الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح: {وَسَخَّرَ لَكُمْ..} . إلخ: أي: وذلل لكم كل ما في هذا الكون من كواكب، وجبال، وبحار، وأنهار، ونبات، وأشجار، الجميع من فضله، وإحسانه، وامتنانه، من عنده وحده جلّ وعلا، ولذا قال:{جَمِيعاً مِنْهُ} كقوله تعالى في سورة (النحل) رقم [53]: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} .
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ:} الإشارة عائدة إلى ما ذكره الله في هاتين الآيتين، وسخره لبني آدم، وإذا تفكروا؛ اتعظوا، وإذا اتعظوا؛ آمنوا، وإذا آمنوا؛ عبدوا. والتفكر في صنع الله أعظم عبادة يقوم بها العبد. وقد ورد: لتفكر ساعة في صنع الله أفضل من عبادة ستين سنة. وورد: تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله، فإنه لا تحيط به الفكرة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا عبادة كالتفكر» ؛ لأنه المخصوص بالقلب، والمقصود من الخلق، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بينما رجل مستلق على فراشه؛ إذ رفع رأسه، فنظر إلى السماء، والنجوم. فقال:
أشهد أنّ لك ربا، وخالقا، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه، فغفر له». هذا؛ والفكر: تصرف القلب في طلب الأشياء، وقال صاحب المفردات: الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر: جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب. انتهى. والفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المطلوبة من التآنس، والتجانس بين الأشياء كالزوجين. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
فائدة:
يحكى: أنّ طبيبا نصرانيا حاذقا جاء للرشيد، فناظر علي بن الحسين الواقدي ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أنّ عيسى جزء من الله تعالى، وتلا قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [45]:{إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [171]: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فقرأ عليه الواقدي قوله تعالى في هذه السورة: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} وقال له: إذا يلزم أن تكون جميع الأشياء جزآ منه سبحانه! فانقطع النصراني، وأسلم. وفرح الرشيد فرحا شديدا، وأعطى الواقدي صلة فاخرة.
الإعراب: {وَسَخَّرَ:} الواو: حرف عطف. (سخر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:
{الَّذِي،} تقديره: «هو» ، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها، لا محلّ لها مثلها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {ما:} معطوف على ما قبله. {فِي}
{الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {جَمِيعاً:} حال من (ما)، أو توكيد له. قال الجلال:
وهو ضعيف. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {جَمِيعاً،} أو متعلقان بمحذوف حال من (ما)، التقدير: جميعا كائنا منه تعالى، أو سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه مخلوقة.
وقيل: متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي جميعا منّه، ويقرأ:«(منّة)» على أنه مفعول لأجله، وقرئ:«(منّه)» على أنه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: ذلك منّه. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. (آيات): اسم: {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: (آيات)، وجملة:
{يَتَفَكَّرُونَ} في محل جر صفة (قوم)، وجملة:{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، أو ابتدائية لا محل لها.
الشرح: اختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-وذلك: أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر، يقال له:
المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبي غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه، قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم، وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه. فقال عبد الله الخبيث: ما مثلنا، ومثل هؤلاء، إلاّ كما قيل:
سمّن كلبك يأكلك! فبلغ عمر-رضي الله عنه-قوله، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية. فعلى هذا تكون الآية مدنية، كما ذكرته في مقدمة السورة الكريمة. وانظر ما أذكره في سورة (المنافقون) بشأن هذا الخبيث.
وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: إنّ رجلا من بني غفار-وفي القرطبي (من قريش) -شتم عمر بمكة، فهمّ عمر-رضي الله عنه-أن يبطش به، فنزلت بالغفر، والتجاوز، وعلى هذا تكون الآية مكية. قال ابن العربي: وهذا لم يصح.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضا، قال: لما نزلت هذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} رقم [245] من سورة (البقرة) قال فنحاص اليهودي: احتاج رب محمد! فسمع ذلك عمر، فاشتمل سيفه، وخرج في طلبه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرده، ونزلت الآية الكريمة، فقرأها عليه، وعلى المؤمنين. وعلى ما تقدم ينبغي أن تعلم أنّ الآية الكريمة إن كانت بمكة، فهي منسوخة بآية القتال، وإن كانت نزلت في المدينة، أو في غزوة بني المصطلق فليست منسوخة، بل هي محكمة. انتهى. قرطبي بتصرف كبير.
هذا؛ و {أَيّامَ اللهِ} وقائعه بأعدائه الكافرين من قولهم: أيام العرب وقائعهم، واستعمال الأيام بمعنى الوقائع مجاز مشهور، ومعنى:{لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ:} لا يرجون ثوابه. وقيل:
المعنى: لا يخافون بأسه، ونقمه، وهو أولى هنا. ومثل الآية قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [21]:{وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا..} . إلخ وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال؛ أي: الذي يقطف عسل النحل: [الطويل]
إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها
…
وخالفها في بيت نوب عواسل
وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى: الخوف إلاّ مع الجحد؛ أي: النفي كقوله تعالى في سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة وسلام:{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً} وقال بعضهم: بل يقع في كل موضع دلّ عليه المعنى. وهو المعتمد. هذا؛ وأصل الرجاء: الأمل في الشيء، والطماعية فيه. قال الشاعر:[الوافر]
أترجو أمّة قتلت حسينا
…
شفاعة جدّه يوم الحساب؟!
والرجاء يكون بمعنى: الأمل، قال خبيب بن عدي-رضي الله عنه:[الطويل]
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما
…
على أيّ جنب كان في الله مصرعي
هذا؛ وقرئ «(لنجزي)» كما قرئ «(ليجزى)» بالبناء للمجهول، ونصب {قَوْماً،} ورفعه. وانظر الإعراب.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها.
{يَغْفِرُوا:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو جواب: {قُلْ،} وتقدير الكلام: إن تقل لهم؛ يغفروا.
قاله الأخفش، ورده قوم، قالوا: لأن قول الرسول لهم لا يوجب أن يغفروا، أو يتجاوزوا، أو يعفوا، وهذا عندي لا يبطل قول الأخفش؛ لأنه لم يرد أمر الكفار، بل المؤمنين الصادقين كما هو واضح، وإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: اغفروا، وتجاوزوا؛ عن الكافرين غفروا وتجاوزوا؛ لأنهم مأمورون بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، استجابة لقوله تعالى:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
والوجه الثاني: وحكي عن المبرد، وهو: أنّ التقدير: قل لهم: اغفروا؛ يغفروا، فيغفروا المصرح به جواب اغفروا المحذوف. حكاه جماعة عنه، ولم يتعرضوا لإفساده، وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أنّ جواب الشرط يخالف الشرط، إما في الفعل، وإما في الفاعل، وإما فيهما، فأما إذا كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ، كقولك: قم تقم، والتقدير على ما ذكر في هذا الوجه: إن يغفروا يغفروا. والوجه الثاني: أنّ الأمر للمواجهة، ويغفروا على لفظ الغيبة، وهو خطأ؛ إذ كان الفاعل واحدا.
والوجه الثالث من الأوجه الأولى: أنه مجزوم بلام محذوفة، التقدير: ليغفروا، فهو أمر مستأنف، وجاز حذف اللام لدلالة {قُلْ} على الأمر. وهذه التوجيهات أخذتها من إعراب الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، بالمقايسة بين ما هنا وهناك فإن التعبير في الآيتين واحد، ولم يذكر أحد شيئا في إعراب الآية هنا، وما هنا منقول عن أبي البقاء العكبري، ومكي بن أبي طالب القيسي مع الإشارة إلى ما ذكره ابن هشام في مغنيه، رحم الله الجميع رحمة واسعة، وشملنا معهم ببره وإحسانه، وفضله، وكرمه، وجوده!
هذا؛ و {يَغْفِرُوا} مجزوم على جميع الوجوه المذكورة، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل نصب مقول القول على حسب الوجوه المعتبرة فيها، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{لِلَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {لا:} نافية. {يَرْجُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَيّامَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لِيَجْزِيَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل تقديره:
«هو» ، أو نحن، وعلى قراءته بالبناء للمجهول ورفع (قوم) فهو نائب فاعله، وعلى قراءته بالنصب، فهو مفعول به، والجار والمجرور (بما) نائب فاعله، وهذا على مذهب الكوفيين الذين يجيزون إقامة غير المفعول مقام الفاعل مع وجود المفعول، واستدلوا بهذه القراءة وهي قراءة أبي جعفر، وهي ليست من السبعة. وقال الكسائي: معناه: ليجزي الجزاء قوما، وهذا يعني: أنّ نائب الفاعل مصدر الفعل المقدر. هذا؛ و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{قُلْ} . هذا؛ و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَكْسِبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:
{كانُوا،} والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء كانوا يكسبونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبهم، والجار والمجرور متعلقان بالقول، أو بقول محذوف مقدّر دال عليه الأمر. هذا؛ والقوم هم المؤمنون، أو الكافرون، أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم، أو التحقير، أو التنويع. تأمل، وتدبر.
{مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}
الشرح: لما ذكر الله إجمالا: أنّ المرء يجزى بكسبه؛ بيّن أن من كسب صالحا، كالعفو عن المسيء؛ فإنه يثاب، وأنه هو المنتفع بكسبه، ومن كسب الإساءة؛ يعاقب، ويتضرر به. ثم بين: أنّ ذلك النفع، والضرر إنما يكون يوم الرجوع إلى الله. انتهى. جمل نقلا من زاده.
والجملة الشرطية مذكورة في سورة (فصلت) برقم [46]. هذا؛ ولا تنس الطباق بين الجملتين الاسميتين المتعاطفتين.
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَمِلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} تقديره: «هو» .
{صالِحاً:} صفة لمفعول به محذوف، أو لمفعول مطلق محذوف؛ إذ التقدير: عمل عملا صالحا.
{فَلِنَفْسِهِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لنفسه): جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: فعمل لنفسه، أو هما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فعمله لنفسه، وهو قول ابن هشام في المغني، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة سواء أكانت فعلية، أم اسمية: في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل:
هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا؛ فجملة:{عَمِلَ صالِحاً} صلته، والجملة الثانية خبره، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلى رَبِّكُمْ:} متعلقان بما بعدهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثله.
الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ:} أعطيناهم، ومنحناهم. {الْكِتابَ:} التوراة. {وَالْحُكْمَ} أي: الحكمة، وهي ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام والأخلاق. وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. وقيل: الحكم:
الفهم في الكتاب. وقيل: الفصل في الحكومات؛ لأنهم كانوا ملوكا. {وَالنُّبُوَّةَ:} الرسالة؛ إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم، والنبوة: ما يمنحه الله للأنبياء، والمرسلين من العلوم، والمعارف، والفيوضات الإلهية. مأخوذة من: النبأة، وهي الارتفاع، والظهور، أو من: النبأ، وهو الخبر؛ لأنّ النبي يخبر عن ربه ما يوحي إليه من الشرائع، والأحكام. {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} أي: الحلالات من الأقوات والثمار والأطعمة؛ التي كانت في بلاد الشام. وقيل: يعني به:
المنّ والسلوى في التيه. هذا؛ والطيبات: ما يستلذ من المباحات. وقيل: الحلال الصافي القوام، فالحلال: ما لا يعصى الله فيه، والصافي: ما لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك
النفس، ويحفظ العقل. {وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ:} على عالمي زمانهم كما رأيت في الآية رقم [32] من سورة (الدخان).
الإعراب: {وَلَقَدْ آتَيْنا:} انظر الآية رقم [46] من سورة (الزخرف). {بَنِي:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{وَلَقَدْ آتَيْنا..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {وَرَزَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {مِنَ الطَّيِّباتِ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَفَضَّلْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {عَلَى الْعالَمِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
الشرح: {وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، وينصره أهل يثرب. وقيل: بينات الأمر:
شرائع واضحات في الحلال، والحرام، ومعجزات باهرات. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ..}. إلخ:
أي: اليهود، والنصارى، أو أرباب الكتب المتقدمة، اختلفوا في أمر الإسلام، فقال قوم: إنه حق، وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقا، أو اختلفوا في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقيل: هم قوم موسى اختلفوا بعده. وقيل: هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي:
بعد ما علموا حقيقة الأمر، وتمكنوا من العلم بها؛ أي: بالحجج الدامغات، والآيات البينات.
{بَغْياً بَيْنَهُمْ:} حسدا، وظلما وطلبا للرياسة، وقتلوا الأنبياء، فكذا مشركو عصرك يا محمد قد جاءتهم البينات، ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ..} .
إلخ: أي: يحكم، ويفصل بينهم، فيثيب الطائع، ويعاقب العاصي، فيدخل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم الجنة، ويدخل من كفر به، وجحد نبوته النار.
هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى: وسط بسكون السين، لا يدخل إلا بين متعدد لفظا وحكما، تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق،
والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض. ومن استعماله بمعنى: الوصل ما قرئ به في سورة (الأنعام) رقم [94]: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} حيث قرئ برفعه. ومن استعماله بمعنى: الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-من قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم: -وهو الشاهد رقم [809] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [البسيط] وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول
الإعراب: {وَآتَيْناهُمْ:} الواو: حرف عطف. (آتيناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {بَيِّناتٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مِنَ الْأَمْرِ:} متعلقان ب: {بَيِّناتٍ،} أو بمحذوف صفة له. {فَمَا:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {اِخْتَلَفُوا؛} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {فَمَا:} مصدرية. {جاءَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعوله. {الْعِلْمُ:} فاعله و {فَمَا} المصدرية والفعل الماضي في تأويل مصدر في محل جر بإضافة: {بَعْدِ} إليه.
{بَغْياً:} مفعول لأجله، وجوزت الحالية بمعنى: باغين، والأول أقوى. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق ب: {بَغْياً،} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم {إِنَّ،} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَقْضِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{رَبَّكَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {بَيْنَهُمْ:} متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه.
{فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {يَقْضِي} أيضا، و {فَمَا} تحتمل الموصولة، والموصوفة.
{كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وجملة:{فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في محل نصب خبر: {كانُوا،} والجملة الفعلية صلة {فَمَا،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا ب: (في).
الشرح: {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي: على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. هذا؛ والشريعة في اللغة المذهب، والملة، ويقال لمشرعة الماء-وهي مورد
الشاربة-: شريعة، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد، فالشريعة ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع: الشرائع. والشرائع في الدين: المذاهب؛ التي شرعها الله لخلقه. هذا؛ والشريعة في الأصل ما يرده الناس من المياه، والأنهار، فاستعير ذلك للدين، والعبادة؛ لأنّ العباد يردون ما تحيا به نفوسهم من العلم، وأمور العبادة والدين. {فَاتَّبِعْها:} فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج الدامغة. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي: آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش؛ حيث قالوا له: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك.
هذا؛ و {أَهْواءَ} جمع: هوى يقصر، ويمد، والمراد: بالأول الحب، والعشق، والغرام، وهو أيضا: محبة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه. قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [43]:
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ..} . إلخ، وقد نهى الله عنه بقوله:{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى،} ومدح من يخافه ويخشاه بقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله تعالى، ويراد بالممدود: ما بين السماء والأرض. وقد جاء الهوى بمعنى: العشق ممدودا في الشعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
وهان على أسماء إن شطّت النّوى
…
نحنّ إليها والهواء يتوق
وإليك هذين البيتين فإنهما من النكت الحسان: [الكامل]
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي
وقال أبو عبيدة-رحمه الله تعالى-: لم نجد الهوى يوضع إلاّ موضع الشر؛ لأنه لا يقال:
فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحب الخير، وجمعه: أهواء، وجمع الممدود: أهوية. وانظر الآية رقم [23]. هذا؛ و {لا يَعْلَمُونَ} هنا من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
لعلم عرفان وظنّ تهمه
…
تعدية لواحد ملتزمه
بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ وخبر، وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأنّ متعلقها الذوات، دون النسب، بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني، والنسب، وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى: أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا؛ لم يتجاوز مفعولا واحدا؛ لأنّ المعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما، لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنما المعنى: أنّ العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. وقيل: حرف استئناف. {جَعَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {عَلى شَرِيعَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {مِنَ الْأَمْرِ:} متعلقان بشريعة. {فَاتَّبِعْها:} الفاء: حرف عطف على رأي من يرى جواز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (اتبعها): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، والتقدير على اعتبار الفاء الفصيحة، وإذا كان ما ذكر حاصلا؛ فاتبعها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية.
{تَتَّبِعْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَهْواءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعده صلته، والمفعول محذوف، التقدير: لا يعلمون الحق.
الشرح: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً} أي: إن اتبعت أهواءهم؛ لا يدفعون عنك من عذاب الله شيئا. {وَإِنَّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ:} يعني: إنّ الظالمين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا، ولا ولي لهم في الآخرة. {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} أي: ناصرهم في الدنيا، ووليهم في الآخرة، والمتقون: هم الذين اتقوا الشرك، والمعاصي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يُغْنُوا:} فعل مضارع منصوب ب: (لن) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ).
{عَنْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ ابتدائية، أو تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الظّالِمِينَ:} اسم (إنّ) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {بَعْضُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءُ:} خبره، وهو مضاف، و {بَعْضٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. (الله): مبتدأ.
{وَلِيُّ:} خبره، وهو مضاف، و {الْمُتَّقِينَ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
{هذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
الشرح: {هذا} أي: القرآن. {بَصائِرُ لِلنّاسِ:} جمع بصيرة، وهي الدلالة الواضحة، فيهتدى بها، فأطلق على القرآن لفظ البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب، والبصيرة للنفس كالبصر للبدن، سميت بها الدلالة؛ لأنها تجلي لها الحق، وتبصرها به. وقال النسفي: جعل ما فيه من معالم الدين، والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل روحا، وحياة. {وَهُدىً:}
من الضلالة. {وَرَحْمَةٌ:} من العذاب. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ:} لمن آمن، وأيقن بالبعث.
الإعراب: {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَصائِرُ:} خبر المبتدأ. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب: {بَصائِرُ،} أو بمحذوف صفة له.
{وَهُدىً:} معطوف على: {بَصائِرُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَرَحْمَةٌ:} معطوفة على ما قبله. {لِقَوْمٍ:} متعلقان ب: (رحمة)، أو بمحذوف صفة لها، وجملة:{يُوقِنُونَ} في محل جر صفة (قوم)، والجملة الاسمية:{هذا..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {أَمْ حَسِبَ:} أم ظن وأمل. {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} أي: اكتسبوا الكفر، والمعاصي. والاجتراح: الاكتساب، والجوارح من الطيور: الكواسب. وفلان جارحة أهله:
أي: كاسبهم. {أَنْ نَجْعَلَهُمْ:} أن نصيرهم. {كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ..} . إلخ: المعنى:
إنكار أن يستوي المسيئون، والمحسنون محيا، وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء؛ حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعة، وأولئك على اليأس من الرحمة، والندامة. وقيل: معناه:
إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة في الرزق، والصحة.
وعن تميم الداري-رضي الله عنه: أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي، ويرددها إلى الصباح. وعن الفضيل أنه بلغها، فجعل يرددها، ويبكي، ويقول: يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وعن الربيع بن خثيم: أنه قام يصلي ذات ليلة، فمرّ بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وكانت هذه الآية تسمى مبكاة
العابدين؛ لأنها محكمة. هذا؛ ومثل هذه الآية في الإنكار على الكافرين الزاعمين التسوية بين الصالح والطالح، والنافع، والضار، قوله تعالى في سورة (ص) رقم [28]:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ،} وقوله تعالى في سورة (ن): {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى: «بل» ، أو بمعنى: همزة الإنكار. وقيل: منقطعة بمعنى: الهمزة، وبل. {حَسِبَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {اِجْتَرَحُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {السَّيِّئاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{نَجْعَلَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره نحن، والهاء مفعول به أول. {كَالَّذِينَ:} الكاف: في محل نصب مفعول به ثان، وهي مضاف، و (الذين):
اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي حسب. (عملوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {سَواءً:} حال من مفعولي:
(نجعل). {مَحْياهُمْ:} فاعل ب: {سَواءً} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَمَماتُهُمْ:} معطوف على ما قبله. هذا؛ وقرئ برفع: «(سواء)» على أنه خبر مقدم، و {مَحْياهُمْ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب بدلا من الكاف بدل اشتمال، أو بدل كل من كل. {ساءَ:} ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر فيه مفسر بما بعده. {ما:} نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز، وجملة:
{يَحْكُمُونَ} في محل نصب صفة: {ما،} والتقدير: ساء الشيء شيئا محكوما به. ورابط هذه الصفة محذوف، التقدير: يحكمونه، والمخصوص بالذم محذوف أيضا التقدير: هو حكمهم.
هذا؛ وأجاز أبو البقاء اعتبار الفعل {ساءَ} متصرفا من الإساءة، وله مفعول محذوف، كما أجاز اعتبار {ما} موصولة، وموصوفة، ومصدرية فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
ساء الذي، أو شيء يحكمونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ساءهم حكمهم، والجملة الفعلية:{ساءَ ما يَحْكُمُونَ} مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ:} قال البيضاوي: كأنه دليل على الحكم السابق من حيث إنّ خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن، والمسيء، وإذا لم يكن ذلك في المحيا؛ كان بعد الممات. {وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ:} إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: بنقص ثواب المحسن، وزيادة عقاب المسيء. وقال الخازن: ومعنى الآية: أنّ المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل، والرحمة، وذلك لا يتم إلاّ في القيامة؛ ليحصل التفاوت بين المحقين، والمبطلين في الدرجات والدركات.
هذا؛ و (الحق) ضد الباطل. قال الراغب: أصل الحق المطابقة، والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة. والحق يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحق. وللموجود بحسب مقتضى الحكمة، ولذلك يقال: فعل الله كله حق، نحو الموت، والحساب
…
إلخ، وللاعتقاد في الشيء المطابق ما عليه ذلك الشيء في نفسه، نحو اعتقاد زيد في الجنة حق. وللفعل، والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب، نحو قولك حق، وفعلك حق. ويقال: أحققت ذا؛ أي: أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقا. انتهى. بغدادي.
الإعراب: {وَخَلَقَ:} الواو: حرف عطف. (خلق): فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو المفعول. {وَلِتُجْزى:} الواو:
حرف عطف. (لتجزى): فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {كُلُّ:} نائب فاعل، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على علة مقدرة؛ إذ التقدير: خلق السموات والأرض بالحق؛ ليدل على قدرته، ووحدانيته. ولتجزى
…
إلخ. {بِما:} متعلقان بالفعل: (تجزى)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء كسبته، وعلى اعتبار «ما» مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء،
التقدير: بكسبها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:
{كُلُّ نَفْسٍ،} والرابط: الواو، والضمير. وجمع الضمير؛ لأن معنى {كُلُّ} الجمع، والتعميم.
الشرح: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه؛ لأنه لا يؤمن بالله، ولا يخافه، ولا يحرم ما حرم الله. وقال سعيد بن جبير-رضي الله عنهما: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه؛ رمى به، وعبد الآخر، وهذا ذكره السيوطي في أسباب النزول. وقيل: المعنى: أفرأيت من ينقاد لهواه، ومعبوده تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل. أو المعنى: أخبرني يا محمد عن حال من ترك عبادة الله، وعبد هواه.
وقال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلاّ ذمّه، وذكر آيات كثيرة. وقال عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» .
وقال أبو أمامة-رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» . وقال شداد بن أوس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصّة نفسك، ودع عنك أمر العامّة» . من حديث طويل أخرجه ابن ماجه، والترمذي عن أبي أمية الشيباني، عن أبي ثعلبة الخشني-رضي الله عنهم أجمعين-. وقال أنس بن مالك-رضي الله عنه-من حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم:«وثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه» . رواه البيهقي، وغيره، وقال الأصمعي سمعت رجلا يقول:[الكامل]
إنّ الهوان هو الهوى قلب اسمه
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شاعر فنظمه فقال:[الكامل] نون الهوان من الهوى مسروقة
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ولابن دريد قوله: [الطويل]
إذا طالبتك النّفس يوما بشهوة
…
وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنّما
…
هواك عدوّ، والخلاف صديق
ولأبي عبيد الطّوسي قوله: [الرجز]
والنفس إن أعطيتها مناها
…
فاغرة نحو هواها فاها
وقال سهل بن عبد الله التّستريّ: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى، ومخالفته كتب، وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه، وحسبك بقوله تعالى في سورة (النازعات) الآيتان رقم [40 و 41]:{وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} . انتهى. قرطبي بتصرف. وانظر الآية رقم [18].
{وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ} أي: على علم قد علمه منه. وقيل: أضله عن الثواب على علم منه: أنه لا يستحقه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: على علم قد سبق عنده تعالى أنه سيضل.
{وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي: طبع على سمعه، حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه، حتى لا يفقه الهدى. {وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} أي: غطاء؛ حتى لا يبصر الرشد. {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ} أي:
لا يهديه أحد بعد أن أضله الله. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: تتعظون، وتعرفون: أنه قادر على ما يشاء.
وهذه الآية ترد على القدرية، والمعتزلة، والإماميّة، ومن لف لفهم، وسلك طريقتهم في الاعتقاد؛ إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الكهف) رقم [17]:
{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} . قال مقاتل-رحمه الله تعالى-:
نزلت الآية في أبي جهل، وذلك: أنه طاف في البيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له الوليد: مه، وما دلك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس! كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمّ عقله، وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن؟! والله إني لأعلم أنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه، وتؤمن به؟! قال: تتحدث عني بنات قريش: أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات، والعزى إن اتبعته أبدا، فنزلت:{وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} . انتهى. قرطبي بتصرف. وقيل: نزلت في غير أبي جهل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {أَفَرَأَيْتَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: أراها زائدة. (رأيت): فعل، وفاعل. {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، يقدر بعد الجمل الأربع المتعاطفة:«أيهتدي» . وقال الجمل: ودعوى الحذف غير لازمة؛ إذ لا مانع من جعل كلمة: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ} هي المفعول الثاني. {اِتَّخَذَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنِ}. {إِلهَهُ:} مفعول به أول. {هَواهُ:} مفعول به ثان منصوب،
وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَأَضَلَّهُ اللهُ:} ماض، ومفعول، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {عَلى عِلْمٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول.
{وَخَتَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {عَلى سَمْعِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَقَلْبِهِ:}
معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة.
{وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} معطوفة على جملة الصلة أيضا لا محل لها مثلها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف على اعتبار المفعول الثاني ل: (رأيت) محذوفا، وصلة على اعتبار الجملة الاسمية الآتية مفعولا ثانيا. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَهْدِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (من)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل نصب مفعول به ثان حسبما رأيت. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه.
{أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية. {تَذَكَّرُونَ:}
فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، وقرئ:«(تتذكرون)» .
الشرح: {وَقالُوا} أي: كفار قريش، وهو قول الكفار، والملحدين في كل زمان، ومكان.
{ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا:} هذا إنكار منهم للآخرة، وتكذيب للبعث، وإبطال للجزاء والحساب.
{نَمُوتُ وَنَحْيا} أي: نموت نحن، وتحيا أولادنا. أو المعنى: يموت بعضنا، ويحيا بعضنا. أو يصيبنا الموت، والحياة في الحياة الدنيا، وليس وراء ذلك حياة. أو أرادوا: أنكون أمواتا نطفا، وما قبلها، ونحيا بعد ذلك؟! ويحتمل أنهم أرادوا به تناسخ الأرواح، فإنه أكثر عقيدة الوثنيين، وفي مغني اللبيب: ليست الواو لمطلق الجمع، ولا للترتيب، بل هو عكس الترتيب في هذه الآية، ولو كانت للترتيب؛ لكان اعترافا بالحياة بعد الموت، وهم لا يعترفون بالآخرة قطعا.
هذا؛ وقيل: فيه تقديم، وتأخير؛ أي: نحيا، ونموت. وهي قراءة ابن مسعود-رضي الله عنه.
انتهى. قرطبي. هذا؛ ولا تنس الطباق بين {نَمُوتُ} و (نحيا).
{وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ} أي: مرور الزمان، وتوالي الأيام، وتقلب الليل، والنهار. {وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي: لم يقولوا ذلك عن علم علموه، وما يقولونه عن حق ويقين، ولكن عن ظنّ وتخمين. وانظر الآية رقم [20] من سورة (الزخرف). هذا؛ وقال السيوطي في أسباب النزول:
كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل الله الآية الكريمة.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله-عز وجل: «يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدّهر، وأنا الدّهر، أقلّب اللّيل والنّهار» . وفي رواية: «يؤذيني ابن آدم، ويقول:
يا خيبة الدّهر! فلا يقولنّ أحدكم: يا خيبة الدّهر، فإني أنا الدّهر بيدي الليل والنهار». وهذه الأحاديث مروية في البخاري وغيره من كتب الأحاديث. ومعنى هذه الأحاديث: أنّ العرب كان من شأنها ذم الدهر، وسبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيبهم من المصائب، والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، كما أخبر الله-عز وجل-عنهم بقوله:{وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ} فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد، وسبوا فاعلها، كان مرجع سبهم إلى الدهر، فنهوا عن سب الدهر. وقيل لهم: لا تسبوا فاعل ذلك، فإنه هو الله عز وجل، والدهر متصرّف فيه، يقع به التأثير، كما يقع بكم، والله أعلم. انتهى. خازن.
هذا؛ وكثيرا ما نسمع في أيامنا هذه من يلعن، ويسب الساعة، واليوم الذي رأى فيه فلانا، أو باع، أو اشترى كذا، أو عامل فيه فلانا، أو الساعة التي جرى فيها قرانه بزوجته، وهي بزوجها ليبوؤوا بغضب الله، وسخطه، وقد يكونون من المصلين الصائمين، ولا حول، ولا قوة إلاّ بالله! ولقد أحسن أبو علي الثقفي-رحمه الله تعالى-إذ يقول:[السريع]
يا عاتب الدّهر إذا نابه
…
لا تلم الدّهر على غدره
الدهر مأمور، له آمر
…
وينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمّة
…
تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم
…
يزداد إيمانا على فقره
وروي: أنّ سالم بن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهم-كان كثيرا ما يذكر الدهر، فزجره أبوه، وقال: إياك يا بني وذكر الدهر، وأنشد:[الطويل]
فما الدهر بالجاني لشيء لحينه
…
ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
ولكن متى ما يبعث الله باعثا
…
على معشر يجعل مياسيرهم عسرا
هذا؛ والدهر: هو الزمان قلّ، أو كثر، ولكن قال بعضهم: إطلاقه على الزمن القليل مجاز، واتساع، ويطلق على الأبد، ويقع على مدة الدنيا كلها، وجمعه: دهور، ودهر الإنسان: الزمن الذي يعيش فيه، والدّهريّ بضم الدال: المسن، وبالفتح الملحد؛ الذي لا يعتقد بوجود الخالق، جلّ وعلا.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما:} نافية. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{إِلاّ:} حرف حصر. {حَياتُنَا:} خبر المبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في
محل نصب مقول القول. {الدُّنْيا:} صفة: {حَياتُنَا} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف.
{نَمُوتُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الضمير فقط، وجملة:{وَنَحْيا:} معطوفة عليها، وهي في محل نصب حال مثلها.
{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يُهْلِكُنا:} فعل مضارع، و (نا): مفعول به. {إِلاّ:}
حرف حصر. {الدَّهْرُ:} فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محلّ نصب حال مثلها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما) نافية. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {بِذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {عِلْمٍ} بعدهما؛ لأنه مصدر، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {مِنْ:} حرف جر صلة. {عِلْمٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير. {إِنْ:} حرف نفي. {لَهُمْ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر، وجملة:
{يَظُنُّونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا} أي: آيات القرآن يقرؤها محمد صلى الله عليه وسلم على كفار قريش.
{بَيِّناتٍ:} واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم من إنكار البعث، والحساب، والجزاء.
{ما كانَ حُجَّتَهُمْ} أي: ما كان لهم متشبثا يعارضون، ويحتجون به. {إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا} أي:
أحيوهم، وأعيدوهم إلى هذه الدنيا ليشهدوا لنا بصحة البعث، والحساب، والجزاء بعد الموت.
{إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: في قولكم: إن هناك حسابا، وجزاء بعد الموت، فائتوا بآبائنا.
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: لم سمي قولهم حجة، وليس بحجة؟ قلت:
لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها، فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم، وتقديرهم حجة، أو لأنه في أسلوب قول عمرو بن معدي كرب:[الوافر]
وخيل قد دلفت لها بخيل
…
تحيّة بينهم ضرب وجيع
يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلا من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {تُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان
بما قبلهما. {آياتُنا:} نائب فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة. {بَيِّناتٍ:} حال من:
{آياتُنا:} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {حُجَّتَهُمْ:} خبر {كانَ} مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {كانَ:} حرف مصدري ونصب. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، و {كانَ} والفعل:{قالُوا} في تأويل مصدر في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر. هذا؛ ويقرأ برفع: «(حجّتهم)» على أنه اسم {كانَ،} والمصدر المؤول في محل نصب خبرها. {اِئْتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{كانَ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص، مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: هذه الآية رد وجواب لقولهم: {اِئْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} . قلت: لما أنكروا البعث، وكذبوا الرسل، وحسبوا: أن ما قالوه قول مبكّت؛ ألزموا ما هم مقرّون به من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم، ثم يميتهم، وضمّ إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به؛ إن أنصفوا، وأصغوا إلى داعي الحق، وهو جمعهم إلى يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك، كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
{لا رَيْبَ فِيهِ:} لا شك فيه. وانظر شرح (الريب) في الآية رقم [14] من سورة (الشورى){وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ:} لقلة تفكرهم، وقصور نظرهم على ما يحسبونه. وانظر الآية رقم [39] من سورة (الدخان)، فالبحث فيها جيد. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [28]:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولا تنس الطباق بين {فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وبين {يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} .
هذا؛ و {ثُمَّ} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في مغني اللبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق (ربّ) و (لا) العاملة عمل «ليس» فيقال؛ ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح، وثم
هذه غير (ثمّ) بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الشعراء):{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة.
الإعراب: {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {اللهُ:} مبتدأ. {يُحْيِيكُمْ:}
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملتا {يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} معطوفتان على ما قبلهما، فهما في محل رفع مثلها. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما، و {يَوْمِ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه.
{لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {رَيْبَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب.
{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والجملة الاسمية في محل نصب حال من: {يَوْمِ الْقِيامَةِ،} والرابط: الضمير فقط. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ:} اسمها، وهو مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه. {لا:} نافية.
{يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها وقيل: في محل نصب حال، وهو ضعيف.
الشرح: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} تعميم للقدرة بعد تخصيصها. واللام مفيدة للملك الحقيقي، الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ:} انظر الآية رقم [61] من سورة (الزخرف). {يَوْمَئِذٍ:} التنوين ينوب فيه عن جملة محذوفة، دلّت عليها الغاية؛ أي:
يوم تقوم الساعة، و (إذ) مضافة لهذه الجملة، فحذفت الجملة الفعلية، وعوّض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت الهاء في: صه، ومه عند تنوينهما. ومثل ذلك قل في: حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما. {يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} أي: الكافرون، والملحدون، والمجرمون في كل زمان، ومكان. وانظر هذا الخسران في الآية رقم [45] من سورة (الشورى). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:}
مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ؛} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): ظرف زمان متعلق بالفعل: {يَخْسَرُ} بعده، وعليه ف:{يَوْمَئِذٍ} بدل منه، والتنوين عوض عن جملة مقدرة كما
رأيت في الشرح، وعليه فالبدل بدل توكيدي. هذا؛ ويجوز أن يعلق (يوم) بفعل محذوف، تقديره: اذكر. قالوا: لأنّ يوم القيامة حالة ثالثة ليست بالسماء، والأرض؛ لأنهما يتبدلان، فكأنه قيل: ولله ملك السموات والأرض، وملك يوم تقوم الساعة، ويكون {يَوْمَئِذٍ} متعلقا بالفعل:{يَخْسَرُ،} والجملة الفعلية مستأنفة من حيث اللفظ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من حيث المعنى. انتهى. بتصرف كبير من الجمل نقلا عن السمين. هذا؛ وجملة:{تَقُومُ السّاعَةُ} في محل جر بإضافة (يوم) إليها.
الشرح: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً} أي: باركة على الرّكب، وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء. قال سلمان الفارسي-رضي الله عنه: إن في يوم القيامة ساعة، هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على الركب؛ حتى إبراهيم عليه السلام ينادي ربه: لا أسألك إلا نفسي. هذا؛ وفسر: {جاثِيَةً} بخاضعة وذليلة ومجتمعة، ومتميزة، أقوال، وفي سورة (مريم) رقم [72]:{وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} انظر شرحها هناك، فإنه جيد. هذا؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعمّ كل من تتأتى منه الرؤية. هذا؛ والجثو: الجلوس على الركب، يقال: جثا على ركبتيه، يجثو، ويجثى جثوا، وجثيا على وزن فعول فيهما. ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة» . و «صار فلان جثوة من تراب» . أي: كومة من تراب، قال طرفة بن العبد في معلقته رقم [70]. [الطويل]
ترى جثوتين من تراب عليهما
…
صفائح صمّ من صفيح منضّد
{كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا:} قال يحيى بن سلام: إلى حسابها. وقيل: إلى كتابها؛ الذي سجلت فيه الملائكة أعمالها من خير، أو شر. وقيل: كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه؟ هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [71]: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ..} . إلخ.
{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يقول الله لهم. أو هو من مقول الملائكة لهم. هذا؛ وانظر شرح:
{أُمَّةٍ} في الآية رقم [8] من سورة (الشورى)، وشرح {تَرى} في الآية رقم [22] منها.
الإعراب: {وَتَرى:} الواو: حرف عطف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره أنت. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أُمَّةٍ} مضاف إليه. {جاثِيَةً:} مفعول به ثان، أو حال من:{كُلَّ أُمَّةٍ} لتخصيصه بالإضافة. وقيل:
صفة، وجملة:{وَتَرى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {كُلَّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {أُمَّةٍ} مضاف إليه. {تُدْعى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى:{كُلَّ}
{أُمَّةٍ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ ويقرأ بنصب: {كُلَّ أُمَّةٍ} على أنه بدل مما قبله، وعليه فجملة:{تُدْعى} يجوز فيها ما جاز ب: {جاثِيَةً} . {إِلى كِتابِهَا:} متعلقان بما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة.
{الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل بعده. {تُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، والجملة الفعلية في محل نصب خبره، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو مفعول {تَعْمَلُونَ،} والجملة الفعلية: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال لهم
…
إلخ، وهذه الجملة مستأنفة، لا محلّ لها.
{هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)}
الشرح: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ:} يشهد عليكم بما عملتم بالحق بلا زيادة، ولا نقصان. وهذا يحتمل أن يكون من قول الله تعالى للمبطلين يوم القيامة، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة لهم. والأول أقوى. ولفظ {يَنْطِقُ} استعارة تصريحية بالفعل، والاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة؛ لأنّ شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإنسان بلسانه. وفي سورة (المؤمنون) رقم [62] قوله تعالى:{وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وقيل: إنهم يقرؤونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم، دليله قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [14]:{اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} لذا يقولون ما حكى الله عنهم في سورة (الكهف) رقم [49]: {وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} .
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف أضيف الكتاب إليهم، وإلى الله عز وجل؟ قلت: الإضافة تكون للملابسة، وقد لابسهم، ولابسه، أما ملابسته إياهم؛ فلأن أعمالهم مثبتة فيه، وأما ملابسته إياه؛ فلأنه مالكه، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده.
{إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ..} . إلخ: أي: نأمر بنسخ ما كنتم تعملون.
قال علي-كرّم الله وجهه-: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن الله وكّل ملائكة مطهرين، فينسخون من أم الكتاب في رمضان كل يوم ما يكون من أعمال بني آدم، فيعارضون حفظة الله على العبّاد كل خميس، فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقا لما في كتابهم الذي استنسخوه من ذلك الكتاب، لا زيادة فيه، ولا نقصان. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: وهل يكون النسخ إلاّ
من كتاب؟ وقال الحسن البصري: نستنسخ ما كتبته الحفظة على بني آدم؛ لأنّ الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال. انتهى. قرطبي بتصرف. ولا تنس: أنّ معنى الفعل: نثبت، ونحفظ.
الإعراب: {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محلّ له. {كِتابُنا:} خبر المبتدأ. و (نا): في محل جر بالإضافة. {يَنْطِقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{كِتابُنا} . {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَنْطِقُ} المستتر، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{كِتابُنا،} والعامل في الحال اسم الإشارة؛ لما فيه من معنى الفعل. هذا؛ ويجوز أن تكون الجملة في محل رفع خبر ثان، وأن يكون {كِتابُنا} بدلا من اسم الإشارة، وجملة:{يَنْطِقُ..} . إلخ خبرا وحده. انتهى.
جمل نقلا عن السمين. أقول: والأول أقوى، دليله قوله تعالى حكاية عن قول سارة:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً،} وقوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً} .
{إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {نَسْتَنْسِخُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب خبر «كان» ، وجملة:
{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ تعليل لما قبلها. {ما:}
تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
الذي، أو شيئا كنتم تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: نستنسخ عملكم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص، والتاء اسمه، وجملة:
{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبره.
الشرح: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: هذا تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى: {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} . {وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي: الأعمال الصالحات، وهو احتراس بأن الإيمان بدون عمل صالح قد لا يجدي، ولا يغني صاحبه شيئا، وقد ذكرته مرارا. وانظر العكس في سورة (غافر) رقم [40]. {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ:} انظر الآية [70] من سورة (الزخرف). {فِي رَحْمَتِهِ:} التي من جملتها الجنة، وهو قول البيضاوي، وفسرها الزمخشري، والقرطبي بالجنة نفسها، وهذه الجملة مقولة لمحذوف. {ذلِكَ} أي: الدخول في رحمة الله. {هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أي: النجاح العظيم، والربح الكبير؛ لخلوصه من المتاعب، والأكدار، والهموم، والأحزان. هذا؛ وفي
قوله: {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} مجاز مرسل، علاقته الحالية؛ أي: جنته؛ لأنّ الرحمة لا يحل فيها الإنسان؛ لأنها معنى من المعاني، وإنما يحل في مكانها، فاستعمال الرحمة مجاز أطلق فيه الحال، وأريد المحل.
الإعراب: {فَأَمَّا:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (أما): أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد.
أما كونها أداة شرط؛ فلأنها قائمة مقام الشرط وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء فأما الذين
…
إلخ، فأنيبت (أمّا) مناب:«مهما يك من شيء» فصار: أما الذين آمنوا
…
إلخ، وأما كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها، وأما كونها أداة توكيد، فلأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنه واقع لا محالة؛ لأنها علقته على أمر متيقن.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها. {الصّالِحاتِ:}
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {فَيُدْخِلُهُمْ:}
الفاء: واقعة في جواب (أما). (يدخلهم): مضارع، والهاء مفعول به. {رَبُّهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فِي رَحْمَتِهِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (يدخلهم
…
) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَأَمَّا الَّذِينَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها مستأنفة، ومفرعة عما قبلها، لا محل لها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {هُوَ:} مبتدأ ثان. {الْفَوْزُ:} خبره. {الْمُبِينُ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا ف:{الْفَوْزُ} خبر {ذلِكَ،} وعلى الوجهين فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا:} معطوف على ما قبله، فهو من باب المقابلة بين الفريقين:
فريق الإيمان والمؤمنين، وفريق الكفر والكافرين. انظر ما ذكرته في الآية رقم [74] من سورة (الزخرف) وإنك لتجد مثل هذه المقابلة، وبنصها في سورة (آل عمران) رقم [56] و [57] وفي سورة (النساء) رقم [173]. {أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي..}. إلخ: أي: فيقال لهم: ألم تأتكم رسلي، فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف القول والمعطوف عليه اكتفاء بالمقصود، واستغناء بالقرينة.
انتهى. بيضاوي وانظر ما ذكرته في الآية رقم [51] من سورة (الزخرف) في شرح: (أفلا).
{فَاسْتَكْبَرْتُمْ} أي: عن الإيمان بالله، ورسوله، وآياته. {وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} أي: كافرين، منكرين،
عادتكم الإجرام. وانظر التعبير عن الكافرين بالمجرمين في الآية رقم [74] من سورة (الزخرف).
الإعراب: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا:} انظر الآية السابقة فالإعراب لا يتغير. {أَفَلَمْ:} الهمزة:
حرف استفهام وتقرير. الفاء: حرف عطف على محذوف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم). {آياتِي:} اسم {تَكُنْ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {تُتْلى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى:{آياتِي،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر:
{تَكُنْ} . {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة: (لم تكن
…
) إلخ معطوفة على جملة محذوفة مع القول المحذوف. انظر الشرح. وجملة: «يقال لهم
…
» إلخ المقدرة في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو: {الَّذِينَ،} والجملة الاسمية هذه معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، لا محلّ لها مثلها. {فَاسْتَكْبَرْتُمْ:} الفاء: حرف عطف. (استكبرتم): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها. {وَكُنْتُمْ:} الواو: حرف عطف. (كنتم): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {قَوْماً:} خبر (كان). {مُجْرِمِينَ:} صفة: {قَوْماً،} وهي صفة موطئة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ} أي: بالبعث، والحساب، والجزاء يوم القيامة. {حَقٌّ:}
ثابت وواقع لا محالة. {وَالسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها:} لا شك في وقوع الساعة؛ أي: يوم القيامة. {قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السّاعَةُ} أي: أي شيء الساعة؟! استغرابا لها. والمعنى: أنكرتم وجودها، ووقوعها، والخطاب لكفار قريش كما هو ظاهر. {إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا} أي: لا نعلم ذلك إلاّ حدسا، وتوهما. ومعناه: إثبات الظن فحسب، فأدخل حرف النفي، والاستثناء؛ ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه، وزيد نفي ما سوى الظن توكيدا بقوله:{وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أي: بمتحققين، ومتأكدين؛ أي: من إمكانه، ووقوعه. ولعل ذلك قول بعضهم، تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم، وما تليت عليهم من الآيات في أمر الساعة، فكانوا في شك، وريب، وحيرة فما كانوا ليهتدوا سبيلا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ و {قِيلَ:} أصله: قول بضم القاف، وكسر الواو، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، بعد سلب حركتها فصار:(قول) بكسر القاف، وسكون الواو، ثم قلبت الواو ياء؛ لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار {قِيلَ} .
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [25]. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {وَعْدَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {حَقٌّ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل رفع نائب فاعل:
{قِيلَ} . أفاده ابن هشام في مغنيه، وهذا يكون جاريا على القاعدة العامة:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» وهذا لا غبار عليه، وقد ذكرت لك فيما مضى مرارا: أنّ بعضهم يعتبر نائب الفاعل ضميرا مستترا، تقديره:«هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف، يدلّ عليه المقام؛ أي: وقيل قول، وبعضهم يعتبر الجار والمجرور (لهم) المقدر هنا، والمذكور في غير هذه الآية في محل رفع نائب فاعل، والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في المغني حيث قال: إنّ الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات؛ ولهذا تقع مبتدأ، نحو «لا حول ولا قوة إلاّ بالله كنز من كنوز الجنة». ونحو:«زعموا مطيّة الكذب» ، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {وَالسّاعَةُ:} الواو: حرف عطف. (الساعة): يقرأ بالنصب عطفا على: {وَعْدَ اللهِ،} ويقرأ بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: الابتداء، وما بعدها من الجملة المنفية خبرها.
الثاني: العطف على محل اسم {إِنَّ؛} لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء. الثالث: أنه عطف على محل {إِنَّ} واسمها معا؛ لأن بعضهم كالفارسي، والزمخشري يرون: أن ل: {إِنَّ} واسمها موضعا، وهو الرفع بالابتداء. انتهى. جمل نقلا عن السمين.
{لا رَيْبَ فِيها} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [26] وهي في محل رفع خبر (الساعة) على رفعها، ويكون العطف عطف جملة اسمية على مثلها، وهي معطوفة على كلمة:{حَقٌّ} على نصب «الساعة» ، على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {قُلْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. وقيل: معطوف على ما قبله؛ لأنه من جملة ما يقال لهم، ولا بأس به. {ما:} نافية. {نَدْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو خبر مقدم. {السّاعَةُ:} خبر المبتدأ، أو مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي:{نَدْرِي،} والجملة الفعلية هذه في محل نصب مقول القول.
{إِنَّ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {نَظُنُّ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» .
{إِلاّ:} حرف حصر. {ظَنًّا:} مفعول مطلق، قال الفارسي، التقدير: إن نحن إلاّ نظن ظنا؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يكون في المفعول المطلق التوكيدي، لعدم الفائدة فيه، قال ابن هشام في الرد عليه: وأجيب بأن المصدر في الآية نوعي، على حذف الصفة؛ أي: إلاّ ظنا ضعيفا.
انظر الشاهد رقم [549] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . هذا؛ وعلى تقدير الفارسي؛ فالجملة
الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، رأيت تقديره. وعلى كل فالجملة في محل نصب مقول القول. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {نَحْنُ:}
ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع اسم (ما). {بِمُسْتَيْقِنِينَ:} الباء: حرف جر صلة.
(مستيقنين): خبر (ما)، مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {نَظُنُّ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33)}
الشرح: {وَبَدا لَهُمْ..} . إلخ: أي: وظهر للكافرين، والمجرمين، والفاسدين المفسدين في ذلك اليوم العظيم شأنه، الطويل زمانه، القريب أوانه-وهو يوم القيامة-مساوئ أعمالهم من الشرك، والظلم، والطغيان، والإفساد، والفساد، والاعتداء على حقوق العباد، أو ظهر لهم عقاب ما ذكر، وجزاؤه؛ حيث عاينوه بأعينهم. {وَحاقَ بِهِمْ..}. إلخ: أي: أحاط بهم العذاب، ونزل بهم من كل الجهات جزاء ما كانوا به يستهزئون. هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق الوقوع، والمبالغة في التهديد، والوعيد. هذا؛ ومثل الآية في نصها ومغزاها رقم [48] من سورة (الزمر).
الإعراب: {وَبَدا:} الواو: حرف استئناف. (بدا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {لَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتُ:} فاعل، وهو مضاف، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: سيئات الذي، أو شيء عملوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: وحاق بهم استهزاؤهم. هذا؛ والجار والمجرور {بِهِ} متعلقان بالفعل بعدهما، وتفصيل الإعراب لا يخفى عليك بعد هذا، وجملة:{وَحاقَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ} أي: نترككم في العذاب، ونعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم. {كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي: كما تركتم عدته، ولم تبالوا به، فلم تعملوا له؛ لأنكم لم تصدقوا به. {وَمَأْواكُمُ النّارُ:} مقركم، وملجأكم النار. {وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ:} يمنعونكم، ويخلصونكم من العذاب. وقد ثبت في الحديث الصحيح: أنّ الله تبارك وتعالى يقول لبعض بني آدم يوم القيامة: «ألم أزوّجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخّر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس،
وتربع؟! فيقول: بلى يا ربّ، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا! فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني!».
هذا؛ وقوله تعالى: {نَنْساكُمْ} معناه: نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم. معناه:
جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه، ورحمته، فخرج على مزاوجة الكلام، فهو كقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} رقم [40] من سورة (الشورى)، وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [194]:{فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ،} وقوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [30]: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} ومثل هذا يسمى في فن البديع:
مشاكلة، وهو يخرج على الاستعارة أيضا بتشبيههم بالأمر المنسي؛ حيث مثل تركهم في العذاب بمن حبس في مكان، ثم نسيه السجان من الطعام، والشراب؛ حتى هلك، وذلك بطريق الاستعارة التمثيلية.
الإعراب: {وَقِيلَ:} الواو: حرف عطف. (قيل): فعل ماض مبني للمجهول. {الْيَوْمَ:}
ظرف زمان متعلق بما بعده. {نَنْساكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل:(قيل). وانظر ما ذكرته في الآية رقم [32]. والجملة الفعلية: {وَقِيلَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية.
{نَسِيتُمْ:} فعل ماض، وفاعله، و (ما) والفعل (نسي) في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: ننساكم نسيانا كائنا مثل نسيانكم لقاء يومكم. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاّ في مواضع محصورة، وليس هذا منها. {لِقاءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {يَوْمِكُمْ:} مضاف إليه، فيه توسع في الظرف حيث أضيف إليه ما هو واقع فيه على حد قوله تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} رقم [33] فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، وإضافة (مكر) و {لِقاءَ} إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة: {يَوْمِكُمْ،} وبعضهم يعتبره بدلا منه، والأول أقوى، والهاء حرف تنبيه لا محل له.
{وَمَأْواكُمُ:} الواو: واو الحال. (مأواكم): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة. {النّارُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والميم. والرابط: الواو، والضمير. {وَما:} الواو: حرف عطف.
(ما): نافية. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة.
{ناصِرِينَ:} مبتدأ مؤخر، مجرور لفظا، مرفوع محلا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.
الشرح: {ذلِكُمْ} أي: العذاب، أو الجزاء الذي لقيتموه. {بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ..}. إلخ: بسبب أنكم اتخذتم آيات الله هزوا، وسخرية، ولعبا. {وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا:} بزينتها، وزخرفها، وغرتكم أموالكم، وجاهكم، ومناصبكم في هذه الدنيا. {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها} أي: من جهنم، فالفعل يقرأ بالبناء للمجهول من الرباعي المتعدي، ويقرأ بالبناء للمعلوم من الثلاثي اللازم. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: فالبناء للمعلوم لقوله تعالى في سورة (السجدة) رقم [20]: {كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها،} والبناء للمجهول لقوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [107]:
{رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ} . {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم؛ أي: يرضوه بالعتبى لفوات أوانه، وقد دعوا إليه في الدنيا؛ حيث ندبهم الله في كثير من الآيات إلى التوبة، والطاعة، وحثّهم في كثير من الآيات على الإنابة، والاستغفار، والإيمان به.
من قولهم: استعتبني فلان، فأعتبته؛ أي: استرضاني، فأرضيته. وجملة القول: لا يقال لهم يوم القيامة: ارضوا ربكم بتوبة، وطاعة. ومثله في سورة (فصلت) رقم [24]:{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ،} وقوله تعالى في سورة (النحل) رقم [84]: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ،} وقوله جلّ ثناؤه في سورة (الروم) رقم [57]: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} .
هذا؛ والاستعتاب: طلب العتاب. والمعتبة: هي الغلظة، والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة، والغضب، ويرجع إلى الرضا عنه، وإذا لم يطلب من خصمه العتاب؛ دلّ ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه، قال النابغة الذبياني يعتذر إلى النعمان بن المنذر مما وشي إليه عنه:[الطويل]
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته
…
وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
هذا؛ وقال جلّ شأنه في سورة (المرسلات): {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وفي «المصباح المنير» : عتب عليه عتبا من باب: ضرب، وقتل، ومعتبا أيضا: لامه في سخط، فهو عاتب، وعتّاب مبالغة، وبه سمّي، ومنه: عتاب بن أسيد الصحابي-رضي الله عنه. وعاتبه معاتبة، وعتابا. قال الخليل-رحمه الله تعالى-: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة
الموجدة. وأعتبني الهمزة للسلب؛ أي: أزال الشكوى، والعتاب، واستعتب: طلب الإعتاب، والعتبى: الاسم من الإعتاب. انتهى. جمل من سورة (الروم). وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنّ أحدكم الموت، إمّا محسنا؛ فلعلّه يزداد، وإمّا مسيئا؛ فلعلّه يستعتب» . رواه البخاري، ومسلم.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها؟ قلت: أما كونهم غير مستعتبين؛ فهذا معناه. أي: ما تقدم. وأما كونهم غير معتبين؛ فمعناه: أنهم غير راضين بما هم فيه؛ أي: يسألونه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته. انتهى. هذا؛ وفي قوله:{لا يُخْرَجُونَ..} . إلخ التفات من الخطاب في أول الآية إلى الغيبة في آخرها. انظر الالتفات في الآية رقم [11] من سورة (الزخرف).
الإعراب: {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {بِأَنَّكُمُ:} الباء: حرف جر. (أنكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {اِتَّخَذْتُمْ:} فعل، وفاعل. {آياتِ:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {هُزُواً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {وَغَرَّتْكُمُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به. {الْحَياةُ:} فاعله. {الدُّنْيا:}
صفة: {الْحَياةُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{فَالْيَوْمَ:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: الفصيحة، ولا وجه له قطعا. (اليوم): ظرف زمان متعلق بما بعده. {لا:} نافية. {يُخْرَجُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل، أو نائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي.
{هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يُسْتَعْتَبُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية لا محلّ لها مثلها.
{فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36)}
الشرح: {فَلِلّهِ الْحَمْدُ:} قال الزمخشري: فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء في السموات، والأرض، والعالمين؛ فإن مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد، والثناء على كل مربوب. انتهى.
هذا؛ والحمد في اللغة: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على جهة التبجيل، والتعظيم، سواء أكان في مقابلة نعمة أم لا؟ فالأول كمن يحسن إليك، والثاني كمن يجيد صلاته. وهو في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث منعما على الحامد، أو غيره، سواء أكان ذلك قولا باللسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان؛ التي هي الأعضاء، كما قال القائل:[الطويل]
أفادتكم النّعماء مني ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجّبا
ومما هو جدير بالذكر: أنّ معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح؛ فهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. هذا؛ وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على حمد الله باللسان، والإكثار منه، ورغبنا فيه، وذكر لنا أحاديث ترغبنا فيه، وصيغا مفضلة على غيرها لما فيها من المعاني القوية، وخذ نبذة من ذلك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: «أنّ عبدا من عباد الله قال: يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضّلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها؟ فصعدا إلى السماء، فقالا: يا ربّنا إنّ عبدك قد قال مقالة، لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله-وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربّ إنه قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي؛ حتّى يلقاني، فأجزيه بها» . رواه أحمد، وابن ماجه.
وعن أبي أيوب-رضي الله عنه-قال: قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من صاحب الكلمة؟» . فسكت الرجل، وظنّ: أنه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء يكرهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هو؟ فإنه لم يقل إلاّ صوابا!» . فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله أرجو بها الخير! فقال: «والّذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك، أيّهم يرفعها إلى الله تعالى!» . رواه الطبراني، والبيهقي.
هذا؛ والرب يطلق ويراد به السيد، والمالك، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ..} . إلخ، وقوله أيضا:{أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً..} . إلخ. وقال الأعشى: [الكامل]
ربّي كريم لا يكدّر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة؛ أي: مالكها، ومتولي شؤونها، كما يراد به المربي، والمصلح. يقال: ربّ فلان الضيعة، يربّها إذا أصلحها. والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، بجعل النطفة علقة، ثم بجعل العلقة مضغة، ثم
بجعل المضغة عظما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين. هذا؛ ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلاّ مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك. والربّ المعبود بحق، والمراد منه: الله تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم
…
وللآكلين التّمر مخمس مخمسا
وهو اسم فاعل بجميع معانيه، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر. وانظر شرح {الْعالَمِينَ} في الآية رقم [46] من سورة (الزخرف).
الإعراب: {فَلِلّهِ:} الفاء: حرف استئناف. (لله): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {الْحَمْدُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {رَبِّ:} بدل، أو عطف بيان، أو صفة لفظ الجلالة. انتهى. سمين. و {رَبِّ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وما بعده معطوف عليه، وإعرابه مثله بلا فارق. هذا؛ وقال القرطبي: قرأ مجاهد، وحميد، وابن محيصن بالرفع فيها كلها على معنى:
هو رب. انتهى. وهي قراءة شاذة فوق السبعة لم يقل بها غير القرطبي.
{وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}
الشرح: {وَلَهُ الْكِبْرِياءُ} أي: العظمة، والجلال، والبقاء، والسلطان، والقدرة، والكمال.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ:} القوي القاهر؛ الذي لا يغلب. {الْحَكِيمُ:} فيما قدر، وقضى، فاحمدوه، وكبروه، وأطيعوا له. وخذ ما يلي:
فعن أبي سعيد، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه» ، قال الله تعالى:«فمن ينازعني عذّبته» . أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وأخرجه البرقاني وأبو مسعود-رضي الله عنهما-يقول الله عز وجل:«العزّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئا منهما؛ عذّبت» . ولأبي داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما؛ قذفته في النار» .
شرح غريب ألفاظ الحديث: قيل هذا الكلام خرج على ما تعتاده العرب في بديع استعاراتهم، وذلك: أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثياب، يقولون: شعار فلان الزهد، ولباسه
التقوى، فضرب الله عز وجل الإزار، والرداء؛ مثلا له في انفراده سبحانه وتعالى بصفات الكبرياء، والعظمة، والمعنى: أنهما ليسا كسائر الصفات؛ التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا، كالرحمة، والكرم، وغيرهما، وشبههما بالإزار، والرداء؛ لأنّ المتصف بهما يشملانه، كما يشمل الرداء الإنسان، ولأنه لا يشاركه في إزاره، وردائه أحد؛ فكذلك الله تعالى، لا ينبغي أن يشاركه أحد؛ لأنهما من صفاته اللازمة له، المختصة به؛ التي لا تليق لغيره، والله أعلم.
انتهى. خازن بحروفه. وانظر تحريم الكبر على المخلوقين في الآية رقم [60] من سورة (الزمر)، ورقم [85] من سورة (ص).
الإعراب: {وَلَهُ:} الواو: حرف عطف. (له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{الْكِبْرِياءُ:} مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْكِبْرِياءُ} والذين لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ يعتبرون الحال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. انظر الشاهد رقم [133] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَلَهُ الْكِبْرِياءُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. لا محل لها مثلها. {وَهُوَ:}
الواو: حرف عطف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} خبران للمبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها أيضا.
تأمل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (الجاثية) شرحا وإعرابا، والله الموفق والمعين.
والحمد لله رب العالمين.