المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ {وَاُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌ {وَاُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ

{وَاُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41)}

الشرح: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ:} عطف على: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ} وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه، وبين أبيه داود، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. حتى إن قصتيهما قصة واحدة، وأيوب هو ابن أموص، بن رعبل، بن عيص، بن إسحاق. وأمه بنت لوط. حكاه ابن كثير عن ابن عساكر، وعاش ثلاثا وستين سنة، وكانت مدة بلائه سبع سنين. انتهى. جمل نقلا من التحبير للسيوطي. وقيل: كانت مدة بلائه ثماني عشرة سنة. وذكر البيضاوي هنا: أن امرأته اسمها: ليّا بنت يعقوب، وذكرت في سورة (الأنبياء) أن اسمها: رحمة بنت إفرائيم بن يوسف الصديق، وهو المعتمد، ومن نسبته إلى عيص بن إسحاق يعلم: أنه ليس من بني إسرائيل؛ لأن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وأولاده هم الذين ينسبون إليه. وقيل: إن أمه بنت لوط، وليس بشيء. هذا؛ وقد ذكر اسمه في القرآن الكريم أربع مرات في الآية رقم [163] من سورة (النساء)، وفي الآية رقم [84] من سورة (الأنعام)، وفي الآية رقم [83] من سورة (الأنبياء)، وفي هذه السورة، كما ترى.

‌فائدة:

إنما أسند ما مسه من نصب وعذاب إلى الشيطان مع أنه من البدائه الأولية: أن الشيطان لا يسلط على الأنبياء تأدبا مع الله تعالى، ولأن الشيطان كان يوسوس له، ويغريه على الكراهة، والجزع. هذا؛ وإنك لتجد هذا الأدب في قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} رقم [80] من سورة (الشعراء) وقال الخضر: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} رقم [79] من سورة (الكهف) مع أن المعافي، والمشافي، والممرض هو الله تعالى، والمريد للعيب، هو الله تعالى. هذا؛ وقرئ (نصب) بقراآت كثيرة، ومعناه: التعب، والإعياء.

وقيل: إن النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله وولده. وقال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: إن الناس يروون في بلاء أيوب أقوالا يوردونها تدل على أنه مرض مرضا مشوها، ومنفرا للناس من قربائه والدنو منه، وهذا يتنافى مع منصب النبوة، وقد قرر علماء التوحيد: أن الأنبياء منزهون من الأمراض المنفرة، فكيف يتفق ذلك مع منصب النبوة؟! والجواب على ذلك من وجهين:

الأول: أن الابتلاء على الوجه الذي يقولون كان قبل النبوة، وأن منحة النبوة إنما كانت لما بدا منه من الصبر، والرضا بما أصابه من مكروه، وملازمته جانب الرضا عن الله تعالى.

الثاني: أن المبالغين في ضر أيوب عليه السلام إنما اعتمدوا فيما يقولون على ما جاء عند أهل الكتاب في السفر المسمى سفر أيوب، وإذا ثبت: أن هذا السفر حقيقي، فعبارته مؤولة بالمبالغة، فالذين قرؤوا ذلك السفر حسبوا ما جاء فيه من الوصف حقيقيا، ولو تدبروا؛ لعلموا:

ص: 152

أن سفر أيوب يشبه قصائد شعرية، قيلت في وصف ضره، وصبره، والشعر في كل لغة ميدان المبالغة، انظروا إلى قول عمر بن الفارض-رضي الله عنه:[الطويل]

فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي

وإيقاد نيران الخليل كلوعتي

فلولا زفيري أغرقتني مدامعي

ولولا دموعي أحرقتني زفرتي

وهذا المتنبي يقول: [البسيط]

كفى بجسمي نحولا أنّني رجل

لولا مخاطبتي إياك لم ترني

هذا هو الشاهد رقم (170) من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وله أيضا: [الطويل]

ولو أنّ ما بي من جوى وصبابة

على جمل لم يدخل النار كافر

أي: إن الجمل يلج حينئذ في سم الخياط لشدة ضعفه، وهزاله لو حمل ما يحمل الشاعر، ويحصل المعلق عليه في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [40]:{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} وخذ قول المتنبي أيضا: [الطويل]

ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه

من السّقم ما غيّرت من خطّ كاتب

وهذا هو الشاهد رقم [480] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . انتهى. بتصرف.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في الرد على الذين يذكرون ما يحط من قدر أيوب عليه السلام: والذي جرأهم على ذلك، وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى:{إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي..} .

إلخ فلما رأوه قد شكا مسّ الشيطان؛ أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال.

وليس الأمر كما زعموا، والأفعال كلها، خيرها، وشرها، وإيمانها، وكفرها، طاعتها، وعصيانها، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه، ولا في خلق شيء غيرها، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا، وإن كان موجودا منه خلقا؛ أدبا أدّبنا به، وتحميدا علمناه، وكان من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لربه به قوله من جملته:«والخير في يديك، والشّر ليس إليك» . على هذا المعنى، ومنه قول إبراهيم-على نبينا، وعليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم-:{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . وقال الفتى للكليم: {وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ} .

وقال: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله في كتابه في آيتين: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} رقم [83] من سورة (الأنبياء)، والثانية في سورة (ص) رقم [41] وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصح: أنه ذكره بحرف واحد، إلا قوله: «بينما أيّوب يغتسل إذ خرّ عليه رجل من جراد من ذهب

». الحديث، وإذا لم يصح عنه فيه قرآن، ولا سنّة إلا ما ذكرناه؛ فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟.

ص: 153

والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا. وفي الصحيح واللفظ للبخاري: أن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يا معشر المسلمين! تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم: أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله، وغيّروا، وكتبوا بأيديهم الكتب، فقالوا:{هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} . انتهى. قرطبي.

الإعراب: {وَاذْكُرْ:} الواو: حرف عطف. (اذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» . {عَبْدَنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة. {أَيُّوبَ:} بدل، أو عطف بيان على:{عَبْدَنا} . {إِذْ:} بدل اشتمال من: {عَبْدَنا} مبني على السكون في محل نصب. وقيل:

هو ظرف لما مضى من الزمان متعلق بالفعل (اذكر). {نادى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{أَيُّوبَ} . والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: {إِذْ} إليها. {رَبَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {مَسَّنِيَ:} فعل ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: بأني

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{نادى،} ويقال: في محل نصب بنزع الخافض، والناصب له عند الكوفيين النزع، وعند البصريين الفعل. {بِنُصْبٍ:} متعلقان بالفعل:

{مَسَّنِيَ} . {وَعَذابٍ:} معطوف على ما قبله.

{اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)}

الشرح: {اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ} أي: قلنا له: اضرب الأرض برجلك، وهذا كان بواسطة جبريل الأمين، لا مباشرة من الله إليه. {هذا مُغْتَسَلٌ..}. إلخ: قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها: الجابية، فاغتسل من إحداهما، فأذهب الله تعالى ظاهر دائه، وشرب من الأخرى، فأذهب الله تعالى باطن دائه. وقال مقاتل: نبعت عين حارة، واغتسل منها، فخرج صحيحا، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا. وقيل: أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده، وال:{مُغْتَسَلٌ} الماء الذي يغتسل به، وظاهر الكلام يدل على أنها عين واحدة.

الإعراب: {اُرْكُضْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف، التقدير:

اركض الأرض، وهذا على تضمينه معنى: اضرب، والجملة في محل نصب مقول القول لقول محذوف. انظر تقديره في الشرح. {بِرِجْلِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف ضمير متصل في

ص: 154

محل جر بالإضافة. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. والهاء حرف تنبيه لا محل له. {مُغْتَسَلٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول للقول المحذوف، وفيها معنى التعليل للأمر. {بارِدٌ:} صفة: {مُغْتَسَلٌ،} وعند التأمل يظهر لك: أنه صفة ل: (شراب) مقدم عليه. {وَشَرابٌ:} معطوف على: {مُغْتَسَلٌ} .

{وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)}

الشرح: {وَوَهَبْنا لَهُ..} . إلخ: قال الحسن، وقتادة: أحيا الله له أولاده الذين ماتوا جميعا بأعيانهم، وزاده مثلهم معهم من زوجته التي صبرت على بلائه، فرد الله إليها شبابها، أو: زيد في شبابها. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} أي: تكرما، وتفضلا، ونعمة من عندنا. {وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ:}

وعظة نافعة لأولي العقول السليمة، وأصحاب الفطر المستقيمة، وانظر الآية رقم [84] من سورة (الأنبياء). تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَوَهَبْنا:} الواو: حرف عطف. (وهبنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر، يترتب على مقدر يقتضيه المقام، كأنه قيل: فاغتسل، وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر، كما في سورة (الأنبياء)، والكلام كله مستأنف لا محل له. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَهْلَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وما بعده مثله. {وَمِثْلَهُمْ:}

معطوف على ما قبله. {مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من: (مثلهم). أي: مضافين، أو مجموعين معهم. {رَحْمَةً:} مفعول لأجله، وقال مكي: مصدر، أي: مفعول مطلق، عامله محذوف. وانظر مثله في سورة (الكهف) رقم [65]، وسورة (الأنبياء) رقم [84]. {مِنْ عِنْدِنا:}

متعلقان ب: {رَحْمَةً،} أو بمحذوف صفة له. (ذكرى): معطوف على {رَحْمَةً} منصوب مثله.

وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {لِأُولِي:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة. و (أولي) مضاف، و {الْأَلْبابِ} مضاف إليه.

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (44)}

الشرح: ذكر الله تعالى في هذه الآيات أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- وما ابتلاه الله تعالى من الضر في جسده، وماله، وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه، وما هو فيه غير زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة، وتطعمه، وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل، وأولاد، وسعة طائلة من الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى رفضه القريب، والبعيد سوى زوجته-رضي الله عنها، فإنها كانت لا تفارقه صباحا، ومساء

ص: 155

إلا بسبب خدمة الناس، ثم تعود إليه قريبا، فلما طال المطال، واشتد الحال، ونفذ القدر، وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين، وإله المرسلين، فقال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} . ويروى: أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يهبني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان، ولا كاسيا، ومعي جائع، أو عريان.

فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين دعاءه، وأمره أن يقوم مقامه، وأن يضرب الأرض برجله، ففعل، وأذهب الله عنه جميع آلامه، وتكاملت عافيته ظاهرا، وباطنا، وأنزل الله عليه من السماء ثوبين أبيضين، فائتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم أقبل يمشي إلى منزله، وقد استبطأته زوجته، فالتفتت تنظر، فأقبل عليها، وهو على أحسن ما كان، فأقبلت عليه، وهي لا تعرفه فسلمت عليه، وقالت: يرحمك الله هل رأيت هذا الرجل المبتلى؟ قال: ومن هو؟ قالت: نبي الله أيوب، أما والله ما رأيت أحدا قطّ أشبه به منك إذا كان صحيحا، فقال: إني أنا أيوب، ورد الله إليه أهله، ومثلهم معهم، ثم أقبلت سحابة فصبت على الموضع الذي يدرس فيه القمح ذهبا حتى امتلأ، وأقبلت سحابة أخرى على الموضع الذي يدرس فيه شعيره، فصبت عليه ورقا حتى امتلأ، فجعل أيوب يحثو في ثوبه، فناداه الله عز وجل: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك. أخرجه البخاري، والإمام أحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-مرفوعا.

هذا؛ وكان أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-قد حلف في مرضه ليضربنّ امرأته مئة جلدة إذا هو برأ، واختلفوا في سبب ذلك على أربعة أقوال: أحدها: ما حكاه ابن عباس رضي الله عنهما: أن إبليس لقيها في صورة طبيب، فدعته لمداواة أيوب، فقال: أداويه على أنه إذا برئ؛ قال: أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه، قالت: نعم، فأشارت على أيوب بذلك، فحلف ليضربنها! وقال: ويحك ذلك الشيطان! الثاني: ما حكاه سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-:

أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز، فخاف خيانتها، فحلف ليضربنها! الثالث: ما حكاه يحيي بن سلاّم، وغيره: أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه، وأنه يبرأ، فذكرت ذلك له، فحلف ليضربنها إن عوفي مئة، والرابع: قيل: إنها باعت ذوائبها برغيفين؛ إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها!.

هذا؛ وقال الصابوني في كتابه «النبوة والأنبياء» : وكانت له امرأة صالحة مؤمنة اسمها رحمة من أحفاد يوسف عليه السلام، وقد رافقت هذه المرأة حياة نعمته، وصحته، وزمن بؤسه، وبلائه، فكانت في الحالين مع زوجها شاكرة صابرة، ثم إن الشيطان حاول أن يدخل على أيوب في زمن بلائه، فلم يؤثر فيه، فحاول أن يدخل إليه عن طريق امرأته، فوسوس لها: إلى متى

ص: 156

تصبرين؟! فجاءت أيوب وفي نفسها اليأس، والضجر مما أصابه، فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟! فغضب أيوب، وقال لها: كم لبثت في الرخاء؟ قالت: ثمانين سنة، قال: كم لبثت في البلاء؟ قالت: سبع سنين، قال: أما أستحيي أن أطلب من الله رفع بلائي، وما قضيت مدة ر؟! ثم قال: والله لئن برئت لأضربنك مئة سوط، وحرم على نفسه أن تخدمه بعد ذلك.

انتهى. وهذا ظاهر عليه الضعف، والركاكة.

وربنا جلت قدرته، وتعالت حكمته شكر لها عملها، وخدمتها لأيوب، فلذا أمره تنفيذا لما حلف له أن يأخذ ضغثا، ويضربها بها، والضغث قبضة حشيش مختلط الرطب باليابس، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه. هذا؛ وقد تضمنت الآية الكريمة جواز ضرب الرجل امرأته للتأديب، وذلك أن امرأة أيوب أخطأت، فحلف ليضربنها مئة، فأمره الله تنفيذا ليمينه، ورحمة بامرأته أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل.

هذا؛ وقد أباح الله في الإسلام ضرب المرأة للتأديب، كما رأيت في سورة (النساء) رقم [34].

واختلف العلماء في هذا الحكم، هل هو عام، أو خاص بأيوب وحده؟ المعتمد: أنه عام، ومعمول به في شريعتنا، وأخذ به الشافعي، واحتج بما رواه أبو أمامة بن سهل بن حنيف: أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم، فهش لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه، أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت عليّ، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك؛ لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مئة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة.

قال ابن كثير: وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله، وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة، المكابدة الصديقة، البارة الرشيدة-رضي الله عنها. ولهذا عقّب الله هذه الرخصة، وعللها بقوله:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ} ثم قال: وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الأيمان، والنذور، وتوسع فيها آخرون؛ حتى وضعوا الحيل في الخلاص من الأيمان، وصدروه بهذه الآية الكريمة، وأتوا فيه بأشياء من العجائب، والغرائب. انتهى. صابوني. أقول: وكثير من الدجالين في هذه الأيام يستعملون هذه الحيل في فتاوى الطلاق لقاء دريهمات.

هذا؛ وقد عاش أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ثلاثا وتسعين سنة، ورزقه الله المال، والبنين، وقد ولد له ستة وعشرون ولدا ذكرا، منهم واحد يسمى: بشرا، الذي يقول فيه بعض المؤرخين: إنه ذو الكفل، الذي ذكره الله في القرآن ضمن الرسل الكرام، وقد

ص: 157