الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: الانغماس في الشهوات، واللذات، والإغراق في الترف، والنعيم، وكثرة الأكل، والشراب. قال بعض العلماء: من كثر أكله؛ كثر شربه، ومن كثر شربه؛ كثر نومه، ومن كثر نومه، كثر تخمه، ومن كثر تخمه؛ قسا قلبه، ومن قسا قلبه؛ غرق في الآثام، ومن غرق في الآثام؛ فالنار أولى به! ورحم الله من يقول:[الطويل]
يميت الطعام القلب إن زاد كثرة
…
كزرع إذا بالماء قد زاد سقيه
وإنّ لبيبا يرتضي نقص عقله
…
بأكل لقيمات لقد ضلّ سعيه
خاتمه:
قيل: نزلت الآية الكريمة في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-وأبيّ بن خلف. وقيل:
نزلت في علي، وحمزة-رضي الله عنهما-وفي أبي لهب، وولده. وقيل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. والأولى التعميم. قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [122]: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها} .
الإعراب: {أَفَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف، التقدير: أكل الناس سواء، فمن
…
إلخ. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. خبره محذوف، انظر تقديره في الشرح، وبعضهم يعتبر (من) شرطية مبتدأ، خبرها جملة الشرط، أو الجواب، أو هما معا، كما ذكرته مرارا. {شَرَحَ:} فعل ماض.
{اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، أو هي شرط (من) على اعتبارها شرطية.
{صَدْرَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِلْإِسْلامِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{فَهُوَ:} الفاء: حرف عطف وتفريع. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَلى نُورٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان ب: {نُورٍ،} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف. والثانية بالإتباع.
{فَوَيْلٌ:} الفاء: حرف استئناف. (ويل): مبتدأ، ساغ الابتداء به؛ لأن فيه معنى الدعاء.
{لِلْقاسِيَةِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {قُلُوبُهُمْ:} فاعل ب: (القاسية)؛ لأنه اسم الفاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ ذِكْرِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، وإن اعتبرت:
{لِلْقاسِيَةِ} متعلقين ب: (ويل)؛ ف: {مِنْ ذِكْرِ} هما الخبر لا غير، و {ذِكْرِ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مُبِينٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ:} روي: أن الصحابة رضوان الله عليهم ملّوا ملّة، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا حديثا حسنا. فنزلت. والمعنى: أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث، وإنما كان القرآن أحسن الحديث لوجهين: أحدهما من جهة اللفظ، والآخر من جهة المعنى، أما الأول؛ فلأن القرآن من أفصح الكلام، وأجزله وأبلغه، وليس هو من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب والرسائل، بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، وأما الوجه الثاني، وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى؛ فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف، مشتمل على أخبار الماضين، وقصص الأولين، وعلى أخبار الغيوب الكثيرة، وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار. انتهى. خازن.
قال أبو حيان: والابتداء باسم الله، وإسناد {نَزَّلَ} لضميره، فيه تفخيم للمنزل ورفع من قدره، كما تقول: الملك أكرم فلانا، فإنه أفخم من أكرم الملك فلانا، وحكمة ذلك البداءة بالأشرف. انتهى. صفوة التفاسير.
{كِتاباً مُتَشابِهاً} أي: قرآنا متشابها، يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والبلاغة، والتناسب بدون تعارض، ولا تناقض، وفي تركيب النظم، وصحة المعنى، والدلالة على المنافع العامة.
{مَثانِيَ} أي: تثنى فيه وتكرر المواعظ والأحكام، والحلال والحرام، والوعد والوعيد، وتردّد فيه القصص والأخبار، والأحكام والحجج دون سأم، أو ملل، وإنما وصف الكتاب، وهو مفرد ب:{مَثانِيَ} وهو جمع؛ لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات فكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات. ونظيره قولك: الإنسان عروق وعظام وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني. قاله في الكشاف.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ..} . إلخ: اقشعرّ جلده: إذا تقبض، وتجمع من الخوف، ووقف شعره.
والمصدر: الاقشعرار، والقشعريرة أيضا، ووزن اقشعرّ: افعللّ، ووزن القشعريرة: فعلليلة، وإنما ذكرت الجلود وحدها أولا، ثم قرنت بالقلوب ثانيا؛ لأن ذكر الخشية التي محلها القلوب مستلزم لذكر القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم، وتخشى قلوبهم في أول الأمر، فإذا ذكروا الله، وذكروا رحمته، وسعتها، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم. انتهى. جمل نقلا من كرخي.
وقال العارفون: إذا نظروا إلى عالم الجلال؛ طاشوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال؛ عاشوا. قال ابن كثير: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار؛ إذا قرؤوا آيات الوعد، والوعيد، والتخويف، والتهديد؛ تقشعرّ جلودهم من الخشية والخوف، وإذا قرؤوا آيات الرحمة؛ لانت جلودهم، وقلوبهم؛ لما يرجون من رحمته، ولطفه. انتهى. وخذ ما يلي: عن العباس بن عبد المطلب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله؛ تحاتّت عنه ذنوبه، كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» . رواه أبو الشيخ في كتاب «الثواب» ، والبيهقي.
هذا؛ وقال قتادة-رضي الله عنه: هذا نعت أولياء الله، الذين نعتهم الله به: أنهم تقشعر جلودهم، وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان. وروي عن عبد الله بن عروة بن الزبير-رضي الله عنهم-قال:
قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كما نعتهم الله-عز وجل-تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم. قال عبد الله: فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروي: أن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-مرّ برجل من أهل العراق ساقط، قال:
ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن، أو سمع ذكر الله؛ سقط، فقال: إنا لنخشى الله، وما نسقط. وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه؛ فهو صادق. وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم، فشق رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص: لا يشق قميصه؛ فإني لا أحب المبذرين؛ يشرح لي عن قلبه.
وعن ثابت البناني؛ قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي! قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء-رضي الله عنها-قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى! قالت: فادع الله، فإن الدعاء عند ذلك مستجاب.
قال سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا! فأنزل الله عز وجل: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ..} . إلخ. فقالوا: لو قصصت علينا! فأنزل تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} . فقالوا: لو ذكرتنا! فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} . {ذلِكَ} أي: القرآن؛ الذي هو أحسن الحديث. {هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ}
{مَنْ يَشاءُ} أي: من عباده، وهو من علم منهم اختيار الاهتداء في الأزل. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} أي: يجعل الله قلبه قاسيا منافيا لقبول الهداية، فما له من هاد يهديه إلى الحق، والصواب. وفي هذه الآية رد على المعتزلة القائلين: إن العبد يخلق أفعال نفسه.
هذا؛ وهاد أصله: «هادي» بضمة على الياء علامة للرفع، أو بكسرة على الياء علامة للجر، وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الضمة، أو الكسرة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان: الياء، والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت الدال مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل: هاد بالكسرة، وإنما لم يقل بالرفع؛ لأن الياء محذوفة لعلة الالتقاء، فهي كالثابتة، فتمنع الرفع للدال، وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص مجرد من: أل، والإضافة، سواء أكان ثلاثيا، أم رباعيا؟
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {نَزَّلَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى:
{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {أَحْسَنَ:} مفعول به. وهو مضاف، و {الْحَدِيثِ} مضاف إليه. {كِتاباً:} بدل من: {أَحْسَنَ،} أو هو حال منه، والأول أقوى.
{مُتَشابِهاً:} صفة: {كِتاباً} . {مَثانِيَ:} صفة ثانية، أو حال منه بعد وصفه لما تقدم.
{تَقْشَعِرُّ:} فعل مضارع. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {جُلُودُ:} فاعله، و {جُلُودُ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة.
{يَخْشَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {رَبَّهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{تَقْشَعِرُّ..} . إلخ تصلح للحالية، والوصفية ل:{كِتاباً،} والجملة الاسمية: {اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{ثُمَّ:} حرف عطف. {تَلِينُ:} فعل مضارع. {جُلُودُهُمْ:} فاعله. {وَقُلُوبُهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء فيهما ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِلى ذِكْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {إِلى} بمعنى:«عند» و {ذِكْرِ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وجملة:{تَلِينُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {هُدَى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {هُدَى} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:
{اللهُ} . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو
الرابط محذوف، التقدير: يهدي به الذي، أو: شخصا يشاء الله هدايته، والجملة الفعلية في محل نصب حال من: هدى الله، أو هي في محل رفع خبر ثان للمبتدأ، والرابط: الضمير المجرور محلا بالياء، والعامل في الحال اسم الإشارة.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو في محل نصب مفعول به مقدم. {يُضْلِلِ:} فعل مضارع فعل الشرط، ومفعوله محذوف على اعتبار (من) مبتدأ. {اللهُ:} فاعله. {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(ما): نافية. {اللهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} حرف جر صلة. {هادٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان. وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الشرطية على الوجهين المعتبرين في {مَنْ} مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ:} شدته. {يَوْمَ الْقِيامَةِ:} قيل: يجر على وجهه في النار. وقيل: يرمى به في النار منكوسا. فأول شيء تمسه النار منه وجهه. وقيل: هو الكافر يرمى به منكوسا في النار، مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم، فتشتعل النار في تلك الصخرة، وهي في عنقه، فحرها، ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه، وعنقه. ومعنى الآية: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، كمن هو آمن من العذاب؟ انتهى. خازن، وخذ قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [40]:{أَفَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ،} وقال تعالى في سورة (الملك) رقم [22]: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ} أي: تقول لهم الخزنة. فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم، وإشعارا بالموجب لما يقال لهم. {ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: ذوقوا وبال، ونتيجة ما كسبتم في الحياة الدنيا من المعاصي. هذا؛ وقد راعى لفظ (من) بقوله:{يَتَّقِي} ومعناها بقوله: {ذُوقُوا..} . إلخ. وانظر إذاقة العذاب في الآية رقم [38] من سورة (الصافات)، وانظر التعبير عن الكافرين بالظالمين، ونحوه في الآية رقم [59] من سورة (يس).
الإعراب: {أَفَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف استئناف. وقيل: عاطفة على محذوف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: كمن هو آمن من العذاب. {يَتَّقِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {بِوَجْهِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {سُوءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {يَتَّقِي،} و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية: (من يتقي
…
) إلخ لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء.
{وَقِيلَ:} الواو: حرف عطف. (قيل): ماض مبني للمجهول. {لِلظّالِمِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {ذُوقُوا:} فعل أمر للإهانة مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وهي في الأصل مضاف إليه، التقدير: ذوقوا جزاء ما، فلما حذف المضاف؛ أقيم المضاف إليه مقامه.
{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَكْسِبُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: جزاء الذي، أو: جزاء شيء كنتم تكسبونه. هذا؛ وجوز اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر، ويكون التقدير: ذوقوا جزاء كسبكم، وجملة:{ذُوقُوا..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل:
(قيل)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [45] من سورة (يس)، ففيها فضل بيان، وجملة:{وَقِيلَ..} .
إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. وقيل: هي في محل نصب حال من فاعل:
{يَتَّقِي} المستتر، و «قد» قبلها مقدرة، والرابط: وضع الظاهر موضع الضمير، والواو أيضا.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25)}
الشرح: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:} قبل كفار مكة، كذبوا رسلهم، وذلك مثل قوم هود، وصالح، وشعيب، ولوط، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. {فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي: من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، وهم غافلون، ساهون، لاهون. هذا؛ والشعور: إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته. هذا؛ و {حَيْثُ} ظرف مكان اتفاقا مبني على الضم؛ لأنه لا يدل على موضع بعينه، وفيه ست لغات: بالياء مع الضم، والفتح، والكسر، وبالواو مع الضم والفتح والكسر، وهي: حيث، وحيث، وحيث، وحوث، وحوث، وحوث. انظر بحثها وشواهدها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .
الإعراب: {كَذَّبَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة
الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَأَتاهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {الْعَذابُ:} فاعل، والجملة الفعلية، معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{مِنْ حَيْثُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بمحذوف حال من {الْعَذابُ} ضعيف، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها.
الشرح: {فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ:} الذل، والصغار، والإهانة. كالمسخ، والخسف، والقتل، والجلاء، والغرق، والهلاك، والدمار، ونحو ذلك من أنواع العذاب مما قصه علينا القرآن الكريم. فليحذر كفار قريش غضب الله، وسخطه عليهم، فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل، وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا:} وصف الله تعالى في هذه الآية وغيرها الحياة التي يحياها ابن آدم بالدنيا؛ لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ورحم الله الحريري؛ إذ يقول:[الكامل]
يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنها
…
شرك الرّدى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها
…
أبكت غدا تبّا لها من دار
أو هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيّا، أما الآخرة؛ فهي الحياة الثانية؛ التي تكون بعد الموت، ثم بعد الحساب، والجزاء، ودخول الجنة، والخلود فيها، أو دخول النار، والخلود فيها، و {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ} أي: المعد لهم. {أَكْبَرُ} أي: أعظم، وأشد؛ لشدته ودوامه. {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا من أهل العلم، والمعرفة، والنظر؛ لعلموا ذلك، واعتبروا به، وانظر:«خزي» في الآية رقم [40] الآتية.
الإعراب: {فَأَذاقَهُمُ:} الفاء: حرف عطف. (أذاقهم): فعل ماض، والهاء مفعول به أول.
{اللهُ:} فاعله. {الْخِزْيَ:} مفعول به ثان. {فِي الْحَياةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْخِزْيَ}. {الدُّنْيا:} صفة (الحياة) مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {وَلَعَذابُ:} الواو: حرف استئناف. اللام: لام الابتداء. (عذاب): مبتدأ. وهو مضاف. و {الْآخِرَةِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لظرفه. {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:}
فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في
محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف، انظر تقديره في الشرح، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف كالجملة الاسمية قبله لا محل له مثلها، فهو تذييل لها مفاده بيان شدة العذاب في الآخرة.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)}
الشرح: {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ:} يحتاج إليه الناظر المتبصر المعتبر. والمعنى: ولقد وصفنا لهم كل صفة غريبة، كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون، وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم، ومج أسماعهم حديث الآخرة لا يتذكرون، ولا يتعظون. انتهى. كشاف في سورة (الروم). وانظر شرح:(مثل) في الآية رقم [15] من سورة (يس).
هذا؛ والناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط.. إلخ، واحده: إنسان من غير لفظه. وهو يطلق على الإنس، والجن، ولكن غلب استعماله على الإنس، قال تعالى في سورة (الناس):{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله: الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف، قال تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} رقم [71] من سورة (الإسراء). وقيل: إن أصله: النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها.
و (قرآن) مشتق من قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طريق الرشاد، وهو في اللغة مصدر بمعنى: الجمع، يقال: قرأت الشيء قرآنا: إذا جمعته.
وبمعنى: القراءة، ويقال: قرأت الكتاب قراءة، وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء، المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدفتين، وهو المراد هنا. ويحرم على المحدث حدثا أكبر قراءته، وحمله ومسّه، وعلى المحدث حدثا أصغر حمله ومسّه، ولا يمنع من قراءته عن ظهر قلب، قال تعالى في سورة (الواقعة):{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} . {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ:}
يتعظون، فينتفعون بذلك. هذا؛ والترجي في هذه الآية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترجّ، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (لقد): اللام: واقعة في جواب القسم.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ضَرَبْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [62] من سورة (يس). {لِلنّاسِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي هذَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {ضَرَبْنا} أيضا. وقيل:
متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. والهاء حرف تنبيه لا محل له، واسم الإشارة مبني على السكون في محل جر. {الْقُرْآنِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {مِنْ كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {ضَرَبْنا} أيضا. وهما في محل المفعول به، وعند التأمل يتبين لك:
أنهما متعلقان بمحذوف صفة لمفعول {ضَرَبْنا} المحذوف؛ إذ التقدير: ضربنا للناس مثلا كائنا من كل مثل، و {كُلِّ} مضاف، و {مَثَلٍ} مضاف إليه. هذا؛ والجملة القسمية مستأنفة، لا محل لها. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها، وجملة:
{يَتَذَكَّرُونَ} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محل لها. تأمل وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}
الشرح: {قُرْآناً عَرَبِيًّا:} هذا؛ وقال تعالى في أول سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: بلغتكم؛ لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه، ويؤخذ من هذه الآية: أنه يجوز إطلاق اسم القرآن على بعضه؛ لأن سورة (يوسف) بعض القرآن، ولأنه اسم جنس يقع على الكل، والبعض، واختلف هل يمكن أن يقال: في القرآن شيء بغير العربية، فأنكر أبو عبيدة على من يقول ذلك أشد النكير، وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة-رضي الله عنهم: أن فيه من غير العربية مثل: (سجّيل، والمشكاة، واليمّ، وإستبرق، وسندس) ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح المختار؛ لأن هؤلاء أعلم من أبي عبيدة بلسان العرب، وكلا القولين صواب؛ إن شاء الله تعالى، ووجه الجمع بينهما: أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب، ودارت على ألسنتهم بسهولة؛ صارت عربية فصيحة؛ وإن كانت غير عربية في الأصل.
{غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: لا اختلال فيه بوجه من الوجوه. وقيل: غير ذي شك. قاله السدي فيما ذكره الماوردي، وأنشد:[البسيط]
وقد أتاك يقين غير ذي عوج
…
من الإله وقول غير مكذوب
وقيل: المعنى مستقيما بريئا من التناقض، والاختلاف. قال الزمخشري: فإن قلت:
فهلا قيل: مستقيما، أو: غير معوج؛ قلت: فيه فائدتان: إحداهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال تعالى:{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} رقم [1] من سورة (الكهف). والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك، واللبس، وأنشد البيت. هذا؛
والعوج بكسر العين، وفتحها، وقد فرق العرب بينهما، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان، تقول: في دينه عوج (بكسر العين)، وفي الجدار عوج (بالفتح).
هذا؛ و {غَيْرَ} اسم شديد الإبهام، لا يتعرف بالإضافة لمعرفة، وغيرها؛ فلذا وصفت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون:{ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} رقم [38] من سورة (القصص)، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها؛ إن فهم المعنى، وتقدمت كلمة:
«ليس» عليها، تقول: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم، أو على الفتح خلاف.
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:} علة لقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فالأول سبب في الثاني. وعبارة البيضاوي:
علة أخرى مرتبة على الأولى؛ أي: لأن العلل يفهم منها التعليل، فعلل ضرب الأمثال أولا بالتذكر، والاتعاظ، ثم علل التذكر بالاتقاء؛ لأنه المقصود منه، فليس من تعليل معلول واحد بعلتين. انتهى. جمل نقلا عن الشهاب. هذا؛ وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت:
ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية؟ قلت: سبب تقديم التذكر: أن الإنسان إذا تذكر، وعرف، ووقف على فحوى الشيء، واختلط بمعناه؛ اتقاه، واحترز منه. انتهى. أقول: والحكمة من تقديم التعقل على التذكر، وتقديم التذكر على التقوى، انظرها في الآية رقم [153] من سورة (الأنعام).
الإعراب: {قُرْآناً:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون منصوبا على المدح؛ أي: بفعل محذوف؛ لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه ل: (القرآن). الثاني: أن ينتصب ب: {يَتَذَكَّرُونَ} أي:
يتذكرون قرآنا. الثالث: أن ينتصب على الحال من (القرآن) على أنها حال مؤكدة، وتسمى حالا موطئة؛ لأن الحال في الحقيقة {عَرَبِيًّا} و {قُرْآناً} توطئة له، نحو جاء زيد رجلا صالحا. انتهى.
جمل نقلا من السمين. والحالية هي التي قالها جميع المفسرين، وانظر أنواع الحال في الآية رقم [73] الآتية. {عَرَبِيًّا:} صفة. {غَيْرَ:} صفة ثانية، ويجوز أن يكون حالا منه بعد وصفه ب:{عَرَبِيًّا،} و {غَيْرَ} مضاف، و {ذِي} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذِي} مضاف، و {عِوَجٍ} مضاف إليه، وجملة:{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل للتذكير، كما رأيت في الشرح، وإعرابها مثل إعراب سابقتها بلا فارق.
الشرح: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ} أي: مختلفون، سيئة أخلاقهم.
والشكس: السّيّئ الخلق، المخالف للناس، لا يرضى بالحق، والإنصاف. {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} أي: خالصا له، لا شريك له فيه، ولا منازع. والمعنى: واضرب يا محمد لقومك مثلا، وقل
لهم: ما تقولون في رجل مملوك، قد اشترك فيه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد يدعي: أنه عبده، وهم يتجاذبونه في مهن شتّى، فإذا عنّت لهم حاجة؛ يتدافعونه، فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته؟، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته؟ وفي رجل آخر مملوك، قد سلم لمالك واحد، يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك السيد يعين خادمه في حاجاته، فأي هذين أحسن حالا وأحمد شأنا؟!
وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتّى، والمؤمن الذي يعبد الله تعالى وحده، فكان حال المؤمن الذي يعبد إلها واحدا أحسن وأصلح من حال الكافر الذي يعبد آلهة شتّى. {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً} أي: لا يستويان في الحال، والصفة، والجواب: لا يستويان.
فالاستفهام للإنكار، والنفي. انتهى. خازن.
{الْحَمْدُ لِلّهِ:} الواحد الأحد، الذي لا شريك له دون كل معبود سواه؛ أي: يجب أن يكون الحمد متوجها إليه وحده، والعبادة خالصة لوجهه الكريم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ:} أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. وذكر الأكثر إما؛ لأن بعضهم لا يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصيره في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو لأنه يقوم مقام الكل. وخذ قول الشاعر:[البسيط]
لم يبق من جلّ هذا الناس باقية
…
ينالها الوهم إلاّ هذه الصور
لا يدهمنك من دهمائهم عدد
…
فإنّ جلّهم بل كلّهم بقر
دهمه: غشيه، يقول: لا يدهمنك من جماعتهم الكثيرة عدد فيهم غناء، ونصرة، فإن كلهم كالأنعام، والبهائم، ولله در القائل:[المنسرح]
لا يدهمنك اللّحاء والصور
…
تسعة أعشار من ترى بقر
في شجر السّرو منهم شبه
…
له رواء ما له ثمر
ورضي الله عن حسان بن ثابت إذ يقول: [البسيط]
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم
…
جسم الجمال وأحلام العصافير
وخذ قوله تعالى في سورة (الروم) رقم [7]: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} .
هذا؛ وقال الزمخشري: التشاكس، والتشاخس: الاختلاف، تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسنانه. انتهى. وقرئ {سَلَماً} بقراآت كثيرة. هذا؛ وتخصيص الرجل بالذكر؛ لأنه أفطن للضر، والنفع من المرأة، والصبي؛ لأنهما قد يغفلان. هذا؛ والرجل مأخوذ من الرجولة، وهي البطولة، والشهامة وغيرهما من الصفات النبيلة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {ضَرَبَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {مَثَلاً:} مفعول به. {رَجُلاً:} بدل من: {مَثَلاً} . وقيل: منصوب بنزع الخافض، التقدير: ضرب الله مثلا برجل، والأول أقوى.
{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شُرَكاءُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب صفة:{رَجُلاً} . {مُتَشاكِسُونَ:} صفة مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة
…
إلخ.
{وَرَجُلاً:} معطوف على مثله. {سَلَماً:} صفة له. {لِرَجُلٍ:} متعلقان ب: {سَلَماً،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{ضَرَبَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {يَسْتَوِيانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله. {مَثَلاً:} تمييز، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {اللهُ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بَلْ:} حرف عطف. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{لا يَعْلَمُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. هذا؛ وقيل: الجملة الاسمية معترضة؛ لأن قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} مرتبط بقوله {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً} .
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}
الشرح: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أخبره بموته، وموتهم، وهو يحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة. الثاني: أن يكون حثا على العمل.
الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلف المسلمون في موته، كما اختلفت الأمم في غيره؛ حتى إن عمر-رضي الله عنه-لما أنكر موته، واحتج أبو بكر-رضي الله عنه-بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوّى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره، لتكثر فيه السلوة، وتقل فيه الحسرة، انتهى. قرطبي. هذا؛ وقرئ:«(مائت)» و «(مائتون)» والفرق بين الميت، والمائت: أن الميت صفة لازمة كالسيد، وأما المائت؛ فصفة حادثة، تقول زيد مائت غدا؛ كما تقول: سائد غدا؛ أي: سيموت، وسيسود. وإذا قلت: زيد ميت، فكما تقول: حي في نقيضه فيما يرجع إلى اللزوم، والثبوت.
هذا؛ ونزلت الآية ردا على كفار قريش الذين كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، فأخبر الله تعالى: أن الموت يعمهم جميعا، فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني. انتهى. خازن.
هذا؛ والميت، والميتة (بفتح الميم وسكون الياء فيهما) هو من فارقت روحه جسده.
وجمعه: أموات، وأما المشدد فهو الحي الذي سيموت، وعليه الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها. وجمعه موتى، قال بعض الأدباء في الفرق بينهما:[الطويل]
أيا سائلي تفسير ميت وميّت
…
فدونك قد فسّرت ما عنه تسأل
فمن كان ذا روح، فذلك ميّت
…
وما الميت إلاّ من إلى القبر يحمل
هذا هو الأصل الغالب في الاستعمال، وقد يتعاوضان، كما في قول عديّ بن الرّعلاء الغساني:[الخفيف]
ليس من مات فاستراح بميت
…
إنما الميت ميّت الأحياء
إنّما الميت من يعيش كئيبا
…
كاسفا باله قليل الرجاء
أقول: ومن هذا قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [95]: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ،} وقوله جل ذكره في الآية رقم [27] من سورة (آل عمران): {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . حيث استعمل المشدد فيهما لفاقد الحياة، والروح، كما هو واضح فيهما. هذا؛ ولا تنس: أن أصل المشدد: (ميوت)؛ لأنه من: مات، يموت، فقل في إعلاله: اجتمع الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. وقل مثله في إعلال سيّد، وهيّن، وصيّب، ونحو ذلك، وقال الشاعر في تخفيف هيّن، وليّن:[البسيط]
هينون لينون أيسار بنو يسر
…
سوّاس مكرمة أبناء أيسار
الإعراب: {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {مَيِّتٌ:} خبرها، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {وَإِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مَيِّتُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
الشرح: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي: إنك، وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغائب، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: المحق، والمبطل، والظالم، والمظلوم. وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية؛ قلنا: يا رسول الله! أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: «نعم ليكررن عليكم؛ حتى يؤدّى إلى كل ذي حق حقه» . فقال الزبير-رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد. أخرجه الترمذي.
وقال ابن عمر-رضي الله عنهما: عشنا برهة من الدهر، وكنا نرى: أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين، فقلنا: وكيف نختصم؛ ونبينا واحد، وديننا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت: أنها فينا نزلت. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-
في هذه الآية قال: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟! فلما كان يوم صفين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض، أو مال فليتحلّله اليوم من قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم. إن كان له عمل صالح؛ أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات؛ أخذ من سيئات صاحبه، فحملت عليه» . أخرجه البخاري. وعنه أيضا-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟» . قالوا:
المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، قال:«إنّ المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه؛ أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» . متفق عليه. انتهى. خازن وقرطبي.
وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يختصم الناس يوم القيامة؛ حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سوّلت، فيبعث الله ملكا، يفصل بينهما، فيقول لهما: مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارا، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه، فتناولها، فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما. يعني: أن الجسد للروح كالمطية، وهو راكبه.
رواه ابن منده في كتاب الروح. انتهى. مختصر ابن كثير.
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {يَوْمَ:}
ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بما بعده أيضا. وقيل: متعلق بمحذوف حال من واو الجماعة. ولا يؤيده المعنى، وهو مضاف، و {رَبِّكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تَخْتَصِمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.
الشرح: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ} أي: لا أحد أكذب ممن افترى على الله الكذب، وادّعى أن له ولدا، وأن له شريكا في الألوهية. {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ:} وهو ما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى، والفرقان. {إِذْ جاءَهُ} أي: جاء به؛ أي: القرآن. وقيل: بالرسالة إليه.
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} أي: مقام ومقر، وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم، وهو مشتق من: ثوى بالمكان: إذا أقام به، يثوي ثواء، وثويّا، مثل مضى، يمضي مضاء، ومضيّا، ولو كان من: أثوى؛ لكان: مثوى، وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة، وحكى أبو عبيدة:
أثوى، وأنشد قول الأعشى:[الكامل]
أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا
…
ومضى وأخلف من قتيلة موعدا
والأصمعي لا يعرف إلا «ثوى» ، ويروى البيت:(أثوى) على الاستفهام، وأثويت غيري يتعدى، ولا يتعدى. هذا؛ ومثوى بمعنى: مأوى، والفرق بينهما: أن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان، ولو مؤقتا، وقدم المأوى على المثوى في قوله تعالى:{وَمَأْواهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ} رقم [151] من سورة (آل عمران)؛ لأنه على الترتيب الوجودي، يأوي، ثم يثوي.
الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم استفهام مفيد للنفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَظْلَمُ} . {كَذَبَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها؛ إن اعتبرتها نكرة موصوفة. {عَلَى اللهِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله.
{جاءَهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الصدق)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{أَلَيْسَ:} الهمزة: حرف استفهام تقريري توبيخي. (ليس): فعل ماض ناقص. {فِي جَهَنَّمَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (ليس) تقدم على اسمها، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {مَثْوىً:} اسم (ليس) مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لِلْكافِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مَثْوىً،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية:{أَلَيْسَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)}
الشرح: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أي: والذي صدق به. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الذي جاء بالصدق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ب: «لا إله إلا الله» . {وَصَدَّقَ بِهِ} هو
رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، بلغه إلى الخلق. وقيل: الذي جاء بالصدق هو جبريل، عليه الصلاة، والسّلام جاء بالقرآن، وصدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الذي جاء بالصدق: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق به: أبو بكر الصديق-رضي الله عنه. وقيل: الذي جاء بالصدق: الأنبياء، والذي صدق به: الأتباع. وقيل:
الذي جاء بالصدق: أهل القرآن، وهو الصدق، يجيئون يوم القيامة، وقد أدّوا حقه، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا، فعملنا فيه بما أمرتمونا. وهذا القول يشمل كل المؤمنين. فإن المؤمنين يقولون الحق، ويعملون به، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية، فإنه جاء بالصدق وصدق به المرسلين. وعلى هذا؛ وسابقه ف:(الذي) يكون بمعنى: الجمع: الذين، ويكون قد روعي لفظها بإرجاع الضميرين بالفعلين، وروعي معناها بقوله:{أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ..} . إلخ، وتكون الآية مثل قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [17]:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً..} . إلخ، وقوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [69]:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} ومثل هذه الآيات قول الأشهب بن زميلة النهشلي، وهو الشاهد رقم (346) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم
…
هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
الإعراب: {وَالَّذِي:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {جاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(الذي)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِالصِّدْقِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَصَدَّقَ بِهِ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، أو هي صلة لموصول محذوف، معطوف على ما قبله، على حسب ما رأيت في الشرح. هذا؛ وقرأ عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه «(والّذين جاؤوا بالصّدق وصدّقوا به)» وهي قراءة على التفسير. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْمُتَّقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ ثانيا و {الْمُتَّقُونَ} خبره، فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر (أولئك) والجملة الاسمية على الوجهين في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{وَالَّذِي..} . لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الواو.
{لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)}
الشرح: {لَهُمْ:} للمتقين المذكورين في الآية السابقة. {ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: كل ما يشتهون في الجنة من الحور العين، والقصور الشامخة، وجميع أنواع الملاذ، والنعيم المقيم، والخير العميم. هذا؛ والعندية عندية تكريم، وتشريف، وتعظيم. وقال الجمل: أي: لهم ما يشاؤونه من جلب المنافع، ودفع المضار في الآخرة، لا في الجنة فقط، كما أن بعض
ما يشاؤونه من تكفير السيئات، والأمن من الفزع الأكبر، وسائر أهوال يوم القيامة إنما يقع قبل دخوله الجنة. انتهى. نقلا عن الكرخي. {ذلِكَ} أي: المذكور من الفضل الكبير. {جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي: الذين أحسنوا القول، وأحسنوا العمل. هذا؛ ووصف الله المحسنين في سورة (الذاريات) بقوله:{كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . لذا فالقول: إن المحسنين هم الذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ووصفهم بآية (لقمان) رقم [4] بقوله:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} لفضل اعتداد بهذه الأمور الثلاثة، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام:«الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» . هذا؛ والجزاء: المجازاة، والمكافأة على عمل ما وتكون في الخير، كما في هذه الآية، وقال تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} وتكون في الشر، قال تعالى في كثير من الآيات:{وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} ونحوه كثير، والجزاء من جنس العمل، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. هذا؛ والفعل:«جزى» ينصب مفعولين، مثل قوله تعالى:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} رقم [29] من سورة (الأنبياء)، وأيضا الآية التالية.
الإعراب: {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: الجملة في محل رفع خبر ثان للمبتدأ في الآية السابقة، وهو (الذي)، والأول أقوى معنى.
{يَشاؤُنَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاءُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْمُحْسِنِينَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
وقيل: في محل نصب حال. ولا وجه له.
الشرح: فإن قلت: ما معنى إضافة الأسوأ، والأحسن إلى {الَّذِي عَمِلُوا} وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت: أما الإضافة؛ فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة؛ التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بني مروان، وأما التفضيل فإيذان بأن السّيّئ الذي يفرط منهم من الصغائر، والزلات المكفرة هو عندهم
الأسوأ؛ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن؛ لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ، وحسنهم بالأحسن. انتهى.
هذا؛ وقال الجلال: أسوأ وأحسن بمعنى: السّيّئ والحسن، فقال الجمل معلقا: أي:
فأفعل التفضيل ليس على بابه، فبهذا الاعتبار عم الأسوأ جميع معاصيهم، والأحسن جميع حسناتهم، ولولا هذا التأويل لاقتضى النظم: أنه يكفر عنهم أقبح السيئات فقط، ويجزيهم على أفضل الحسنات فقط هذا مراده. انتهى. هذا؛ ومن هذا الباب قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [112] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الكامل]
إنّ الّذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتا دعائمه أعزّ وأطول
الإعراب: {لِيُكَفِّرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: يسر لهم ذلك؛ ليكفر، كأنه قيل: الذين أحسنوا لأجل التكفير، واللام للعاقبة. انتهى. جمل نقلا عن السمين. {اللهُ:} فاعله. {عَنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما.
{أَسْوَأَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذي عملوه. {وَيَجْزِيَهُمْ:}
معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والهاء مفعول به أول.
{أَجْرَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِأَحْسَنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (أحسن): مضاف، و {الَّذِي} مضاف إليه. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، ومفعوله محذوف، وهو عائد الموصول، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، التقدير: بالذي كانوا يعملونه.
الشرح: {أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} أي: رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ أي: مانعه، وحافظه من كيد أعدائه، وقرئ «(عباده)» يعني: الأنبياء، عليهم ألف صلاة، وألف سلام، قصدهم قومهم بالسوء، فكفاهم الله شر من عاداهم. {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله، وهي الأصنام، وذلك: أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: مشى خالد بن الوليد-رضي الله عنه-إلى العزى ليكسرها بالفأس، فقال له سادنها:
أحذّركها يا خالد! فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى، فهشم أنفها، حتى كسرها بالفأس. وهذا كان يوم فتح مكة، وتخويفهم لخالد-رضي الله عنه-تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم، كما قال تعالى في سورة (القمر):{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} .
الإعراب: {أَلَيْسَ:} الهمزة: حرف استفهام تقريري. (ليس): فعل ماض ناقص. {اللهُ:}
اسمها. {بِكافٍ:} الباء: حرف جر صلة. (كاف): خبر ليس منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر، تقديره:«هو» . {عَبْدَهُ:} مفعول لاسم الفاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَيُخَوِّفُونَكَ:} الواو: حرف عطف. (يخوفونك): فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. وقال الجمل نقلا عن السمين: يجوز أن تكون الجملة حالا؛ إذ المعنى: أليس الله كافيك حال تخويفهم إياك بكذا، وكان المعنى: كافيه في كل حال؛ حتى في هذه الحال. ويجوز أن تكون مستأنفة. انتهى.
أقول: وفي الوجه الأول مانع من الحالية، وهو الواو لأن الجملة المضارعية المثبتة الواقعة حالا، لا تقترن بالواو، إلا أن يقال بالزيادة، أو على إضمار مبتدأ. {بِالَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} انظر الآية رقم [23] فالإعراب لا يختلف.
{وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقامٍ (37)}
الشرح: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ} أي: للإيمان. {فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أي: ومن أراد الله سعادته، فهداه إلى الهدى، والحق، ووفقه لسلوك طريق المهتدين؛ فلن يقدر أحد على إضلاله. {أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ} أي: هو تعالى منيع الجناب، لا يضام من لجأ إليه، ووقف ببابه، وهو القادر على أن ينتقم من أعدائه لأوليائه؛ لأنه غالب لا يغلب، ذو انتقام من أعدائه. وفي الآية وعيد للمشركين، ووعد المؤمنين. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الكهف) رقم [17]:{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} .
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل نصب مفعول به مقدم. {يَهْدِ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والمفعول محذوف على اعتبار (من) مبتدأ. {اللهُ:} فاعل. {فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} انظر: {فَما لَهُ مِنْ هادٍ} في الآية رقم [23] وبقية الإعراب فيها كذلك. {أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ} انظر مثلها في
الآية السابقة. {ذِي:} صفة (عزيز) مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذِي} مضاف، و {اِنْتِقامٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة كالجملة الاسمية، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمسؤول منهم أهل مكة. {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} ذكر الله من آثار قدرته، ودلائل عظمته خلق السموات، والأرض، وخصهما بالذكر هنا، وفي كثير من الآيات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السموات دون الأرض، وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصفات، والآثار والحركات، وقدمها لشرفها، وعلو مكانها، وتقدم وجودها؛ لأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية، كما في الأرض، وأيضا: لأنها بمنزلة الذّكر، فنزول المطر من السماء على الأرض كنزول المني من الذكر في رحم الأنثى؛ لأن الأرض تنبت، وتخضر بالمطر. {لَيَقُولُنَّ اللهُ:} لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود، بمعنى: إن هؤلاء المشركين مقرون وجودهم بوجود الإله القادر، العالم الحكيم، وذلك متفق عليه عند جمهور الخلائق، فإن فطرة الخلق شاهدة بذلك: أنها من ابتداع قادر حكيم، وانظر الإرادة في الآية رقم [4].
{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: أخبروني بعدما تحققتم: أن الخالق لهذا العالم هو الله وحده، أخبروني عن حال هذه الآلهة؛ التي تعبدونها من دون الله. {إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ:} أخبروني: لو أراد الله أن يصيبني بشدة وبلاء؛ هل تستطيع هذه الأصنام أن تدفع عني ذلك السوء، والضر؟! {أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ} أي: ولو أراد الله بي نفعا من نعمة، وصحة، وسعة في الرزق ورخاء في المعيشة؛ هل تستطيع أن تمنع عني هذه الرحمة؟! والجواب محذوف لدلالة الكلام عليه، يعني فسيقولون: لا، لا تكشف السوء، ولا تمنع الرحمة. قال مقاتل: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئا قدّره الله، ولكنها تشفع، وخذ ما يلي:
عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما (راكبا خلفه).
فقال: «يا غلام إنّي أعلمك كلمات، احفظ الله؛ يحفظك، احفظ الله؛ تجده تجاهك. إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله. واعلم: أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
بشيء؛ لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضرّوك بشيء؛ لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام، وجفّت الصّحف». أخرجه الترمذي.
{قُلْ حَسْبِيَ اللهُ:} الله كافيّ، وثقتي، فمنه عزي، ونصري. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ:}
يعتمد المعتمدون عليه في جميع أعمالهم، وتصرفاتهم، وحركاتهم، وسكناتهم، كما قال هود -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ..} . إلخ رقم [56] من سورة (هود). وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ أن يكون أقوى الناس؛ فليتوكّل على الله تعالى، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس؛ فليكن بما في يد الله-عز وجل-أوثق منه بما في يديه، ومن أحبّ أن يكون أكرم الناس؛ فليتّق الله عز وجل» .
أخرجه ابن أبي حاتم.
هذا؛ والتوكل: تفويض الإنسان الأمر إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه، وضره.
وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر؛ لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى. فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة، ثم سأل غيره خلاصه منها؛ لم يخرج عن حد التوكل؛ لأنه لم يحاول رفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله تعالى، وإنما هو من تعاطي الأسباب في دفع المحنة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
فعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله؛ لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا، وتروح بطانا» . أخرجه الترمذي. هذا؛ وقوله صلى الله عليه وسلم «تغدو، وتروح» . إشارة إلى السعي، وطلب الرزق، فإنه الله عز وجل لم يرزقها؛ وهي في أعشاشها، وأوكارها، بل بسبب خروجها، وسعيها وبحثها عن الرزق. والله أعلم، وأجل، وأعظم.
هذا؛ وهناك توكل، وتسليم، وتفويض. والفرق بين الثلاثة أن يقال: التوكل: أن تسكن إلى وعد الله تعالى. والتسليم: أن تكتفي بعلم الله تعالى. والتفويض: أن ترضى بحكم الله تعالى.
الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (إن): حرف شرط جازم. {سَأَلْتَهُمْ:}
فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والهاء مفعوله الأول، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَلَقَ:} فعل ماض، وفاعله مستتر تقديره: هو، يعود إلى {مَنْ}. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{مَنْ خَلَقَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان للفعل:
(سأل). {لَيَقُولُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم المقدر. (يقولنّ): فعل مضارع مرفوع،
وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعل، ونون التوكيد حرف لا محل له. {اللهُ:} مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: الله خلقهنّ. أو هو فاعل لفعل محذوف التقدير: خلقهن الله، ويرجحه التصريح به في قوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [9]:{لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . والجملة على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَيَقُولُنَّ اللهُ} جواب القسم المقدر، المدلول عليه باللام الموطئة، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة: إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما. والكلام: {وَلَئِنْ..} . إلخ كله مستأنف لا محل له.
{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَفَرَأَيْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري تعجبي. الفاء: أراها صلة للتوكيد. وقال الجمل: الظاهر: أن الفاء جواب شرط مقدر؛ أي: إذا لم يكن خالق سواه، فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر، أو منع ما أراد من النفع، أو هي عاطفة على مقدر؛ أي: أتفكرتم بعد ما أقررتم به، فرأيتم. انتهى. ولعلك تدرك معي: أن اعتبارها زائدة أسهل وأفهم، ولا حاجة إلى هذا التقدير، والتكلف. (رأيتم): فعل، وفاعل.
{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، فعلى قول أبي السعود يكتفي الفعل به، وعلى قول الكازروني يتطلب الفعل مفعولين على مثال ما رأيت في سورة (الأنعام) رقم [40]، وفي سورة (يونس) رقم [50] الأول الاسم الموصول، والثاني جملة استفهامية غير موجودة هنا. ويقدر الكلام: أخبروني ما تدعون من دون الله، هل هو حقيق بالعبادة، أو لا؟ انتهى. جمل من سورة (الشعراء). ولكنه هنا اعتبر المفعول الثاني موجودا. وهي قوله:{هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ} وعليه؛ فجملة الشرط معترضة وجوابها محذوف. انتهى. بتصرف.
{تَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.
والعائد محذوف. إذ التقدير: الذي تدعونه. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف. و {دُونِ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه.
{إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَرادَنِيَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {بِضُرٍّ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، لدلالة الجملة الآتية عليه، والجملة الشرطية معترضة، كما رأيت فيما تقدم.
{هَلْ:} حرف استفهام. {هُنَّ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{كاشِفاتُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {ضُرِّهِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ ويقرأ بالتنوين ونصب {ضُرِّهِ} على أنه مفعول صريح، ومثله {مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ} والجملة الاسمية:{هَلْ هُنَّ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان
ل: {أَفَرَأَيْتُمْ} وهي دليل جواب الشرط. {أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ} معطوف هذا الكلام على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق.
{قُلْ:} فعل أمر، مبني على السكون، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» . {حَسْبِيَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله. {اللهُ:} خبر المبتدأ. وهو فاعل بالمعنى، ويجوز اعتبار:{حَسْبِيَ} خبرا مقدما، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخرا. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والتقديم: يفيد الاختصاص، والحرص. {يَتَوَكَّلُ:} فعل مضارع. {الْمُتَوَكِّلُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الفعلية، والجملة الاسمية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قُلْ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَع???????? (39)}
الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} أي: على غاية تمكنكم، واستطاعتكم. يقال: مكن مكانة: إذا تمكن أبلغ التمكين. أو المعنى: على ناحيتكم، وجهتكم، وحالتكم؛ التي أنتم عليها، من قولهم: مكان، ومكانة كمقام، ومقامة، ويقرأ:«(مكاناتكم)» بالجمع في كل القرآن. وهو أمر تهديد، ووعيد؛ أي: اثبتوا على كفركم، وعداوتكم. انظر ما ذكرته في الآية رقم [15]. {إِنِّي عامِلٌ} أي: ثابت على ما كنت عليه من المصابرة، والتوحيد، والإيمان. فحذف هذا الكلام للاختصار، أو المبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا تقف، فإن الله يزيده على مر الشهور، والأعوام قوة، ونصرا، ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين، فقال:{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فهو تهديد ووعيد بصيغة المضارع؛ الذي هو للمستقبل بعد التهديد، والوعيد بصيغة الأمر. هذا؛ وقال البيضاوي: بتفسير {عَلى مَكانَتِكُمْ} على حالكم اسم مكان استعير للحال، كما استعير: هنا، وحيث من المكان إلى الزمان؛ أي: في كثير من الآيات.
هذا؛ وقد ذكرت الآية بحروفها في (الأنعام) برقم [135]، وذكرت في سورة (هود) برقم [93] بدون اقتران سوف بالفاء، والسبب في ذلك: أن الفاء في السورتين للتصريح بأن الإصرار، والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك، وحذفت في سورة (هود)؛ لأنه جواب سائل. قال: فماذا يكون بعد ذلك، فهو أبلغ في التهويل. انتهى. بيضاوي.
وقال النسفي: وإدخال الفاء في (سوف) وصل ظاهري بحرف وضع للوصل، ونزعها وصل تقديري بالاستئناف؛ الذي هو جواب لسؤال مقدر. كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون. والإتيان بالوجهين للتفنن في البلاغة.
وأبلغهما الاستئناف. انتهى. وهذا الاستئناف يسمى في علم البيان بالاستئناف البياني.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يا قَوْمِ:} منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة
…
إلخ، وانظر رقم [20] من سورة (يس). {اِعْمَلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{عَلى مَكانَتِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. التقدير: اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية قبلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنِّي عامِلٌ} تعليل للأمر، وهي من مقول القول. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف تعليل، أو استئناف. (سوف): حرف تسويف، واستقبال. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية تعليل، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، ولكنها تعود في محل نصب مقول القول.
{مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)}
الشرح: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ:} يذله، ويدينه، والمراد به: عذاب الدنيا، وذلك بالجوع، والسيف، وقد عذبهم الله، وأخزاهم يوم بدر. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر، لا محيد له عنه، وذلك يوم القيامة، أعاذنا الله منه. هذا؛ والفعل (يخزيه) من الإخزاء، وهو الإذلال، قال ذو الإصبع العدواني شاعر جاهلي:[البسيط]
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب
…
عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
وهذا هو الشاهد رقم (260) من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه-يخاطب به من شج وجه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد:[الطويل]
فأخزاك ربّي يا عتيب بن مالك
…
ولقّاك قبل الموت إحدى الصّواعق
مددت يمينا للنّبيّ تعمّدا
…
ودمّيت فاه قطّعت بالبوارق
وهو على هذا من الرباعي من: أخزى؛ يخزي، وهو من الثلاثي: خزي، يخزى خزاية بمعنى: استحيا، وخجل، قال نهشل بن حريّ الدارميّ من قصيدة يرثي بها أخاه مالكا، وكان قد قتل بصفين مع الإمام علي، كرم الله وجهه:[الطويل]
أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد
…
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه
وهذا هو الشاهد رقم [324] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وقال ذو الرمة: [البسيط]
خزاية أدركته بعد جولته
…
من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
الإعراب: {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به للفعل:
{تَعْلَمُونَ،} وتحتمل أن تكون استفهامية مبتدأ. التقدير: أينا يأتيه العذاب. {يَأْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل نصب مفعول به.
{عَذابٌ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة (من) على اعتبارها موصولة، وفي محل رفع خبرها على اعتبارها استفهامية مبتدأ. وعليه يكون الفعل:{تَعْلَمُونَ} معلقا عن العمل. والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعوله، إن كان من المعرفة، أو سدت سد مفعوليه إن كان من العلم، واعتباره من المعرفة هنا أولى. تأمل. وجملة:{يُخْزِيهِ} في محل رفع صفة:
{عَذابٌ،} {وَيَحِلُّ:} فعل مضارع. {عَلَيْهِ:} متعلقان به. {عَذابٌ:} فاعل. {مُقِيمٌ:} صفة:
{عَذابٌ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. هذا؛ والآية الكريمة مذكورة بحروفها في سورة (هود) برقم [39]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {إِنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ:} القرآن. {لِلنّاسِ:} لأجلهم، ولأجل حاجاتهم، فإنه مناط مصالحهم في معاشهم، ومعادهم، ولينذروا، وليبشروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية. {بِالْحَقِّ} أي: ملتبسا {بِالْحَقِّ} الواضح، الذي لا خفاء فيه. {فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ} أي: فمن اهتدى بالإيمان به، والعمل بما فيه من الشرائع، والأحكام، فنفع اهتدائه عائد إليه لا إلى غيره. {وَمَنْ ضَلَّ} أي: عن طريق الإيمان، وأخطأ طريق الهدى؛ {فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} أي: إنما يرجع وبال ذلك على نفسه، لا على غيره. {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي: بحفيظ تحفظ أعمالهم، وليس أمرهم موكولا إليك، وإنما أنت رسول بشير ونذير، وقد أعذرت حين أنذرت، فهو كقوله تعالى:{إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ} . {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} .
وانظر (نا) في الآية رقم [34] من سورة (يس).
هذا؛ وقال الجمل نقلا عن الخطيب: أي: لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر، بل القبول وعدمه مفوض إليهم. وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لأن الهداية تشبه الحياة، واليقظة والضلال يشبهان الموت، والنوم، فكما أن الحياة، واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى، كذلك الضلال، لا يحصل إلا من الله تعالى، ومن عرف هذه الدقيقة؛ فقد عرف سر الله في القدر، ومن عرف سرّ الله تعالى في القدر؛ هانت عليه المصائب. انتهى. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الغاشية):{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} . هذا؛ والآيات التي من هذا النوع منسوخة بآية القتال. هذا؛ ولا تنس: الطباق، والمقابلة بين: اهتدى، وضل.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول، وأجيز تعليقهما بالفعل (أنزل) والجملة الاسمية:{إِنّا أَنْزَلْنا..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها.
{فَمَنِ:} الفاء: حرف استئناف وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِهْتَدى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط. والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» . {فَلِنَفْسِهِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(لنفسه): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهدايته لنفسه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه.
كما رأيت في الآية رقم [23]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا، فهي مبتدأ، وجملة:
{اِهْتَدى} صلته، والجملة الاسمية التي رأيتها في محل رفع خبره، واقترنت بالفاء؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{فَمَنِ اهْتَدى..} . إلخ لا محل لها على الاعتبارين؛ لأنها مفرعة عما قبلها، ومستأنفة. {وَمَنْ ضَلَّ} إعرابه مثل إعراب سابقه بلا فارق.
{فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة. {يَضِلُّ:} فعل مضارع.
والفاعل يعود إلى (من). {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم: (ما). {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.
{بِوَكِيلٍ:} الباء: حرف جر صلة. (وكيل): خبر منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) تميمية مهملة؛ فالضمير مبتدأ. وتكون الباء زائدة في خبره، والأول أقوى. والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} أي: يقبضها عند فناء آجالها، وانقطاع رزقها من الدنيا، وتوفي الأنفس على هذا النحو مذكور في كثير من الآيات القرآنية. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي}
مَنامِها أي: يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها. قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [60]: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} . انظر تفسيرها هناك، ففيه كبير فائدة. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي: لا يردها إلى أجسادها. {وَيُرْسِلُ الْأُخْرى} أي: النائمة يردها إلى بدنها عند اليقظة، إلى أجل مسمى. أي: الوقت المضروب لموت صاحبها. وهو غاية وقت الإرسال.
هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء، والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-أيضا: إن الله يقبض أرواح الأموات؛ إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى} أي: يعيدها.
وقال علي-كرم الله وجهه-: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها؛ فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها؛ تلقيها الشياطين، وتخيل إليها الأباطيل، فهي الرؤيا الكاذبة.
وقال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: النوم وفاة والموت وفاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون» . وقال عمر-رضي الله عنه: النوم أخو الموت. ومن حديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قيل: يا رسول الله! أينام أهل الجنة؟ قال: «لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها» .
هذا؛ واختلف الناس من هذه الآية في النفس، والروح: هل هما شيء واحد، أو شيئان على ما ذكرنا؟ والأظهر: أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح، من ذلك حديث أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شقّ بصره، فأغمضه، ثم قال:«إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر» . وحديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره، قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه» . خرجهما مسلم. انتهى. كله من القرطبي بتصرف. هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] من سورة (الروم) في شرح النفس. وانظر {لِأَجَلٍ} برقم [5].
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: المذكور من التوفي، والإمساك، والإرسال. {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي:
في كيفية تعلقها بالأبدان، وتوفيها عنها بالكلية حين الموت، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها، وما يعتريها من السعادة، والشقاوة، وفي الحكمة في توفيها عن ظواهرها، وإرسالها حينا بعد حين إلى توفي آجالها. انتهى. بيضاوي. وانظر (التفكر) في الآية رقم [21] من سورة (الروم) أيضا؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
تنبيه: أخرج البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه، وليسمّ الله فإنّه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع؛ فليضطجع على شقّه الأيمن، وليقل: سبحانك ربّي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي؛ فارحمها، وإن أرسلتها؛ فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصّالحين» . زاد الترمذي: «وإذا استيقظ؛ فليقل: الحمد لله الّذي عافاني في جسدي، وردّ عليّ روحي وأذن لي بذكره» .
وخرج البخاري عن حذيفة-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل؛ وضع يده تحت خدّه، ثم يقول:«اللهمّ باسمك أموت؛ وأحيا» . وإذا استيقظ قال:
«الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [11] من سورة (السجدة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {يَتَوَفَّى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {الْأَنْفُسَ:} مفعول به. {حِينَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. و {حِينَ} مضاف، و {مَوْتِها} مضاف إليه. و (ها): في محل جر بالإضافة.
{وَالَّتِي:} الواو: حرف عطف. (التي): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على: {الْأَنْفُسَ} . {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَمُتْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} والفاعل يعود إلى: {الْأَنْفُسَ} . {فِي مَنامِها:} متعلقان بما قبلهما. و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.
{فَيُمْسِكُ:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: حرف عطف، وليس بقوي. (يمسك): فعل مضارع. والفاعل يعود إلى: {اللهُ} . {الَّتِي:} مفعول به. {قَضى:} ماض، وفاعله يعود إلى:
{اللهُ} . {عَلَيْهَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمَوْتَ:} مفعول به. والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. وجملة: {فَيُمْسِكُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (يرسل):
مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {الْأُخْرى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُسَمًّى:} صفة (أجل) مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها وليست عينها، وجملة:{وَيُرْسِلُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء (آيات): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع
مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: (آيات)، وجملة:{يَتَفَكَّرُونَ:} في محل جر صفة (قوم). والجملة الاسمية: {إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ} أي: بل اتخذ كفار قريش الأصنام شفعاء تشفع لهم عند الله حين قالوا: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ} رقم [18] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {قُلْ أَوَلَوْ كانُوا..}. إلخ: أي: أيشفعون؛ ولو كانوا على هذه الصفة، كما تشاهدونهم جمادات لا يملكون شيئا من أمرهم، ولا يقدرون على دفع ضر، أو على جلب نفع لأنفسهم؟ {وَلا يَعْقِلُونَ:} لا يفهمون ما يقال لهم.
هذا؛ وإنما جمع الأصنام، والمعبودات الباطلة جمع المذكر السالم؛ لأن الكفار كانوا يخاطبونها مخاطبة العقلاء، فنزلت منزلتهم في الكلام، وهذا كثير في القرآن الكريم، وقد ذكرته في محاله مرارا، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل؛ إذا عاملوه معاملته، وأنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل، كما يستعملون له «من» التي هي للعاقل لما ذكر من السبب. قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ} رقم [5] من سورة (الأحقاف)، وقال امرؤ القيس وهو الشاهد رقم (85) من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي
…
وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟
الإعراب: {أَمِ:} حرف عطف بمعنى: بل، فهي منقطعة عما قبلها. {اِتَّخَذُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{شُفَعاءَ} بعدهما؛ لأنه جمع: شفيع. وقيل:
هما مفعول {اِتَّخَذُوا} الثاني تقدم على الأول، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.
{شُفَعاءَ:} مفعول به. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَوَلَوْ:} الهمزة:
حرف استفهام إنكاري توبيخي، داخلة على محذوف، كما رأيت. الواو: واو الحال، (لو):
وصلية هنا. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل الفعل المقدر بعد الهمزة، التقدير: أيشفعون في حالة تقدير عدم ملكهم، وعدم عقلهم؟ وقيل:(لو) شرطية، وليس بشيء. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية.
{يَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها، والجملة المقدرة: أيشفعون
…
إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
تنبيه: مثل هذه الآية في تركيبها، وإعرابها الآية رقم [170] من سورة (البقرة)، ورقم [104] من سورة (المائدة)، ورقم [21] من سورة (لقمان).
الشرح: {قُلْ:} أمر، وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً} أي: مالك الشفاعة كلها، ولا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه، ولا يستقل بها أحد، وهو جواب لمن يقول، ويعترض:
كيف قال: {لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً} مع ما جاء في الأخبار، أن للأنبياء، وللعلماء، والشهداء والأطفال شفاعات؟ وإيضاحه: أنه تعالى مختص بها، لا يملكها أحد إلا بتمليكه له، كما قال تعالى في آية الكرسي:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ،} وقال في سورة (الأنبياء) رقم [28]:
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى} لكن الذي هو مشروط في الآية شيئان: الملك، والعقل، والشرطان مفقودان في الأصنام التي يعبدونها من دون الله تعالى.
{لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} فهو المتصرف في هذا الكون: فهو المالك له كله، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه، ورضاه. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ:} يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. هذا؛ وإنما قال:{جَمِيعاً} وهو للاثنين فصاعدا؛ والشفاعة واحدة؛ لأن الشفاعة مصدر، والمصدر يؤدي عن الاثنين والجميع. هذا؛ وشفعاء جمع شفيع، والشفاعة: التوسل، وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسل يسمى الشفيع، والشفاعة في الدنيا تكون حسنة، وتكون سيئة، فالأولى هي التي روعي فيها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من حقوق الله. والسيئة هي ما كانت بخلاف ذلك.
وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم؛ لأنها بمعنى: الشفاعة إلى الله تعالى، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من دعا لأخيه بظهر الغيب؛ استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» . فذلك هو النصيب الذي ذكره الله بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} رقم [85] من سورة (النساء).
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الشَّفاعَةُ:} مبتدأ مؤخر. {جَمِيعاً:} حال من الشفاعة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان
بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، و {مُلْكُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه.
{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {ثُمَّ:}
حرف عطف. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله. والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول أيضا.
تنبيه: لقد اختلف في مجيء الحال من المبتدأ، فمنعه قوم، ومنهم ابن القواس، فإنه قال في درة الغواص: مجيء الحال من المبتدأ يلزم منه المحال من وجهين: الأول: أنه لا يصدق عليه حد الحال؛ لكونه هيئة للمبتدأ، والحال يجب أن يكون هيئة فاعل، أو مفعول. والثاني:
أنه يؤدي إلى أن يكون المبتدأ عاملا في الحال، لوجوب كون العامل في الحال عاملا في صاحبها، وهو محال، وإنما يصح أن تجعل حالا على قول من يرفع الشفاعة بالجار والمجرور من غير أن يعتمد على نفي، أو شبهه، وهو مذهب الأخفش، والكوفيين، وقول ابن القواس هو قول الجمهور، وخرجه على أن الحال إنما هي من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور.
واختلف النقل عن سيبويه، فبعضهم يجعله موافقا للجمهور، وبعضهم يجعله موافقا لما استشهد به ابن هشام في قول كثير عزة، وهو الشاهد رقم [133] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
لعزّة موحشا طلل
…
يلوح كأنّه خلل
ويعد ذلك من الماخذ عليه. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة النحل [52]: {وَلَهُ الدِّينُ واصِباً،} وأيضا قوله الشاعر وهو الشاهد رقم [378] من كتابنا: «فتح رب البرية» : [الطويل]
وهلاّ أعدّوني لمثلي تفاقدوا
…
وفي الأرض مبثوثا شجاع وعقرب
الشاهد ب: موحشا حيث وقع حالا من: (طلل)، وواصبا وقع حالا من (الدين)، و (مبثوثا) وقع حالا من:(شجاع وعقرب). وأيضا قول الشاعر، وهو الشاهد رقم (372) من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
وفي الجسم منّي بيّنا لو علمته
…
شحوب، وإن تستشهدي العين تشهد
الشرح: {وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ} أي: إذا أفرد الله بالذكر، ولم تذكر آلهتهم، مثل قول المؤمن:{لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ؛} {اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ..} . إلخ: قال ابن عباس، ومجاهد، والمبرد:
انقبضت. وقال قتادة: نفرت، واستكبرت، وكفرت، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} رقم [35] من سورة (الصافات). هذا؛ وأصل الاشمئزاز النفور، والازورار. قال عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [60] و [61]:[الوافر]
فإنّ قناتنا يا عمرو أعيت
…
على الأعداء قبلك أن تلينا
إذا عضّ الثّقاف بها اشمأزّت
…
وولّتهم عشوزنة زبونا
{وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ:} يعني الأوثان، ومعبوداتهم الباطلة. {إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي:
يفرحون، ويظهر البشر، والسرور على وجوههم لفرط افتتانهم بها، ونسيان حق الله عليهم، ولقد بالغ في الأمرين؛ حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار: أن يمتلئ قلبه سرورا؛ حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز: أن يمتلئ غما؛ حتى ينقبض أديم وجهه، انتهى. بيضاوي. هذا؛ وقال القرطبي في قوله تعالى:{وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني: الأوثان، حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة (النجم): «تلك الغرانيق العلا
…
» إلخ قاله جماعة من المفسرين. هذا؛ ولقد بينات في سورة (الحج) رقم [51] بطلان هذه الحكاية، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين. هذا؛ وقال تعالى في سورة (غافر) رقم [12]:{ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} وفي الآية الكريمة من المقابلة الرائعة ما لا يخفى؛ حيث قابل بين الله، والأصنام، وبين السرور، والاشمئزاز، والمقابلة أن يؤتى بمعنيين، أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، وهو من المحسنات البديعية.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف، وقيل: عاطفة. وفيه ضعف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {ذُكِرَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {اللهُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {وَحْدَهُ:} قال القرطبي: نصب على المصدر عند الخليل، وسيبويه، وعلى الحال عند يونس. انتهى. أقول: وهو المعتمد، وهو مؤول ب:«منفردا» كما هو مقرر في كتب النحو. {اِشْمَأَزَّتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {قُلُوبُ:}
فاعله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. وجملة:
{لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{اِشْمَأَزَّتْ..} . إلخ جواب: (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. (إذا): مثل سابقتها. {ذُكِرَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعله. {مِنْ دُونِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {إِذا:} كلمة دالة على المفاجأة واقعة في جواب {إِذا} الشرطية، وانظر الآية رقم [29] من سورة (يس)، فالبحث فيها واف كاف.
{هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. وجملة: {يَسْتَبْشِرُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على اعتبارها ظرفا، وواقعة جوابا ل:(إذا) الظرفية على اعتبارها حرفا، و {إِذا} ومدخولها معطوف على ما قبله لا محل له مثله.
الشرح: {قُلِ:} أمر، وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي لكل مؤمن أن يقرأ هذه الآية في مقدمة سؤاله الله شيئا من أمور الدنيا، والآخرة. قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، قوله تعالى:{قُلِ اللهُمَّ..} . إلخ. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: سألت عائشة-رضي الله عنها: بأي شيء كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته، قال:«اللهم ربّ جبريل، وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . أخرجه مسلم.
{اللهُمَّ:} أصله: يا الله، فحذفت أداة النداء، وعوض عنها الميم المشددة في الآخر، ولا يجمع بين العوض والمعوض عنه إلا في ضرورة الشعر، كما في قول أمية بن أبي الصلت، انظر الشاهد رقم [446] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]
إنّي إذا ما حدث ألمّا
…
أقول يا اللهمّ يا اللهمّا
وهذا الحذف والتعويض من خصائص الاسم الكريم، كدخول «يا» عليه مع لام التعريف، وقطع همزته، وتاء القسم. {فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالقهما، ومبتدعهما على غير مثال سبق. هذا؛ والفطر: الشق عن الشيء، يقال: فطرته، فانفطر، قال تعالى:{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ومنه: فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطّر الشيء: تشقّق، وسيف فطار؛ أي: فيه تشقق، قال عنترة:[الوافر]
وسيفي كالعقيقة فهو كمعي
…
سلاحي لا أفلّ، ولا فطارا
وكمعي: ضجيعي، والفطر: الاختراع، والابتداع، والابتداء. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كنت لا أدري ما {فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي: أنا ابتدأتها. والفطر: حلب الناقة بالسبابة، والإبهام. والمراد:
بذكر السموات والأرض: العالم كله، ويستدل بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على
الإعادة. {عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي: السر، والعلانية. هذا؛ والشهادة: الحضور، والغيب:
ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسه قال الشاعر المسلم:[الطويل]
وبالغيب آمنّا، وقد كان قومنا
…
يصلّون للأوثان قبل محمد
{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: في دنياهم، وستفصل بينهم يوم معادهم، ونشورهم، وقيامهم من قبورهم. هذا؛ وعن سعيد بن المسيب-رضي الله عنه-قال:
لا أعرف آية قرئت فدعي عندها، إلا أجيب سواها. وعن الربيع بن خثيم (وكان قليل الكلام) أنه أخبر بمقتل الحسين-رضي الله عنه-وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد أن قال: آه! وقد فعلوا؟! وقرأ هذه الآية. وروي: أنه قال على أثره: قتل من كان صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره، ويضع فاه على فيه. انتهى. وخذ ما يلي:
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: اللهمّ فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إنّي أعهد إليك في هذه الحياة الدّنيا: أنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك، ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي؛ تقرّبني من الشرّ، وتباعدني من الخير، وإنّي لا أثق إلاّ برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد؛ إلا قال الله عز وجل لملائكته يوم القيامة: إنّ عبدي قد عهد إليّ عهدا، فأوفوه إيّاه، فيدخله الله الجنة» . أخرجه الإمام أحمد.
الإعراب: {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {اللهُمَّ:} منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: «يا» المحذوفة، والمعوض عنها الميم المشددة في الآخر.
{فاطِرَ:} فيه أوجه: أحدها: أنه بدل من {اللهُمَّ} . الثاني: أنه عطف بيان عليه. الثالث: أنه منادى ثان، حذف منه أداة النداء؛ أي: يا فاطر
…
إلخ. الرابع: أنه نعت ل: {اللهُمَّ} على الموضع، فلذلك نصب، وهذا ليس مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز نعت هذه اللفظة لوجود الميم المشددة في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائرها من الأسماء، وأجاز المبرد ذلك، واختاره الزجاج. قالا: لأن الميم بدل من «يا» ، والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا ما هو عوض منها، وأيضا: فإن الاسم لم يتغير عن حكمه، ألا ترى إلى بقائه مبنيا على الضم، كما كان مبنيا مع «يا» . انتهى. جمل. نقلا من السمين.
و {فاطِرَ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {عالِمَ:} يجوز فيه ما جاز ب: {فاطِرَ} من أوجه، و {عالِمَ} مضاف، و {الْغَيْبِ} مضاف إليه
…
إلخ، {وَالشَّهادَةِ:} معطوف على: {الْغَيْبِ} .
{أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تَحْكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه تقديره:«أنت» . والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {بَيْنَ:} ظرف مكان
متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {عِبادِكَ} مضاف إليه، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فِي ما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {تَحْكُمُ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في). {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية:«يختلفون فيه» في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (في). هذا؛ والآية كلها في محل نصب مقول القول. وجملة: {قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالكفر، وارتكاب المعاصي، واجتراح السيئات. {ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي: صنوف الأموال كلها، وملكوا مثل ذلك معه. {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: من العقاب الشديد، والعذاب الأليم، ولكنه لا يقبل منهم، كما صرح به سبحانه وتعالى في الآية رقم [91] من سورة (آل عمران)، ورقم [36] من سورة (المائدة)، ورقم [18] من سورة (الرعد). وهذا؛ وعيد لهم شديد، وإقناط لهم من الخلاص.
{وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ..} . إلخ: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: من أجلّ ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهموا: أنها حسنات، فإذا هي سيئات. وقاله السدّي.
وقيل: عملوا أعمالا توهموا: أنهم يتوبون منها قبل الموت، فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا: أنهم ينجون بالتوبة. وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم، وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله: {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ..} . إلخ، فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. وهذه الآية غاية في الوعيد لا غاية وراءها. ونظيره في الوعد قوله تعالى في سورة (السجدة) رقم [17]:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ..} . إلخ.
هذا؛ والأكثرية الساحقة من المسلمين في هذه الأيام يتمنون الأماني الكاذبة، فتراهم يهملون واجبات الله تعالى، ويرتكبون المعاصي، والمنكرات، وهم مع ذلك يؤملون جنة عرضها السموات، والأرض، أعدت للمتقين، يقولون: الله غفور رحيم، النبي الكريم يشفع لنا، فتح لهم الشيطان باب هذه الأماني الكاذبة، وغرّهم بالله الغرور، فهم يجدون الله يوم القيامة قد أعد لهم العقاب الشديد، والعذاب الأليم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم، هذا بصريح قوله: «ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، إنّ قوما ألهتهم الأمانيّ حتى خرجوا من
الدنيا، ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظّنّ بالله؛ كذبوا! لو أحسنوا الظنّ؛ لأحسنوا العمل».
وانظر رقم [23] من سورة (فصلت) وهذا الحديث يروى موقوفا عن الحسن البصري.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدم على اسمها، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم: {أَنَّ} مؤخر. {فِي الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {جَمِيعاً:} حال من: {ما،} أو من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور. {وَمِثْلَهُ:} معطوف على: {ما،} والهاء في محل جر بالإضافة. {مَعَهُ:}
ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من (مثله). و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط:(لو) عند المبرد، التقدير: ولو ثبت ظلمهم، أو: حصل، ونحوه. وقال سيبويه: المصدر المؤول في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو ظلمهم ثابت، أو حاصل. وقول المبرد هو المرجح؛ لأن (لو) لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر، وفاعله المؤول جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لافْتَدَوْا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (افتدوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (لو)، لا محل لها من الإعراب. {بِهِ مِنْ سُوءِ:}
كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، و {سُوءِ} مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله أيضا. وقيل: متعلق بمحذوف حال من واو الجماعة. و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَبَدا:} الواو: حرف عطف. (بدا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {لَهُمْ مِنَ اللهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع فاعل:(بدا). {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَحْتَسِبُونَ} في محل نصب خبر: {يَكُونُوا،} وجملة: {لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: لم يكونوا يحتسبونه، وجملة:{وَبَدا..} . إلخ معطوفة على (لو) ومدخولها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)}
الشرح: {وَبَدا لَهُمْ..} . إلخ: أي: وظهر لهم في ذلك اليوم العظيم شأنه، الطويل زمانه -وهو يوم القيامة-مساوئ أعمالهم من الشرك، والكفر، والظلم، والطغيان، والاعتداء على
حقوق العباد، أو ظهر لهم عقاب ما ذكر، وجزاؤه؛ حيث رأوه بأعينهم. {وَحاقَ بِهِمْ..}. إلخ:
أي: أحاط بهم العذاب، ونزل بهم من كل الجهات جزاء ما كانوا به يستهزئون، فهو على حد الآية رقم [16]:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ..} . إلخ، هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق الوقوع، والمبالغة في التهديد والوعيد. هذا؛ ومثل هذه الآية في نصها، ومغزاها، ومعناها رقم [33] من سورة (الجاثية)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [23] من سورة (فصلت).
الإعراب: {وَبَدا:} الواو: حرف عطف. (بدا): فعل ماض. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتُ:} فاعل، وهو مضاف، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: سيئات الذي كسبوه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: سيئات كسبهم. وجملة:
{وَبَدا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَحاقَ:} الواو: حرف عطف.
(حاق): فعل ماض. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} مثل سابقتها تحتمل الوجوه الثلاثة، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: وحاق بهم استهزاؤهم. هذا؛ والجار والمجرور: {بِهِمْ} متعلقان بالفعل بعدهما، وتفصيل الإعراب لا يخفى عليك بعد هذا؛ وجملة:{وَحاقَ بِهِمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ:} بلاء في جسمه، أو في ماله، أو في ولده. والمراد:
بالإنسان هنا: الكافر، والفاسق، والفاجر. {دَعانا:} تضرع إلينا ولجأ يطلب كشف ذلك الضر.
{ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ} أي: كشفنا عنه ضره، وأعطيناه، وأنعمنا عليه تفضلا منا بنعمة من نعم الدنيا:
صحة في جسمه، أو غنى في ماله، أو زيادة في ولده؛ {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ} أي: مني:
أني سأعطاه لما فيّ من فضل، واستحقاق. أو: على علم مني بوجود الكسب، كما قال قارون:
{إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} رقم [78] من سورة (القصص)، وإنما ذكّر الضمير في:{أُوتِيتُهُ} وهو للنعمة نظرا إلى المعنى؛ لأن قوله {نِعْمَةً مِنّا} شيئا من النعمة وقسما منها. وقيل: (ما)
في: {إِنَّما} موصولة، لا كافة، فيرجع الضمير إليها؛ أي: إن الذي، أوتيته على علم.
{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ:} إنكار لذلك الإنسان، ورد عليه، كأنه قال: ما خولناك من النعمة لما تقول؛ {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي: ابتلاء، واختبار، وامتحان لك: أتشكر أيها الإنسان، أم تكفر؟ ولما كان الخبر مؤنثا، أعني:{فِتْنَةٌ} ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقرئ:«(بل هو فتنة)» على وفق {إِنَّما أُوتِيتُهُ} . {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ:} أنها فتنة. وانظر الآية رقم [29]. هذا؛ ومعنى هذه الآية تكرر كثيرا في كتاب الله.
هذا؛ والسبب في عطف هذه الآية بالفاء، وعطف مثلها في أول السورة رقم [8] بالواو: أن هذه وقعت مسببة عن قوله تعالى: {وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} رقم [45] على معنى: أنهم يشمئزون من ذكر الله، ويستبشرون بذكر الآلهة، وإذا مس أحدهم ضرّ دعا من اشمأز بذكره، دون من استبشر بذكره وما بينهما من الآي اعتراض.
فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه؛ قلت: ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بأمر الله، وقوله:{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ} ثم ما عقبه من الوعيد العظيم تأكيد لإنكار اشمئزازهم، واستبشارهم، ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: قل: يا رب! لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة إلا أنت. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} متناول لهم، ولكل ظالم؛ إن جعل عاما، أو إياهم خاصة؛ إن عنيتهم به، كأنه قيل: ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعا، ومثله معه؛ لافتدوا به حين حكم عليهم بسوء العذاب.
وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها، فعطفت عليها بالواو، نحو قام زيد، وقعد عمرو، وبيان وقوعها مسببة أنك تقول: زيد يؤمن بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبب ظاهر، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك بها ثمة كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجأ المؤمن إليه، مقيما كفره مقام الإيمان في جعله سببا في الالتجاء. انتهى. نسفي بتصرف.
الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [45]. والجملة الفعلية:
{مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {دَعانا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{الْإِنْسانَ} تقديره: «هو» ، (نا): مفعول به، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها معطوف على مثله في الآية رقم [8] وانظر الشرح لتوضيح ذلك. {ثُمَّ:} حرف عطف. {فَإِذا:} مثل سابقتها. {خَوَّلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {نِعْمَةً:} مفعول به ثان. {مِنّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {نِعْمَةً،} أو بمحذوف صفة لها، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {فَإِذا} إليها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الْإِنْسانَ} . {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {أُوتِيتُهُ:} فعل ماض مبني للمجهول
مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والهاء مفعوله الثاني. {عَلى عِلْمٍ:}
متعلقين بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل. هذا؛ وأجيز اعتبار (إنّ) غير مكفوفة، فتكون (ما) اسمها، والجملة الفعلية صلة (ما)، والجار، والمجرور:{عَلى عِلْمٍ} متعلقين بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة سواء أكانت فعلية، أم اسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب {فَإِذا،} لا محل لها، و {فَإِذا} ومدخولها معطوف على ما قبله، لا محل له مثله.
{بَلْ:} حرف إضراب، وإنكار، وانتقال. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فِتْنَةٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسم (لكن)، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} في محل رفع خبر (لكن)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. وقيل: الجملة في محل نصب حال، ولا وجه له.
{قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50)}
الشرح: {قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: قال الكلمة: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ} قارون، وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها، وفي زمننا كثير من المسلمين يقولونها، ويعتقدون: أنهم بدهائهم، وكذبهم، ولفهم، ودورانهم يجمعون المال، ويعدّون ذلك شطارة، ومهارة، ولا يبالون من أين اكتسبوا المال، من حلال، أم من حرام؟! {فَما أَغْنى عَنْهُمْ..}. إلخ: فما أجدى، ولا نفعهم ما جمعوه من حطام الدنيا حينما نزل بهم غضب الله وعقابه الشديد، وعذابه الأليم، والقرآن أصدق شاهد على ذلك، وأدل دليل عليه.
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {قائِلُها:} فعل ماض، و (ها):
مفعول به، ونصب القول الضمير لتفسيره بالكلمة التي رأيتها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {أَغْنى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فَما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: فما أغنى عنهم الذي، أو: شيء كانوا يكسبونه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: فما أغنى عنهم كسبهم. هذا؛ وقيل: (ما) الأولى استفهامية، التقدير: أي شيء أغنى عنهم ما كانوا
…
إلخ؟ وهو ضعيف،
والجملة الفعلية: {فَما أَغْنى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي: جزاء سيئات أعمالهم، أو: جزاء أعمالهم، وسمى الله الجزاء سيئة؛ لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة، كقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} الآية رقم [40] من سورة (الشورى)، وقال في آخر سورة (النحل) الآية [126]:{وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ،} وهذا ما يسمى في فن البديع بالمشاكلة، وقد ذكرته لك مرارا في محالّه، ومنه قول الشاعر وهو ابن الرقعمق:[الكامل]
أصحابنا قصدوا الصّبوح بسحرة
…
وأتى رسولهم إليّ خصيصا
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه
…
قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا
{وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر، ومخالفة الواحد القهار. والمراد بهم: كفار قريش. {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا:} كما أصاب أولئك السابقين، وقد أصابهم البلاء بأنواعه، فإنهم قحطوا سبع سنين؛ حتى أكلوا الجيف، وقتل ببدر صناديدهم، ونزل بهم من الذل، والخزي، والعار ما هو مسطور، ومشهور. {وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: وليسوا بفائتين من عذابنا، لا يعجزوننا هربا، ولا يفوتوننا طلبا. هذا؛ وانظر شرح {أَصابَ} في الآية رقم [36] من سورة (ص). هذا؛ وقال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [22]:{وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} . واقتصر في سورة (الشورى) رقم [31] على (الأرض) وقد حذفا هنا معا للاختصار. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَأَصابَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (أصابهم): فعل ماض، والهاء مفعول به.
{سَيِّئاتُ:} فاعله، و {سَيِّئاتُ} مضاف، و {ما:} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: سيئات الذي، أو:
شيء كسبوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: سيئات كسبهم في الدنيا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَالَّذِينَ:} الواو:
حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{ظَلَمُوا} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ:} حرف جر. {هؤُلاءِ:} الهاء: حرف تنبيه، لا محل له. (أولاء):
اسم إشارة مبني على السكر في محل جر ب: {مِنْ،} والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول. {سَيُصِيبُهُمْ:} السين: حرف استقبال.
(يصيبهم): فعل مضارع، والهاء مفعول به. {سَيِّئاتُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، و {سَيِّئاتُ} مضاف، و {ما كَسَبُوا} مضاف إليه. وانظر توضيح الإعراب في الآية رقم [48].
والجملة الاسمية: {وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {فَأَصابَهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما).
{بِمُعْجِزِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (معجزين): خبر (ما)، مجرور لفظا، منصوب محلا، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} أي: ألم يعلم، ويوقن كفار قريش، وغيرهم من الفجار، والكفار:
{أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ:} يغني، ويوسع الرزق، ويعطي المال لمن يشاء التوسيع عليه. {وَيَقْدِرُ:}
يضيق الرزق، ويقلله على من يشاء من عباده، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة، ولذا قال جل شأنه في الآية رقم [30] من سورة (الإسراء):{إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: ذو خبرة بعباده، وبمن يصلحه التوسيع في الرزق، ومن يفسده ذلك، وبمن يصلحه الضيق، والإقتار في الرزق، ومن يهلكه ذلك، وهو ذو بصر، ومعرفة بتدبير عباده، وسياستهم، فمن العباد من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقره الله؛ لفسد، ومنهم من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه؛ لفسد. هذا؛ وبين {يَبْسُطُ} و (يقدر) مقابلة، ومطابقة، وهي من المحسنات البديعية.
{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في البسط، والتضييق في الرزق. {لَآياتٍ:} لدلالات على قدرة الله، وكمال حكمته، وأنه هو الفاعل المختار، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ:}
خصهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالتذكير، ويعلمون: أن سعة الرزق قد تكون مكرا، واستدراجا، وتقتيره رفعة، وإعظاما، ويوقنون: أن المال هو إعطاء الله للعبد، لا علاقة له بقوة الأجسام، ولا بشدة الفهم، وحدة الذكاء. ورحم الله من يقول:[البسيط]
كم من قويّ قويّ في تقلّبه
…
مهذّب الرّأي عنه الرّزق منحرف
كم من ضعيف ضعيف في تقلّبه
…
كأنه من خليج البحر يغترف
هذا دليل على أنّ الإله له
…
في الخلق سرّ خفيّ ليس ينكشف
وفي كثير من الآيات {لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ،} وهذه الآية مذكورة في سورة (الروم) برقم [37] بحروفها بإبدال: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} ب: {أَوَلَمْ يَرَوْا،} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الواو: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف، التقدير: أقالوا الكلمة المذكورة في الآية رقم [49] ولم يعلموا؟ أو:
أغفلوا، ولم يعلموا؟ (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَعْلَمُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَبْسُطُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} .
{الرِّزْقَ:} مفعول به. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والمتعلق محذوف، تقديره: من عباده، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو: لشخص يشاؤه الله من عباده. {وَيَقْدِرُ:}
فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} ومتعلقه محذوف، تقديره: له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{يَبْسُطُ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ} . و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول الفعل: {يَعْلَمُوا،} والجملة الفعلية هذه لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء.
{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء.
(آيات): اسم {أَنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.
{لِقَوْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (آيات)، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل جر صفة (قوم)، والجملة الاسمية:{إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قُلْ:} خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {يا عِبادِيَ..}. إلخ: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما شدد على الكفار، وذكر ما أعد لهم من العذاب، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض، ومثله معه لافتدى به من عذاب الله، ذكر هنا ما في إحسانه من غفران الذنوب، أنه إذا آمن العبد، ورجع إلى الله تعالى؛ فإنّه يغفر له الذنوب جميعا. وكثيرا ما تأتي آيات الرحمة بعد آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف، وهذه الآية عامة في كل كافر يؤمن، ومؤمن عاص يتوب، فتمحو توبته ذنبه، وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: وهذه أرجى آية في القرآن، فرد عليه ابن عباس-رضي الله عنهما. قال: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ..} . إلخ رقم [6] من سورة (الرعد)، ومن قول ابن عمر أخذ القاضي عياض المعنى، وقال:[الوافر]
وممّا زادني شرفا وتيها
…
وكدت بأخمصي أطأ الثّريّا
دخولي تحت قولك: يا عبادي
…
وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
وقال حرب بن شريح: سمعت جعفر بن محمد، بن علي، يقول: إنكم يا معشر أهل العراق تقولون: أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا..} . إلخ، وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} من سورة (الضحى) وقال بعضهم في هذا المعنى: [الوافر] قرأنا في الضحى ولسوف يعطي
…
فسرّ قلوبنا ذاك العطاء
وحاشا يا رسول الله ترضى
…
وفينا من يعذّب أو يساء
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي، وإطلاقا في الإقدام عليها، وذلك لا يمكن. قلت: المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي: أنه لا مخلص له من العذاب، فإنّ من اعتقد ذلك؛ فهو قانط من رحمة الله؛ إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه، وصار من أهل المغفرة، والرحمة، فمعنى قوله:{إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} أي: إذا تاب، وصحت توبته، غفرت ذنوبه، ومن مات قبل أن يتوب، فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فإن شاء؛ غفر له، وعفا عنه، وإن شاء؛ عذبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته، فالتوبة واجبة على كل واحد، وخوف العقاب مطلوب، فلعل الله يغفر مطلقا، ولعله يعذب، ثم يعفو عنه بعد ذلك. والله أعلم. انتهى.
بحروفه، وخذ قول اللقاني في جوهرة التوحيد، فهو موافق لما قاله:[الرجز]
ومن يمت ولم يتب من ذنبه
…
فأمره مفوّض لربّه
ثم ذكر الخازن جملة ممتازة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة: أكتفي بذكر الحديث القدسي، الذي يرويه أنس-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «يا بن آدم! إنك ما دعوتني، ورجوتني؛ غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي! يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ غفرت لك، ولا أبالي! يا بن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا؛ لأتيتك بقرابها مغفرة» . أخرجه الترمذي.
قال الجمل: وعبارة النهر: ولما كانت هذه الآية فسحة عظيمة للمسرف؛ أتبعها بأن الإنابة-وهي الرجوع-مطلوبة، مأمور بها. ثم توعد من لم يتب بالعذاب؛ حتى لا يبقى المرء كالمهمل من الطاعة، والمتكل على الغفران دون إنابة. انتهى. وفي هذه الآية من أنواع المعاني والبيان أشياء حسنة، منها:
إقباله عليهم، ونداؤهم. ومنها: إضافتهم إليه إضافة تشريف. ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} . ومنها: إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى. ومنها: إعادة الظاهر بلفظه في قوله: {إِنَّ اللهَ} . ومنها: إبراز الجملة من قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} مؤكدة ب: {إِنَّ،}
والفصل، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة، انتهى. نقلا عن السمين.
هذا؛ وأقول: إن لقبول التوبة شروطا، فإن كانت من حق الله؛ فلها ثلاثة شروط: الندم بالجنان، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالأركان. وإن كانت من حق العبد؛ فلا بد من رجوع الحق لصاحبه بقدر الإمكان. قال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} الآية رقم [8] من سورة (التحريم).
تنبيه: اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وذكروا أسبابا كثيرة، وأعتمد:
أنها نزلت في وحشي قاتل الحمزة، وأصحابه، وذلك: أنه لما قتل الحمزة-رضي الله عنه ورجع إلى مكة؛ ندم هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد ندمنا على ما صنعنا، وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا قد سمعناك بمكة تقول:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ..} . إلخ رقم [68] من سورة (الفرقان) وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله، وزنينا، فلولا هذه الآية؛ لاتبعناك، فنزل قوله تعالى:{إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً..} . إلخ رقم [70] و [71] من سورة (الفرقان) فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما قرؤوها كتبوا إليه: هذا شرط شديد، ونخاف أن لا نعمل صالحا، فنزلت:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ..} . إلخ الآية رقم [48] من سورة (النساء). فبعث بها إليهم. فبعثوا إليه: إنا نخاف ألا نكون من أهل المشيئة، فنزلت الآية التي نحن بصدد شرحها، فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت الحمزة؟ فلما أخبره، قال: ويحك غيب وجهك عني! فلحق بالشام، فكان به إلى أن مات. انتهى. خازن.
أقول: والمشهور: أن هذا كان بعد فتح مكة، بعد أن أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم وحشي فيمن أهدر، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فتوسل ببعض أصحابه فأدخله على النبي الكريم، فعفا عنه، وحصل ما حصل من المناقشة شفاها، ونزلت الآية التي ذكرتها متفرقات.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . (يا): أداة نداء تنوب مناب:
أدعو. (عبادي): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:}
اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة: (عبادي)، أو هو عطف بيان عليه، ولا تجوز البدلية؛ لأن البدلية على نية تكرار العامل، ولا يصح أن تقول:«يا» الذين بدون «أي» : قبله، وهذه إحدى مسألتين تمتنع فيهما البدلية، ويتعين فيهما عطف البيان، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
وصالحا لبدلية يرى
…
في غير نحو يا غلام يعمرا
ونحو بشر تابع البكريّ
…
وليس أن يبدل بالمرضيّ
وجملة: {أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} صلة الموصول، لا محل لها. {لا:} ناهية. {تَقْنَطُوا:}
فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول. {مِنْ رَحْمَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {رَحْمَةِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {يَغْفِرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:
{اللهِ} . {الذُّنُوبَ:} مفعول به. {جَمِيعاً:} حال من: {الذُّنُوبَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له من الإعراب، أو هو توكيد لاسم (إنّ) على المحل، وعليهما ف:{الْغَفُورُ} خبر أول ل: (إنّ)، و {الرَّحِيمُ} خبر ثان هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، و {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} خبرين له، فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل آخر للنهي، أو هي تعليل للتعليل، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ} أي: ارجعوا إلى الله بالتوبة، واستسلموا له بالطاعة، والخضوع، والعمل الصالح. لما بين الله أن من تاب من الشرك يغفر له؛ أمر بالتوبة، والرجوع إليه، والإنابة: الرجوع إلى الله بالإخلاص. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ:} في الدنيا. {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: لا يوجد ناصر ينصركم، ويمنعكم من عذابه، وعقابه. هذا؛ وروي من حديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من السّعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة، ويرزقه الإنابة، وإنّ من الشقاوة أن يعمل المرء، ويعجب بعمله» . هذا؛ ورفع الفعل:
{تُنْصَرُونَ} ولم يعطف على ما قبله؛ للإشعار بأنهم لا ينصرون ما داموا مصرين على كفرهم.
الإعراب: {وَأَنِيبُوا:} الواو: حرف عطف. (أنيبوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب (صبروا) في سورة (ص) رقم [6]. {إِلى رَبِّكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لا تَقْنَطُوا..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{وَأَسْلِمُوا لَهُ} معطوفة عليها أيضا. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بأحد الفعلين السابقين على التنازع. وقيل: متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له قطعا. {أَنْ يَأْتِيَكُمُ:}
فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والكاف مفعول به. {الْعَذابُ:} فاعله، والمصدر المؤول من
{أَنْ} والفعل المضارع في محل جر بإضافة: {قَبْلِ} إليه. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية.
{تُنْصَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. فهي في محل نصب مقول القول أيضا.
الشرح: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ..} . إلخ: المراد به: القرآن الكريم، وكله حسن. والمعنى:
كما قاله الحسن البصري: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته، فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح؛ ليجتنب، وذكر الأدون؛ لئلا يرغب فيه، وذكر الأحسن؛ لتؤثره، وتأخذ به. وقيل: الأحسن:
اتباع الناسخ، وترك العمل بالمنسوخ. وقيل: الأخذ بالعزائم دون الرخص. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [18] فهو جيد، وينسجم مع هذه الآية في معناها. {بَغْتَةً:} فجأة من غير إنذار، ولا يؤخر إذا نزل. {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ:} انظر (الشعور) في الآية رقم [25] والمراد هنا: يفجؤكم العذاب؛ وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا؛ لفرط غفلتكم.
الإعراب: {وَاتَّبِعُوا:} الواو: حرف عطف. (اتبعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {أَحْسَنَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها.
{إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل: (اتبعوا). وقيل: متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له قطعا. وانظر بقية الإعراب في الآية السابقة. {بَغْتَةً:} حال من: {الْعَذابُ} بمعنى: باغتا، أو مباغتا، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: يبغتهم بغتة، وتكون الجملة هذه في محل نصب حال من:{الْعَذابُ،} وجوز اعتبار {بَغْتَةً} مصدرا للفعل (يأتي) من غير لفظه، كقولهم: أتيته ركضا، فتكون نائب مفعول مطلق. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {تَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} أي: لئلا تقول، أو حذر أن تقول نفس. وإنما نكرت؛ لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد بها نفس متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعذاب أليم. ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى:[الطويل] وربّ بقيع لو هتفت بجوّه
…
أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. {يا حَسْرَتى} أي: يا ندمي، ويا حزني، والتحسر: الاغتمام، والحزن على ما فات. {عَلى ما فَرَّطْتُ:} على ما ضيعت، أو:
على ما قاصرات. {فِي جَنْبِ اللهِ:} أمر الله، أو في طاعة الله، أو في ذاته، أو في حق الله. هذا؛ والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان، وجانبه، وناحيته، وفلان لين الجنب، والجانب، ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه، يريدون: في حقه، قال جميل بثينة:[الطويل]
أما تتّقين الله في جنب وامق
…
له كبد حرّى عليك تقطّع
وهذا من باب الكناية؛ لأنك إذا أثبت الأمر في جانب الرجل، وحيزه؛ فقد أثبته فيه، ألا ترى إلى زياد الأعجم يقول في عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور:[الكامل]
إنّ السّماحة والمروءة والندى
…
في قبّة ضربت على ابن الحشرج
فعن عائشة-رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير إلا تحسّر عليها يوم القيامة» . رواه البيهقي، وغيره. وقال إبراهيم التيمي:
من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره، وعلى الآخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوّله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة منه عند الله عز وجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة؛ وعمي هو.
{وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ} أي: المستهزئين بدين الله، وبكتابه، وبرسوله، وبالمؤمنين. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله؛ حتى سخر من أهلها. هذا؛ وبين سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم: أن كل إنسان سيندم بعد الموت، ويتحسر، سواء أكان محسنا، أم مسيئا. وخذ ما يلي، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يموت إلاّ ندم» .
قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟! قال: «إن كان محسنا؛ ندم ألاّ يكون ازداد، وإن كان مسيئا؛ ندم ألاّ يكون نزع» . رواه الترمذي، والبيهقي في الزهد، ومعنى نزع: كف عن المعاصي والشهوات.
الإعراب: {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {تَقُولَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} . {نَفْسٌ:} فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَقُولَ} في محل جر بإضافة مفعول لأجله محذوف، التقدير: حذر أن تقول، وعامله الفعل:(اتبعوا) أو (أنيبوا)، وقدر كثيرون عاملا محذوفا، ولا حاجة لذلك مع وجود عامل، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لئلا تقول، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(اتبعوا). هذا؛ وقيل: إن التقدير: ومن قبل أن تقول. والأول قول البصريين، والثاني قول الكوفيين. ومثل هذه الآية قول عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته. وهو الشاهد رقم (48) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
نزلتم منزل الأضياف منّا
…
فعجّلنا القرى أن تشتمونا
وابن هشام أيد البصريين. قال: وقول الكوفيين فيه تعسف من جهة حذف شيئين، وهما: لام العلة، ولا النافية مع إمكان حذف شيء واحد، وهو لفظ: حذر، ونحوه. (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (حسرتا): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وقلبت ياء المتكلم ألفا، فقلبت الكسرة فتحة لمناسبتها. هذا؛ وقرئ:«(يا حسرتي)» على الأصل، وقرئ:«(يا حسرتاي)» بإلحاق ألف الندبة، وهي شاذة بعيدة، وقد وجهت هذه القراءة على أن الياء زيدت بعد الألف المنقلبة. وقال آخرون:
بل الألف زائدة. وهي أبعد لما فيه من الفصل بين المضاف، والمضاف إليه. انتهى. أبو البقاء.
والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {عَلى:} حرف جر. {ما:} مصدرية. {فَرَّطْتُ:}
فعل، وفاعل. {فِي جَنْبِ:} متعلقان به، و {جَنْبِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. و {ما} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} التقدير: على تفريطي. والجار والمجرور متعلقان ب: (حسرتي)؛ لأنه مصدر. {وَإِنْ:} الواو: واو الحال. (إن): مخففة من الثقيلة مهملة عند البصريين، ونافية عند الكوفيين. {كُنْتُ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه.
{لَمِنَ:} اللام: هي الفارقة بين المخففة، والنافية عند البصريين، وهي بمعنى: إلا عند الكوفيين.
(من الساخرين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل نصب حال من تاء الفاعل. والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ ومثل الآية في وجهي إعرابها قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [420] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]
أمسى أبان ذليلا بعد عزّته
…
وما أبان لمن أعلاج سودان
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)}
الشرح: {أَوْ تَقُولَ} أي: النفس. {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي:} أرشدني إلى دينه، وطاعته.
{لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: الشرك، والمعاصي. وهذا القول قول صدق، وهو قريب من
احتجاج المشركين فيما أخبر الله عنهم في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا..} .
إلخ رقم [148] من سورة (الأنعام) فهي كلمة حق أريد بها باطل، كما قال علي-كرم الله وجهه- لمن قال من الخوارج: لا حكم إلا الله.
قال الشيخ الإمام أبو منصور-رحمه الله تعالى-: هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم:{لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ} يقولون: لو وفقنا الله للهداية، وأعطانا الهدى؛ لدعوناكم إليه، ولكن علم منا اختيار الضلالة، والغواية، فخذلنا، ولم يوفقنا. والمعتزلة يقولون: بل هداهم الله، وأعطاهم التوفيق، لكنهم لم يهتدوا. والحاصل: أن عند الله لطفا؛ من أعطي ذلك؛ اهتدى، وهو التوفيق، والعصمة، ومن لم يعطه؛ ضل، وغوى، وكان استحبابه العذاب، وتضييعه الحق بعدما مكن من تحصيله لذلك. انتهى. نسفي.
الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {تَقُولَ:} معطوف على سابقه، وداخل في تأويله على الاعتبارين، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى النفس. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {هَدانِي:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{أَنَّ،} وانظر محل المصدر المؤول من (أن) واسمها وخبرها في الآية رقم [47]. {لَكُنْتُ:} اللام: واقعة في جواب {لَوْ} .
(كنت): فعل ماض ناقص، والتاء اسمه. {مِنَ الْمُتَّقِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان)، والجملة الفعلية جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول.
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)}
الشرح: {أَوْ تَقُولَ} أي: النفس المفرطة في طاعة الله. {حِينَ تَرَى الْعَذابَ:} تشاهد العذاب عيانا يوم القيامة. {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} أي: رجعة إلى الدنيا. تمنوا حين لا ينفعهم التمني، والفعل: كر، يكر من باب: دخل. والكرة في الأصل مصدر، والكر، والكرة: الرجوع، والرجعة، والمراد به هنا: المرة من ذلك. {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ:} الموحدين لله، الطائعين له.
وانظر شرح {حِينَ} في الآية رقم [44] من سورة (يس)، أو رقم [88] من سورة (ص).
الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {تَقُولَ:} معطوف على ما قبله، وداخل في تأويله على الاعتبارين. والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى النفس. {حِينَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {تَرَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى النفس أيضا. {الْعَذابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{حِينَ} إليها.
{لَوْ:} حرف تمنّ. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف
خبر: {أَنَّ} تقدم على اسمها. {كَرَّةً:} اسمها المؤخر، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، التقدير: فلو حصل لنا وقوع كرة. {فَأَكُونَ:}
الفاء: للسببية. (أكون): فعل مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» . {مِنَ الْمُحْسِنِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر «أكون» ، و «أن» المضمرة، والفعل (أكون) في تأويل مصدر معطوف بالفاء على:{كَرَّةً} . هذا؛ وأجيز اعتبار {لَوْ} شرطية فيكون جوابها محذوفا دل عليه: {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ويقدر: لكنا محسنين، والكلام على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، ولهذا نفى ابن هشام أن يكون:(أكون) نصب جوابا ل: {لَوْ؛} ولذا قال: ولا دليل في هذا لجواز أن يكون النصب في: (أكون) مثله في قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ..} . إلخ رقم [51] من سورة (الشورى)، وقول ميسون: وهو الشاهد رقم [473] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الوافر]
ولبس عباءة وتقرّ عيني
…
أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
وأنشد الفراء قول الآخر: [الطويل] فمالك منها غير ذكرى وخشية
…
وتسأل عن ركبانها أين يمّموا؟
فنصب «تسأل» على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فما لك منها إلا أن تذكر.
{بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاِسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)}
الشرح: {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي:} قال الزجاج: {بَلى} جواب النفي، وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي:} ما هداني، وكأن هذا القائل قال: ما هديت، فقيل:
بلى قد بين لك طريق الهدى، فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. والمراد:
ب: {آياتِي} آيات القرآن. وقيل: عنى بالآيات المعجزات؛ أي: وضح الدليل، فأنكرته، وكذبته. {وَاسْتَكْبَرْتَ} أي: عن الإيمان، وكنت من الجاحدين. قال الصاوي: إن الكافر أولا يتحسر، ثم يحتج بحجج واهية، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا، ولو ردّ لعاد إلى ضلاله، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} . {وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ:} حيث لم تصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ولم تهتد بهديه، ولم تأخذ بتعاليمه.
هذا؛ وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: هؤلاء أصناف، صنف منهم قال:{يا حَسْرَتى..} . إلخ، وصنف منهم قال:{لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي..} . إلخ، وقال آخر:{لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً..} . إلخ، فقال الله ردّا لكلامهم:{بَلى قَدْ جاءَتْكَ} .
وقال النسفي: كأن الله يقول: بلى قد جاءتك آياتي، وبينات لك الهداية من الغواية، وسبيل الحق من الباطل، ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية، واختيار الحق على الباطل، ولكن
تركت ذلك، وضيعته، واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرتك به، فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك. انتهى.
هذا؛ وقال تعالى: {وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ} بالخطاب للمذكر؛ لأن النفس تقع على الذكر، والأنثى. يقال: ثلاثة أنفس. وقال المبرد: تقول العرب: نفس واحد؛ أي: إنسان واحد.
وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: «(قد جاءتك آياتي، فكذّبت بها، واستكبرت، وكنت من الكافرين)» . وقرأ الأعمش: «بلى قد جاءته» وهذا يدل على التذكير. انتهى. قرطبي. والقراءتان غير سبعيتين.
الإعراب: {بَلى:} حرف جواب. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{جاءَتْكَ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به. {آياتِي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {فَكَذَّبْتَ:} فعل، وفاعل. {بِها:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وأيضا: جملة: {وَاسْتَكْبَرْتَ} مع المتعلق المحذوف معطوفة عليها، وكذلك جملة:
{وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} معطوفة أيضا عليها. تأمل، وتدبر. وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
الشرح: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ} أي: نسبوا له الشريك، والولد، والصاحبة، ووصفوه بما لا يليق به. هذا؛ والزمخشري ذكر هنا كلاما نابعا من مذهبه في الاعتزال، وقد رد عليه الإمام ناصر الدين المالكي أفظع رد. {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ:} مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته، قال تعالى في سورة (طه) رقم [102]:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً،} وقال تعالى في سورة (عبس): {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} . {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: عن الإيمان، والعبادة لله تعالى. وانظر شرح (المثوى) في الآية رقم [32]. هذا؛ وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الكبر بطر الحق، وغمط الناس؛ أي: احتقارهم، وازدراؤهم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [85] من سورة (ص)، وخذ ما يلي:
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذّرّ في صور الرجال، يغشاهم الذّلّ من كلّ مكان، يساقون إلى
سجن في جهنم، يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النّار، طينة الخبال». رواه النسائي والترمذي.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {تَرَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{كَذَبُوا عَلَى اللهِ} صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:
{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وُجُوهُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُسْوَدَّةٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان على اعتبار:
{تَرَى} علمية، أو في محل نصب حال من الموصول على اعتبارها بصرية، والرابط: الضمير فقط. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [32] فالإعراب لا يتغير إفرادا، وجملا.
الشرح: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ} أي: بفلاحهم، وفوزهم بسعادتهم، وتحصيل مطلوبهم، وهو الجنة دار القرار. يقال: فاز بكذا: إذا أفلح به، وظفر بمراده. أو المعنى:
ينجيهم بسبب منجاتهم من عذاب الله، وسخطه، ونقمته من قوله تعالى:{فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} رقم [188] سورة (آل عمران) أي: منجاة منه؛ لأن النجاة من أعظم الفلاح. وسبب منجاتهم العمل الصالح؛ لهذا فسر ابن عباس-رضي الله عنهما-المفازة بالأعمال الحسنة، ويجوز بسبب فلاحهم؛ لأن العمل الصالح سبب الفلاح، وهو دخول الجنة.
هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: «يحشر الله مع كلّ امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة، وأطيب ريح، فكلّما كان رعب، أو خوف، قال له: لا ترع؛ فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به، فإذا كثر ذلك عليه، قال: فما أحسنك، فمن أنت؟! فيقول: أما تعرفني؟! أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي، فو الله لأحملنّك، ولأدفعنّ عنك! فهي التي قال الله: {وَيُنَجِّي اللهُ..}. إلخ» . {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ:} المكروه. {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: يوم القيامة من هول، أو مكروه يصيبهم. هذا؛ ولا تنس: أن الله ذكر ما للمتقين من النجاة، والفوز برضاه بعد ما ذكر ما للكاذبين، والمغترين من سواد الوجوه، والاستقرار في جهنم، وبئس المصير. وهذا من باب المقابلة التي ذكرتها مرارا. هذا؛ والفعل {يَحْزَنُونَ} في هذه الآية من باب: فرح، وطرب فهو لازم، ويأتي من باب: دخل، وقتل، فيكون متعديا، كما يكون متعديا إذا أتى من الرباعي.
الإعراب: {وَيُنَجِّي:} الواو: حرف عطف. (ينجي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} مفعول به. {اِتَّقَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِمَفازَتِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (ينجي)، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، وجملة:
{وَيُنَجِّي..} . إلخ معطوفة على جملة: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {لا:}
نافية. {يَمَسُّهُمُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به. {السُّوءُ:} فاعله، والجملة الفعلية تفسير للمفازة على التفسير الأول فيها، وفي محل نصب حال من الموصول على التفسير الثاني فيها، وأجاز الزمخشري اعتبارها مستأنفة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {بِمَفازَتِهِمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَحْزَنُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المنصوب؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة من وجه.
{اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)}
الشرح: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: مما هو كائن، أو يكون في الدنيا، والآخرة، وهو على كل شيء وكيل: حفيظ، ومتولي جميع أمور خلقه، فأنتم يا بني آدم من جملة هذه المخلوقات، ففوضوا أموركم إليه، واعتمدوا في كل شؤونكم عليه، واعبدوه حق العبادة ما استطعتم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {خالِقُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، و {خالِقُ} مضاف، و {كُلِّ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. (هو): مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {وَكِيلٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {وَكِيلٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: مفاتيح خزائن السموات، والأرض، واحدها: مقلاد، مثل: مفتاح. وقيل: جمع: إقليد على غير قياس. قيل: هو فارسي معرب، قال الراجز:[الرجز]
لم يؤذها الدّيك بصوت تغريد
…
ولم يعالج علقها بإقليد
أو هو جمع: مقليد، مثل: منديل، ومناديل، وعلى جميع الاعتبارات في الكلام استعارة بديعية. نحو ذلك: بيد فلان مفتاح هذا الأمر. وليس ثمّ مفتاح، وإنما هو عبارة عن شدة تمكنه من ذلك الشيء. والمعنى: أن الله تعالى مالكهما، وحافظهما، ومدبر شؤونهما. وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى:{لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فقال: «يا عثمان! ما سألني عنها أحد قبلك! تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر، والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير» . والمعنى: على هذا: أنّ لله هذه الكلمات يوحد بها، ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات، والأرض، من تكلم بها؛ فقد أصابه.
هذا؛ وقيل: مقاليد السموات: خزائن الرحمة، والرزق، والمطر، ومقاليد الأرض: ما يخرج منها من نبات.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ} أي: بآيات القرآن الظاهرة، والمعجزات الباهرة. {أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} أي: خسروا دنياهم، وآخرتهم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [15].
الإعراب: {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَقالِيدُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معترضة كما ستعرفه، و {مَقالِيدُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه.
(الأرض): معطوف على ما قبله. {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): مبتدأ، وجملة:
{كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ} صلة الموصول، لا محل لها. {أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [33]. والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} .
إلخ معطوفة على جملة: (ينجي
…
) إلخ فهي من عطف أحد المتقابلين على الآخر، وإن كان المعطوف جملة اسمية، والمعطوف عليه جملة فعلية، فهذا لا يمتنع. غايته: أنه خال عن حسنه. انتهى. جمل. وبه قال ابن هشام في المغني، وهذا يعني: أن ما بينهما معترض لا محل له.
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)}
الشرح: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي..} . إلخ: أي: أبعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده بالألوهية أعبد غيره؟! ثم وصفهم بالجهل، وهو شر ما يوصف به إنسان، وذلك أن كفار قريش دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام، وقالوا: هو دين آبائك، فوصفهم بالجهل؛ لأن الدليل القاطع قد قام بأن الله هو المستحق للعبادة، فمن عبد غيره فهو جاهل.
هذا؛ وقرئ {تَأْمُرُونِّي} بتشديد النون، وتخفيفها، فعلى الأولى تكون نون الوقاية قد أدغمت في نون الرفع بعد تسكينها، وعلى الثاني تكون قد حذفت إحدى النونين على اختلاف في
المحذوف منهما، انظر الكلام على الشاهد رقم [1049] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» .
هذا؛ ويجري في: (تحاجوني) من سورة (الأنعام) رقم [80] ما يجري في {تَأْمُرُونِّي} قراءة، وحذفا. هذا؛ وانظر شرح:«أمر» في الآية رقم [12]، وشرح:«العبادة» في الآية رقم [60] من سورة (يس)، وشرح:«الجهل» و «الجاهل» في الآية رقم [72] من سورة (الأحزاب). تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» . {أَفَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: صلة. (غير). في إعرابه أوجه: أحدها: هو منصوب ب: {أَعْبُدُ} مقدما عليه، وقد ضعف هذا الوجه ابن هشام من حيث كان التقدير: أن أعبد، فعند ذلك يفضي إلى تقديم الصلة على الموصول. وليس بشيء؛ لأن «أن» ليست في اللفظ، فلا يبقى عملها، فلو قدرنا بقاء حكمها؛ لأفضى إلى حذف الموصول، وبقاء صلته، وذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. والوجه الثاني: أن يكون منصوبا بالفعل بعده، و {أَعْبُدُ} بدلا منه، بدل اشتمال، وهو الذي أيده ابن هشام، والتقدير: أتأمروني بعبادة غير الله؟! وقدره ابن هشام: أتأمروني بغير الله عبادته. والثالث: أن (غير) منصوب بفعل محذوف؛ أي: أفتلزموني غير الله، وفسره ما بعده؟ وقيل: لا موضع ل: {أَعْبُدُ} من إعراب. وقيل: هو حال، والعمل على الوجهين الأولين. انتهى. أبو البقاء. وينبغي أن تعلم: أن الفعل: {أَعْبُدُ} على الوجهين الأولين مؤول بالمصدر بعد حذف «أن» على مثال ما رأيت في الآية رقم [24] من سورة (الروم): {وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ..} . إلخ هذا؛ وقرئ بنصب: {أَعْبُدُ،} ومثل الآية الكريمة في كل شيء قول طرفة بن العبد، وهو الشاهد رقم (714) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، وهو من معلقته رقم [60]:[الطويل]
ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي؟
و (غير) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {تَأْمُرُونِّي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به.
{أَعْبُدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» وانظر محل الفعل بمفرده، ومحله مع فاعله فيما تقدم. {أَيُّهَا:} منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء المحذوفة، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه.
{الْجاهِلُونَ:} نعت ل: (أي): هنا؛ لأنه مشتق، فهو مرفوع تبعا للفظه، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون بدل من التنوين في الاسم المفرد. هذا؛ والآية كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ:} يا محمد. {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} أي: من الرسل. {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي: لئن أشركت يا محمد ليبطلن ويفسدن عملك الصالح. {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي: ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك. وهذا على سبيل الفرض، والتقدير، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإقامة صرح الإيمان، والتوحيد. والكلام وارد على طريقة الفرض لتهييج سيد الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك، وقبحه. انتهى. صفوة التفاسير. وقال النسفي: وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون؛ لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد: به غيره، ولأنه على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها. انتهى.
هذا؛ وفي المصباح المنير: حبط العمل، يحبط من باب: تعب حبطا بالسكون، وحبوطا:
فسد، وهدر. وحبط، يحبط من باب: ضرب لغة، وقرئ بها في الشواذ، وحبط دم فلان من باب: تعب: هدر. وأحبطت العمل، والدم (بالألف) أهدرته. انتهى. جمل. وفي مختار الصحاح: والحبط (بفتحتين): أن تأكل الماشية، فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها. وقيل: هو أن ينتفخ بطنها عن أكل الذرق، وهو الحندقوق. وفي الحديث «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا، أو يلمّ» . انتهى. واسم هذا الداء: حباط، و «حبط» لازم، ويتعدى بالهمزة.
هذا؛ وأصل الوحي: الإشارة السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل: موسى، وعيسى، ومحمد صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، والوحي أيضا: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك. وتسخير الطير لما خلق له إلهام.
والوحي إلى أم موسى إلهام، والوحي إلى النحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام أيضا. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [68] من سورة (النحل)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
قال القشيري: فمن ارتد عن الإسلام لم تنفعه طاعاته السابقة، ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر، ولهذا قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [217]:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..} . إلخ فالمطلق ها هنا محمول على المقيد، ولهذا قلنا: من حج ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج. قلت: هذا مذهب الشافعي، وعند مالك تجب عليه الإعادة. انتهى. قرطبي.
أقول: لا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! فأكثر المسلمين يعتبرون مرتدين بهذا المعنى في هذه الأيام، فالذي يشتم الخالق الرازق، والذي يستحل الحرام، والذي ينكر ما عرف من الدين في الضرورة، والذي، والذي
…
إلخ وحدث ولا حرج.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أُوحِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور في محل نائب فاعله. وقيل: نائب الفاعل محذوف، يدل عليه السياق، التقدير:، أوحي إليك التوحيد. وقيل: نائب الفاعل جملة القسم، وجوابه الآتي، ويكون جاريا على القاعدة:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» . وهذا يصح على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، وقد أشرت إليه مرارا فيما تقدم. {وَإِلَى الَّذِينَ:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما. {مِنْ قَبْلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والكلام:{وَلَقَدْ..} . إلخ مستأنف لا محل له.
{لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {أَشْرَكْتَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيَحْبَطَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم المقدر. (يحبطن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له. {عَمَلُكَ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب القسم، المدلول عليه باللام. والقسم وجوابه في محل رفع نائب فاعل:{أُوحِيَ،} أو في محل نصب مفعول به حسب ما رأيت فيما تقدم. {وَلَتَكُونَنَّ:} معطوف على ما قبله مبني على الفتح مثله، وهو ناقص، فاسمه مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {مِنَ الْخاسِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبره.
هذا؛ وحذف جواب الشرط لدلالة القسم عليه على القاعدة: «إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-: [الرجز]
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
{بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ (66)}
الشرح: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ:} هذا رد لما طلبوا منه، وأمروه به من عبادة آلهتهم، كأنه قال له: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن عبدت؛ فاعبد الله. فحذف الشرط، وجعل تقديم المفعول عوضا عنه. انتهى. نسفي تبعا للزمخشري. وانظر الإعراب. {وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ:} الله على ما أنعم به عليك؛ حيث جعلك سيد ولد آدم، وختم بك المرسلين، وجعلك رحمة للناس أجمعين. والمخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعم كل عاقل من بني آدم.
الإعراب: {بَلِ:} حرف إضراب. {اللهَ:} منصوب على التعظيم بفعل محذوف، أو بالفعل المذكور بعده. هذا؛ وقال ابن هشام في مغنيه: مسألة الفاء في نحو {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} جواب ل: «أمّا» مقدرة عند بعضهم، وفيه إجحاف. وزائدة عند الفارسي، وجماعة، وفيه بعد. وعاطفة عند غيره، والأصل: تنبه، فاعبد الله، ثم حذف تنبه، وقدم المنصوب على الفاء إصلاحا للفظ، كيلا تقع صدرا، كما قال الجميع في الفاء في نحو:«أما زيدا فاضرب» إذ الأصل: مهما يكن من شيء؛ فاضرب زيدا. (اعبد): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي رأيت تقديرها، والكلام كله مستأنف، لا محل له. {وَكُنْ:} فعل أمر ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {مِنَ الشّاكِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: (كن)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ:} قال المبرد: ما عظموه حق عظمته، من قولك: فلان عظيم القدر. قال النحاس: والمعنى: على هذا: وما عظموه حق عظمته؛ إذا عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء، ومالكها. هذا؛ والفعل:«قدر» يأتي من باب: ضرب، ونصر، وفرح، ولا تنس: أن هذه الجملة وردت في سورة (الأنعام) برقم [91]، ووردت في سورة (الحج) برقم [74]، ووردت هنا كما ترى، وأذكر: أن آية (الأنعام) نزلت ردّا على اليهود الذين قالوا:
{ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} والآيتان الأخريان نزلتا ردّا على كفار قريش الذين عبدوا مع الله أحقر خلقه. انظر شرح الآيتين في سورة (الأنعام) وسورة (الحج) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ:} قبض الأرض عبارة عن قدرته، وإحاطته بجميع مخلوقاته. يقال: ما فلان إلا في قبضتي، بمعنى: ما فلان إلا في قدرتي، والناس يقولون:
الأشياء في قبضته، يريدون: في ملكه، وقدرته. وقد يكون معنى القبض، والطي إفناء الشيء، وإذهابه، فيحتمل أن يكون المعنى هنا: والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة، والمراد:
بالأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان: قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً} ولأن الموضع موضع تفخيم، وهو مقتض للمبالغة.
{وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ:} ليس يريد به طيّا بعلاج، وانتصاب، وإنما المراد بذلك:
الفناء، والذهاب. يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره، وانطوى عنا دهر بمعنى: المضي، والذهاب. واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى: القدرة، والملك، ومنه قوله تعالى:{أَوْ ما}
{مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} يريد به الملك، وقال تعالى سورة (الحاقة) الآية رقم [45]:{لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي:
لأخذنا قوته وقدرته. وقال الفراء والمبرد: اليمين القوة والقدرة، قال الشاعر:[الطويل]
ولما رأيت الشّمس أشرق نورها
…
تناولت منها حاجتي بيميني
قتلت شنيفا، ثمّ فاران بعده
…
وكانا على الآيات غير أمين
وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] من سورة (الصافات). وإنما خص يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء في كل زمان، ومكان؛ لأن الدعاوى تنقطع في ذلك اليوم، كما قال تعالى في سورة الانفطار:{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ،} وقال في سورة الفاتحة: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقوله تعالى في سورة (غافر) رقم [16]: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ} .
وإنما قدم الأرض بالذكر لمباشرة الخلق لها، ومعرفتهم بحقيقتها، ولما كان في دار الدنيا من يدعي الملك، والقهر، والعظمة، والقدرة دون الآخرة؛ فالأمر فيها لله وحده ظاهرا، وباطنا.
قال في يوم القيامة: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} .
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: جاء جبريل-عليه السلام-إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد! إن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» }. وفي رواية «والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن» . وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه تعجبا، وتصديقا له. ثم قرأ:{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . متفق عليه، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» . متفق عليه أيضا.
{سُبْحانَهُ:} تنزه، وتقدس، وتعاظم عن الذي يشركونه معه من الحجارة، والأوثان. هذا؛ وفي الجامع الصغير عن أبي يعلى، وابن السني، عن الحسين السّبط-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أمان لأمّتي من الغرق؛ إذا ركبوا البحر أن يقولوا: {بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها..}. إلخ {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ..}. إلخ. انتهى. وآخر الآية الأولى: {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ} وآخر الثانية {يُشْرِكُونَ» }. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: من قرأ هاتين الآيتين، فعطب، أو غرق فعليّ ذلك. انتهى. جمل نقلا عن المناوي.
هذا؛ وفي الآية استعارة تمثيلية مثل لعظمته، وكمال قدرته، وحقارة الأجرام العظام؛ التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئا عظيما بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق
الاستعارة التمثيلية. هذا؛ وما قدمته من تأويل هو مذهب الخلف، وأما السلف؛ فيقولون: لله يمين، وله شمال، وله إصبع، وله عين، وله يد تليق به، فهم يأخذون بظاهر النص.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {قَدَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {اللهَ:}
منصوب على التعظيم. {حَقَّ:} نائب مفعول مطلق، و {حَقَّ} مضاف، و {قَدْرِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَالْأَرْضُ:} الواو: واو الحال. (الأرض) مبتدأ. {جَمِيعاً:}
حال من: (الأرض)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [44]. {قَبْضَتُهُ:} خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: «قبضة» ؛ لأنها بمعنى: مقبوضة، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. هذا؛ ويقرأ بنصب (قبضته) على أنه منصوب بنزع الخافض، على معنى: في قبضته، وهو متعلق خبر محذوف، وهي قراءة شاذة. «(السموات)»: مبتدأ.
{مَطْوِيّاتٌ:} خبره. {بِيَمِينِهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مَطْوِيّاتٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ ويجوز أن يكون الجار، والمجرور متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر، وأن يكونا متعلقين بمحذوف خبر ثان. هذا؛ وقرئ شاذا بكسر التاء على أنه حال متوسطة بين عاملها الظرفي الواقع خبرا، وهو (بيمينه) وبين مبتدئه، وهو:(السموات)؛ أي:
{وَالسَّماواتُ} كائنة بيمينه حال كونها {مَطْوِيّاتٌ} . وصاحب الحال إما (السموات)، أو ضميرها في الخبر، ورد المانعون ذلك بأن السموات عطف على الضمير المستتر في:{قَبْضَتُهُ؛} لأنها بمعنى: مقبوضة، و {مَطْوِيّاتٌ} حال من:(السموات)، و {بِيَمِينِهِ} ظرف متعلق ب:{مَطْوِيّاتٌ،} والتقدير: الأرض جميعا مقبوضة حال السموات كونها مطويات بيمينه، والفصل المشروط للعطف على الضمير المستتر حاصل هنا بقوله:{يَوْمَ الْقِيامَةِ} . انتهى.
حاشية الخضري على شرح ابن عقيل.
{سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق عامله محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. والفعل المقدر، والمصدر جملة فعلية مستأنفة، لا محل لها. (تعالى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى:{اللهَ} .
{عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو عن شيء يشركونه معه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير:
تعالى عن شركهم. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: لا أرى حاجة إلى المزيد عما ذكرته في سورة (النمل) رقم [87] بشأن الصور، وما يتعلق بهذه الآية من الاستثناء، وغيره، وأيضا ما ذكرته في سورة (يس) رقم [49] وما بعدها.
هذا؛ و (صعق) مات وهو مأخوذ من قولهم: صعقتهم الصاعقة، يقال: صعقه الله، فصعق.
{فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ:} يقلبون وجوههم، وأبصارهم في جميع الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب، أو ينتظرون أمر الله فيهم، وقال تعالى في سورة (ن):{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} مما يدل على أن الناس تكون لهم حالات يوم الفزع الأكبر، وقد دلت هذه الآية على أن النفخة اثنتان: الأولى للموت، والثانية للبعث، والنشور. والجمهور على أنها ثلاث: الأولى للفزع، كما قال تعالى في سورة (النمل) الآية [87]:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ..} . إلخ، والثانية للموت، والثالثة للإعادة، وبين الثانية، والثالثة أربعون سنة على الصحيح.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون-قالوا:
أربعون يوما؟ قال أبو هريرة: أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت-ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلاّ عظم واحد، وهو عجب الذنب، ومنه يركّب الخلق يوم القيامة». متفق عليه.
الإعراب: {وَنُفِخَ:} الواو: حرف استئناف. (نفخ): فعل ماض مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. (صعق): فعل ماض. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، وفيه تغليب من يعقل على من لا يعقل. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: صعق الذي يوجد في السموات. {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، فهو مثله في الإعراب. {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مستثنى من {مَنْ} قبلها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: إلا من شاء الله بقاءه حيا. وصح الاستثناء؛ لأن {مَنْ} الأولى بمعنى: الجمع، والثانية بمعنى:
البعض. {ثُمَّ:} حرف عطف. (نفخ): فعل ماض مبني للمجهول. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أُخْرى:} نائب فاعل، أو هو صفة مفعول مطلق، والنائب: الجار والمجرور، ويؤيد الأول قوله تعالى في سورة (الحاقة):{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ} . {فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ:} إعراب هذا التركيب مثل إعراب: {فَإِذا هُمْ خامِدُونَ} في سورة (يس)[29].
الشرح: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها} أي: أضاءت بعدل ربها. قاله الحسن، وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها. والمعنى واحد؛ أي: أنارت وأضاءت بعدل الله، وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات، والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض، فتشرق الأرض به. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: النور المذكور هاهنا ليس من نور الشمس، والقمر، بل هو نور يخلقه الله، فيضيء به الأرض. انتهى. قرطبي. هذا؛ وليس المراد بالأرض أرض الدنيا؛ لقوله تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} حيث تبدل أرض الدنيا بأرض جديدة يوجدها الله في ذلك الوقت؛ لتحشر عليها الناس.
{وَوُضِعَ الْكِتابُ:} قال قتادة-رحمه الله تعالى-: يريد: الكتب، والصحف؛ التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد اللوح المحفوظ. وأعتمد الأول، لقوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [49]:{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ} . {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ} أي: ليدعي الأنبياء على أممهم: أنهم بلغوهم الرسالة، وذلك: أن الله تعالى يجمع الخلائق الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم الماضية:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} فينكرون، ويقولون:{ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} فيسأل الله الأنبياء عن ذلك، فيقولون: كذبوا! قد بلغناهم، فيسألهم البينة، وهو أعلم بهم إقامة للحجة، فيقولون: أمة محمد تشهد لنا، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشهدون لهم: أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم الماضية: من أين علموا ذلك؛ وإنما كانوا بعدنا؟ فيسأل الله هذه الأمة، فيقولون:
أرسلت لنا رسولا، وأنزلت عليه كتابا مبينا، أخبرتنا فيه، بتبليغ الرسل، وأنت صادق فيما أخبرت. ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأله الله عن أمته، فيزكيهم، ويشهد بصدقهم. انتهى.
جمل. وهذا فحوى قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [143]: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .
وقال القرطبي: وقيل: المراد بالشهداء: الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله. قاله السدي. قال ابن زيد: هم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، قال تعالى في سورة (ق):{وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} فالسائق يسوقها إلى الحساب، والشهيد يشهد عليها، وهو الملك الموكل بالإنسان على ما يأتي بيانه في سورة (ق) رقم [21] إن شاء الله تعالى.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ:} بالعدل، والصدق. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ:} قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم. انتهى. كيف لا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [47]:{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [39]:
{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ..} . إلخ. هذا؛ ولا تنس: أن التعبير عن المستقبل بالأفعال الماضية إنما هو لتحقق وقوعه، وهو كثير في القرآن الكريم، وهو فن بلاغي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَأَشْرَقَتِ:} الواو: حرف عطف. (أشرقت): فعل ماض، والتاء للتأنيث.
{الْأَرْضُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {بِنُورِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (نور) مضاف، و {رَبِّها} مضاف إليه، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَوُضِعَ الْكِتابُ:} ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، (جيء): ماض مبني للمجهول. {بِالنَّبِيِّينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نائب فاعله، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{وَالشُّهَداءِ:} معطوف على ما قبله. (قضي): ماض مبني للمجهول. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو نائب الفاعل أيضا، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر العائد، إلى المصدر المفهوم من الفعل، وهذا وجه آخر، التقدير: وقضي القضاء بينهم ملتبسا بالحق. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [54] من سورة (سبأ) ففي الآيتين شبه شديد، والله ولي التوفيق. {وَهُمْ:} الواو:
واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية.
{يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)}
الشرح: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ} أي: يجازى كل إنسان بما عمل من خير، أو شر، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ} أي: في الدنيا. ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد؛ ومع ذلك فتشهد الكتب، والملائكة، والرسل، كما رأيت في الآية السابقة إلزاما للحجة، وقطعا للمعذرة.
الإعراب: {وَوُفِّيَتْ:} الواو: حرف عطف. {وَوُفِّيَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {كُلُّ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول. و {كُلُّ} مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه.
{ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {عَمِلَتْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{نَفْسٍ} والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيئا عملته، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: عملها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَهُوَ:} الواو:
واو الحال. (هو): مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ} والرابط: الواو، والضمير الذي ترى تقديره؛ لأن المعنى كل إنسان يوفى جزاء عمله.
{بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} و (ما) تحتمل الوجوه الثلاثة المذكورة في سابقتها، فعلى الأولين: التقدير: أعلم بالذي، أو: بشيء يفعلونه. وعلى الثالث: التقدير: أعلم بفعلهم.
الشرح: {وَسِيقَ الَّذِينَ..} . إلخ: يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء كيف يساقون إلى النار سوقا عنيفا، بزجر وتهديد ووعيد، كما قال تعالى في سورة (الطور):{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي: يدفعون إليها دفعا شديدا، وهم عطاش، كما قال تعالى في سورة (مريم):{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} رقم [86 و 87] وهم في تلك الحال صم، بكم، عمي، كما قال جل ذكره:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} رقم [97] من سورة (الإسراء). هذا؛ والزمر: الجماعات، واحدتها: زمرة، كظلمة، وغرفة. وقال الأخفش، وأبو عبيدة:{زُمَراً} جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، قال الشاعر:[الرمل]
وترى الناس إلى منزله
…
زمرا تنتابه بعد زمر
وقال آخر: [الرجز]
إنّ العفاة بالسّيوب قد غمر
…
حتّى احزألّت زمر بعد زمر
{حَتّى إِذا جاؤُها} أي: اقتربوا منها؛ ليدخلوا فيها؛ {فُتِحَتْ أَبْوابُها} أي: السبعة، وكانت مغلقة قبل ذلك، وهي التي يطلق عليها لقب: الدركات، بينما يطلق على الجنة، ومنازلها لقب:
الدرجات، فالدرك ما كان إلى أسفل، والدرج ما كان إلى أعلى، ودركات النار: طبقاتها، وهي سبع؛ العليا لعصاة المؤمنين، وهي جهنم، تكون بعد خروجهم منها خرابا يبابا، لا نار فيها.
والثانية: لظى للنصارى، والثالثة: الحطمة لليهود، والرابعة: السعير للصابئين، والخامسة: سقر للمجوس، والسادسة: الجحيم لأهل الشرك، والسابعة: الهاوية، وهي الدرك الأسفل للمنافقين. هذا؛ وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر، كما هو وارد في آيات القرآن، كما يطلق لفظ جهنم على كلّ منها. ويكثر استعمال لفظ:«ويل» في التهديد، والوعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الهمزة):{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ،} وقوله في سورة (الماعون): {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ} ويفسر بالهلاك، والوبال، كما يفسر بأنه واد من أودية جهنم، وهو يفيد: أنه يطلق على جميع دركات النار. وانظر الدرجات في الآية التالية رقم [73].
{وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها} أي: حفظة جهنم، وهم الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها، جمع:
خازن، مثل: سدنة، وسادن، ويجمع أيضا على: خزّان، وخزّن، يقولون لهم ما يلي توبيخا وتقريعا:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ:} بشر من جنسكم. وانظر تفصيل ذلك في الآية رقم [1] من سورة (الأحزاب). {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ} أي: الكتب المنزلة عليهم من ربكم. {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي: يخوفونكم يوم القيامة؛ الذي تلاقون فيه ربكم؛ ليحاسبكم على أعمالكم.
{قالُوا بَلى} أي: قد جاءتنا رسل ربنا، وخوفونا هذا اليوم، وما فيه من أهوال! وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم. {وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} أي: ولكن وجبت علينا كلمة الله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} بسوء أعمالنا، كما قالوا:{قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنّا قَوْماً ضالِّينَ} رقم [107] من سورة (المؤمنون)، فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال.
الإعراب: {وَسِيقَ:} الواو: حرف عطف. (سيق): فعل ماض مبني للمجهول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {إِلى جَهَنَّمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (سيق)، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {زُمَراً:} حال من واو الجماعة. {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:}
انظر الآية رقم [45]. {جاؤُها:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {فُتِحَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {أَبْوابُها:} نائب فاعله، و (ها):
في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. هذا؛ ويعتبر الأخفش:(إذا) في مثل هذه الآية مجرورة ب: {حَتّى،} وقد رده ابن هشام في المغني، وعلى كل، فهي غاية لمحذوف، التقدير: سيقوا؛ حتى إذا جاؤوها.
{وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {خَزَنَتُها:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَأْتِكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والكاف مفعول به.
{رُسُلٌ:} فاعله. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {رُسُلٌ} . {يَتْلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {آياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {آياتِ} مضاف، و {رَبِّكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{يَتْلُونَ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: {رُسُلٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة {وَقالَ..}. إلخ معطوفة على جواب {إِذا} لا محل لها مثله. (ينذرونكم): فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به أول. {لِقاءَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {يَوْمِكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة يومكم، أو بدل منه، والأول أقوى، والهاء حرف تنبيه لا محل له، وجملة (ينذرونكم.. إلخ) معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {بَلى:} حرف جواب متضمن معنى الجملة في محل نصب مقول القول. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {حَقَّتْ:}
فعل ماض، والتاء للتأنيث. {كَلِمَةُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه. {عَلَى الْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَلكِنْ حَقَّتْ..} . إلخ معطوفة على كلمة {بَلى،} فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)}
الشرح: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ:} والقائل هو الله تعالى، أو الملائكة، وهو الأظهر.
{خالِدِينَ فِيها:} ماكثين فيها مخلدين لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها. قال وهب:
تستقبلهم الزبانية بمقامع من نار، فيدفعونهم بمقامعهم، فإنه ليقع في الدفعة الواحدة إلى النار بعدد ربيعة، ومضر. {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ:} بئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق! وانظر الآية رقم [60].
الإعراب: {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَبْوابَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة،
وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي. و {أَبْوابَ} مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، وجملة:
{اُدْخُلُوا..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ} . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [45] من سورة (يس) إن أردت الزيادة. {خالِدِينَ:} حال مقدرة من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وانظر أنواع الحال في الآية رقم [65] من سورة (الأحزاب) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {فِيها:}
جار ومجرور متعلقان ب: {خالِدِينَ،} وجملة: {قِيلَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَبِئْسَ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير:
وإذا كان ذلك حاصلا لكم، وواقعا؛ فبئس. (بئس): فعل ماض جامد دال على إنشاء الذم.
{مَثْوَى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للتعذر، و {مَثْوَى} مضاف، و {الْكافِرِينَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: فبئس مثوى المتكبرين جهنم! والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء.
تنبيه: قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: اللام في: {الْمُتَكَبِّرِينَ} للجنس، والمخصوص بالذم محذوف سبق ذكره، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها؛ لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم، وسائر مقابحهم مسببة عنه، كما قال عليه الصلاة والسلام:«إنّ الله تعالى إذا خلق العبد للجنة؛ استعمله بعمل أهل الجنة؛ حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار؛ استعمله بعمل أهل النار؛ حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخل به النّار» . انتهى.
الشرح: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا..} . إلخ: يعني: جماعات من الشهداء، والزهاد، والعلماء، والقراء وغيرهم ممن اتقى الله، وعمل بطاعته. وقال تعالى في حق الفريقين:(سيق) بلفظ واحد، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي، والهوان، كما يفعل بالأسارى، والخارجين على السلطان؛ إذا سيقوا إلى حبس، أو قتل، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، كما يفعل بمن يشرف، ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين!. انتهى. قرطبي وشبيه به في الكشاف.
{حَتّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} أي: الثمانية، وهي التي يطلق عليها اسم الدرجات، وهي:
دار الجلال، ودار السّلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم، ودار الكرامة، وهي المعبّر عنها بدار المقامة بقوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [35] حكاية عن قول المؤمنين:{الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ..} . إلخ. وانظر دركات النار في الآية السابقة. هذا؛ واقترنت جملة: {وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} بالواو هنا، ولم تقترن بحق أهل النار، وقد اختلف في هذه الواو، فقيل: هي عاطفة على جملة محذوفة هي جواب {إِذا} التقدير: سعدوا، وفتحت. قاله المبرد، وغيره. وحذف الجواب بليغ في كلام العرب. قال امرؤ القيس:[الطويل]
فلو أنّها نفس تموت جميعة
…
ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب (لو)؛ إذ التقدير: لكان أروح. وقيل: الواو زائدة عند الكوفيين، وهو خطأ عند البصريين، وانظر رقم [104] من سورة (الصافات). وقيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى، والتقدير: حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله تعالى في سورة (ص) رقم [50]: {جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ} وحذفت الواو في قصة أهل النار؛ لأنهم وقفوا على النار، وفتحت أبوابها بعد وقوفهم إذلالا، وترويعا لهم، ذكره المهدوي، وحكى معناه النحاس قبله. انتهى. قرطبي. أقول: وهذا يعني: أن الواو واو الحال، و «قد» بعدها مقدرة، والمعنى يؤيده، بل لا محيص عنه.
هذا؛ وقيل: إن الواو واو الثمانية، وذلك من عادة قريش: أنهم يعدون من الواحد، فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، فإذا بلغوا السبعة؛ قالوا: وثمانية، قاله أبو بكر بن عياش. قال الله تعالى في سورة (الحاقة) رقم [7]:{سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً} وقال في سورة (التوبة) رقم [112]: {التّائِبُونَ الْعابِدُونَ} ثم قال في الثامن: {وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ،} وقال في سورة (الكهف) رقم [22]: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ،} وقال في سورة (التحريم) رقم [5]{ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً} . انتهى. قرطبي.
ثم قال: قلت: وقد استدل بهذا من قال: إن أبواب الجنة ثمانية، وذكروا حديث عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يتوضّأ، فيبلّغ، أو يسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيّها شاء» . خرجه مسلم وغيره. انتهى.
هذا؛ وقد ذكر ابن هشام هذه الواو في أقسام الواو؛ حيث قال: والتاسع: واو الثمانية ذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن النحويين الضعفاء كابن خالويه، ومن المفسرين كالثعلبي، وزعموا: أن العرب إذا عدوا؛ قالوا: ستة، سبعة، وثمانية، إيذانا بأن السبعة عدد تام، وأن ما بعدها عدد مستأنف، واستدلوا على ذلك بآيات، وسرد الآيات التي ذكرتها لك
آنفا، وفنّد دعواهم فيها، وقال في هذه الآية: وأقول لو كان لواو الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها؛ إذ ليس فيها عدد ألبتّة، وإنما ذكر فيها الأبواب، وهي جمع لا يدل على عدد خاص، ثم الواو ليست داخلة عليه، بل على جملة هو فيها، وقد مر: أن الواو مقحمة في: {وَفُتِحَتْ} عند قوم، وعاطفة عند آخرين. وقيل. هي واو الحال؛ أي: جاؤوها مفتّحة أبوابها، كما صرح ب:
{مُفَتَّحَةً} حالا في {جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ} وهذا قول المبرد، والفارسي، وجماعة. قيل:
وإنما فتحت لهم قبل مجيئهم إكراما لهم عن أن يقفوا حتى تفتح لهم. انتهى. مغني اللبيب بتصرف.
{وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ..} . إلخ: تقول لهم خزنة الجنة هذا بعد وصولهم إلى أبواب الجنة، وبعد مجاوزة الصراط، وحبسهم على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص ما كان بينهم من مظالم الدنيا؛ حتى إذا هذّبوا، ونقّوا؛ أذن لهم في دخول الجنة، وإن أحدهم لأعرف بمنزله في الجنة منه بمنزله الذي كان له في الدنيا. {طِبْتُمْ} أي: طابت أعمالكم، وأقوالكم، وسعيكم، وطاب جزاؤكم. {فَادْخُلُوها خالِدِينَ:} ماكثين مقيمين، لا تبغون عنها حولا. وفي سوقهم إلى الجنة زمرا، وفي دخولهم زمرا، خذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أوّل زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر، والّذين يلونهم على أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوّة، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء» .
وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل زمرة تلج الجنة، صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوّطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذّهب والفضة، ومجامرهم الألوّة، ورشحهم المسك، لكلّ واحد منهم زوجتان، يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبّحون الله بكرة وعشيّا» . رواه البخاري ومسلم، واللفظ لهما، والترمذي، وابن ماجه، وإن أردت الزيادة؛ فانظر:«الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري في وصف الجنة، والنار.
الإعراب: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً:} انظر الآية السابقة. {حَتّى إِذا جاؤُها:} انظرها أيضا، فالإعراب واحد، لا يتغير، وجملة {وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} في محل نصب حال من:{الْجَنَّةِ،} والرابط: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة، وعليه فالجواب محذوف، تقديره: سروا وفرحوا، وإن اعتبرت الواو زائدة فهي في جواب {إِذا} انظر الكلام على الواو، وجملة:{وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها} معطوفة عليها، على جميع الوجوه المعتبرة بالواو. هذا؛ وأجاز
مكي اعتبارها جواب (إذا)، والواو زائدة فيها، فيتلخص: أن في جواب (إذا) ثلاثة أوجه.
{سَلامٌ:} مبتدأ. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {طِبْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَادْخُلُوها:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا لكم فادخلوها. (ادخلوها): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، والشرط المقدر ومدخوله في محل نصب مقول القول.
{خالِدِينَ:} حال منصوب
…
إلخ.
الشرح: {وَقالُوا} أي: المتقون الذين أنعم الله عليهم بدخول الجنة، وفازوا برضا ربهم.
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ} أي: الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا:{رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ،} وانظر ما يقوله الذين اصطفاهم الله من عباده في الآية رقم [34] و [35] من سورة (فاطر). {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ:}
أرض الجنة قد أورثوها؛ أي: ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون.
تشبيها بحال الوارث، وتصرفه فيما يرث. انتهى. نسفي.
وقال القرطبي: قيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين، قاله أبو العالية، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، وأكثر المفسرين. انتهى. وانظر خسران الكافرين في الآية رقم [15]. {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ:} ننزل في الجنة حيث نشاء، ونريد. يقال:
بوأت زيدا مكانا، وبوأت لزيد مكانا، فالأول بمعنى: أنزلت زيدا مكانا كما في هذه الآية، والثاني كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً} رقم [87] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ والمبؤّأ المنزل الملزوم، ومنه بوّأه الله منزلا أي: ألزمه إياه وأسكنه فيه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه.
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت فما معنى قوله: {حَيْثُ نَشاءُ} وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت: يكون لكل واحد منهم جنة، لا توصف سعة، وحسنا، وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء، ولا يحتاج إلى غيره. وقيل: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم، فينزلون فيها حيث شاؤوا، ثم تنزل الأمم بعدهم فيما فضل منها. ولا تنس ما ذكرته من التعبير عن المستقبل بالماضي. {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} أي: بطاعة الله، وأوامره، واجتناب
نواهيه، وزواجره. هذا؛ و (نعم) فعل ماض جامد لإنشاء المدح، وضدها:«بئس» لإنشاء الذم، قال في المختار: نعم منقول من: نعم فلان (بفتح النون، وكسر العين): إذا أصاب النعمة، وبئس منقول من: بئس فلان (بفتح الباء، وكسر الهمزة): إذا أصاب بؤسا، فنقلا إلى المدح، والذم، فشابها الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم، وبئس (بكسر فسكون) وهي أفصحهن، وهي لغة القرآن. ثم نعم، وبئس (بكسر أولهما، وثانيهما) غير أن الغالب في نعم أن يجيء بعدها «ما» كقوله تعالى: {نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} وبئس جاءت بعدها «ما» على اللغة الفصحى، كقوله تعالى:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} . واللغة الثالثة: نعم، وبئس (بفتح فسكون) والرابعة:
نعم، وبئس (بفتح فكسر) وهي الأصل فيهما.
ولا بد لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح، أو الذم، ويشترط في الفاعل أن يكون مقرونا بأل، كما في قوله تعالى:{نِعْمَ الْعَبْدُ،} أو مضافا لمقترن بها، كما في قوله تعالى:
{فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} وكما في الآية التي الكلام فيها، والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» . وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي؛ وقد أخبر بأن امرأته ولدت بنتا له: (والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة) وقول غيره: (نعم السّير على بئس العير) وأوله البصريون على حذف كلام مقدر؛ إذ التقدير: (والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد) و (نعم السير على عير مقول فيه: بئس العير) والمعتمد في ذلك قول البصريين، ويلزم على قول الكوفيين جر الولد، والعير بسبب الإضافة، والرواية فيهما بالرفع لا غير.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة.
{صَدَقَنا:} فعل ماض، و (نا): مفعوله الأول، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد.
{وَعْدَهُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وهي مثلها في إعرابها. {نَتَبَوَّأُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:(نا)، والرابط: الضمير فقط. {مِنَ الْجَنَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب على الظرفية متعلق بالفعل قبله، وأجيز اعتباره مفعولا به، وجملة:{نَشاءُ} مع المفعول المحذوف في محل جر بإضافة (حيث) إليها، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَنِعْمَ:} الفاء: حرف استئناف. (نعم): فعل ماض جامد لإنشاء المدح.
{أَجْرُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْعامِلِينَ} مضاف إليه، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: هو الجنة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها؛ إذ هي من كلام الله تعالى.
الشرح: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ..} . إلخ: قال الجمل: لما ذكر سبحانه وتعالى ما أعطيه المؤمنون من الدرجات؛ أتبعه بذكر أهل الكرامات، الذين لا شاغل لهم عن العبادات، وبيان مستقرهم في الجنة، وهم الملائكة، فقال صارفا الخطاب لأشرف الخلق؛ لأنه لا يقول بحق هذه الرؤية غيره؛ أي: وترى يا محمد في ذلك اليوم الملائكة؛ أي: القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق. انتهى. {حَافِّينَ} أي: محدقين محيطين بالعرش، مصطفين بحافته، وجوانبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النّار بالشهوات» . وقال الفراء وتبعه الزمخشري:
لا واحد ل: {حَافِّينَ} من لفظه، وكأنهما رأيا: أن الواحد لا يكون حافا؛ إذ الحفوف هو الإحداق بالشيء، والإحاطة به. وهذا لا يتحقق إلا في جمع. {مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ:} انظر شرح {الْعَرْشِ} في الآية رقم [4] من سورة (السجدة). أما {حَوْلِ} فهو ظرف مكان لا يتصرف، فهو ملازم للظرفية أبدا، يقال: قعد حوله، وحواله، وحوليه. وحواليه ولا تقل: حواليه (بكسر اللام) وقعد بحياله وحياله؛ أي: بإزائه، وإزاءه.
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: يقولون: سبحان الله وبحمده. تلذذا بذلك، لا تعبدا، وتكليفا؛ لأن التكليف يزول في ذلك اليوم. وذلك يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح، وأفهم أن منتهى درجات العليين ولذاتهم الاستغراق في صفاته تعالى، وتسبيحه، وتقديسه. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: بين الخلائق بإدخال بعضهم الجنة، وإدخال بعضهم النار بالحق، والعدل، {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}. {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي: على ما قضى بيننا بالحق، والقائلون هم المؤمنون المقضي لهم، أو الملائكة، وطيّ ذكرهم؛ لتعينهم، وتعظيمهم.
هذا؛ والحمد في الآية الأولى على الصدق بالوعد، وإيراث الجنة، وهذا على القضاء بالحق، قال الطيبي: الحمد الأول للتفرقة بين الفريقين بحسب الوعد، والوعيد من السخط والرضوان، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فتكون الآية الثانية كالتتميم بالنسبة للأولى في إتمام القضاء، وعلى الثاني كالتكميل؛ لأن ذلك القضاء في حق بني آدم، وهذا في حق الملائكة. ويؤيد التأويل الثاني تكرير الحمد في الآيتين، والأول هو الظاهر. والله أعلم بمراده، فلا يرد: ما وجه تكرار حمد المؤمنين؟. انتهى. جمل نقلا من كرخي.
الإعراب: {وَتَرَى:} الواو: حرف استئناف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {الْمَلائِكَةَ:} مفعول به. {حَافِّينَ:} حال من {الْمَلائِكَةَ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {مِنْ حَوْلِ:}
متعلقان به، و {حَوْلِ} مضاف، و {الْعَرْشِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. {يُسَبِّحُونَ:}
فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من:{الْمَلائِكَةَ} . {بِحَمْدِ:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة؛ أي: ملتبسين {بِحَمْدِ} . قال الثعلبي:
والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح، وتحذفها أحيانا، قال تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وقال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} و (حمد) مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَقُضِيَ:} الواو: حرف عطف.
(قضي): فعل ماض مبني للمجهول. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله على أنه نائب فاعله، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [69]، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب حال. {وَقِيلَ:} الواو: حرف عطف. (قيل): فعل ماض مبني للمجهول. {الْحَمْدُ:}
مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع نائب فاعل (قيل)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [72]. {رَبِّ:} صفة لفظ الجلالة، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم
…
إلخ، وهذه الإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:
{وَقِيلَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم. وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.
انتهت سورة (الزمر) بحمد الله وتوفيقه، تفسيرا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.