف على: {الْكِتابُ} . {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف.