الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب: {مَهِينٌ} موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، يريد: حقير ضعيف لا عزّ له، فهو يمتهن نفسه في حاجاته؛ لحقارته وضعفه.
{وَلا يَكادُ يُبِينُ} أي: يفصح بكلامه للّثغة؛ التي كانت في لسانه. وإنما عابه بذلك لما كان عليه أولا، واللثغة التي كانت في لسانه حصلت من الجمرة التي التقمها، وذلك: أن موسى ربّي في حجر فرعون، فكان يلاعبه ذات يوم، فلطم موسى فرعون لطمة على وجهه، وأخذ بلحيته، فقال فرعون لامرأته آسية بنت مزاحم-وهي بنت عم موسى-: إن هذا عدوي. وأراد قتله، فقالت له آسية-عليهاالسّلام-: إنه صبي لا يعقل، جربه؛ إن شئت، فجاءت بطستين، في أحدهما جمرة، وفي الآخر جوهرة. وقيل: تمر، فوضعتهما بين يدي موسى؛ وفرعون ينظر، فأراد أن يأخذ الجوهرة، فأخذ جبريل عليه السلام يد موسى، فوضعها على الجمر، فأخذ جمرة، فوضعها في فمه، فاحترق لسانه، وصارت فيه عقدة، وقد سأل الله تعالى أن يحل هذه العقدة؛ حيث قال في سورة (طه):{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي} انظر الآية رقم [28] هناك تجد ما يسرّك.
تنبيه: كاد، يكاد: فعل يدل على وقوع مقاربة الفعل بعدها، ولذا لم تدخل عليه «أن» لأنها تخلص الفعل للاستقبال، وإذا دخل عليه حرف النفي؛ دلّ على أن الفعل بعده وقع، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [71]:{فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} وإذا لم يدخل عليه حرف نفي لم يكن الفعل بعده واقعا، ولكنه قارب الوقوع. وفعله واوي العين، فيكاد وزنه: يكود، كيعلم، نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها؛ لأنّ الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم يقال: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا، فصار: يكاد، بوزن: يخاف. و «كاد» أصله: كود بكسر الواو، كخوف، ومصدره الكود، كالخوف، وهذا في كاد يكاد الناقصة وأما «كاد» التامة، فهي يائية العين المفتوحة في الماضي كباع، ومصدره:
الكيد، كالبيع، ولذا جاء المضارع في القرآن مختلفا، فمن الأول قوله تعالى في سورة (النور):
{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ..} . إلخ، والآية التي نحن بصدد شرحها، ومن الثاني قوله تعالى في سورة (يوسف):{فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} وقوله جلّ ذكره في سورة الطارق: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} ومعنى الأول المقاربة، ومعنى الثاني المكر، والأول ناقص التصرف، ويحتاج إلى مرفوع، ومنصوب، والثاني تام التصرف، ويكتفي بالفاعل، وينصب المفعول به.
فائدة:
قد تأتي «كاد» بمعنى: أراد، قاله محب الدين الخطيب، شارح شواهد الكشاف، وجعل منه قول الراقدة الأودي:[البسيط]
والبيت لا يبتنى إلاّ بأعمدة
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمّع أسباب وأعمدة
…
وساكن بلغوا الأمر الّذي كادوا
أي: الذي أرادوا، ومنه قول الآخر:[الكامل]
كدنا وكدت وتلك خير إرادة
…
لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى
أي: أردنا وأردت، دليله:«خير إرادة»
تنبيه: شاع على الألسن أن نفي «كاد» . إثبات، وإثباتها نفي، ولذا ألغز المعري بقوله:[الطويل] أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة؟
…
جرت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت
…
وإن أثبتت قامت مقام جحود
فأجابه الشيخ جمال الدين بن مالك، صاحب الألفية بقوله:[الطويل] نعم هي كاد المرء أن يرد الحمى
…
فتأتي لإثبات بنفي ورود
وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى
…
فخذ نظمها فالعلم غير بعيد
وقد اتفقت كلمة النحاة على أنّ (كاد، يكاد) كسائر الأفعال، وكلامهم متقارب المعنى في هذا الشأن، ومتشابه. انظر الشاهد [1127] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والأشموني وغيرهما، وها أنذا أسوق لك ما ذكره السيوطي رحمه تعالى في كتابه (همع الهوامع) لتكون على بصيرة من أمرك. قال-رحمه الله تعالى-: والتحقيق: أنّها كسائر الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات، إلاّ أنّ معناها المقاربة، لا وقوع الفعل، فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أنّ من لم يقارب الفعل، لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل، ولا يلزم من مقاربته وقوعه، فقولك:(كاد زيد يقوم) معناه: قارب القيام، ولم يقم، ومنه قوله تعالى:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يقارب الإضاءة، إلاّ أنه لم يضيء، وقولك:(لم يكد زيد يقوم) معناه: لم يقارب القيام، فضلا عن أن يصدر منه، ومنه قوله تعالى:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقارب أن يراها، فضلا عن أن يرى، وقوله تعالى:{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي:
لا يقارب إساغته، فضلا عن أن يسيغه، وعلى هذا الزجاجي وغيره، وذهب قوم منهم ابن جني إلى أنّ نفيها يدلّ على وقوع الفعل ببطء لآية:{وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} فإنهم فعلوا بعد بطء. والجواب:
أنّها محمولة على وقتين؛ أي: فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذبح، بل أنكروا أشد الإنكار بدليل قولهم:{أَتَتَّخِذُنا هُزُواً} . انتهى.
وقال ابن هشام في مغنيه: فالجواب: أنّه إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا بعداء عن ذبحها، بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم، وتكرار سؤالهم. انتهى.
الإعراب: {أَمْ:} حرف إضراب. {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنْ هذَا:} متعلقان ب: {خَيْرٌ} والهاء حرف تنبيه لا محلّ له. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بدلا من
اسم الإشارة، والجملة الاسمية:{هُوَ مَهِينٌ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): نافية. {يَكادُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى: {الَّذِي} . {يُبِينُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{يَكادُ} . والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الموصول؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وأجيز اعتبارها مستأنفة. ولا تنس: أنّ الآية بكاملها من مقول فرعون.
الشرح: {فَلَوْلا:} هلا. {أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ:} إنما قال ذلك؛ لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: كانوا إذا سووا رجلا؛ سوروه بسوارين، وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسيادته. فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا؟! {أَوْ جاءَ مَعَهُ..} . إلخ؛ متتابعين، يعاونونه على من خالفه؟! والمعنى: هلا ضمّ إليه الملائكة التي يزعم أنها من عند ربه، حتى يتكثر بهم، ويصرفهم على أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب؟! فأوهم قومه: أنّ رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أنّ رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية، وكل عاقل يعلم: أنّ حفظ الله موسى مع تفرده، ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء أبلغ من أن يكون له أسورة، أو ملائكة يكونون معه أعوانا. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى؛ لأنّه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم. انتهى. قرطبي بتصرف. هذا؛ وأسورة: جمع: سوار، كخمار، وأخمرة، وقرأ أبي:«(أساور)» جمع: إسوار، وابن مسعود:
«(أساوير)» وقرأ الباقون «(أساورة)» جمع: أسورة، فهو جمع الجمع.
الإعراب: {فَلَوْلا:} الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف تحضيض. {أُلْقِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَسْوِرَةٌ:} نائب فاعل. {مِنْ ذَهَبٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {ذَهَبٍ} . {أَوْ:} حرف عطف. {جاءَ:} فعل ماض.
{مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْمَلائِكَةُ:} فاعل:
{جاءَ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {مُقْتَرِنِينَ:} حال من: {الْمَلائِكَةُ} منصوب، وعلامة نصبه الياء. والآية بكاملها من مقول فرعون.
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)}
الشرح: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ:} فاستجهل قومه. {فَأَطاعُوهُ:} انقادوا له لخفة أحلامهم، وقلة عقولهم، يقال: استخفه الفرح؛ أي: أزعجه، واستخفه: أي: حمله على الجهل، ومنه قوله
تعالى في سورة (الروم) رقم [60]: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} . {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ:} كافرين، خارجين عن طاعة الله.
هذا؛ وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات: الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها. والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها. والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها. فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولا بس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك، فلا يسلب عنه اسم المؤمن؛ لاتصافه بالتصديق، الذي هو مسمى الإيمان.
هذا؛ وقال الزمخشري: الفسوق: الخروج من الشيء، والانسلاخ منه. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه: فقست البيضة إذا كسرتها، وأخرجت ما فيها. ومن مقلوبه أيضا: فقست الشيء: إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد، والانسلاخ من الحق. قال رؤبة:[الرجز]
فواسقا عن قصدها جوائرا
الإعراب: {فَاسْتَخَفَّ:} الفاء: حرف استئناف. (استخف)؛ فعل ماض، والفاعل يعود إلى:
{فِرْعَوْنُ،} تقديره: «هو» . {قَوْمَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {فَأَطاعُوهُ} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر (كان). {فاسِقِينَ:} صفة: {قَوْماً،} وجملة: {كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّهُمْ،} والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنّها تعليلية.
{فَلَمّا آسَفُونا اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}
الشرح: {فَلَمّا آسَفُونا:} أسخطونا، وأغضبونا بالإفراط في العناد، والعصيان، منقول من: أسف: إذا اشتد. والمراد: بغضب الله، وأسفه: إرادة الانتقام، وهو قوله:{اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ} . وقال عمر بن ذر: يا أهل المعاصي لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه، فإنه قال:{فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ} . {فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ:} وكان ذلك في البحر الأحمر حين لحقوا ببني إسرائيل، كما رأيت في سورة (الشعراء).
قال المفسرون: اغترّ فرعون بالعظمة، والسلطان، والأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله بجنس ما تكبر به هو، وقومه، وذلك بالغرق بماء البحر. وفيه إشارة إلى أنّ من تعزز بشيء
أهلكه الله به. وقد رأينا من تعزز بأولاده فكانوا وبالا عليه بعقوقهم له، ومن تعزز بما له كان هلاكه بسببه.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [30]. {آسَفُونا:}
ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها على اعتبار (لما) حرفا. {اِنْتَقَمْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها جواب (لما)، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {فَأَغْرَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة:{اِنْتَقَمْنا مِنْهُمْ} ومفسرة لها. {أَجْمَعِينَ:} توكيد للضمير المنصوب مع الميم، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)}
الشرح: {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} يعني: جعلنا المتقدمين الماضين من فرعون، وقومه عبرة، وموعظة لمن يجيء بعدهم، ومثلا يضرب بهم الأمثال، ويقال: مثلكم مثل قوم فرعون.
الإعراب: {فَجَعَلْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعوله الأول. {سَلَفاً:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ} لا محلّ لها مثلها. {وَمَثَلاً:} معطوف على:
{سَلَفاً} . {لِلْآخِرِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة ل: (مثلا) وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{وَلَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}
الشرح: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [98]:
{إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} امتعضوا امتعاضا شديدا، فقال عبد الله بن الزّبعرى: يا محمد! أخاصة لنا، ولآلهتنا، أم لجميع الأمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هو لكم، ولآلهتكم، ولجميع الأمم» . فقال: خصمتك ورب الكعبة! ألست تزعم: أنّ عيسى ابن مريم نبي، وتثني عليه خيرا، وعلى أمه، وقد علمت: أن النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون؛ فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن، وآلهتنا معهم! ففرحوا، وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في سورة (الأنبياء) الآية رقم [101]:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ} والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزّبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إِذا قَوْمُكَ} قريش من هذا المثل {يَصِدُّونَ} ترتفع لهم جلبة، وضجيج فرحا، وجذلا، وضحكا بما سمعوا منه من إسكات
رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيّوا بحجة، ثم فتحت عليهم. وأما من قرأ:«(يصدون)» بالضم، فمن الصدود؛ أي: من أجل هذا المثل يصدون عن الحق، ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد، وهو الجلبة، وأنهما لغتان، نحو: يعكف، ويعكف، ولهما نظائر.
انتهى. كشاف بتصرف. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [37]. هذا؛ ولو عقل ابن الزبعرى آية الأنبياء السابقة لما فرح؛ لأن (ما) لغير العاقل. وروي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ما أجهلك بلغة قومك أما تعلم: أن «من» للعاقل و «ما» لغيره».
الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [30]. {ضُرِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {اِبْنُ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول، و {اِبْنُ} مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. {مَثَلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة «لما» إليها، على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها على اعتبار (لمّا) حرفا؛ لأنها ابتدائية. {إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} انظر:{إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ} في الآية رقم [47] فالإعراب لا يتغير.
الشرح: {وَقالُوا} أي: كفار قريش. {أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون: محمدا صلى الله عليه وسلم، فنعبده، ونطيعه، ونترك آلهتنا. وقيل: معنى {أَمْ هُوَ} يعني: عيسى، فهم يعنون: أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، وإذا كان عيسى من حصب النار؛ كان أمر آلهتنا هينا. {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً} أي: إلاّ لأجل الجدل، والغلبة في القول، لا لطلب التمييز بين الحق، والباطل. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ:} لدّ شدّاد الخصومة، دأبهم اللجاج، والجدال بالباطل، كقوله تعالى في سورة (مريم) رقم [97]:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} . فعن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه، إلاّ أوتوا الجدل» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} . أخرجه الترمذي.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.
{أَآلِهَتُنا:} الهمزة: حرف استفهام. (آلهتنا): مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {خَيْرٌ:}
خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَمْ:} حرف عطف معادل للهمزة.
{هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: أم هو خير، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. وقيل:
الضمير معطوف على: (آلهتنا) عطف مفرد على مفرد، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على (لما)، ومدخولها لا محلّ لها مثله.
(ما): نافية. {ضَرَبُوهُ:} فعل، وفاعل، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{إِلاّ:} حرف حصر. {جَدَلاً:} مفعول لأجله. وقيل: هو مصدر في موضع الحال؛ أي:
مجادلين. {بَلْ:} حرف عطف. {هُمْ:} مبتدأ. {قَوْمٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {خَصِمُونَ:} صفة: {قَوْمٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)}
الشرح أي: ما عيسى إلاّ عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل؛ أي: آية، وعبرة يستدل بها على قدرة الله تعالى، فإن عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- خلق من غير أب، ثم أيده الله بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، والأسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق، وأحبهم إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم. وقد برع الناس في الطب في عهده، ولكنهم لم يقدروا على مثل ما أيده الله به.
هذا؛ وخذ حياة عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فإنه لما بلغ من العمر ثمانية أيام حملته أمه إلى الهيكل فختن، وسمته: يسوع-يعني عيسى-كما أمرها جبريل حين بشّرها به. والختان من سنن الأنبياء، وهو من الفطرة، وهو شريعة سائر الأنبياء والمرسلين من عهد إبراهيم، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وقد جاء في إنجيل برنابا ما يدلّ على ختان عيسى، فلما تمت الأيام الثمانية حسب شريعة الرب، كما هو مكتوب في كتاب موسى؛ أخذا الطفل، واحتملاه إلى الهيكل؛ ليختناه، فختنا الطفل، وسمياه: يسوع، كما تسمّى من الملاك قبل أن حبل به في الرحم.
ونشأ عيسى عليه السلام في كنف أمه بعيدين عن بيت لحم في ربوة مرتفعة، ذات استقرار، وأمن، وماء معين، كما قال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [50]:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} . انتهى. «النبوة والأنبياء» للصابوني. هذا؛ والضمير في:
«أخذا» وما بعده أرى أنه يعود إلى مريم، ويوسف النجار، الذي لزمها منذ ظهر حملها كما ذكر ذلك الصابوني نفسه.
هذا؛ و {إِسْرائِيلَ} هو نبي الله يعقوب، ومعناه بالعبرانية: صفوة الله، أو عبد الله، ف:«إسرا» هو العبد، أو الصفوة، و «إيل» هو الله، ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم، وهو النافلة؛ التي امتنّ الله بها على إبراهيم بقوله:{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} رقم [72] من سورة
(الأنبياء)، ولقد وجدت في كثير من المراجع الموجودة عندي: أن يعقوب كان توأما مع أخ له، اسمه: عيصو في بطن واحد، فعند خروجهما من بطن أمهما تزاحما، وأراد كل منهما أن يخرج قبل صاحبه، فقال عيصو ليعقوب: إن لم تدعني أخرج قبلك، وإلاّ خرجت من جنبها، فتأخر يعقوب شفقة منه على أمه، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبارين، والله أعلم بحقيقة ذلك.
الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {هُوَ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر.
{عَبْدٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {أَنْعَمْنا:} فعل، وفاعل.
{عَلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{عَبْدٌ} . {وَجَعَلْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {مَثَلاً:}
مفعول به ثان. {لِبَنِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {مَثَلاً،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني) مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.
{وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)}
الشرح: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ:} خطاب لقريش؛ أي: فنحن أغنياء عنكم، وعن عبادتكم، بل لو نشاء؛ لأهلكناكم، وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة مكرمين يعمرونها، ويعبدوننا. فهذا تهديد، وتخويف لقريش. هذا؛ وفي (من) أقوال: أحدها: أنها بمعنى: بدل؛ أي: لجعلنا بدلكم، ومنه قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [38]:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ} والثاني: وهو المشهور: أنها تبعيضية. قال أبو البقاء: وقيل: المعنى: لحولنا بعضكم ملائكة. وقال ابن عطية: لجعلنا بدلا منكم.
وقيل المعنى: لو نشاء لجعلنا من الإنس ملائكة، وإن لم تجر العادة بذلك، وجملة القول:
لو نشاء لأسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم: بنات الله، ومعنى {يَخْلُفُونَ} يخلف بعضهم بعضا. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما.
والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{نَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَعَلْنا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (جعلنا): فعل، وفاعل. {مِنْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، على أنهما مفعوله الأول، وقد رأيت: أن (من) بمعنى: بدل، أو بعض. {مَلائِكَةً:} مفعوله الثاني، والجملة
الفعلية جواب (لو)، لا محلّ لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {فِي الْأَرْضِ:}
متعلقان بما بعدهما، وجملة:{يَخْلُفُونَ} في محل نصب صفة: {مَلائِكَةً} .
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
الشرح: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ:} قال الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير: يريد: القرآن؛ لأنّه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تعلم الساعة، وأهوالها، وأحوالها. وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وقتادة في قول له آخر: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة؛ لأنّ الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أنّ خروج الدجال من أعلام الساعة. هذا؛ وقرئ:«(لعلم للساعة)» بفتح اللام، والعين؛ أي: أمارة، وعلامة. {فَلا تَمْتَرُنَّ بِها:} فلا تشكن فيها، وإعلاله مثل إعلال:(ليقولن) في الآية رقم [9]. {وَاتَّبِعُونِ} أي:
واتبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي. وقيل: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يقوله. {هذا صِراطٌ:} طريق. {مُسْتَقِيمٌ:} قويم إلى الله لا اعوجاج فيه، لا يضل سالكه، وإعلاله مثل إعلال (مقيم) في الآية رقم [45] من سورة (الشورى).
تنبيه: (الساعة): القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلاّ الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت: ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأنّ حساب الخلائق يوم القيامة، يكون في ساعة، أو أقل من ذلك، قال تعالى في كثير من الآيات:{فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} .
ولا تنس: أن ساعة كل إنسان، وقيامته وقت مقدمات موته، وما فيه من أهوال، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات فقد قامت قيامته» . وقيل: سميت الساعة بذلك؛ لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، وقد ثبت أن لقيام الساعة علامات، وهي صغرى وكبرى، فالصغرى قد ظهر جميعها، كقبض العلم الشرعي، وتقارب الزمان، وفيض المال، وكثرة الزلازل، وكثرة القتل، وتطاول البدو في البنيان، وكثرة الفجور، والفسوق، وغير ذلك ما هو واقع، ومشاهد الآن.
أمّا العلامات الكبرى فخذها بما يلي: فعن حذيفة بن أسيد الغفاري-رضي الله عنه-قال:
طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نتذاكر الساعة، قال:«إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» . أخرجه مسلم.
أقول: ما ذكر في الحديث الشريف، بعضه من علاماتها، وبعضه من مبادئها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك يغلق باب التوبة، ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل. انظر الآية رقم [158] من سورة (الأنعام). وانظر ما ذكرته في الآية رقم [17 و 18] من سورة (الشورى) فإنه جيد.
تنبيه: وردت أحاديث كثيرة بشأن عيسى عليه السلام، أكتفي منها بما يلي: فعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينزلنّ عيسى ابن مريم حكما عادلا، فليكسرنّ الصليب، وليقتلنّ الخنزير، وليضعنّ الجزية، ولتتركنّ القلاص، فلا يسعى عليها أحد، ولتذهبنّ الشحناء، والتباغض، والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد» . أخرجه مسلم، وابن ماجه.
وذكر الثعلبي، والزمخشري، وغيرهما من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الأرض المقدسة، يقال لها:
أفيق بين ممصّرتين، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس، والناس في صلاة العصر، والإمام يؤمّ بهم، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى، ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع، والكنائس، ويقتل النصارى؛ إلاّ من آمن به».
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عادلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» . متفق عليه، وفي رواية لأبي داود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بيني وبين عيسى نبيّ، وإنه نازل فيكم، فإذا رأيتموه؛ فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة، والبياض، ينزل بين ممصّرتين، كأنّ رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل النّاس على الإسلام، فيدقّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلّها إلاّ الإسلام، ويهلك الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفّى، ويصلّي عليه المسلمون» . وروي أنّه يتزوج ويولد له ولدان، يسمي أحدهما: موسى، والآخر: محمدا.
وفي صحيح مسلم: «فبينما هو-يعني المسيح الدجال-إذ بعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين-شقتين، أو حلتين-واضعا كفيه على أجنحة ملكين؛ إذا طأطأ رأسه؛ قطر، وإذا رفعه؛ تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلاّ مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ، فيقتله» . وروى خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي، وإنه أول نازل، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويقاتل الناس على الإسلام» .
أما الدجّال؛ فهو بشر من بني آدم، يخرج في آخر الزمان عند غلاء الأسعار، وكثرة الفجور، وسفك الدماء، يبتلي الله به عباده، ويقدره على أشياء تدهش العقول، وتحيّر الألباب،
يعثر بها بعض العباد، ويثبت الله من سبقت له السعادة، كإحياء الميت الذي يقتله، ومعه جبل من خبز، وجبل من أنواع الفواكه، وأرباب الملاهي يضربون بين يديه بالطبول، والعيدان، ويمر بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ومعه جنة، ونار، فناره جنة، وجنته نار، ويظهر الخصب على يديه، فيقول للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض أنبتي، فتنبت، ويقود وراءه نهرين من ماء، فيطعم، ويسقي من آمن به، وإلاّ قتله، وقال: أنا ربكم.
وهو مطموس العين كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن، فيخرج على حمار، ويتناول السماء بيده، ويخوض البحر إلى كعبيه، ويستظل بإذن حماره خلق كثير.
ويمكث في الأرض أربعين يوما، كما ورد في حديث شريف عن النواس بن سمعان، قال:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، ولبثه في الأرض أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فيتبعه اليهود، ويصدقونه، فهم ينتظرون الدجال، كما ينتظر المؤمنون المهدي، فإذا أراد الله هلاكه، وهلاك من معه؛ دفع به إلى ناحية دمشق، فيلتقي به المهدي بعسكره، فيقتل من أصحابه ثلاثين ألفا، فينهزم الدجال، ثم يهبط عيسى عليه السلام إلى الأرض، وهو متعمم بعمامة خضراء، متقلّد بسيف، راكب على فرس، وبيده حربة، فيأتي إليه، فيطعنه بها، فيقتله، وينهزم اليهود الذين معه، ويقتلون قتلا عظيما. ويروى: أن المسلم يطلب اليهودي، فيستتر بحجر، أو شجرة، فيناديه الحجر، والشجرة: يا ولي الله! هلمّ هذا عدوّ الله مستتر بي تعال، فاقتله! وهذا يشير إلى أنّ القتال يكون في السيف يومئذ.
الإعراب: {وَإِنَّهُ:} الواو: واو الحال. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {لَعِلْمٌ:} اللام: هي المزحلقة. (علم): خبر (إنّ). {لِلسّاعَةِ:} متعلقان بمحذوف صفة: (علم)، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب بقوله (جعلناه) والرابط: الواو، والضمير، وعليه فالآية:{وَلَوْ نَشاءُ..} . إلخ معترضة بين الحال، وصاحبها.
هذا؛ والحالية أقوى من الاستئناف. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية. {تَمْتَرُنَّ:}
فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة المحذوفة، المدلول عليها بالضمة فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، أو واقعا؛ فلا تمترن. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَاتَّبِعُونِ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه، لا محلّ له. {صِراطٌ:} خبره. {مُسْتَقِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية تعليلية، لا محلّ لها.
هذا؛ وجملة: {وَاتَّبِعُونِ} في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقل لهم:
اتبعون، وهذا على الوجه الثاني في الشرح.
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
الشرح: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ:} ولا يصرفنكم الشيطان عن توحيد الله، وعبادته بأن تغتروا بوساوسه، وزخارفه. والخطاب في هذه الآية وسابقتها يشمل الكافرين، والمؤمنين، بل هو بالمؤمنين أليق؛ لأنهم يعلمون عداوة الشيطان لهم أكثر من الكافرين. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ:}
عداوته لكم ثابتة من قديم الأزل؛ حيث أخرجكم من الجنة، وعرّضكم للبلية؛ بسبب إخراجه أباكم من الجنة.
هذا؛ و {عَدُوٌّ} ضد الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى: فاعل، مثل: صبور، وشكور، وما كان على هذا الوزن في سورة (الشعراء) يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، إلاّ لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا: هذه عدوة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} فقد عبّر به عن مفرد، وقال تعالى في سورة (الشعراء) حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} فقد عبّر به عن جمع، كما هو واضح، ومثل ذلك صديق، كما في قوله تعالى في سورة (النور) رقم [61]:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} وأيضا {ظَهِيرٌ} في الآية رقم [4] من سورة (التحريم): {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} .
وجمع عدو: أعداء وأعاد، وعدات وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع.
وفي القاموس المحيط: والعدا بالضم، والكسر: اسم الجمع. هذا؛ وسمي العدو عدوا لعدوه عليك عند أول فرصة تسنح له للإيقاع بك، والقضاء عليك، كما سمي الصديق صديقا لصدقه فيما يدعيه لك من الألفة، والمودة، والمحبة.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف- (لا): ناهية. {يَصُدَّنَّكُمُ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محلّ له، وهو في محل جزم ب:(لا) الناهية، والكاف مفعوله. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{فَلا تَمْتَرُنَّ بِها} لا محل لها مثلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبّه بالفعل، والهاء اسمه. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {عَدُوٌّ} أو ب: {مُبِينٌ} بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر: (إن). {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محلّ لها.
الشرح: {وَلَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، وخلق الطير، والمائدة، وغيرها، والإخبار بكثير من الغيوب. {قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي: بالنبوة، أو بالإنجيل، أو بالشريعة. والحكمة علم ما يؤدي إلى الجميل، ويكف
عن القبيح، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [269]:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ،} وقال في سورة (لقمان) رقم [12]: {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ} . {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ:} قال مقاتل: هو كقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [50]: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} يعني: ما أحلّ في الإنجيل مما كان محرما في التوراة، كلحم الإبل، والشحم من كل حيوان، وصيد السمك يوم السبت. وقال البيضاوي تبعا للزمخشري: هو ما يكون من أمر الدين، لا ما يتعلق بأمر الدنيا، فإن الأنبياء، لم تبعث لبيانه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنتم أعلم بأمور دنياكم» . انتهى.
والمراد: ما يتعلق بالزراعة، والحرف، والصناعات. أما ما يتعلق بالسياسة، وتنظيم الجيوش، وإعداد القوة التي ترهب أعداء الله، وأعداءنا؛ فإن هذا من الأمور الدينية الأخروية بلا شك.
{فَاتَّقُوا اللهَ} أي: اتقوا الشرك، واعبدوا الله وحده، مخلصين له الدين، وإذا كان هذا قول عيسى، فكيف يكون إلها، أو ابن إله، ألا ساء ما يأفكون. {وَأَطِيعُونِ:} فيما أدعوكم إليه من التوحيد، وعبادة الله. هذا؛ وعيسى بالعبرية: يسوع، وقال أبو البقاء: مأخوذ من العيس، وهو بياض يخالطه شقرة، ومنه قيل للإبل البيض: عيس، واحدها: بعير أعيس، وناقة عيساء. قال امرؤ القيس:[الطويل]
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه
…
كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
العيط: جمع عيطاء، وهي الناقة الفتية؛ التي لم تحمل.
الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [30]. {جاءَ:} فعل ماض. {عِيسى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {بِالْبَيِّناتِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية على اعتبار (لمّا) حرفا. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:{عِيسى} .
{قَدْ:} حرف تحقيق. {جِئْتُكُمْ:} فعل ماض، وفاعله ومفعوله. {بِالْحِكْمَةِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محلّ لها. {وَلِأُبَيِّنَ:} الواو: حرف عطف. (لأبين):
فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على ما قبلهما، وإن شئت قدر: وجئتكم للتبيين. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{بَعْضَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {تَخْتَلِفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {فِيهِ:}
متعلقان به. {فَاتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:}
منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير:
وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا فاتقوا. {وَأَطِيعُونِ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، والجملة الشرطية المقدرة مستأنفة، لا محلّ لها.
{إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)}
الشرح: {إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ:} خالقي، وخالقكم، ورازقي، ورازقكم، المستحق للعبادة، والطاعة. {فَاعْبُدُوهُ:} وحده، بل وأفردوه في العبادة، لا تشركوا معه أحدا. {هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: طريق لا اعوجاج فيه، ولا انحراف، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق. قال البيضاوي: الإشارة إلى مجموع الأمرين، وهو تتمة كلام عيسى، صلّى الله على نبينا، وعليه وسلم، أو استئناف من الله يدل على ما هو المقتضي للطاعة، والعبادة. هذا؛ والآية مذكورة في سورة (آل عمران) برقم [51]، وفي سورة (مريم) برقم [36].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسم: {إِنَّ} . {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {رَبِّي:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرَبُّكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول؛ إن كانت من تتمة كلام عيسى، ومستأنفة على اعتبارها مبتدأة من كلام الله تعالى، والأول هو الأرجح عندي بدلالة الكلام السابق، وبقرينة الآيتين اللتين ذكرتهما في (آل عمران) وسورة (مريم). {فَاعْبُدُوهُ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (اعبدوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا؛ فاعبدوه. {هذا:} مبتدأ.
{صِراطٌ:} خبره. {مُسْتَقِيمٌ:} صفة: {صِراطٌ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر، أو مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي: اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فاليهود قالوا: هو ساحر وابن زنى، والنصارى ثلاث فرق: قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. وقالت الملكانية: ثالث ثلاثة. وقالت
اليعقوبية: هو الله. انظر ما ذكرته في الآية رقم [30] من سورة (التوبة) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. فأفرطت النصارى، وغلت، وفرطت اليهود، وقصّرت، أما المسلمون؛ فقد قالوا الحق: إنما هو عبد الله، وكلمته.
هذا؛ و {الْأَحْزابُ} جمع: حزب، وهو في اللغة: أصحاب الرجل الذين يكونون معه على مثل رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم، يعني: أهمهم، وكل قوم تشاكلت قلوبهم، وأعمالهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضا. وحزب الشيطان: هم المتبعون وساوسه، وزخارفه، ودعوته إلى الشر والفساد. وحزب الله: هم المتبعون أوامره، المنتهون عن مناهيه. قال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [53]، وفي سورة (الروم) رقم [32]:{كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: كفروا، وظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي. {مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: أليم عذابه، ومثله: ليل نائم؛ أي: ينام فيه. هذا؛ و (ويل) كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، وأصلها في اللغة: العذاب، والهلاك. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:
الويل: شدّة العذاب. يقال: ويله، وويلك، وويلي. وفي الندبة: ويلاه. وتقول: ويل لزيد، وويلا لعمرو، فالرفع على الابتداء، والنصب على إضمار الفعل، هذا إذا لم تضفه، وأمّا إذا أضفته؛ فليس إلاّ النصب؛ لأنّك لو رفعته؛ لم يكن له خبر بخلافه في قول الأعشى، وهو البيت رقم [21] من معلقته:[البسيط]
قالت هريرة لمّا جئت زائرها
…
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
وقال واصل بن عطاء-رحمه الله تعالى-: الويل: واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال؛ لماعت من شدة حره. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . أخرجه الترمذي. هذا؛ والويل مصدر لم يستعمل منه فعل؛ لأنّ فاءه، وعينه معتلتان، ومثله: ويح، وويس، وويب، وهو لا يثنى، ولا يجمع. وقيل: يجمع على: ويلات بدليل قول امرئ القيس في معلّقته رقم [18]: [الطويل]
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
…
فقالت لك الويلات إنّك مرجلي
وإذا أضيفت هذه الأسماء؛ فالأحسن النصب على المفعولية المطلقة، وإذا لم تضف؛ فالأحسن فيها الرفع على الابتداء، وهي نكرات، وساغ ذلك لتضمنها معنى خاصا.
هذا؛ وويل نقيض: وأل، وهو النجاة. وقد ينادى الويل إذا أضيف لياء المتكلم، أو نا، وسبقته أداة النداء مثل قوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:
{يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} رقم [72]، وقوله تعالى في سورة (الكهف) حكاية عن قول الكافرين يوم القيامة:{يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} رقم [49]. ولا تنس: أنه
قد أنّث الويل في الآيتين المذكورتين، وأيضا في الآية رقم [31] سورة (المائدة) ورقم [28] من سورة (الفرقان)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَاخْتَلَفَ:} الفاء: حرف استئناف. (اختلف): فعل ماض. {الْأَحْزابُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنْ:} حرف جر صلة. {بَيْنِهِمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من: {الْأَحْزابُ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَوَيْلٌ:} الفاء: حرف استئناف. (ويل): مبتدأ سوغ الابتداء به، وهو نكرة الدعاء؛ لأنّه من المسوغات، سواء أكان له، أو عليه
…
إلخ. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وجملة:{ظَلَمُوا} صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ عَذابِ:} متعلقان بمحذوف صفة: (ويل) بعد الخبر، وهو جائز، ولا يجوز أن يتعلقا ب:(ويل) لأجل الفصل. انتهى. عكبري. وقال أبو السعود: متعلقان به على معنى: يولولون، ويضجون منه. والأول أولى. انتهى. من سورة (مريم). وقال الجمل هنا:
الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو حال؛ أي: حال كونه كائنا من عذاب يوم القيامة، لا من عذاب الدنيا. و {عَذابِ:} مضاف، و {يَوْمٍ} مضاف إليه. {أَلِيمٍ:} صفة:
{عَذابِ،} والجملة الاسمية: (ويل
…
) إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)}
الشرح: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ} أي: ما ينتظرون، يعني: أهل مكة، أو ما ينتظر الأحزاب إلاّ إتيان الساعة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر؛ شبهوا بالمنتظرين. {بَغْتَةً:} فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: وهم غافلون؛ لاشتغالهم بأمر دنياهم، كقوله تعالى في سورة (يس):{ما يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} هذا؛ والشعور: إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته.
الإعراب: {هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {إِلاَّ:} حرف حصر. {السّاعَةَ:} مفعول به. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَأْتِيَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى:{السّاعَةَ،} و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب بدل من: {السّاعَةَ} بدل اشتمال. {بَغْتَةً:} حال بمعنى: باغتة. هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وذهب الأخفش، والمبرد إلى أنه منصوب على المصدرية، والعامل فيه محذوف، والتقدير: تبغتهم بغتة، فالجملة الفعلية عندهما هي الحال من فاعل:{تَأْتِيَهُمْ،} لا {بَغْتَةً} وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب
على المصدرية، كما ذهبا إليه، لكن الناصب له عندهم الفعل المذكور، وهو:{تَأْتِيَهُمْ} لتأوله بفعل من لفظ المصدر، والتقدير: تأتيهم آتية. انتهى. شرح ابن عقيل. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
ومصدر منكّر حالا يقع
…
بكثرة كبغتة زيد طلع
وهو تعبير عن مذهب سيبويه، والجمهور. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ.
{إِلاَّ:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} مضارع، وفاعله، ومتعلقه محذوف، التقدير: لا يشعرون بإتيانها.
والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الفعلية:{هَلْ يَنْظُرُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)}
الشرح: {الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ:} يوم القيامة، و {الْأَخِلاّءُ:} جمع خليل، وهو الصديق الذي صفت مودته، فتجد من خلاله مثل ما يجد من خلالك، ويسعى لمصلحتك كما يسعى لمصلحته، بل قد يؤثرك على نفسه، ويبذل روحه من أجلك، كما قال ربيعة بن مقروم الضبي:[الوافر]
أخوك أخوك من يدنو وترجو
…
مودّته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
…
وزاد سلاحه منك اقترابا
وهو معدوم في هذا الزمن، الذي فسد أهله، وصاروا خلاّ ودودا، كما قال القائل:[الوافر]
سألت الناس عن خلّ ودود
…
فقالوا الناس من خلّ ودود
فقلت أليس فيهم ذو وفاء؟
…
فقالوا كان ذلك في الجدود
احفظ البيتين، ولا تنس ما فيهما من الجناس التام، لذا فإنه لا وجود للصديق بالمعنى الحقيقي، بل صار وجوده مستحيلا، كما قال القائل، وهو صفي الدين الحلّي:[الكامل]
قد قيل إن المستحيل ثلاثة
…
الغول والعنقاء والخلّ الوفي
{بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي: أعداء، يعادي بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك لانقطاع العلق الدنيوية التي كانت بينهم على معصية الله، ومحاربة الله ورسوله؛ لأنّ كل صداقة ومحبة مبنية على ذلك نتيجتها العداوة، والبغضاء في الدنيا، وفي الآخرة، وكل صداقة مبنية على طاعة الله وطاعة رسوله، فإنها تدوم، وتصفو، كما قال علي-رضي الله عنه:[الوافر]
وكلّ محبة لله تصفو
…
ولا يصفو على الفسق الإخاء
هذا؛ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة-رضي الله عنه: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» . وقال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . ورحم الله من يقول في ذلك: [البسيط]
إن القلوب لأجناد مجندة
…
قول الرسول فمن ذا فيه يختلف؟
فما تعارف منها، فهو مؤتلف
…
وما تناكر منها، فهو مختلف
وفي معنى الحديث الأول يقول طرفة بن العبد في معلقته رقم [115]: [الطويل]
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه
…
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
…
ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي
{إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} أي: فإن خلتهم، وصداقتهم لما كانت في الله تبقى نافعة أبد الآبدين.
هذا؛ وذكر الإمام علي-رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه-في هذه الآية، فقال: كان خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين، فقال: يا رب! إنّ فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير، وينهاني عن الشر، ويخبرني: أنّي ملاقيك، يا رب! فلا تضله بعدي، واهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب! إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشر، ويخبرني: أني ملاقيك، فيقول الله تعالى:
نعم الخليل، ونعم الأخ، ونعم الصاحب كان!.
ويموت أحد الكافرين، فيقول: يا رب! إنّ فلانا كان ينهاني عن طاعتك، وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر، وينهاني عن الخير، ويخبرني: أني غير ملاقيك، فأسألك: يا رب أن لا تهديه بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني، فإذا مات خليله الكافر؛ قال الله تعالى لهما: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب! إنه كان يأمرني بمعصيتك، ومعصية رسولك، ويأمرني بالشرّ، وينهاني عن الخير، ويخبرني: أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف له العذاب، فيقول الله تعالى: بئس الصاحب، والأخ، والخليل كنت! فيلعن كل واحد منهما صاحبه. انتهى. قرطبي، وخازن. أقول: وهو كقوله تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [25] حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [27] وما بعدها من سورة (الفرقان) فهناك بحث جيد يسرّك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {الْأَخِلاّءُ:} مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق ب: {عَدُوٌّ،} و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة؛
إذ التقدير: يوم إذ تأتيهم الساعة
…
إلخ. {بَعْضُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة.
{لِبَعْضٍ:} متعلقان ب: {عَدُوٌّ} أيضا. وقيل: متعلقان بمحذوف حال منه، والأول أقوى، وأولى. {عَدُوٌّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{الْأَخِلاّءُ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الْمُتَّقِينَ:}
مستثنى بإلا منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ.
{يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)}
الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: قال مقاتل، ورواه المعتمر بن سليمان عن أبيه:
ينادي مناد في العرصات-أي: عرصات يوم القيامة حين يبعث الناس ويفزعون-: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ،} فيرفع أهل العرصة-أهل الموقف-رؤوسهم، فيقول المنادي:{الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ} فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين. وذكر المحاسبي في الرعاية، وقد روي في هذا الحديث: أنّ المنادي ينادي يوم القيامة: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ..} . إلخ فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا..} . إلخ فينكس الكفار رؤوسهم، ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالثة:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن، كما وعدهم؛ لأنّه أكرم الأكرمين، لا يخذل وليه، ولا يسلمه عند الهلكة. انتهى. وخذ ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة:
أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلّهم في ظلّي، يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي». رواه مسلم. وعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأثر عن ربه تبارك وتعالى يقول: «حقت محبّتي للمتحابّين فيّ، وحقّت محبّتي للمتواصلين فيّ، وحقت محبّتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبّتي للمتباذلين فيّ» . رواه الإمام أحمد.
وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء، والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله» . قالوا:
يا رسول الله! فخبرنا من هم؟ قال: «هم قوم تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، ولا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» }. رواه أبو داود. هذا؛ والفعل: {يَحْزَنُونَ} في هذه الآية من باب: فرح، وطرب، فهو لازم. ويأتي من باب: دخل، وقتل، فيكون متعديا، كما يكون متعديا إذا أتى من الرباعي.
الإعراب: {يا عِبادِ:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (عباد): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. هذا؛ وقرئ بإثبات الياء:«(يا عبادي)» . {لا:}
نافية مهملة، ولا يجوز إعمالها إعمال «ليس»؛ لأنها تكررت. {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَوْفٌ} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. هذا؛ وقيل: {عَلَيْكُمُ} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {الْيَوْمَ:} متعلق بمحذوف حال. ولا وجه له؛ لأنّ صاحب الحال لا يكون الكاف؛ إذ المعنى لا يؤيده. وأيضا:
فالخبر ما تتمّ به الفائدة، والفائدة لا تتم بالجار والمجرور كما هو واضح. هذا؛ وقراءة الجمهور برفع {خَوْفٌ} وتنوينه، وقرأ ابن محيصن بالرفع دون تنوين على حذف مضاف، وانتظاره، تقديره: لا خوف شيء، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالفتح على اعتبار:{لا} نافية للجنس، عاملة عمل «إنّ» وهي عندهم أبلغ. انتهى. سمين. أقول: والمعتمد الأول، وهي قراءة سبعية. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {أَنْتُمْ:} مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول لقول محذوف.
{الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69)}
الشرح: أي: هم الذين صدقوا بالقرآن، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واستسلموا لحكم الله وأمره، وانقادوا لطاعته، وآمنت ألسنتهم، وجوارحهم، وظواهرهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم، وظواهرهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة: (عبادي) أو بدل منه، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: الذين آمنوا، يقال لهم: ادخلوا
…
إلخ، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير:
أعني، أو أمدح الذين
…
إلخ. {آمَنُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {بِآياتِنا:}
متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَكانُوا:} الواو: واو الحال. (كانوا): ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مُسْلِمِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة، وإن عطفتها على جملة الصلة؛ فلست مفندا، ولكن الحال آكد، وأبلغ، فإن كلمة:(كان) تدلّ على الاستمرار.
{اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}
الشرح: {اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة. {أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ:} نساؤكم المؤمنات. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين، والأول أصحّ، وأقوى. {تُحْبَرُونَ:} تكرمون، وتنعمون. وقيل: تسرون سرورا تهلل له وجوهكم. والحبر، والحبور هو السرور. وقيل: هو من التحبير، وهو التحسين، يقال: هو حسن الحبر، والسبر بكسر الحاء والسين، وفتحهما. وفي الحديث:«يخرج من النّار رجل ذهب حبره وسبره» .
فالمفتوح مصدر، والمكسور اسم.
روي: أنّ في الجنة أشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. وقال الأوزاعي: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم، وتسبيحهم. زاد غير الأوزاعي، ولم تبق شجرة في الجنة، إلاّ وردّت، ولم يبق ستر، ولا باب إلاّ أرتج، وانفتح، ولم تبق حلقة إلاّ وطنّت بألوان طنينها، ولم تبق أجمة من آجام الذهب إلاّ وقع أهبوب الصوت في مقاصبها، فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر، ولم تبق جارية من جواري الحور العين إلاّ غنّت بأغانيها، والطير بألحانها.
ويوحي الله إلى الملائكة أن جاوبوهم، وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصوات روحانيين، فتختلط هذه الأصوات، فتصير رجة واحدة، ثم يقول الله عز وجل: يا داود قم عند ساق عرشي، فمجدني! فيندفع داود-عليه السلام-بتمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات، ويحليها، وتتضاعف اللذة، فذلك قوله تعالى في سورة (الروم) رقم [15]:{فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} . ذكره الترمذي الحكيم-رحمه الله تعالى-. انتهى. قرطبي.
ثم قال-رحمه الله تعالى-: وهذا كلّه من النعيم، والسرور الدائم، والإكرام السرمدي، فلا تعارض بين هذه الأقوال. وأين هذا من قوله الحق:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} على ما يأتي؛ أي: في سورة (السجدة)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . انتهى. قرطبي في سورة (الروم).
هذا؛ ومن الملح الطريفة ما حكي: أنّ أحد القراء، كان يقرأ في المصحف، فلما وصل إلى قوله تعالى:{اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ} وضع المصحف على كرسيه، وقال: اللهم لا تفعل! وجعل يكررها بصوت عال؛ لأن زوجته كانت نكدا عليه في دنياه. فقالت له زوجته: ما الذي دهاك يا رجل؟! ولماذا تقسم على الله هذا القسم، فقال: وكيف لا أقسم، والله تعالى يقول:
{اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ} وأنا صابر على إيذائك في هذه العاجلة، فكيف تكون دار
الخلود، فقالت: بحق الله لا تدع عليّ، وقد تبت إلى الله، ومن الآن أنا في طاعتك، فادع الله أن أكون معك في الجنة! فقال الرجل: اللهم آمين؛ إن كانت صادقة! وخذ ما يلي: [الطويل] أرى صاحب النسوان يحسب أنّها
…
سواء وبون بينهنّ بعيد
فمنهنّ جنات يفيء ظلالها
…
ومنهنّ نيران لهن وقود
وأنشد أبو العيناء عن أبي زيد: [البسيط]
إنّ النساء كأشجار نبتن معا
…
منهن مرّ وبعض المرّ مأكول
إنّ النّساء ولو صوّرن من ذهب
…
فيهن من هفوات الجهل تخييل
إنّ النساء متى ينهين عن خلق
…
فإنه واجب لا بدّ مفعول
وما وعدنك من شرّ وفين به
…
وما وعدنك من خير فممطول
الإعراب: {اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{الْجَنَّةَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، وقل مثل ذلك في:(دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام) وحكى الفراء في معاني القرآن: أنّ الحرف يحذف أيضا مع: انطلق، وخرج، تقول: انطلقت الشام، وخرجت السوق. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {وَأَزْواجُكُمْ:} معطوف على الضمير، والكاف في محل جر بالإضافة. {تُحْبَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا إعراب الجلال-رحمه الله تعالى-. هذا؛ وأرى اعتبار الضمير توكيدا لواو الجماعة، واعتبار:{وَأَزْواجُكُمْ} معطوفا على واو الجماعة أولى، وعليه فجملة:{تُحْبَرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، وإلاّ فماذا نقول في الجملة الاسمية على رأي الجلال، ولعلّه يرى اعتبارها حالا من واو الجماعة، والمعنى:
لا يؤيده. والآية الكريمة بكاملها في محل نصب مقول القول لقول محذوف.
الشرح: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ} أي: لهم في الجنة أطعمة، وأشربة، يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب، وأكواب. ولم يذكر الأطعمة، والأشربة؛ لأنه يعلم: أنّه
لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب، كقوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [35]:
{وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} وفي الصحيحين عن حذيفة-رضي الله عنه-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبسوا الحرير، ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» . عاد الضمير على الفضة مفردا، ويلزم حكم الذهب بطريق الأولى على حدّ قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [35]:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ} .
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون» . قالوا: فما بال الطّعام؟ قال: «جشاء، ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما يلهمون النّفس» . وروى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها» . وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك، ويقاس على الأكل، والشرب سائر الاستعمال، وأيضا الاقتناء، لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب، والحرير:«هذان حرام لذكور أمتي، حلّ لإناثها» .
هذا؛ و (الصحاف) جمع: صحفة، كالقصعة، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين، والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة: الكتاب، والجمع: صحف، وصحائف. {وَأَكْوابٍ:} جمع:
كوب، وهو وعاء مدور، لا أذن له، ولا عروة بخلاف الإبريق فإن له ذلك. هذا؛ وأتى بالأكواب جمع قلة، وبالصحاف جمع كثرة؛ لأنّ المعهود قلة أواني الشرب بالنسبة إلى أواني الأكل.
{وَفِيها} أي: الجنة. {ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ:} من الأشياء المعقولة، والمسموعة، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم عنه من الشهوات في الدنيا. {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ:} من الأشياء المبصرة؛ التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق. وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن رجلا قال: يا رسول الله! هل في الجنة من خيل، فإني أحب الخيل، قال:«إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت» . قال: وسأله رجل، فقال: يا رسول الله! هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه، فقال:«إن يدخلك الله الجنة؛ يكن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك» .
انتهى. قرطبي، وخازن. {وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ:} مقيمون لا تبرحون منها؛ لأنها لو انقطعت لتبغضت. وينبغي أن تعلم أنّ اللذة المذكورة شهوة لذة، لا شهوة جوع، أو عطش.
تنبيه: قال الصابوني في معرض كلامه على إعجاز القرآن: ثم انظر إلى الجزالة، والإيجاز في أسلوب القرآن، وقارنها بأروع أسلوب نطق به عربي، وهو أسلوب أفصح من نطق بالضاد،
سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي شهد ببلاغته، وفصاحته أعداؤه قبل أنصاره، قارن بين القرآن والسّنّة؛ تجد الفرق شاسعا، والبون بعيدا، كطرق ما بين السماء والأرض. فبلاغة القرآن ونضارته، وإشراقته في أعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإيجاز، والبيان. تأمّل قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنة، وما فيها من نعيم، وخلود:«فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وقارن بين هذه الألفاظ على روعتها وبين قوله تعالى في وصف نعيم أهل الجنة: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} وقوله تعالى في سورة (السجدة): {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فهذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا، وأعذب لفظا، وأجزل عبارة، وأقلّ حروفا، ووازن بين قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته، الرّجل راع
…
» إلخ الحديث، وبين قوله تعالى في سورة (الحجر):{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ،} وقوله في سورة (الأعراف): {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} تجد أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على بلاغته لا يخرج عن كونه كلام بشر في الذروة العليا من الكلام، أمّا كلام الله تعالى فلا يشبهه كلام؛ لأنه كلام خالق البشر.
الإعراب: {يُطافُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل رفع نائب فاعله. {بِصِحافٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {مِنْ ذَهَبٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: (صحاف). {وَأَكْوابٍ:} معطوف على:
(صحاف)، ومتعلقه محذوف، وجملة:{يُطافُ..} . إلخ قبلها كلام محذوف، التقدير: فإذا دخلوها؛ يطاف عليهم فيها
…
إلخ. {وَفِيها:} الواو: واو الحال، أو هي حرف عطف.
(فيها): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {تَشْتَهِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به. {الْأَنْفُسُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المنصوب، وجملة:{وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} معطوفة عليها، وإن اعتبرتها معطوفة على جملة:{يُطافُ..} . إلخ فلست مفندا، والاستئناف أيضا ممكن، ولكن الحالية أقوى. {وَأَنْتُمْ:} مبتدأ. {فِيها:} متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها.
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}
الشرح: أي: يقال لهم: هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك، وإلى جهنم بهذه، ليخوف بجهنم، ويؤكد التحذير منها،
وجعلها بالإشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [42]: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
فعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنّة الجنة نادى مناد: إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإنّ لكم أن تصحّوا، فلا تسقموا أبدا، وإنّ لكم أن تشبّوا، فلا تهرموا أبدا، وإنّ لكم أن تنعموا، فلا تيأسوا أبدا» . فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ..} . إلخ. وروى أبو هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ومنزل في النّار، فأمّا الكافر؛ فإنّه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة، فذلك قوله تعالى: أورثتموها بما كنتم تعملون» . انتهى. ولا تنس قوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [10 و 11]: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ} .
هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (السجدة) رقم [19]: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بسبب أعمالهم، وليس المراد السبب الحقيقي حتى يخالف نص الحديث الشريف، وفحوى هذا: أنّ نص الآيات يفيد أنّ دخول الجنة مسبب عن الأعمال الصالحة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لن يدخل أحدا عمله الجنة! قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله بفضله، ورحمته، فسدّدوا، وقاربوا» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه.
والجمع بين هذه الآيات والحديث الشريف بأن محمل الآيات على أنّ منازل الجنة إنّما تنال بالأعمال؛ لأنّ درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن محمل الحديث الشريف على أصل دخول الجنة، فإن قيل: آية السجدة صريحة في أنّ دخول الجنة أيضا بالأعمال، أجيب بأنه لفظ مجمل بيّنه الحديث الشريف، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد أصل الدخول، أو المراد ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله، وتفضله عليكم؛ لأنّ اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخولها حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته، وفضله، لا إله إلاّ هو، له الملك، وله الحمد. انتهى. حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة. بعد ما تقدم لا تنس الالتفات من الغيبة في الآية السابقة إلى الخطاب في هذه الآية. انظر الالتفات في الآية رقم [11]. هذا؛ وفي الآية استعارة؛ حيث شبه الجنة بالمال الموروث، ثم استعار له الإرث على طريق الاستعارة المكنية.
الإعراب: {وَتِلْكَ:} الواو: حرف استئناف. (تلك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الْجَنَّةُ:} خبر المبتدأ. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {الْجَنَّةُ} . {أُورِثْتُمُوها:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والميم علامة جمع الذكور، وحركت
بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، و (ها): مفعوله الثاني، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء كنتم تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: أورثتموها بعملكم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبرها. هذا؛ وأجيز اعتبار الجنة صفة: (تلك)، أو بدلا منها، واعتبار {الَّتِي} خبر المبتدأ، كما أجيز اعتبار {الَّتِي} صفة ل:{الْجَنَّةُ،} واعتبار {بِما..} . إلخ متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، وعلى جميع الاعتبارات فالجملة الاسمية:{وَتِلْكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)}
الشرح: الفاكهة المعروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكهاني هو الذي يبيعها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي الثمار كلها، رطبها، ويابسها. أي: لكم في الجنة سوى الطعام، والشراب فاكهة كثيرة تأكلون منها. هذا؛ و (من) تفيد التبعيض. قال المفسرون: يأكل أهل الجنة من بعض الثمار، وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام، لا ترى في الجنة شجرة تخلو من ثمرها لحظة، فهي مزينة بالثمار أبدا؛ لأنّ ما يؤكل يخلف بدله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلاّ نبت مكانها مثلاها» . وذلك؛ لأنها على صفة الماء النابع، لا يؤخذ منه شيء إلاّ خلف مكانه مثله في الحال. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من:{فاكِهَةٌ،} كان نعتا له، كما رأيت في الآية رقم [4] وكثير من النحاة لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ؛ لأنّ الحال هيئة فاعل، أو مفعول. {فاكِهَةٌ:} مبتدأ مؤخر. {كَثِيرَةٌ:} صفة له. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وجملة:{مِنْها تَأْكُلُونَ} في محل رفع صفة ثانية ل: {فاكِهَةٌ،} والجملة الاسمية: {لَكُمْ فِيها..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74)}
الشرح: لما ذكر الله عز وجل أحوال أهل الجنة؛ ذكر أحوال أهل النار، وذلك من باب المقابلة، وتلك سنة اقتضتها حكمة العليم الخبير ورحمته في كتابه بأن لا يذكر التكذيب من
الكافرين، والمنافقين؛ إلاّ ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان؛ إلاّ ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة ونعيمها؛ إلاّ ويذكر النار وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلاّ ويذكر الغضب، والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، خائفا راجيا. هذا؛ والمراد: بالمجرمين في هذه الآية:
الكافرون، وكثيرا ما يعبر القرآن الكريم عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، والكاذبين، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإنا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، لا سيما من قرأ القرآن منهم، واطّلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكّل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلاّ أولو الألباب.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُجْرِمِينَ:} اسم (إنّ) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِي عَذابِ:} متعلقان ب: {خالِدُونَ} بعدهما، و {عَذابِ:} مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {خالِدُونَ:}
خبر «إن» . مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
{لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}
الشرح: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ:} لا يخفف عنهم العذاب، من: فترت الحمى: إذا سكنت قليلا.
{وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ:} آيسون من كل خير، لا يدرون ماذا يصنعون؟ هذا؛ وقد قال الفراء: المبلس:
اليائس المنقطع رجاؤه، وذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته، ولا يكون له جواب: أبلس.
أقول: وسمي إبليس من هذا؛ لأنه أفلس من رحمة الله، وانقطع رجاؤه من سعة فضل الله. وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثم يردم عليه، فيبقى فيه خالدا، لا يرى، ولا يرى.
ولا يشكل على هذا قوله تعالى في الآية التالية: {وَنادَوْا يا مالِكُ..} . إلخ الدال على طلبهم الفرج بالموت، فالجواب: أن تلك أزمنة متطاولة، وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم: أنّه لا فرج، ويشتد عليهم العذاب تارة، فيستغيثون.
انتهى. جمل نقلا من كرخي.
الإعراب: {لا:} نافية. {يُفَتَّرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى «العذاب» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل:{إِنَّ،} أو في محل نصب حال من {عَذابِ جَهَنَّمَ،} والرابط: الضمير فقط. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{فِيهِ:} متعلقان بما بعدهما. {مُبْلِسُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من نائب الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ (76)}
الشرح: {وَما ظَلَمْناهُمْ} أي: بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد. {وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ} أي: لأنفسهم بالشرك، وارتكاب المعاصي، والمنكرات. وهذه الآية قد ذكرت مرات فيما مضى، والقراءة السبعية:{الظّالِمِينَ} بالياء. وقرأ عبد الله، وأبو زيد النحويان:«(الظالمون)» .
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {ظَلَمْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا ب:(عن) فلست مفندا، والرابط: الواو، والضمير. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن):
حرف استدراك مهمل لا عمل له. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق.
{ظَلَمْناهُمْ:} ضمير فصل لا محلّ له، أو هو توكيد لواو الجماعة. {الظّالِمِينَ:} خبر (كان) منصوب
…
إلخ، وعلى قراءته بالواو فالضمير مبتدأ، و (الظالمون) خبره، والجملة الاسمية في محل نصب خبر:(كان)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.
{وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77)}
الشرح: {وَنادَوْا يا مالِكُ:} يستغيثون بمالك عليه السلام، وهو خازن النار، خلقه الله لغضبه؛ إذا زجر النار زجرة؛ أكل بعضها بعضا، ومجلسه في وسط النار، وفيها جسور تمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها. {لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} أي: ليمتنا ربك، من: قضى عليه: إذا أماته. {قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ:} مقيمون لا تبرحون. قال الأعمش: نبئت: أن بين دعائهم، وبين إجابة مالك إياهم ألف عام. وقيل: مئة سنة. وقيل: أربعون سنة.
قال الزمخشري في كشافه: وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: «إنّ لهم ست دعوات إذا دخلوا النار، قالوا ألف سنة:{رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً} فيجابون بما يلي:
{وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} سورة (السجدة)، فينادون ألف سنة:{رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} فيجابون:
{ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} سورة (غافر)، فينادون ألف سنة:{يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} فيجابون: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} فينادون ألف سنة: {رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيجابون: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ} فينادون ألف سنة:
{رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ} فيجابون: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} سورة (فاطر)، فينادون ألف سنة:{رَبِّ ارْجِعُونِ} فيجابون: {اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} سورة (المؤمنون). {وَلا تُكَلِّمُونِ} أي: في رفع العذاب، وتخفيفه، فإني لا أرفعه عنكم، فعند ذلك ييأس المساكين من الفرج. قال الحسن-رحمه الله تعالى-: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعد ذلك، ما هو إلا الزفير والشهيق، وعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون، ولا يفهمون. وينبغي أن تعلم: أنّه لا يوجد في الآخرة ليل، ولا نهار، ولا شهور، ولا أعوام، وإن ما ذكر من الآلاف إنما هو بالتقدير، وقد يعترض بعض الناس، فيقول: هذا العذاب الشديد، والمكث الطويل في جهنم، هذا كله من أجل كفر الكافر في أيام معدودة في الدنيا، وكثير من الكفار لا يعيشون في الدنيا عشرين عاما، ومنهم من يعيش أكثر، أو أقل، ولماذا استحقوا هذا العذاب الشديد، الذي لا انتهاء له، ولا انقطاع؟ والجواب عن ذلك أنهم استحقوا العذاب لإصرارهم على الكفر، ونيتهم البقاء عليه، ولو عاشوا آلاف السنين في الدنيا، فمن أجل هذا جوزوا بالخلود في نار الجحيم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وقرئ: «(يا مال)» : بحذف الكاف على الترخيم، والترخيم: حذف، أواخر الكلم في النداء خاصة. وقيل لابن عباس-رضي الله عنهما: إن ابن مسعود-رضي الله عنه-قرأ:
«(ونادوا يا مال)» فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم، وعن بعضهم: حسّن الترخيم: أنهم يقتطعون بعض الاسم؛ لضعفهم، وعظم ما هم فيه. وقد قرئ:«(يا مال)» بضم اللام على لغة من لا ينتظر، وقرئ بكسر اللام على لغة من ينتظر.
هذا؛ والمكث في الأصل مصدر: مكث، يمكث، بمعنى: أقام، يقيم. قال الكميت يذم ولاة السوء في عهد بني أمية، وهو الشاهد رقم [554] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فتلك ولاة السوء قد طال مكثهم
…
فحتّام حتّام العناء المطوّل؟!
والمكث: بضم الميم وتكسر، وهذا على أنه اسم، وأمّا المصدر؛ فإن كان فعله من باب:
نصر فهو بضم الميم أيضا، وإن كان من باب: كرم فهو بفتح الميم. هذا؛ والتعبير بالماضي عن المضارع إنما هو لتحقق الوقوع.
الإعراب: {وَنادَوْا:} الواو: حرف استئناف. (نادوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق:{يا مالِكُ:} (يا):
أداة نداء تنوب مناب أدعو. (مالك): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا).
{لِيَقْضِ:} فعل مضارع مجزوم بلام الدعاء وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {عَلَيْنا:} متعلقان بما قبلهما. {رَبُّكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والكلام:{يا مالِكُ}
لِيَقْضِ
…
إلخ في محل نصب مفعول به، وهو مفسر لمعنى:(نادوا). {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الله. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {ماكِثُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)}
الشرح: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ} أي: بإنزال الكتب، وإرسال الرسل. يحتمل أن يكون هذا من تتمة كلام مالك، عليه السلام؛ الذي أجابهم به. ويحتمل أن يكون من كلام الله مقررا لجواب مالك، ومبينا لسبب مكثهم. وهذا الخطاب للتوبيخ، والتقريع على الاحتمالين. {وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ:} لا تتقبلونه، وتنفرون، وتشمئزون منه؛ لأنّ مع الباطل الدعة، والراحة، ومع الحق التعب، والجهد في عبادة الله، وطاعته، والمراد بالأكثر: الكل. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء، والقادة منهم، وأما الأتباع فما كان لهم أثر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:
والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جِئْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في اللام. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (نا) أي: ملتبسين بالحق، والكلام في محل نصب مقول القول لقول محذوف، إن كان من قول الله تعالى، أو من مقول مالك حسبما رأيت في الشرح. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف، أو هي واو حال. {وَلكِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{أَكْثَرَكُمْ:} اسم (لكنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِلْحَقِّ:} متعلقان بما بعدهما.
{كارِهُونَ:} خبر (لكنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف، والرابط: الواو، والضمير، وإن عطفتها على ما قبلها؛ فحكمها حكم سابقتها.
{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ (79)}
الشرح: قال مقاتل-رحمه الله تعالى-: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل الخبيث عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل؛ ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه، فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم يوم بدر. انتهى. قرطبي.
أقول: انظر تفصيل ذلك في الآية رقم [30] من سورة (الأنفال) والمعنى: أم أحكموا كيدا؛ فإنا محكمون لهم كيدا. قاله ابن زيد، ومجاهد، فهو كقوله تعالى في سورة (الطور) رقم [42]:
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} . هذا؛ واستعمال العقاب، والجزاء بلفظ الإبرام والكيد من قبل الله تعالى للكافرين إنما هو من باب المشاكلة، وقد مرّ معنا كثير من هذا. هذا؛ والإبرام:
الإحكام، يقال: أبرمت الشيء؛ أي: أحكمته، وأبرم الفتّال الخيط ونحوه إذا أحكم فتله، وهو الفتل الثاني، والأول يسمى: سحيلا، قال زهير بن أبي سلمى في معلقته رقم [19]:[الطويل]
يمينا لنعم السّيّدان وجدتما
…
على كلّ حال من سحيل ومبرم
الإعراب: {أَمْ:} حرف بمعنى: «بل» التي للإضراب. {أَبْرَمُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَمْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة. وقيل:
معطوفة على قوله: {أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} رقم [45]. {فَإِنّا:} الفاء: هي الفصيحة فيما يظهر. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {مُبْرِمُونَ:} خبر «إن» مرفوع، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا حصل ذلك منهم فإنا مبرمون.
الشرح: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} أي: أيظن الكافرون: أنا لا نسمع ما حدثوا به أنفسهم، وما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي؟ {بَلى} أي: بلى نسمع سرهم، وعلانيتهم.
{وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي: وملائكتنا الحفظة الموكلون بهم يكتبون أعمالهم سرها، وجهرها.
روي: أنّ هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة، وأستارها، فقال أحدهم: أترون أنّ الله يسمع كلامنا؟ فقال الثاني: إذا جهرتم؛ سمع، وإذا أسررتم؛ لم يسمع. وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم، فهو يسمع إذا أسررتم. قاله محمد بن كعب القرظي. انتهى. قرطبي.
هذا؛ وحسب، يحسب من باب: تعب في لغة جميع العرب إلاّ بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا على غير قياس، وقد قرئ المضارع بفتح السين، وكسرها، والمصدر: الحسبان بكسر الحاء. وحسبت المال حسبا من باب: قتل، بمعنى: أحصيته عددا.
وانظر شرح (لدينا) في الآية رقم [4].
هذا؛ و {بَلى} حرف إثبات لما نفوه من سماع الله ما يقولونه في السرّ، والنجوى، و (بلى).
حرف جواب، كنعم، وجير، وأجل، وإي، إلاّ أنّ بلى جواب لنفي متقدم؛ أي: إبطال، ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد، فتقول: بلى؛ أي: قد قام. وقوله: أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى؛ أي: هو قائم. قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم؛ لكفروا.
أما النجوى فهو حديث السر بين اثنين، أو أكثر، قال تعالى في سورة (المجادلة):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى} . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث، فإنّ ذلك يحزنه» . هذا؛ وقيل: إن النجوى
القوم الذين يتناجون. وبه قيل في قوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوى} الآية رقم [47] من سورة (الإسراء).
الإعراب: {أَمْ:} حرف انتقال بمعنى: بل. {يَحْسَبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {أَنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا):
اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها. {لا:} نافية. {نَسْمَعُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {سِرَّهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ). {وَنَجْواهُمْ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي:{يَحْسَبُونَ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {بَلى:} حرف جواب لا محلّ له، وبعدها جملة مقدّرة كما رأيت في الشرح تقديرها.
{وَرُسُلُنا:} الواو: واو الحال. (رسلنا): مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {لَدَيْهِمْ:} ظرف مكان متعلق بما بعده منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء؛ لاتصاله بالضمير، الذي هو في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَرُسُلُنا..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل الفعل المقدر بعد {بَلى،} والرابط: الواو، والضمير، والكلام المقدر: «بلى نسمع
…
» إلخ. مستأنف لا محلّ له.
{قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)}
الشرح: معنى الآية: إن كان للرحمن ولد في قولكم، وعلى زعمكم؛ فأنا أول من عبد الرحمن، فإنه لا شريك له، ولا ولد له. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين؛ أي: الشاهدين له بذلك، أو الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له. وقيل: معناه: لو كان للرحمن ولد؛ فأنا أول من عبده بذلك، ولكن لا ولد له! وقيل: العابدين بمعنى: الآنفين، أي: أنا أول الجاحدين المنكرين لما قلتم، وأنا أول من غضب للرحمن أن يقال له: ولد، قال الفرزدق:[الطويل]
أولئك ناس إن هجوني هجوتهم
…
وأعبد أن يهجى كليب بدارم
«أعبد» : بمعنى: آنف، وقال الزمخشري في معنى الآية: إن كان للرحمن ولد، وصحّ، وثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجة واضحة تدلون بها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض، والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد، والإطناب فيه، مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك: أنه علّق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلّق عليها محالا مثلها. انتهى. خازن بحروفه.
هذا؛ وقد شنع أحمد محشي الكشاف على الزمخشري حيث قال: لقد اجترأ عظيما واقتحم مهلكة في تمثيله ذلك، ثم قال أحمد: وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا، ونقلا؛ لزمه فرك أذنه، وغلّ عنقه؛ إذ يلحد في الله إلحادا لم يسبقه إليه أحد من عباده الكفرة، ولا تجرّأ عليه مارد من مردة الفجرة، ومن خالف في كفر القدرية؛ فقد وافق على كفر من تجرّأ. فقال: هذه المقالة، واقتحم هذه الضلالة بلا محالة، فإنّه قد صرّح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها، وأشنع أنحائها.
أقول: وهذا تجنّ ظاهر على الزمخشري، والله المسؤول أن يعصمنا من الزلل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير. هذا؛ وأذكر: أن الجمل قد نقل من حاشية زاده على البيضاوي ما يشبه كلام الزمخشري، وهذا يعني: أنه لا غضاضة على الزمخشري.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنْ:} نافية. {كانَ:} ماض ناقص. {لِلرَّحْمنِ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان) تقدّم على اسمها. {وَلَدٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وعليه ف:{الْعابِدِينَ} من العبادة. هذا؛ وقيل: (إنّ) شرطية، و {كانَ} مبني على الفتح في محل جزم فعل شرطها، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَأَنَا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أنا):
ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَوَّلُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْعابِدِينَ:}
مضاف إليه مجرور، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد، ويكون معنى:{الْعابِدِينَ} الجاحدين لقولكم: إن له ولدا. والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (82)}
الشرح: نزّه الله نفسه عن كل ما يقتضي الحدوث من نسبة الولد إليه تنزيها لائقا بجلاله وعظمته، وكبريائه. وانظر شرح:{سُبْحانَ} في آخر سورة (الصافات)، وشرح {الْعَرْشِ} في سورة (السجدة) رقم [4].
الإعراب: {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: يسبح سبحان، وهو مضاف، و {رَبِّ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. و {رَبِّ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على: {رَبِّ} . {رَبِّ} بدل من سابقه، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعَرْشِ} مضاف إليه. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {سُبْحانَ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن
الذي، أو عن شيء يصفونه به، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن)، التقدير: تنزه، وتقدّس عن وصفهم، والكلام مستأنف كلّه لا محلّ له.
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}
الشرح: {فَذَرْهُمْ:} اتركهم، وأعرض عنهم. وهذا الفعل ناقص التصرف، لا يأتي منه غير المضارع، والأمر. انظر ما ذكرته في سورة (الأحزاب) رقم [48]، أو سورة (الطور) رقم [45] تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {يَخُوضُوا:} في باطلهم. {وَيَلْعَبُوا} أي: في دنياهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أهل مكة. {حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي: يوعدون يوم القيامة، وهو دليل واضح على أنّ قولهم محض جهل، واتباع هوى، وأنهم مطبوع على قلوبهم، معذبون في الآخرة، فما لهم من شفيع، ولا ناصر ينصرهم. قيل: هذا منسوخ بآية السيف، وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. هذه والآية مذكورة بحروفها في سورة (المعارج) برقم [42] وما يشبهها في سورة (الطور) رقم [45].
الإعراب: {فَذَرْهُمْ:} الفاء: حرف استئناف واعتبارها فصيحة لا بأس به. (ذرهم): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {يَخُوضُوا:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية، لا محلّ لها. {وَيَلْعَبُوا:} معطوف على ما قبله. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة.
{يُلْقُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله.
{يَوْمَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {يَوْمَهُمُ} . {يُوعَدُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، وهو العائد؛ إذ التقدير: الذي يوعدونه، و «أن» المضمرة بعد {حَتّى،} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب: «حتى» والجار والمجرور متعلقان بأحد الأفعال المتقدمة على التنازع؛ لأنّ كل واحد يصلح للتعليق به.
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)}
الشرح: في هذه الآية تكذيب للمشركين في أنّ الله اتخذ شريكا، أو ولدا؛ أي: هو المستحق للعبادة في السماء، والأرض. {وَهُوَ الْحَكِيمُ:} في تدبير خلقه. {الْعَلِيمُ:}
بمصالحهم، والآية كقوله تعالى في سورة الأنعام الآية رقم [3]:{وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ} .
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} خبره. {فِي السَّماءِ:} متعلقان ب: {إِلهٌ} بعدهما، على تأويله ب:«معبود» وهذا مستعمل لغة، كما تقول: هو حاتم في طيء على تضمين الجواد الذي شهر به، قال الشاعر، وهو الشاهد رقم [496] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
وإنّ لساني شهدة يشتفى بها
…
وهوّ على من صبّه الله علقم
{إِلهٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو إله في السماء، والجملة الاسمية هذه صلة الموصول، لا محلّ لها. هذا؛ ولا يجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {إِلهٌ} مبتدأ مؤخر، لخلو الجملة حينئذ من العائد. هذا؛ وحذف العائد على الوجه الأول لطول الصلة. {وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ} مثل سابقه، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة: لا محلّ لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تحتمل العطف على ما قبلها، والاستئناف، والحالية من الموصول، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَتَبارَكَ الَّذِي:} تكاثر خيره، من: البركة، وهي كثرة الخير، وزيادته، ومعنى تبارك الله: تزايد خيره، وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته، وأفعاله، وهي كلمة تقديس، وتعظيم، لم تستعمل إلاّ لله وحده، وهو ملازم للماضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر. قال الطرماح:[الطويل]
تباركت لا معط لشيء منعته
…
وليس لما أعطيت يا ربّ مانع
وقال آخر: [الطويل]
تباركت ما تقدر يقع، ولك الشكر
{لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} أي: هو خالقهما، ومالكهما، والمتصرف فيهما بلا مدافعة، ولا ممانعة، فتنزّه تعالى عن الولد، والشريك. فاللام مفيدة للملك الحقيقي، الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ} أي: القيامة، لقد اختصّ الله بعلمها، ولم يطلع أحدا من الناس، كما قال تعالى في آخر سورة (لقمان):{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ} .
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بعد الموت، فيجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ. وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، والفعل يقرأ بالبناء للمجهول، وبالبناء للمعلوم، و «رجع» يستعمل لازما، ومتعديا، فعلى قراءته بالبناء للمجهول يكون من المتعدي، وعلى قراءته بالبناء للمعلوم يكون من اللازم.
الإعراب: {وَتَبارَكَ:} الواو: حرف استئناف. (تبارك): فعل ماض. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله.
{وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ما قبله. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {وَعِنْدَهُ:} الواو: حرف عطف. (عنده): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِلْمُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السّاعَةِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {وَإِلَيْهِ:} الواو: حرف عطف. (إليه): متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعل، أو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ..} . إلخ: المراد: عيسى، وعزير، والملائكة؛ الذين عبدوا من دون الله. وعليه ف:{مِنْ} في محل جر بحرف جر محذوف، والمعنى عليه: ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلاّ للذي شهد بالحق، وآمن على علم وبصيرة، قاله سعيد بن جبير وغيره. قال: وشهادة الحق: لا إله إلاّ الله. وقيل: المعنى: إنّ عزيرا، وعيسى، والملائكة هم الذين يشفعون؛ لأنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله، وأما الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، فإنها لا تشفع لعابديها.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ:} حقيقة ما شهدوا به. وقيل: إنها نزلت بسبب: أنّ النضر بن الحارث، ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا؛ فنحن نتولّى الملائكة، وهم أحقّ بالشفاعة لنا منه، فأنزل الله:{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ..} . إلخ؛ أي: اعتقدوا: أنّ الملائكة، أو الأصنام، أو الجن، أو الشياطين تشفع لهم، ولا شفاعة لأحد يوم القيامة. هذا؛ وقوله تعالى:{يَعْلَمُونَ} يدلّ على معنيين:
أحدهما: أنّ الشفاعة بالحق غير نافعة إلاّ مع العلم، وأنّ التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. الثاني: أنّ من شرط سائر الشهادات في الحقوق، وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها، ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلاّ فدع» . انتهى. قرطبي وانظر الشفاعة في سورة (الزمر) رقم [44].
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف، (لا): نافية. {يَمْلِكُ:} فعل مضارع.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذين يدعونهم. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، والهاء في محل جر بالإضافة. {الشَّفاعَةَ:} مفعول به ل: {يَمْلِكُ} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لمن، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، أو الموصول في محل رفع بدلا من:{الَّذِينَ} انظر الشرح. {شَهِدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مِنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِالْحَقِّ:}
متعلقان بما قبلهما. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَعْلَمُونَ} في محلّ رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {مِنْ} لأنها بمعنى: الجمع، والرابط: الواو، والضمير.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ (87)}
الشرح: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمسؤول منهم أهل مكة.
{لَيَقُولُنَّ اللهُ} أي: لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد، واجب الوجود.
{فَأَنّى يُؤْفَكُونَ} أي: فكيف يصرفون عن توحيد الله وعبادته، مع إقرارهم بذلك، واعترافهم: أنه هو الصانع الحكيم.
هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الذاريات): {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي: يصرف عنه من صرف، فهو من باب ضرب، ومصدره أفكا كضربا. هذا؛ وهو من الباب الرابع بمعنى: كذب، ومصدره إفكا كعلما، ويغلب مجيء الأول بالبناء للمجهول، وقد يجيء بالبناء للمعلوم، كما في قوله تعالى:{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا} سورة (الأحقاف) رقم [22]، ومن مجيئه بمعنى:
الكذب قوله تعالى: {فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} رقم [45] من سورة (الشعراء).
انظر شرحها هناك تجد ما يسرك. والأفاك كثير الكذب، كما في سورة (الجاثية) رقم [7].
الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله.
(إن): حرف شرط جازم. {سَأَلْتَهُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والهاء مفعوله الأول، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَلَقَهُمْ:}
فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب سدّت مسدّ المفعول الثاني. {لَيَقُولُنَّ:} اللام: واقعة في
جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة. (يقولن): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة: فاعل، والنون حرف لا محلّ له. {اللهُ:} مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: الله خلقهن، أو هو فاعل لفعل محذوف، التقدير:
خلقهم الله، ويرجحه التصريح به في الآية رقم [9] من هذه السورة. والجملة على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَيَقُولُنَّ..} . إلخ جواب القسم المقدر، المدلول عليه باللام الموطئة، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
والكلام: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ..} . إلخ كله مستأنف لا محلّ له. {فَأَنّى:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدّر، التقدير: وإذا كانوا يعترفون بأن الله خلقهم، فكيف يصرفون عن توحيده، وعبادته؟! (أنى): اسم استفهام، وتعجب، وتوبيخ مبني على السكون في محل نصب حال عامله ما بعده. {يُؤْفَكُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر «إذا» ، والجملة الشرطية مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88)}
الشرح: {وَقِيلِهِ} أي: وقول الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: التقدير: وقول عيسى عليه السلام. والأول أصح لقوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} وقرئ: {وَقِيلِهِ} بالنصب، والجر، والرفع، وهو مصدر، ومثله: القول، والقال، والمقالة، والآية معناها: الشكوى إلى الله.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى تخلف قومه عن الإيمان. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. هذا؛ وفحوى الآية مثل قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [30]: {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .
الإعراب: {وَقِيلِهِ:} بالجر على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم قيله. وبالنصب على معنى: وعنده علم الساعة، ويعلم قيله. وهذا اختيار الزجاج. وقال الفراء والأخفش: يجوز أن يكون {وَقِيلِهِ} عطفا على قوله: {أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} . وأجاز الفراء، والأخفش أيضا أن يكون مفعولا مطلقا، كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى الله عز وجل، كما قال كعب بن زهير من قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:[البسيط]
تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم
…
إنك يابن أبي سلمى لمقتول
أراد: ويقولون قيلهم. وبالرفع على تقدير: وعنده قيله، أو قيله مسموع. والذي قالوه ليس بقوي
في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم.
وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم، وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ولعمرك، ويكون قوله:{إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم. انتهى. قرطبي. بتصرف كبير. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (رب): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة. وانظر ما ذكرته من أوجه في {يا قَوْمِ} في الآية رقم [51] فهو مثله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل نصب اسم (إنّ)، والهاء للتنبيه حرف لا محلّ له. {قَوْمٌ:} خبر «إن» . {لا:} نافية.
{يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{قَوْمٌ،} والكلام: {يا رَبِّ إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول للمصدر، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، أو هي جواب له على اعتبار الواو حرف قسم، وجر، و (قيله) مقسم به.
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}
الشرح: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ:} فأعرض عن دعوتهم إلى الإيمان آيسا من إيمانهم، واتركهم وشأنهم. {وَقُلْ سَلامٌ:} هذا سلام متاركة، وتوديع، لا سلام تحيّة. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ:} عاقبة كفرهم، وعنادهم. وفيه تهديد، ووعيد لهم. وقيل: معناه: فسوف يعلمون: أنك صادق. قال مقاتل، وغيره: نسختها آية السيف. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَاصْفَحْ:} الفاء: حرف استئناف. (اصفح): فعل أمر، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» . {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَقُلْ:} الواو: حرف عطف. (قل): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {سَلامٌ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أمري سلام. وقال الفراء: التقدير: سلام عليكم. وهذا مردود؛ لأنّ النهي قد أتى ألاّ يبدؤوا بالسلام، وأيضا ف:{سَلامٌ} نكرة، ولا يبدأ به هنا؛ لأنه لم يرد به الدعاء. والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، {فَسَوْفَ:} الفاء حرف استئناف. (سوف): حرف تسويف واستقبال، وجملة:{يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف تعليلية، أو مستأنفة، لا محلّ لها. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
بعون الله وتوفيقه انتهت سورة (الزخرف) شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.