المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الذكور بعد ولادة موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٨

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: الذكور بعد ولادة موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف

الذكور بعد ولادة موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فلما بعث الله موسى؛ أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم، فيمتنع الناس من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم، فيعتضدوا بالذكور من أولادهم، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب، كالضفادع، والقمل، والدم، والجراد، والطوفان، كما رأيت في سورة (الأعراف) رقم [133] ذلك مفصلا.

{وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ} أي: اتركوا بناتهم أحياء. {وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ:} وضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم على كل الكافرين، والمتجبرين. {إِلاّ فِي ضَلالٍ} أي: في ضياع؛ يعني: أنهم قتلوا الصبيان أولا، فما أغنى عنهم شيئا، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم القتل الثاني شيئا، كما لم يغنهم الأول، فضاع كيدهم في الكرتين.

هذا؛ و (نساء) اسم جمع، لا واحد من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، ونفر

إلخ؛ لأن مفرده: امرأة، وجمعها في القلة: نسوة، وفي الكثرة: نساء، وتجمع أيضا على: نسوان، ونسون، ونسنين، وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان فهي مطبوعة عليه، إما إهمالا، وإما كذبا. ويقال لكل واحد من هذه الجموع: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأما المرأة؛ فهي مأخوذة من المرء، وهو الرجل، فلذا سميت بذلك؛ والأم الأولى حواء سميت بذلك؛ لأنها مأخوذة من حي، وهو آدم، على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وانظر ما ذكرته في سورة (الزمر) رقم [6].

‌فائدة:

آباء: جمع أب، وأصله: أبو، وأبناء: جمع ابن، وأصله بنو. وجمع الأول: آباو، وجمع الثاني أبناء، ونساء: أصله: نساي، فقل في إعلال الثلاثة: تحركت الواو، أو الياء، وانفتح ما قبلهما، فقلبتا ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. وقل مثل ذلك في: صحراء، وحمراء، وزرقاء، وبيداء

إلخ.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب وهي ظرف زمان بمعنى: حين عند ابن السراج والفارسي وابن جني، وجماعة تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مُوسى،} والهاء مفعول به. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: ملتبسا بالحق. {مِنْ عِنْدِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:(الحق)؛ أي: كائنا من عندنا، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{جاءَهُمْ..} . إلخ في محل جر بإضافة (لمّا) إليها، على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا؛ لأنها ابتدائية، {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

ص: 334

{اُقْتُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَبْناءَ:} مفعول به، و {أَبْناءَ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{آمَنُوا} صلة الموصول لا محل لها. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{اُقْتُلُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ} معطوفة عليها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:

{قالُوا اقْتُلُوا..} . إلخ جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كَيْدُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. وقيل:

في محل نصب حال، وهو ضعيف، وعليه يكون الرابط: الواو فقط.

{وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)}

الشرح: {وَقالَ فِرْعَوْنُ} أي: لملئه، وحاشيته. {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى} أي: اتركوني أقتل موسى، فقد قيل: إنه كان إذا هم بقتله كفوه عنه، وقالوا له: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلته؛ دخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا: أنك عجزت عن معارضته بالحجة. والظاهر: أن فرعون-لعنه الله-قد استيقن: أنه نبي، وأن ما جاء به آيات، وما هو بسحر، ولكن كان قتلا سفاكا للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسّ بأنه هو الذي يهدم ملكه؟! ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك. هذا؛ وقيل: إنما منعوه من قتله؛ لأنه كان فيهم من يعتقد بقلبه: أنه كان صادقا. هذا، وانظر (دع) في سورة (الأحزاب)[48].

{وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي: وليدع موسى ربه الذي يزعم: أنه أرسله إلينا، فيمنعه منا. وقيل: هذا شاهد صدق على فرط خوفه منه، ومن دعوته ربه، وكان قوله:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى} تمويها على قومه، وإيهاما: أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه في الحقيقة إلا ما في نفسه من هول الفزع. {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي: يغير ما أنتم عليه من الدين، وكانوا يعبدونه، ويعبدون الأصنام. {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} أي: أو أن يثير الفتن، والقلاقل في بلدكم، ويكثر بسببه الهرج، والمرج، وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مذكرا. يعني: واعظا، يشفق على الناس من موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

قال في الظلال: هل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال عن موسى تلك المقالة؟ أليست بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي كلمة الباطل الكالح في

ص: 335

وجه الحق الجميل؟! أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث؛ لإثارة الشبهات في وجه الإيمان الهادئ؟! إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق، والباطل، والإيمان، والكفر، والصلاح، والطغيان على توالي الزمان، واختلاف المكان، والقصة قديمة تعرض بين الحين، والحين. انتهى. «صفوة التفاسير» للصابوني.

الإعراب: (قال فرعون): ماض، وفاعله. {ذَرُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {أَقْتُلْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تذروني أقتل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {مُوسى:} مفعول به منصوب

إلخ، والطلب وجوابه في محل نصب مقول القول. (ليدع): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى موسى، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{ذَرُونِي،} فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {رَبَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَخافُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، وهي من جملة مقول القول. {أَنْ يُبَدِّلَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى: {مُوسى،} والفعل المضارع و (أن) في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {دِينَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف. {أَنْ يُظْهِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل يعود إلى: {مُوسى} أيضا. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْفَسادَ:} مفعول به. هذا؛ ويقرأ «(يظهر)» بفتح الياء من الثلاثي ورفع «(الفساد)» على أنه فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُظْهِرَ} معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مثله، وجملة:

{وَقالَ فِرْعَوْنُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {قالُوا..} . إلخ، لا محل لها مثلها.

{وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)}

الشرح: {وَقالَ مُوسى} لما سمع-عليه الصلاة، والسّلام-بما أجراه فرعون من حديث قتله لقومه:{إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي..} . إلخ: وفي قوله لقومه، وغيرهم:{وَرَبِّكُمْ} بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه. وقال:{مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} فتشمل استعاذته فرعون، وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض، فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار، وأدل على دناءة صاحبه، وعلى فرط ظلمه، وقال:{لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ؛} لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبر، والتكذيب بالجزاء، وقلة المبالاة بالعاقبة؛

ص: 336

فقد استكمل أسباب القسوة، والجراءة على الله، وعلى عباده، ولم يترك كبيرة إلا ارتكبها. انتهى.

نسفي.

الإعراب: (قال موسى): ماض، وفاعله. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {عُذْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {بِرَبِّي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة. {وَرَبِّكُمْ:}

معطوف على ما قبله، والكاف وياء المتكلم كلاهما في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وفاعله مستتر فيه. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل: {عُذْتُ،} و {كُلِّ} مضاف، و {مُتَكَبِّرٍ} مضاف إليه. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{كُلِّ مُتَكَبِّرٍ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة له. هذا؛ وإن اعتبرت {مُتَكَبِّرٍ} صفة لموصوف محذوف، فالجملة تصلح لأن تكون صفة ثانية للموصوف المحذوف، وأن تكون في محل نصب حال منه بعد وصفه. {بِيَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (يوم) مضاف، و {الْحِسابِ} مضاف إليه، وجملة:{وَقالَ مُوسى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (28)}

الشرح: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ..} . إلخ: المعتمد: أنه كان من القبط، وابن عم فرعون، واسمه: شمعان بالشين، أو بالسين. وقيل: حزقيل. وقيل اسمه: حبيب، وليس بشيء؛ لأن حبيب النجار ذكرته في سورة (يس)، ولم يكن من آل فرعون مؤمن غيره، وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو الذي نجا مع موسى، عليه السلام. وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-:

هو نفسه الذي أنذر موسى، وهو المراد بقوله تعالى:{وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى..} . إلخ رقم [20] من سورة (القصص). {يَكْتُمُ إِيمانَهُ:} يخفي إيمانه. هذا؛ و «كتم» من باب: نصر، وربما عدي إلى مفعولين، فيقال: كتمت زيدا الحديث، وتزاد «من» جوازا في المفعول الأول، فيقال: كتمت من زيد الحديث، وكتم الشيء: بالغ في كتمانه، واكتتم الشيء: اصفرّ. هذا؛ والكتم، والكتمان: نبت يخضب به الشعر، ويصنع منه مداد الكتابة. ورحم الله البوصيري؛ إذ يقول:[البسيط]

فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت

من جهلها بنذير الشّيب والهرم

ص: 337

ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

لو كنت أعلم أنّي ما أوقّره

كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصديقون: حبيب النّجار مؤمن آل ياسين، ومؤمن آل فرعون الّذي قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} والثالث: أبو بكر الصّدّيق، وهو أفضلهم» . وانظر ما ذكرته في سورة (يس) رقم [25] فإنه جيد جدا.

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: بالمعجزات الظاهرات، يعني الآيات التسع إن كان هذا في آخر الأمر، ولكن الظاهر: أن تهديد فرعون، ووعيده بقتل موسى إنما كان في أول الأمر حينما رأى معجزة العصا، وانقلابها حية. وعليه: فالمراد ب: (البينات) معجزة العصا وحدها، وجمعها تعظيما لها، ورفعة لشأنها، أو المراد غيرها معها؛ لأنه اعتقد: أن موسى-عليه السلام-سيجيء بمعجزات كثيرة غيرها.

عن عروة بن الزبير-رضي الله عنهما-قال لعبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه:

أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر-رضي الله عنه-فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} . أخرجه البخاري، ومسلم.

وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي رضي الله عنه-قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث، فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجؤه، وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، فلم يغثه أحد إلا أبو بكر-رضي الله عنه-وله ضفيرتان، فأقبل يجأ هذا، ويتلتل ذا، ويقول بأعلى صوته: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ!} والله إنه لرسول الله! فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ، فقال علي كرم الله وجهه: والله ليوم أبي بكر، خير من مؤمن آل فرعون! إن ذلك رجل كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه، وبذل ماله ودمه لله عز وجل.

{وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ:} لم يكن هذا منه لشك منه في رسالة موسى، وصدقه، ولكن تلطفا في الاستكفاف، واستنزالا عن الأذى. والمعنى: إن كان كاذبا عن دعوى الرسالة؛ فضرر كذبه لا يتعداه. {وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: وإن كان صادقا في دعواه؛ أصابكم بعض ما وعدكم به من العذاب. إذا من العقل، والرأي الحازم أن تتركوه؛ ونفسه، فلا تؤذوه، ولا تتعرضوا له بسوء، بل اتركوه؛ وشأنه.

{إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ} أي: لا يوفق إلى طريق الخير من هو متجاوز الحد؛ الذي رسمه له الله تعالى و {كَذّابٌ} يفتري، ويختلق ما لا أصل له، ولو كان موسى كاذبا

ص: 338

كما تزعمون؛ لكان أمره بينا، يظهر لكل أحد في أقواله، وأفعاله، وهذا نرى أمره سديدا، ومنهجه مستقيما، ولو كان من المسرفين الكذابين؛ لما هداه الله، وسدد خطاه، وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره، وفعله. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وقال في البحر: هذا نوع من أنواع علم البيان، يسميه علماؤنا: استدراج المخاطب، وذلك: أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفى عليهم بها: أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح، والملاطفة، فقال:

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} ولم يذكر اسمه، بل قال: رجلا ليوهمهم: أنه لا يعرفه، ثم قال:{أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} ولم يقل: رجلا مؤمنا بالله، أو هو نبي الله؛ إذ لو قال ذلك؛ لعلموا: أنه متعصب له، ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله:{وَإِنْ يَكُ كاذِباً} فقدم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه، ثم تلاه بقوله:{وَإِنْ يَكُ صادِقاً} ولم يقل: هو صادق، وكذلك قال:{يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ولم يقل: كل ما يعدكم، ولو قال ذلك؛ لعلموا: أنه متعصب له، وأنه يصدقه، وأنه يزعم نبوته، ثم أتبعه بكلام يفهم منه: أنه ليس بمصدق له، وهو قوله:{إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ} وفيه تعريض بفرعون؛ إذ هو في غاية الإسراف والكذب على الله؛ إذ ادّعى الألوهية، والربوبية. انتهى. صفوة التفاسير.

هذا؛ و {يَكُ} أصله: يكون، فلما دخل الجازم صار:(إن يكون) فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصار:(إن يكن) ثم حذفت النون للتخفيف، ولكثرة الاستعمال. وهذا الحذف جائز، وغير لازم، وله شروط: أن يكون مضارعا ناقصا من: «كان» ، وأن يكون مجزوما بالسكون، وأن لا يكون بعده ساكن، وألا يتصل به ضمير كما في الآية الكريمة، وغيرها كثير، وهو وارد في الكلام العربي شعرا، ونثرا، ولا تحذف النون عند فقد الشروط إلا في ضرورة الشعر، كما في قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [244] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]

إذا لم تك الحاجات من همّة الفتى

فليس بمغن عنك عقد الرّتائم

وقال الخنجر بن صخر الأسدي، وهو الشاهد رقم [243] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل] فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

هذا؛ وقرئ شاذا قوله تعالى في سورة (البينة): «(لم يك الذين كفروا من أهل الكتاب)» ولم تحذف النون في قول أبي الأسود الدؤلي-رحمه الله تعالى-لجريانه على القاعدة: [الطويل]

دع الخمر تشربها الغواة فإنني

رأيت أخاها مجزئا بمكانها

فإلاّ يكنها، أو تكنه فإنّه

أخوها غذته أمّه بلبانها

ص: 339

هذا؛ وأما (آل) فأصله: أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار:(أأل) ثم أبدلت الهمزة الثانية الساكنة مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى على القاعدة: «إذا اجتمع همزتان: الأولى متحركة، والثانية ساكنة، قلبت الثانية مدا مجانسا لحركة الهمزة الأولى» ، وذلك مثل: آدم، وإيمان، وأومن، فإن الأصل: أأدم، وإإمان، وأؤمن، وقلب الهمزة سائغ مستعمل لغة في:

أراق، فإن أصله: هراق، وهو كثير مستعمل في الشعر العربي وغيره، وهذا مذهب سيبويه، وقال الكسائي: أصله: (أول) كجمل من: آل، يؤول، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا؛ وقد صغروه على (أهيل) وهو يشهد للأول، وعلى (أويل) وهو يشهد للثاني، ولا يستعمل (آل) إلا فيما له خطر، وشأن، بخلاف: أهل، يقال: آل النبي، وآل الملك، ولا يقال: آل الحجام، ولكن أهله، ولا ينتقض بآل فرعون، فإن له شرفا باعتبار الدنيا. واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي، والنحاس، وزعم أبو بكر الزبيدي: أنه من لحن العوام، والصحيح جوازه، كما في قول عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم:[مجزوء الكامل]

لا همّ إنّ المرء يم

نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصّلي

ب وعابديه اليوم آلك

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال رجل): ماض، وفاعله. {مُؤْمِنٌ:} صفة:

{رَجُلٌ} . {مِنْ آلِ:} متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل: {رَجُلٌ} إن كان قبطيا، ومتعلقان بالفعل بعدهما إن كان إسرائيليا، و {آلِ} مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {يَكْتُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{رَجُلٌ} . {إِيمانَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{يَكْتُمُ إِيمانَهُ} في محل رفع صفة ثانية ل: {رَجُلٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:{وَقالَ رَجُلٌ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَتَقْتُلُونَ:}

الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. (تقتلون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله.

{رَجُلاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَنْ يَقُولَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل يعود إلى: {رَجُلٌ} . {رَبِّيَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اللهُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، و {أَنْ يَقُولَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لقوله: ربي الله؛ أي: وربكم.

{وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{رَجُلاً،} والكاف مفعول به. {بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل

ص: 340

قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {يَقُولَ} المستتر، أو من:{رَجُلاً،} وساغ ذلك لتقدم الاستفهام عليه، وعلى الوجهين فالرابط: الواو، والضمير. {مِنْ رَبِّكُمْ:}

متعلقان بالفعل (جاء)، وتعليقهما بمحذوف حال من (البينات) جيد، والكاف في محل جر بالإضافة

إلخ.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {يَكُ:} فعل مضارع ناقص مجزوم؛ لأنه فعل شرط، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، واسمه يعود إلى:{رَجُلاً} . {كاذِباً:} خبر: {يَكُ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَعَلَيْهِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (عليه): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {كَذِبُهُ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول ل:(قال). {وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ} هذا الكلام معطوف على ما قبله، فهو مثله في إعرابه ومحله، و {بَعْضُ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعِدُكُمْ} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد رجوع الفاعل إليه.

{أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسم {أَنْ} . {رَجُلاً:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ} . {مُؤْمِنٌ:}

اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الاسمية:{هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول؛ لأنها من قول الرجل.

{يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)}

الشرح: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: غالبين في الأرض أرض مصر.

وهذا دليل قطعي على أن الرجل كان قبطيا، ولذلك أضافهم إلى نفسه بقوله:{يا قَوْمِ} ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه، ونصحه، وهو يريد منهم أن يشكروا الله على نعمته عليهم بالإيمان به، وعبادته، وتصديقه رسوله فيما يدعوهم إليه.

{فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ:} من عذابه، وانتقامه. {إِنْ جاءَنا:} وحينئذ لا تغني عنكم هذه الجنود، وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بعذابه، وانتقامه. {قالَ فِرْعَوْنُ}

ص: 341

لقومه ردا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد: {ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى} أي: ما أقول لكم، وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي، وقد كذب فرعون، فإنه كان يتحقق صدق موسى-عليه السلام-فيما جاء به من الرسالة، كما قال تعالى في سورة (النمل) رقم [14]:{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} فقد كذب فرعون، وافترى، وخان رعيته فغشهم، وما نصحهم.

{وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ} أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق، والصدق، والرشد، وقد كذب أيضا في ذلك. وإن كان قومه قد أطاعوه، واتبعوه. قال الله تبارك وتعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [97]:{فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .

وقال جلت عظمته، وتعالت حكمته في سورة (طه) رقم [79]:{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى} .

وخذ ما يلي: عن معقل بن يسار-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت، وهو غاشّ رعيّته إلا حرّم الله تعالى عليه الجنة» . وفي رواية «فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنّة» . رواه البخاري ومسلم.

الإعراب: {يا قَوْمِ:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: (أدعو). (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة ضمير في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول:(يا قومي). ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول:(يا قومي) ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول:(يا قوما) ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول:(يا قوم). قال ابن مالك في ألفيته: [الرجز]

واجعل منادى صحّ إن يضف ليا

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

ويزاد سادسة، وهي لغة القطع:(يا قوم) بضم الميم، ففي الحديث الشريف: «يقول:

يا ربّ! يا ربّ!» وقرئ في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ..} . إلخ. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمُلْكُ:}

مبتدأ مؤخر. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {الْمُلْكُ} . وقيل: متعلق بالخبر المحذوف، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [16] عن أبي البقاء. {ظاهِرِينَ:} حال من كاف الخطاب منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان ب: {ظاهِرِينَ} . {فَمَنْ:}

الفاء: حرف استئناف. وقيل: الفصيحة ولا وجه له. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَنْصُرُنا:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من)، و (نا): مفعول به. {مِنْ بَأْسِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَأْسِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{جاءَنا:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، و (نا): مفعوله، والفاعل يعود

ص: 342

إلى: {بَأْسِ اللهِ،} والجملة الفعلية لا محل لها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: إن جاءنا بأس الله؛ فمن ينصرنا منه؟ هذا؛ والكلام: {يا قَوْمِ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول؛ لأنه من مقول الرجل المؤمن.

{قالَ فِرْعَوْنُ:} ماض، وفاعله. {ما:} نافية. {أُرِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والكاف مفعول به أول. {إِلاّ:}

حرف حصر. (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {أَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، ومفعوله محذوف، وهو العائد، واكتفى بمفعول واحد؛ لأنه بصري، والأول مثله إلا أنه تعدى إلى اثنين بواسطة همزة التعدية، وقال أبو البقاء: وهو من الرأي: الذي بمعنى:

الاعتقاد. ولا وجه له، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، التقدير: إلا الذي، أو: إلا شيئا أراه. وجملة: {ما أُرِيكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة: {وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ} معطوفة عليها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول، وإعرابها مثلها بلا فارق، وجملة:{قالَ فِرْعَوْنُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)}

الشرح: هذا إخبار من الله-عز وجل-عن هذا الرجل الصالح: «مؤمن آل فرعون» : أنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا، والآخرة، فقال:{يا قَوْمِ..} . إلخ أراد بالأحزاب: الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر؛ كيف حل بهم بأس الله، وعقابه، وما رده عنهم راد، ولا صده عنهم صاد، وأراد بيوم الأحزاب: مثل أيامهم، وإنما أفرده؛ لأنه لما أضافه إلى الأحزاب، وفسرهم بما يلي، ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار؛ اقتصر على الواحد من الجمع، وانظر شرح {الْأَحْزابِ} في سورة (ص) رقم [11].

الإعراب: (قال): فعل ماض. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {آمَنَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والمتعلق محذوف، تقديره:

بالله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {يا قَوْمِ:} انظر الآية السابقة. {إِنِّي:}

حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَخافُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره: أنا.

{عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مع الجملة الندائية قبلها في محل نصب مقول القول. {مِثْلَ:} مفعول به، و {مِثْلَ} مضاف، و {يَوْمِ} مضاف إليه، و {يَوْمِ} مضاف، و {الْأَحْزابِ} مضاف إليه، وجملة:

{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

ص: 343

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31)}

الشرح: {مِثْلَ..} . إلخ: أي: إني أخاف عليكم مثل جزاء، وعقوبة قوم نوح، وعاد، وثمود؛ حيث أهلكهم الله بذنوبهم في الدنيا. {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: مثل قوم إبراهيم، ولوط، وشعيب وغيرهم. هذا؛ وعاد هم: قوم هود، وثمود هم: قوم صالح، على نبينا، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام. {وَمَا اللهُ يُرِيدُ..}. إلخ: أي: فلا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام. والمعنى: أن تدميرهم، وإهلاكهم كان عدلا منه تعالى؛ لأنهم استحقوه بسبب أعمالهم الخبيثة، وهو أبلغ من قوله تعالى:{وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} حيث جعل المنفي إرادة ظلم منكّر، ومن بعد عن إرادة ظلم ما لعباده؛ كان عن الظلم أبعد، وأبعد. وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعيد؛ لأن أهل اللغة قالوا: إذا قال الرجل لآخر: لا أريد ظلما لك؛ معناه: لا أريد أن أظلمك.

هذا؛ وانظر الإرادة في الآية رقم [4] من سورة (الزمر). أما (الدأب) فهو: العادة، والشأن، والحال، وهو أيضا مصدر: دأب في العمل من باب قطع؛ إذا جد واستمر فيه، وهو بمعانيه كلها تفتح الهمزة وتسكن، قال تعالى في سورة (آل عمران) وسورة (الأنفال):{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا..} . إلخ، وانظر شرح (مثل) في سورة (يس) رقم [15]، وشرح {قَوْمِ} في سورة (الصافات) رقم [30]، وشرح لفظ الجلالة في سورة (ص) رقم [65].

الإعراب: {مِثْلَ:} بدل من سابقه، أو عطف بيان عليه، و {مِثْلَ} مضاف، و {دَأْبِ} مضاف إليه، و {قَوْمِ} مضاف، و {نُوحٍ} مضاف إليه. {وَعادٍ:} معطوف على ما قبله.

{وَثَمُودَ:} معطوف أيضا مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {وَالَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على ما قبله.

{مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَمَا:} الواو:

واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» ، أو هي مهملة. {اللهُ:} اسم (ما)، أو مبتدأ. {يُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {ظُلْماً:} مفعول به. {لِلْعِبادِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{ظُلْماً؛} لأنه مصدر، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (ما)، أو في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{قَوْمِ نُوحٍ} وما بعده، والرابط: الواو فقط. وقيل: معطوفة على ما قبلها، وعليه فلا محل لها.

{وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32)}

الشرح: {وَيا قَوْمِ..} . إلخ: أي: وقال الرجل المؤمن أيضا. فخوفهم بالعذاب الأخروي بعد أن خوفهم بالعذاب الدنيوي. و {يَوْمَ التَّنادِ} هو يوم القيامة، يكثر فيه نداء أصحاب الجنة

ص: 344

أصحاب النار، وبالعكس. والنداء بالسعادة لأهلها، وبالشقاوة لأهلها، فينادي مناد: ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا! وفلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا. وينادي مناد حين يذبح الموت في صورة كبش على الصراط: يا أهل الجنة! خلود لا موت، ويا أهل النار! خلود لا موت. وينادي المؤمن في ذلك اليوم:{هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ} وينادي الكافر، والفاجر، والظالم:{يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ} وينادي بعض الظالمين بعضا بالويل، والثبور، وعظائم الأمور، فيقولون: يا ويلنا هذا يوم الدين. ومنه أن تدعى كل أمة بكتابها، وكل أناس بإمامهم. ومنه أن تنادي الملائكة أصحاب الجنة:{أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال أمية بن أبي الصلت: [الوافر]

وبثّ الخلق فيها إذ دحاها

فهم سكّانها حتّى التّناد

هذا؛ وقال القرطبي: زاد في الوعظ، والتخويف، وأفصح عن إيمانه، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم بقوله:{فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا..} . إلخ رقم [45] الآتية.

الإعراب: {وَيا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [29]. {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ:} انظر الآية رقم [30]{يَوْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {التَّنادِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة للفاصلة، والآية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)}

الشرح: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي: تولون منهزمين من هول عذاب جهنم. قال المفسرون: إن الكفار، والفجار إذا سمعوا زفير النار؛ أدبروا هاربين، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم، فيضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم، فتتلقفهم جهنم. وهذا معنى قوله تعالى في سورة (الحاقة):{وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها} . {ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ} أي: من مانع يمنعكم من عذاب الله. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ..} . إلخ: انظر الآية رقم [23] من سورة (الزمر) تجد فيها الشرح، والإعلال وافيين.

الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من: {يَوْمَ التَّنادِ} . {تُوَلُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها.

{مُدْبِرِينَ:} حال من واو الجماعة مؤكدة؛ لأنها من معنى الفعل منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ. {ما:} نافية. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {عاصِمٍ} بعدهما. {مِنَ:} حرف جر صلة.

{عاصِمٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال

ص: 345

المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. هذا؛ ويجوز اعتبار: {عاصِمٍ} فاعلا بالجار والمجرور: {لَكُمْ} لاعتماده على النفي، ويكون المعنى والتقدير: ما يوجد لكم عاصم من الله، وعليه: فالجملة فعلية، وهي في محل نصب حال، كما في الوجه الأول، وجملة:{وَمَنْ يُضْلِلِ..} . إلخ مستأنفة، وهي من مقول الرجل المؤمن. وقيل: هي من قول موسى، والأول أقوى وأولى بالاعتبار.

{وَمَنْ يُضْلِلِ

:} إلخ: انظر الإعراب في الآية رقم [23] من سورة (الزمر).

{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)}

الشرح: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ..} . إلخ: قيل: إن هذا من قول موسى، على نبينا، وعليه ألف سلام وألف صلاة، والمعتمد: أنه من تمام وعظ مؤمن آل فرعون، ذكّرهم قديم عتوهم على الأنبياء، والمراد: بيوسف: الصديق بن يعقوب، فإن فرعونه عاش إلى زمن موسى. قال ابن جريج: هو يوسف بن يعقوب بعثه الله تعالى رسولا إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات، وهي الرؤيا. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبيا عشرين سنة. والمعتمد: أن يوسف هو ابن يعقوب، وأن فرعون موسى هو فرعون آخر غير فرعون يوسف. والكلام إنما هو من خطاب الأبناء بما فعل الآباء، كما خاطب اليهود الموجودين في عصر نبينا بما فعل آباؤهم كثيرا وكثيرا. والمراد بالبينات: المعجزات التي ظهرت على يد يوسف الصديق.

وقيل: المراد بها الرؤيا التي رآها يوسف في منامه. وانظر تفصيل ذلك في السورة المسماة باسمه.

{فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ} أي: من أمر الدين؛ أي: أسلافكم كانوا في شك؛ لأنهم أطاعوا يوسف لما منحه الله من التمكين في مصر بسبب الوزارة التي أسندت إليه، والجاه العظيم الذي أعطاه الله إياه. {حَتّى إِذا هَلَكَ:} مات. {قُلْتُمْ:} لن يبعث الله من بعده رسولا:

ضموا إلى تكذيب رسالة الصديق تكذيبا في رسالة من يأتي بعده، أو جزموا بأن لا يبعث الله بعده رسولا مع الشك في رسالته. وإنما قالوا ذلك على سبيل التشهي، والتمني من غير حجة، ولا برهان عليه، بل قالوا ذلك ليكون لهم أساسا في تكذيب الرسل؛ الذين يأتون بعده.

{كَذلِكَ} أي: مثل ذلك الإضلال. {يُضِلُّ اللهُ} أي: في الكفر، والعصيان، ومخالفة، أوامره. {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} أي: متجاوز في الحد؛ الذي رسمه الله تعالى. {مُرْتابٌ:} شاك فيما تشهد به البينات؛ لغلبة الوهم، والانهماك في الكفر، والمعاصي.

ص: 346

هذا؛ والإضلال: خلق فعل الضلال في العبد. والهداية: خلق فعل الاهتداء في العبد. هذا هو الحقيقة عند أهل السنة، وقد يعترض بعض الناس على خلق فعل الضلال في العبد، فيقول:

إذا لا مؤاخذة على العبد! والجواب: أن معنى خلق

إلخ تقدير ضلاله، وهذا التقدير مبني على علم الله الأزلي بأن العبد لو ترك وشأنه؛ لم يختر سوى الكفر والضلال، ولذا قدره الله عليه، هذا بالإضافة إلى اختياره الضلال بعد أن بين الله للناس الخير والشر، والحسن والقبيح، كما قال تعالى في سورة البلد:{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير، والشر. وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ضلّ» . أخرجه الترمذي. وهذا فحوى قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [29]: {فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} .

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم، وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: أقسم، واللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} فعل ماض، والكاف مفعول به. {يُوسُفُ:}

فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، وانظر الآية رقم [62] من سورة (يس). {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{يُوسُفُ،} التقدير: مصحوبا بالبينات. {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {زِلْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِي شَكٍّ:} متعلقان بمحذوف خبر (زال)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {شَكٍّ،} أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء.

{حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} انظر الآية رقم [12]. {هَلَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{يُوسُفُ} . والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {قُلْتُمْ:} فعل، وفاعل. {لَنْ:} حرف نفي ونصب واستقبال. {يَبْعَثَ اللهُ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} وفاعله. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{رَسُولاً،} كان صفة له، انظر الآية رقم [13]. {رَسُولاً:} مفعول به، وجملة:{لَنْ يَبْعَثَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْتُمْ..} . إلخ جواب {إِذا،} و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له، والأخفش يعتبر {حَتّى} جارة هنا والمقام يؤيده؛ إذ المعنى: استمر الشك في قلوبكم إلى أن هلك يوسف قلتم

إلخ.

ص: 347

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: يضل الله

إضلالا مثل هذا الضلال.

{يُضِلُّ اللهُ:} مضارع، وفاعله. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {هُوَ:} مبتدأ. {مُسْرِفٌ:} خبر أول. {مُرْتابٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. هذا؛ والآية بكاملها من مقول الرجل المؤمن، والجملة الأخيرة تحتمل أن تكون من مقول الله تعالى، فتكون مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام. والأول أولى.

{الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (35)}

الشرح: {الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ} أي: الذين يدفعون الحق بالباطل، ويجادلون الحجج بغير دليل، وحجة معهم من الله تعالى. والمراد: فرعون، ومن على شاكلته من الضالين الفاسدين المفسدين في كل زمان، ومكان. {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ:} مقت الله تعالى ذمه لهم، ولعنه إياهم، وإحلال العذاب بهم. وانظر الآية رقم [10]. {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: والمؤمنون يبغضون من هذه صفته. هذا؛ والفعل {كَبُرَ} محول إلى صيغة فعل التي هي للذم هنا، وتكون للمدح أيضا، كقوله تعالى:{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} وانظر رقم [55].

{كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ..} . إلخ: أي: كما ختم الله على قلوب هؤلاء المجادلين، كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإيمان، متجبر على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق. وإنما وصف القلب بالتكبر، والجبروت؛ لكونه مركزهما، ومحلهما، وهو سلطان الجوارح، والأعضاء، فمتى فسد؛ فسدت كلها، ومتى صلح؛ صلحت كلها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه؛ ألا وهي القلب» . أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما. وهذا الشرح لا يصح إلا على قراءة:«(قلب)» واعتبار (متكبر) صفة له، وهو على هذا يحتاج إلى تقدير محذوف، التقدير: على كل ذي قلب متكبّر، فتجعل الصفة لصاحب القلب. أو التقدير: يطبع الله على كلّ قلب على كلّ متكبر، فحذفت كل الثانية لتقدم ما يدل عليها، وإذا لم يقدر كل لم يستقم المعنى؛ لأنه يصير معناه: أنه يطبع على جميع قلبه، وليس المعنى عليه، وإنما المعنى: أنه يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين قلبا قلبا، ومنه قول جارية بن الحجاج الإيادي:[المتقارب]

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد باللّيل نارا

ص: 348

يريد: وكل نار. انتهى. قرطبي. هذا؛ والطبع: الختم، وهو التأثير في الطين، ونحوه، فاستعير هنا لعدم فهم القلوب ما يلقى عليها، وإذا طبع على قلب إنسان؛ فلا تؤثر فيه حينئذ الموعظة، ولا تجدي معه النصيحة، قال تعالى في كثير من الآيات:{وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} . والطبع: السجية، والخلق؛ الذي طبع عليه الإنسان، والطبيعة مثله، وجمع الأول:

طباع، وجمع الثاني: طبائع. هذا؛ والطبع: تدنس العرض، وتلطخه، يقال: طبع السيف: إذا دخله الجرب من شدة الصدأ، وطبع الرجل، فهو طبع: إذا أتى عيبا. يقال: نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع؛ أي: إلى دنس. قال ثابت بن قطنة: [البسيط]

لا خير في طمع يدني إلى طبع

وعفّة من قوام العيش تكفيني

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب بدلا من {مِنْ؛} لأنه بمعنى: الجمع. أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أذم، أو أعني. أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين. أو هو في محل رفع مبتدأ خبره ما بعده.

{يُجادِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي آياتِ:} متعلقان بما قبلهما، و {آياتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {بِغَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (غير) مضاف، و {سُلْطانٍ} مضاف إليه. {أَتاهُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{سُلْطانٍ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{سُلْطانٍ} .

{كَبُرَ:} فعل ماض، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من:{يُجادِلُونَ،} أو هو ضمير يعود على ما بعده، وهو التمييز، نحو: نعم رجلا زيد، وبئس غلاما عمرو. {مَقْتاً:} تمييز.

{عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مَقْتاً،} أو بمحذوف صفة له، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {عِنْدَ:} معطوف على ما قبله، و {عِنْدَ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعده مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{كَبُرَ مَقْتاً..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ: {الَّذِينَ} على وجه مر ذكره، ومستأنفة على اعتباره تابعا لما بعده، أو منصوبا بفعل محذوف.

{كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف، خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر كذلك، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله بعده، التقدير: يطبع الله

طبعا مثل الطبع الذي يطبعه الله على قلوب الذين يجادلون في آيات الله

إلخ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {يَطْبَعُ اللهُ:} مضارع، وفاعله. {عَلى كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ} مضاف، و {قَلْبِ} مضاف إليه، و {قَلْبِ} مضاف، و {مُتَكَبِّرٍ} مضاف إليه، وهو في الأصل صفة لموصوف محذوف، التقدير: على كل قلب شخص متكبر.

ص: 349

{جَبّارٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف. هذا؛ وعلى تنوين (قلب) ف: {مُتَكَبِّرٍ} و {جَبّارٍ} صفتان له. هذا؛ والجملة الفعلية: {يَطْبَعُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ: {الَّذِينَ} على وجه قاله أبو البقاء، وعليه فالجملة الاسمية:«الأمر كذلك» معترضة بين المبتدأ، والخبر، وعلى الوجه الثاني في تعليق:{كَذلِكَ} فالجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36)}

الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم؛ أوهم: أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن بان له صوابه؛ لم يخفه عنهم، وإن لم يصح؛ ثبتهم على دينهم، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح. انتهى. فإسناد البناء، إلى هامان مجاز عقلي؛ لأنه سبب، فهو آمر يأمر، ولا يبني بنفسه، والباني هم الفعلة من العمال.

قال أهل التفسير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح؛ جمع هامان العمال، والفعلة؛ حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء، سوى الأتباع، والأجراء، وطبخ الأجر، والجص، ونجر الخشب، وضرب المسامير، وأمر بالبناء فبنوه، ورفعوه، وشيدوه؛ حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، وأراد الله أن يفتنهم فيه، فلما فرغوا منه، ارتقى فرعون فوقه، وأخذ نشابة، ورمى بها نحو السماء، فردت إليه، وهي ملطخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى، فعند مقالته هذه؛ بعث الله جبريل، عليه السلام، فضرب الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، فوقعت منه قطعة على عسكر فرعون، فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة منه في البحر، وقطعة في المغرب، فلم يبق أحد عمل شيئا فيه إلا هلك. هذا؛ والصرح: القصر الشامخ. {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ:} انظر الآية رقم [10] من سورة (ص)، ففيها الكفاية.

هذا؛ وأصل الترجي: طلب المحبوب المتوقع حصوله، كقولك: لعل الغائب يقدم. أو للتعليل، كما في قوله تعالى:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} سورة (طه) رقم [44]. وأما التمني؛ فهو طلب المستحيل، أو ما فيه العسر، فالأول كقول أبي العتاهية الصوفي:[الوافر]

ألا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

وأما الثاني؛ فهو كقول المعسر الآيس: ليت لي قنطارا من الذهب فأزكّيه. هذا؛ والصرح: بيت واحد يبنى مفردا طولا عاليا شامخا ضخما. وقال في الكشاف: الصرح البناء الظاهر، الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعد، اشتقوه من: صرح الشيء: إذا ظهر، وصرّح بما في نفسه: أظهره، وبينه.

الإعراب: (قال): فعل ماض. {فِرْعَوْنُ:} فاعله. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو.

(هامان): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا). {اِبْنِ:} فعل أمر مبني على

ص: 350

حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:

«أنت» . {لِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {صَرْحاً:} مفعول به، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية قبلها في محل نصب مقول القول. {لَعَلِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {أَبْلُغُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {الْأَسْبابَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، وجملة:

{وَقالَ فِرْعَوْنُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ (37)}

الشرح: {أَسْبابَ السَّماواتِ:} أبوابها، وطرقها. وقيل: الأمور التي تستمسك بها السموات. وفائدة التكرار: أن الثاني بدل من الأول، والشيء إذا أبهم، ثم أوضح؛ كان تفخيما لشأنه، فلما أراد ما أمل بلوغه من أسباب السموات، أبهمها، ثم أوضحها. وما في سورة الفاتحة ليس منك ببعيد. {فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى:} فأنظر إليه نظر مشرف عليه، توهم اللعين:

أن الله جسم تحويه الأماكن، وكان اللعين يدعي الألوهية، ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف. هذا؛ و {أَسْبابَ} جمع: سبب، و {أَسْبابَ السَّماواتِ:} مراقيها، أو نواحيها، أو أبوابها. والسبب أيضا: الحبل، وما يتوصل به، إلى غيره. وقد جمع زهير بن أبي سلمى بينهما بقوله في معلقته رقم [50]:[الطويل]

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلّم

{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً:} في دعوى الرسالة، أو في ادعائه إلها دوني، والظن هنا بمعنى:

اليقين؛ أي: وأنا أتيقن: أنه كاذب، وإنما أقول ما أقوله؛ لإزالة الشبهة عمن لا يتيقن ما أتيقنه.

{وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ:} ادعاؤه الألوهية، وتعاليه في الأرض، وتمرده على ربه، وطغيانه، وفساده في الأرض. {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي: ومنع عن الطريق المستقيم، وهو الهدى، والإيمان بسبب سوء عمله. {وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ} أي: تدبير الكيد لموسى، وقومه، ومكره الذي اتخذه؛ ليدفع ما جاء به موسى من الحق المبين. {إِلاّ فِي تَبابٍ} أي: في خسران، وضلال، وضياع، وهلاك، ومنه قوله تعالى في سورة (المسد):{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [103]:{وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} .

تنبيه: قرئ «(زيّن)» بالبناء للفاعل على أن الفاعل هو الله، وقرئ بالبناء للمجهول، على أن المزين هو الشيطان، ومن الأول قوله تعالى في سورة (النمل) رقم [4]:{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} . ومن الثاني قوله تعالى في سورة (النمل) أيضا رقم [24]:

ص: 351

{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} وقد قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قيل: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته؛ أي: في الآية الأولى. وقد أسنده إلى الشيطان؛ أي:

في الآية الثانية؟! قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك: أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله تعالى مجاز، وله طريقان في علم البيان:

أحدهما: أنه من المجاز الذي يسمى استعارة. والثاني أن يكون من المجاز الحكمي.

فالطريق الأول: أنه لما متعهم بطول العمر، وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم، وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وبطرهم، وإيثار الراحة، والترفه، ونفارهم مما يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة، والمشاق المتعبة؛ فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة -صلوات الله وسلامه عليهم-في قولهم:{وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ} .

والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان، وتخليته؛ حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه؛ لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها زينها الله لهم، فعموا عنها، وضلوا. ويعزى إلى الحسن. انتهى. كشاف. وهذا مبني على مذهبه في الاعتزال.

وأما عند أهل السنة فالمزين في الحقيقة هو الله تعالى، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل، أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط، فمن أراد الله شقاوته؛ سلطه عليه؛ حتى يقبل وسوسته، وهذا مبني عند أهل السنة على أن العبد لا يخلق أفعال نفسه، وإنما يخلقها الله فيه كما قال تعالى في سورة (الصافات) رقم [96]:

{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} . وانظر ما ذكرته في شرح هذه الآية. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَسْبابَ:} بدل من {الْأَسْبابَ} بدل كل من كل، و {أَسْبابَ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {فَأَطَّلِعَ:} الفاء: للسببية. (أطلع) فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء في جواب الأمر، أو هو منصوب على التوهم، وهو تقدير الفعل {أَبْلُغُ} منصوبا ب:«أن» ؛ لأن خبر «لعل» كثيرا جاء مقرونا ب: «أن» والعطف على التوهم كثير، وإن كان لا ينقاس. أو هو منصوب في جواب الترجي، وهو مذهب الكوفيين. والبصريون لا يجيزونه، وإلى قول الكوفيين نحا الزمخشري، قال: تشبيها للترجي بالتمني. و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لعل بلوغ الأسباب واطلاعا إلى إله موسى حاصلان مني. هذا؛ وأجاز ابن هشام عطفه على الأسباب، وذكر بيت ميسون، وهو الشاهد رقم (868) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . [الوافر]

للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

وما ذكرته من العطف على التوهم، لا يجوز أدبا مع القرآن الكريم، فالأحسن أن يقال: هو منصوب على المعنى. انظر ما ذكرته في سورة (المنافقون) عند قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ}

ص: 352

الصّالِحِينَ. هذا؛ ويقرأ الفعل بالرفع عطفا على {أَبْلُغُ} ومعنى النصب خلاف معنى الرفع؛ لأن معنى النصب: متى بلغت الأسباب اطلعت. ومعنى الرفع: لعلي أبلغ الأسباب، ثم لعلي أطلع بعد ذلك، إلا أن ثم أشد تراخيا من الفاء. انتهى. قرطبي. وفاعل (أطلع) مستتر تقديره:«أنا» .

{إِلى إِلهِ:} متعلقان بما قبلهما، و {إِلهِ} مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَإِنِّي:} الواو: واو الحال. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لَأَظُنُّهُ:} اللام: هي المزحلقة. (أظنه): فعل مضارع، والفاعل تقديره:

«أنا» ، والهاء مفعول به أول. {كاذِباً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل (أطلع) المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: زين لفرعون سوء عمله تزيينا مثل تزيين القول المذكور له. {زُيِّنَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لِفِرْعَوْنَ:} متعلقان بما قبلهما. {سُوءُ:}

نائب فاعله، وهو مضاف، و {عَمَلِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالبناء للمعلوم فالفاعل يعود إلى (الله)، و {سُوءُ} مفعول به. (صد): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {لِفِرْعَوْنَ}. {عَنِ السَّبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. هذا؛ وقرئ:«(وصدّ)» على أنه مصدر معطوف على: {سُوءُ} . {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما):

نافية. {كَيْدُ:} مبتدأ، و {كَيْدُ} مضاف، و {لِفِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وهذه الإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي تَبابٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من:{لِفِرْعَوْنَ،} فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط: الواو. وإعادة فرعون بلفظه زيادة في التشنيع عليه.

{وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ:} هو مؤمن آل فرعون: وقيل: هو موسى. وليس بشيء.

{يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ:} طريق الهدى، والخير، لا كما قال فرعون في الآية رقم [29] فإنه كاذب في دعواه.

قال الزمخشري: أجمل لهم، ثم فسر، فافتتح بذم الدنيا، وتصغير شأنها؛ لأن الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله، ويجلب الشقاوة في العاقبة،

ص: 353

وثنى بتعظيم الآخرة، والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن المستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها، وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوته إلى دين الله، الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد، الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك، واحتشد. لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم، وعبرة للمعتبرين، وهو قوله تعالى في آخر هذه الآيات:{فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} .

الإعراب: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [29] و [30]. {اِتَّبِعُونِ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وبعضهم قرأ بإثباتها مفعول به. {أَهْدِكُمْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وعند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تتبعون؛ أهدكم، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» والكاف مفعول به أول. {سَبِيلَ:} مفعول به ثان، و {سَبِيلَ} مضاف، و {الرَّشادِ} مضاف إليه، والكلام:{يا قَوْمِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)}

الشرح: {يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ} أي: يتمتع بها قليلا، ثم تنقطع، وتزول، وانظر الآية رقم [148] من سورة (الصافات). {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ} أي: الاستقرار، والخلود، ومراده بالدار الآخرة: الجنة، والنار؛ لأنهما لا يفنيان. والمعنى: أن الدنيا فانية منقرضة، لا منفعة فيها، وأن الآخرة باقية دائمة، والباقي خير من الفاني. قال بعض العارفين:

لو كانت الدنيا ذهبا فانيا، والآخرة خزفا باقيا؛ لكانت الآخرة خيرا من الدنيا، فكيف والدنيا خزف، والآخرة ذهب باق؟!

الإعراب: {يا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [29]. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على السكر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {الْحَياةُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {مَتاعٌ:} خبر المبتدأ. {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الْآخِرَةَ:} اسم (إنّ). {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{دارُ:} خبر المبتدأ، و {دارُ} مضاف، و {الْقَرارِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا؛ ف:{دارُ الْقَرارِ} خبر (إنّ)، والآية الكريمة بكاملها من مقول الرجل المؤمن.

ص: 354

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)}

الشرح: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها:} وهذا من فضله تعالى؛ حيث لا يعاقب في الآخرة إلا بمقدار السيئة التي يعملها العبد عدلا منه تعالى، وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بمثلها. والمراد: بالسيئة: الشرك، وغيره من المعاصي والمنكرات؛ التي يرتكبها العبد، وتقييد القرطبي لها بالشرك لا وجه له. وأصل {سَيِّئَةً} (سيوئة) فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. {وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً..}. إلخ: فهذا تصريح من العلي القدير: أن الأنثى مثل الذكر بالمجازاة على عمل الخير، وكذلك بالمجازاة على عمل الشر، وقوله تعالى:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} تصريح بأن العمل الصالح بدون إيمان غير مقبول عند الله، وهذا يسمى في فن البديع احتراسا، والعكس هو الصحيح أيضا بأن الإيمان بدون عمل قد لا يجدي؛ لأن الله تعالى لم يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر العمل الصالح معطوفا عليه، وهو كثير في الآيات القرآنية، لا يعد، ولا يحصى.

{فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} أي: أولئك المحسنون العمل يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافا مضاعفة فضلا من الله وكرما، لا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله ثوابا كثيرا لا انقضاء له، ولا نفاد، وبغير ميزان، وبغير مكيال. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [40]:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} .

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَمِلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره:«هو» .

{سَيِّئَةً:} مفعول به. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية. {يُجْزى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} وهو المفعول الأول. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِثْلَها:}

مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولة فالجملة بعدها صلتها، وخبرها جملة:{فَلا يُجْزى..} . إلخ، واقترنت بالفاء لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الوجهين مستأنفة، لا محل لها.

{وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً:} إعرابه مثل سابقه بلا فارق. {مِنْ ذَكَرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و {مَنْ} بيان لما أبهم في (من). {أُنْثى:} معطوف على: {ذَكَرٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ}

ص: 355

في محل نصب حال من فاعل {عَمِلَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها معترضة؛ فلا محل لها. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يَدْخُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {الْجَنَّةَ:}

مفعول به، وانظر الآية رقم [26] من سورة (يس)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وباقي الكلام مثل سابقه. {يُرْزَقُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الضمير فقط. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بِغَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (غير) مضاف، و {حِسابٍ} مضاف إليه.

{وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ (41)}

الشرح: {وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ} أي: إلى طريق الإيمان الموصل إلى النجاة من النار. {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ} أي: تدعونني إلى الكفر المؤدي إلى النار. والاستفهام للتعجب، كأنه يقول: أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة، والخير، وتدعونني إلى النار، والشر؟! فقد كرر نداءهم في هذه الآيات إيقاظا لهم عن سنة الغفلة، واهتماما بالمنادى له، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه، كما كرر إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كلمة:{يا أَبَتِ} .

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث؛ فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. وانظر شرح (قوم) في الآية رقم [30] من سورة (الصافات).

الإعراب: {وَيا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [29]{ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {أَدْعُوكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال الاستفهام. {إِلَى النَّجاةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. (تدعونني): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {إِلَى النّارِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الظاهر، وهذا لا يصح، إلا بتقدير:

ومالكم تدعونني إلى النار؟ ويضعف أن تكون الجملة حالا بسبب العطف؛ أي: مالي أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلى النار؟! لذا فالمرجح اعتبار الجملة مستأنفة. انتهى. جمل بتصرف كبير.

ص: 356

{تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ (42)}

الشرح: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ..} . إلخ: أي: تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علم بربوبيته، وما ليس بإله حقّ، كفرعون، وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله الحق؟! ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر، والشرك بين: أنه يدعوهم إلى الإيمان بالإله الحق، فقال:

{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} أي: القوي الغالب على أمره القاهر فوق عباده، الغفار لذنوب عباده المؤمنين التائبين المنيبين. هذا؛ وأتى في قوله:{تَدْعُونَنِي} بجملة فعلية ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله:{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ} بجملة اسمية ليدل على ثبوت دعوته، وتقويتها. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

الإعراب: {تَدْعُونَنِي:} هذه الجملة بدل مما قبلها، وبيان لها، فمحلها مثلها. {لِأَكْفُرَ:}

فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل تقديره:«أنا» ، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {بِاللهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. و (أشرك): معطوف على: (أكفر) وفاعله تقديره: «أنا» فهو داخل معه في تقدير المصدرية. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، ويجيز بعضهم تعليقهما بمحذوف حال من {عِلْمٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {عِلْمٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، والجملة الفعلية:{لَيْسَ..} . إلخ صلة {ما} أو صفتها، والعائد الضمير المجرور محلا بالباء، وإن اعتبرت {ما} نكرة موصوفة؛ فالجملة الفعلية صفتها.

{وَأَنَا:} الواو: واو الحال. (أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{أَدْعُوكُمْ:} مضارع مرفوع، وفاعله تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به. {إِلَى الْعَزِيزِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْغَفّارِ:} بدل مما قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَنَا..} . إلخ في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الواو، والضمير.

{لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ (43)}

الشرح: {لا جَرَمَ:} انظر الإعراب يتضح لك معناها. {أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أي: الذي

ص: 357

تدعونني إلى عبادته، وتقديسه، وتعظيمه من عبادة الأصنام، وألوهية فرعون. {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ} أي: ليست له استجابة دعوة لأحد في الدنيا، ولا في الآخرة. وقيل:

ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا، ولا في الآخرة؛ لأن الأصنام لا تدّعي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها، وفي الآخرة تتبرأ من عابديها، ولكن فرعون ادّعى الربوبية؛ حيث قال في سورة (القصص) رقم [38]:{يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} . {وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ:}

مرجعنا، ومصيرنا إلى الله بالموت، فيجازي كلاّ بعمله؛ إن خيرا؛ فخير، وإن شرا فشر.

{وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ:} المتجاوزين حدود الله بالكفر، وارتكاب المعاصي، واجتراح السيئات، وانتهاك المحرمات. {هُمْ أَصْحابُ النّارِ:} ملازموها، وملاكها لا يخرجون منها، ولا يغادرونها، ومثلهم: أصحاب الجنة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: لفظ {لا جَرَمَ} ورد في القرآن الكريم في خمسة مواضع متلوّ ب: (أنّ) واسمها، ولم يجيء بعدها فعل: أحدها: في هذه السورة، وثلاثة في سورة (النحل) برقم [23] و [62] و [109] والخامس في سورة (هود) رقم [22] وفي إعرابه أربعة أقوال:

أحدها: وهو مذهب الخليل وسيبويه: أنهما مركبتان من (لا) النافية، و (جرم) وبنيتا على تركيبهما تركيب خمسة عشر، وصار معناهما بمعنى: فعل، وهو:(حقّ) فعلى هذا فالمصدر المؤول من «أنّ» واسمها، وخبرها في محل رفع فاعل، فقوله تعالى:{لا جَرَمَ أَنَّما..} . إلخ:

أي: وثبت كون الذي تدعونني إليه. هذا ما نقله السمين عن الخليل، وسيبويه، ونقل مكي عنهما: أن {لا جَرَمَ} بمعنى: حقّ في موضع رفع بالابتداء، والمصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها في محل رفع خبر، فاختلف النقل عن الخليل، وسيبويه. رحم الله الجميع برحمته الواسعة، ورحمنا معهم.

الثاني: أن {لا جَرَمَ} بمنزلة: (لا رجل) في كون {لا} نافية للجنس. و {جَرَمَ} اسمها مبني معها على الفتح، وهي واسمها في محل رفع بالابتداء، وما بعدهما خبر:{لا} النافية، وصار معناها: لا محالة أنما تدعونني

إلخ؛ أي: كون دعوتكم إياي، وهذا الوجه عزاه مكي إلى الخليل أيضا.

الوجه الثالث: أن {لا} نافية لكلام متقدم، تكلم به فرعون، وأشياعه، فرد الرجل المؤمن عليهم بقوله:{لا} كما ترد {لا} هذه قبل القسم في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ} ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي جرم أن ما تدعونني

إلخ، و {جَرَمَ} فعل ماض معناه كسب، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و (أنّ) وما في حيزها في موضع المفعول به؛ لأن {جَرَمَ} يتعدى إذا كان بمعنى: كسب، وعلى هذا فالوقف على قوله {لا} ثم يبتدأ ب:{جَرَمَ} بخلاف ما تقدم. انتهى. جمل. وهذا القول عزاه مكي للزجاج.

ص: 358

الوجه الرابع: أن معنى: {لا جَرَمَ} لا حدّ، ولا منع، ولا صدّ، ويكون:{جَرَمَ} بمعنى:

القطع، تقول: جرمت كذا؛ أي: قطعته، فيكون {جَرَمَ} اسم:{لا} مبني معها على الفتح كما تقدم، وخبرها (أنّ) وما في حيزها على حذف حرف الجر؛ أي: لا منع من دعوتكم إياي إليه، فيعود فيه الخلاف المشهور. انتهى. جمل. وهذا القول عزاه مكي للكسائي.

(أنّ): حرف مشبه بالفعل. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسمها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد الضمير المجرور محلا ب:(إلى). {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {دَعْوَةٌ} اسمها مؤخر. {فِي الدُّنْيا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {دَعْوَةٌ} . {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، أو زائدة لتأكيد النفي. {فِي الْآخِرَةِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:

{لَيْسَ لَهُ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر، انظر الإعراب المتقدم لترى محل هذا المصدر.

هذا؛ والمصدر المؤول من: {وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ} معطوف على ما قبله. (أن): حرف مشبه بالفعل. {الْمُسْرِفِينَ:} اسم (أنّ) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم. {هُمْ:} مبتدأ. {أَصْحابُ:} خبره، و {أَصْحابُ} مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أنّ) والمصدر المؤول معطوف على ما قبله على جميع الاعتبارات فيه، والآية بكاملها من مقول الرجل المؤمن. هذا؛ وأجيز اعتبار الضمير فصلا، وهو غير وجيه.

{فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)}

الشرح: {فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ} أي: سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به، وما نهيتكم عنه، ونصحتكم، فتتذكرون حين لا ينفعكم التذكر، وتندمون حيث لا يفيدكم الندم. ففيه وعيد، وتهديد لهم. {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ:} أتوكل على الله، وأعتمد عليه، وأستعينه، وأستهديه.

وانظر شرح {يَتَوَكَّلُ،} و (التوكل) في الآية رقم [38] من سورة (الزمر). {إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} أي: عليم وخبير بأحوال العباد، فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدر النافذ، والحكم الصائب.

الإعراب: {فَسَتَذْكُرُونَ:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: الفصيحة. ولا وجه له ألبتة. السين:

حرف استقبال. (تذكرون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {ما:}

تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أَقُولُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان

ص: 359

بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

فستذكرون الذي، أو: شيئا أقوله لكم، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: قولي لكم. {وَأُفَوِّضُ:} الواو: حرف استئناف. (أفوض): فعل مضارع، والفاعل تقديره:«أنا» . {أَمْرِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {بَصِيرٌ:} خبرها. {بِالْعِبادِ:} متعلقان ب: {بَصِيرٌ،} والجملة الاسمية تعليل لما قبلها. والآية بكاملها من مقول الرجل المؤمن.

{فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)}

الشرح: {فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا:} فحفظه الله من مكر فرعون، وقومه، وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب به، نجا مع موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

وهذا في الدنيا، وفي الآخرة يكون في أعلى عليين مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ:} وهو الغرق في البحر، ثم النقلة إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا، ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة؛ اجتمعت أرواحهم، وأجسادهم في النار. وانظر الآية التالية.

تنبيه: لما نصح الرجل المؤمن فرعون، وقومه؛ توعدوه بالقتل، ففر هاربا من بينهم، فأرسل فرعون خلفه ألفا من جنوده؛ ليأتوا به، أو ليقتلوه، فأكلت السباع بعضهم، ورجع بعضهم هاربا، فقتل فرعون من رجع عقوبة لهم على عدم قتلهم لذلك الرجل. وفي البيضاوي: أن ذلك الرجل فر منهم إلى جبل، فأتبعه فرعون طائفة من جنوده، فوجدوه يصلي، والوحوش صفوف حوله، فرجعوا رعبا، فقتلهم فرعون. انتهى. هذا؛ والمكر أصله في لسان العرب: الاحتيال، والخديعة، وقد مكر به، يمكر، فهو ماكر، ومكّار. قال الشاعر:[الطويل]

قهرت العدا لا مستعينا بعصبة

ولكن بأنواع الخديعة والمكر

وقال زياد بن يسار، وهو الشاهد رقم (1021) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل] تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها

فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر

هذا؛ ونسب المكر إلى الله تعالى في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى في سورة (الرعد) رقم [42]:{فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} وهو بمعنى: المجازاة، والعقاب، والانتقام. انظره في محاله تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

ص: 360

الإعراب: {فَوَقاهُ:} الفاء: حرف استئناف. (وقاه): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {سَيِّئاتِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وهو على حذف مضاف، التقدير:

فوقاه الله عقاب {سَيِّئاتِ} . و {سَيِّئاتِ} مضاف، و {ما} والفعل بعدها تؤولان بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: سيئات مكرهم. {مَكَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية:(وقاه.. إلخ) مستأنفة، لا محل لها، وقبلها كلام كثير مقدر، انظره في الشرح، لذا فالقول: الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق جيد. (حاق):

فعل ماض. {بِآلِ:} متعلقان به، و (آل) مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {سُوءُ:} فاعل (حاق)، و {سُوءُ} مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه، وجملة:{وَحاقَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)}

الشرح: {النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا:} يعني صباحا ومساء. قال ابن مسعود رضي الله عنه: أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود، يعرضون على النار في كل يوم مرتين، تغدو، وتروح إلى النار، ويقال: يا آل فرعون! هذه منازلكم؛ حتى تقوم الساعة. وقيل:

تعرض روح كل كافر على النار بكرة، وعشيا ما دامت الدنيا، ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر، أعاذنا الله منه بمنه وكرمه.

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة، والعشيّ؛ إن كان من أهل الجنة؛ فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النّار فمن أهل النّار، يقال: هذا مقعدك؛ حتى يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة» . متفق عليه.

{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ألوان من العذاب غير الذي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا. وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن من مسلم، أو كافر إلا أثابه الله تعالى!» . قال: قلنا: يا رسول الله! ما إثابة الله الكافر؟ فقال: «إن كان قد وصل رحما، أو تصدّق بصدقة، أو عمل حسنة؛ أثابه الله تبارك وتعالى المال، والولد، والصحّة، وأشباه ذلك» . أخرجه ابن أبي حاتم والبزار.

هذا؛ ويقرأ بنصب (النّار) وقرئ: «(ادخلوا)» بوصل الهمزة. هذا؛ وقال الجوهري: العشي، والعشية: من صلاة المغرب إلى العتمة، تقول: أتيته عشية أمس

إلخ وانظر ما ذكرته في الآية

ص: 361

رقم [18] من سورة (الروم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وانظر شرح {السّاعَةُ} برقم [14] منها أيضا، وانظر ما أذكره في الآية رقم [20] من سورة (الأحقاف) بشأن القلب فإنه جيد.

الإعراب: {النّارُ:} بالرفع فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بدل من: {سُوءُ الْعَذابِ} . الثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو؛ أي: سوء العذاب النار؛ لأنه جواب لسؤال مقدر، و {يُعْرَضُونَ} على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالا من {النّارُ،} ويجوز أن يكون حالا من: {آلَ فِرْعَوْنَ} . الثالث: أن {النّارُ} مبتدأ، وجملة:{يُعْرَضُونَ..} . إلخ في محل رفع خبره. وقرئ «(النّار)» منصوبا، وفيها وجهان: أحدهما: أنه منصوب بفعل مضمر، يفسره الفعل بعده من حيث المعنى؛ أي: يصلون النار يعرضون عليها كقوله تعالى في آخر سورة الدهر: {وَالظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} . والثاني: أن ينتصب (النّار) على الاختصاص. قاله الزمخشري، فعلى الأول: لا محل ل: {يُعْرَضُونَ} لكونه مفسرا، وعلى الثاني: هو حال، كما تقدم. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

{يُعْرَضُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله. {عَلَيْها:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وانظر محل الجملة فيما ذكر آنفا. {غُدُوًّا:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {وَعَشِيًّا:} معطوف عليه. (يوم): فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه متعلق بفعل محذوف، مقدر ب:«يقال» . الثاني: أنه متعلق ب: {أَدْخِلُوا} أي: أدخلوا يوم تقوم الساعة.

وعلى هذين الوجهين فالوقف تام على قوله (عشيا). والثالث: أنه معطوف على الظرفين قبله، فيكون متعلقا ب:{يُعْرَضُونَ} مثلهما، والوقف على هذا على قوله:{السّاعَةُ،} و (أدخلوا) معمول لقول مقدر؛ أي: يقال لهم: كذا وكذا. انتهى. جمل نقلا عن السمين. هذا؛ وجملة:

{تَقُومُ السّاعَةُ} في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {أَدْخِلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {آلَ:} مفعول به أول، و {آلَ} مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه. {أَشَدَّ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه، وهذا على قراءة قطع الهمزة واعتبار الفعل من الرباعي، وأما على وصل الهمزة، واعتبار الفعل من الثلاثي؛ ف:{آلَ فِرْعَوْنَ} منادى بأداة نداء محذوفة، و {أَشَدَّ} مفعول به، وعلى الوجهين فالجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر تقديره فيما تقدم.

{وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مِنَ النّارِ (47)}

الشرح: {وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النّارِ} أي: يتخاصم أهل النار فيما بينهم، ومنهم فرعون، وأتباعه. {فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ} وهم الأتباع. {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا:} وهم القادة، والسادة، والكبراء في الدنيا. {إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً} أي: أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر، والضلال.

ص: 362

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ:} دافعون، أو متحملون عنا قسطا وجزآ من العذاب. والتبع يكون واحدا، ويكون جمعا في قول البصريين، واحده: تابع، وقال الكوفيون: هو جمع، لا واحد له كالمصدر، فلذلك لم يجمع، ولو جمع؛ لقيل: أتباع. ومثل هذه الآية، وتاليتها في المخاصمة، والملاومة الآية رقم [21] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

قال الرازي: علم الضعفاء: أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل الرؤساء، وإيلام قلوبهم؛ لأنهم سعوا في إيقاعهم في أنواع الضلالات. هذا؛ و {مُغْنُونَ} اسم فاعل أصله: مغنيون؛ لأنه من: أغنى، يغني الرباعي، فقل في إعلاله: استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء، والواو، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، ثم قلبت كسرة النون ضمة لمناسبة الواو. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل وأكرم.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): ظرف لما يستقبل من الزمان هنا مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف متعلق بهذا الفعل المقدر. وقال البيضاوي: ويحتمل عطفه على {غُدُوًّا} . {يَتَحاجُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {فِي النّارِ:} متعلقان بما قبلهما.

{فَيَقُولُ:} الفاء: حرف عطف وتفريع. (يقول الضعفاء): مضارع وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، وفيها تفسير معنى المحاجة. {لِلَّذِينَ:} جار، ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{اِسْتَكْبَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {تَبَعاً} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما تقدم عليه؛ صار حالا على القاعدة التي رأيتها في الآية رقم [13]. {تَبَعاً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُغْنُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم. {عَنّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُغْنُونَ} . {نَصِيباً:}

مفعول به ل: {مُغْنُونَ} على تضمينه معنى: دافعون. وقيل: منصوب بمحذوف يدل عليه:

{مُغْنُونَ} أي: حاملون. وقيل: هو مصدر ل: {شَيْئاً} في قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً} أي: هو نائب مفعول مطلق ف: «شيئا» مرادف ل: «غنى» فكذلك {نَصِيباً} مرادف له. {مِنَ النّارِ:} متعلقان ب: {نَصِيباً،} أو بمحذوف صفة له، أو

ص: 363

هما متعلقان ب: {مُغْنُونَ} على اعتبار {نَصِيباً} مصدرا، والجملة الاسمية:{فَهَلْ أَنْتُمْ..} .

إلخ استئنافية لا محل لها. وجملة: {إِنّا كُنّا

:} إلخ في محل نصب مقول القول.

{قالَ الَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48)}

الشرح: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا:} عن الإيمان، وعن متابعة الرسل، والانقياد لهم، وهم القادة والرؤساء والعظماء في الدنيا. {إِنّا كُلٌّ فِيها} أي: نحن، وأنتم فيها؛ فكيف نغني عنكم؟! ولو قدرنا؛ لأغنينا عن أنفسنا. هذا؛ وقرئ:«(كلا)» على التأكيد لاسم (إن). وأجاز ذلك الكسائي، والفراء، ومنع ذلك سيبويه، والمبرد؛ لأنه لا يجوز عندهما أن يبدل من المضمر هنا؛ لأنه مخاطب، ولا يبدل الظاهر من المخاطب، ولا من المتكلم؛ لأنهما لا يشكلان، فيبدل منهما. هذا نص كلام المبرد، والقراءة ليست سبعية. {إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ:}

بأن أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، لا معقب لحكمه. وقسم العذاب بين الأتباع، والمتبوعين، والحاكمين، والمحكومين بقدر ما يستحقه كل منهم، كما قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [38]:{لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} .

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{اِسْتَكْبَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {إِنّا:}

حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {كُلٌّ:} مبتدأ، والتنوين عوض من المضاف إليه؛ إذ التقدير: كلنا. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كل)، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمه. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {حَكَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {الْعِبادِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليلية، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَقالَ الَّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ فِي النّارِ} أي: الأتباع، والمتبوعون؛ الذين أودعوا في جهنم بعد أن تحاجوا فيما بينهم، وتلاوموا، بل ولعن بعضهم بعضا، قالوا لخزنة جهنم مستغيثين بهم، ومستنجدين، ومستناصرين:{اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ..} . إلخ؛ أي: اسألوا ربكم، وتوسلوا إليه أن يخفف عنا العذاب ولو يوما واحدا! هذا؛ ووضع {جَهَنَّمَ} موضع الضمير للتهويل، أو لبيان محلهم فيها. وهذا بعد أن ضاقت حيلهم، وعييت بهم عللهم، والمراد: ب: {يَوْماً؛} أي:

ص: 364

مقدار يوم من أيام الدنيا؛ لأنه ليس في الآخرة ليل، ولا نهار، وانظر دركات النار في الآية رقم [71] من سورة (الزمر). هذا؛ والتعبير في الماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق وقوعه.

الإعراب: (قال الذين): ماض، وفاعله. {فِي النّارِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

{لِخَزَنَةِ:} متعلقان ب: (قال)، و (خزنة) مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {اُدْعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {رَبَّكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يُخَفِّفْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف مقدر، والفاعل يعود إلى:

{رَبَّكُمْ،} تقديره: «هو» . {عَنّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يَوْماً:} ظرف زمان، متعلق بالفعل قبله، والمفعول محذوف، التقدير: يخفف عنا شيئا من العذاب في يوم، ويجوز أن يكون الجار والمجرور {مِنَ الْعَذابِ} في محل المفعول به، و {مِنَ} تبعيضية، ويجوز اعتبار:

{يَوْماً} مفعولا به، الأصل: يخفف عنا عذاب يوم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، على حد قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً..} . إلخ وعلى هذا: فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة: {يَوْماً،} والكلام: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة:

{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (50)}

الشرح: {قالُوا} أي: الملائكة؛ الذين هم خزنة جهنم، قالوا للكافرين الذين استغاثوا بهم، وطلبوا منهم الدعاء على سبيل التوبيخ، والتقريع:{أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي:

بالحجج الواضحة والبراهين الساطعة، ومثله في سورة (الزمر) رقم [71] قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ..} . إلخ وفي سورة (الملك) قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ..} . إلخ رقم [8].

{قالُوا بَلى} أي: قال الكفار: جاءتنا رسلنا بالبينات، ولكن كذبنا. {وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} رقم [9] من سورة (الملك)، وانظر شرح {بَلى} في الآية رقم [81] من سورة (يس). {قالُوا} أي: الملائكة مجيبين لأهل النار. {فَادْعُوا} أي: أنتم ادعوا، فنحن لا نجترئ على الدعاء؛ إذ لم يؤذن لنا فيه لأمثالكم. وفيه إقناط لهم من الإجابة، ودلالة على الخيبة، وليس فيه رجاء للمنفعة؛ لأن الملائكة المقربين إذا لم يسمع دعاؤهم، فكيف يسمع دعاء الكفار، والظالمين، والمفسدين، والمعتدين؟! {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} أي: في ضياع، وخسار، وتبار.

ص: 365

فعندئذ يقول بعضهم لبعض: دعونا من الخلق، تعالوا ندع ربنا، فلا أحد أكرم من ربنا! يقولون:{رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ} فالجواب يكون بما يلي: {قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} الآيات من سورة (المؤمنون) رقم [107 و 108 و 109] وانظر ما أذكره في سورة (الزخرف) رقم [77] وخذ ما يلي:

فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يلقى على أهل النار الجوع؛ حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه، فيغاثون بالضريع؛ الذي لا يسمن، ولا يغني من جوع، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصّون به، فيذكرون:

أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم، وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ

»}. إلخ أخرجه الترمذي، وغيره. انتهى. قرطبي.

أقول: وكله مأخوذ من الآيات القرآنية، قال تعالى في سورة (الغاشية):{لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ،} وقال تعالى في سورة (المزمل): {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً،} وقال في سورة (محمد) صلى الله عليه وسلم الآية رقم [51]: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ،} وقال تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} .

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الواو: عاطفة على محذوف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، كما رأيت في الآية رقم [28]. {تَأْتِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به. {رُسُلُكُمْ:} تنازعه الفعلان قبله: {تَكُ} يطلبه اسما له، و {تَأْتِيكُمْ} يطلبه فاعلا له. انظر تفصيل ذلك وشرحه في الآية رقم [22]، والكاف في محل جر بالإضافة.

{بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل {تَأْتِيكُمْ،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر: {تَكُ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة مقدرة قبلها، التقدير: ألم تنتهوا، ولم تك تأتيكم

إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول، وهو قائم مقام كلام كثير. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {قالُوا:} ماض، وفاعله. {فَادْعُوا:} الفاء: زائدة، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير:

وإذا كان ذلك حصل؛ فادعوا، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وإنما كانت الجمل الثلاث مستأنفة؛ لأن كل واحدة منهن بمنزلة جواب لسؤال مقدر. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {دُعاءُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ:} مضاف إليه، من إضافة

ص: 366

المصدر لفاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وهي محتملة لأن تكون من كلام الخزنة، وأن تكون من كلام الله تعالى إخبارا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الأنسب لما بعده، وهو قول الجلال؛ أي: إنها في محل نصب مقول القول لقول محذوف. وقيل في محل نصب حال، ولا يؤيده المعنى البتة.

{إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)}

الشرح: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا} أي: بالحجة، والظفر، والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال، والقتل، وغير ذلك من العقوبات. ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق لهم من صورة الغلبة امتحانا، فإن العبرة إنما هي بالعواقب، وغالب الأمر، وقد نصرهم الله بالقهر على من عاداهم، وأهلك أعداءهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل، فإنه قتل به سبعون ألفا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [172] من سورة (الصافات)، وفي سورة (الروم) رقم [47]. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: كذلك منصورون بعون الله وفاء بوعده، جلت قدرته، وتعالت حكمته. {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ:} المراد بهم من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس من الملائكة، والأنبياء، والعلماء، والمؤمنين، يشهدون للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. ثم {الْأَشْهادُ} جمع:

شهيد، مثل: شريف، وأشراف. وقال الزجاج: جمع: شاهد، مثل: صاحب، وأصحاب. وقال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال، ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعا أدّي كما سمع، وكان على حذف الزوائد. انتهى. قرطبي. هذا؛ والكثير أن يجمع شاهد على:

شهداء، ولم يجمع على أشهاد إلا في هذه السورة، وفي الآية رقم [18] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ وقد عدّ محمد علي الصابوني-جزاه الله خيرا-في كتابه: (التبيان في علوم القرآن) من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم الوفاء بالوعد في كل ما أخبر عنه، وكل ما وعد الله به عباده، قال: وهذا الوعد ينقسم إلى قسمين: وعد مطلق، ووعد مقيد، فالوعد المطلق كوعده بنصر رسوله، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، ونصر المؤمنين على الكافرين. وقد تحقق ذلك كله، وذكر مطلع سورة (الفتح) وسورة (النصر) بكاملها، والآية التي نحن بصدد شرحها، ثم قال: ومن الوعد المطلق قوله جل ثناؤه في سورة (الروم) رقم [47]: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقد تحقق نصر المؤمنين في مواطن عديدة: في بدر، والأحزاب، وحنين، وغير ذلك من المعارك العظيمة؛ التي شهدها تاريخ الإسلام. وذكر آيات (الأنفال) ثم قال: ومن الوعد المطلق أيضا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ..} . رقم [33] من سورة (التوبة) ورقم [28] من سورة (الفتح)، ورقم [9] من سورة (الصف).

ص: 367

أما الوعد المقيد فهو ما كان فيه شرط، كشرط التقوى، أو شرط الصبر، أو شرط نصرة دين الله، وما شابه ذلك، قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} رقم [7] من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} رقم [2 و 3] من سورة (الطلاق) وبعدها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} . وقد وعد المؤمنين بالنصر بشرط الصبر، كما قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [65]:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..} . إلخ. انتهى. بتصرف كبير مني.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {لَنَنْصُرُ:} اللام: هي المزحلقة.

(ننصر) فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {رُسُلَنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على: {رُسُلَنا،} وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الْحَياةِ:} متعلقان بالفعل (ننصر). {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَيَوْمَ:} ظرف زمان معطوف على الجار والمجرور قبله، التقدير: لننصر رسلنا في الحياة الدنيا وفي يوم القيامة، وجملة:{يَقُومُ الْأَشْهادُ} في محل جر بإضافة (يوم) إليها، وجملة:{لَنَنْصُرُ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، والقائل هو الله تعالى، كما رأيت في الجملة السابقة.

{يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ (52)}

الشرح: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} أي: عذرهم لو اعتذروا. وهذا جواب عما يقال:

إن ما في هذه الآية يدل على أنهم يذكرون الأعذار؛ إلا أنها لا تنفعهم، وقال في سورة (المرسلات) رقم [36]:{وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فما وجه الجمع بين ما هنا، وهناك؟ وتقرير الجواب: أن ما هناك لا يدل إلا على أنهم ليس عندهم عذر مقبول نافع، وهذا يصدق بأن لا يتعذروا أصلا، فلا منافاة بينهما، إن كان سلب النفع لانتفاء أصل المعذرة، وأما إن كان سلب النفع مبنيا على أنهم يذكرون الأعذار، ولكنها لا تنفعهم؛ فيحتاج في دفع التناقض إلى اعتبار تعدد الأوقات، فإن يوم القيامة يوم طويل، فجاز أن يعتذروا في وقت، ولا يعتذروا في وقت آخر بأن يمنعوا من الكلام بأن يقال لهم: اخسؤوا فيها، ولا تكلمون! انتهى. زاده. وعبارة الكرخي قوله:(معذرتهم): عذرهم أشار إلى أن المعذرة، والعذر معناهما واحد، وعدم نفع المعذرة؛ لأنها باطلة، أو لأنه لا يؤذن لهم، فيعتذرون، فالآية من نفي المقيد، والقيد. انتهى.

جمل بتصرف. وانظر ما أذكره في سورة (فصلت) رقم [24].

هذا؛ ويقرأ الفعل: {لا يَنْفَعُ} بالتاء؛ لأن الفاعل هو (معذرة) وهو مؤنث مجازي، وما كان منه؛ يجوز تأنيث فعله، وتذكيره، والمعذرة: الاعتذار، فهي مصدر ميمي من: عذره: رفع عنه

ص: 368

اللوم، والمؤاخذة، والذنب، أو: قبل عذره. وانظر التعبير عن الكافرين بالظالمين، ونحوه في الآية رقم [59] من سورة (يس). {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} أي: الطرد، والإبعاد من رحمة الله تعالى.

{وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ} أي: جهنم يصلونها وبئس المصير، وسوء العاقبة! وانظر (اللعن) في الآية رقم [68] من سورة (الأحزاب).

الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من سابقه. {لا:} نافية. {يَنْفَعُ:} فعل مضارع. {الظّالِمِينَ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء. {مَعْذِرَتُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {وَلَهُمُ:}

الواو: واو الحال. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {اللَّعْنَةُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{الظّالِمِينَ،} والرابط: الواو، والضمير، وما بعدها معطوف عليها. وقيل: الجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. ولا وجه له قطعا.

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)}

الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى:} ما يهتدي به في الدين من المعجزات، والصحف، والشرائع، والأحكام. {وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ:} التوراة، والزبور، والإنجيل؛ إذ الكتاب جنس يشمل الكل. {هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} أي: في الكتاب الذي، أورثهم الله إياه هداية لهم من الضلالة، وفيه تذكير لهم؛ إن كانوا من ذوي العقول السليمة والفطر المستقيمة، وخص أولي الألباب بالذكر؛ لأنهم هم الذين إذا ذكروا؛ يتذكرون، وإذا وعظوا؛ يتعظون. وانظر شرح (أولي الألباب) في الآية رقم [29] من سورة (ص).

هذا؛ و {إِسْرائِيلَ} هو نبي الله يعقوب، ومعناه بالعبرانية: صفوة الله، أو عبد الله، ف:«إسرا» هو العبد، أو الصفوة، و «إيل» هو الله، ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم، وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم، وحياة جدته سارة، قال تعالى في سورة (هود) في الآية رقم [71]:

{وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} وهو النافلة التي امتن الله بها على إبراهيم بقوله: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} ولقد وجدت في كثير من المراجع الموجودة لديّ: أن يعقوب كان توأما مع أخ له اسمه عيصو في بطن واحد، فعند خروجهما من بطن أمهما تزاحما، وأراد كل منهما أن يخرج قبل صاحبه، فقال عيصو ليعقوب: إن لم تدعني أخرج قبلك؛ وإلا خرجت من جنبها! فتأخر يعقوب شفقة على أمه، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبارين. والله أعلم بحقيقة ذلك.

ص: 369

أما {هُدىً} فأصله: هديا، أو: هدي، بضم الهاء، وفتح الدال. وتحريك الياء منونة، فقلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف والتنوين، الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار:{هُدىً،} وإنما أتوا بياء أخرى لتدل على الياء الأصلية المحذوفة بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا: هدا فلا يوجد ما يدل عليها، وقل مثل هذا في كل اسم مقصور جرد من أل، والإضافة ونون. هذا؛ وانظر شرح:(نا) في الآية رقم [34] من سورة (يس).

الإعراب: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى} انظر الآية رقم [23] فالإعراب واحد. {الْهُدى:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {وَأَوْرَثْنا:} الواو: حرف عطف.

{وَأَوْرَثْنا:} فعل، وفاعل. {بَنِي:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.

{الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم لا محل لها. والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {هُدىً:} مفعول لأجله، أو هو حال منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. هذا؛ وقال القرطبي. {هُدىً} بدل من:{الْكِتابَ} ويجوز بمعنى: هو {هُدىً،} وليسا بشيء يعتد به. (ذكرى): معطوف على ما قبله. {لِأُولِي:} جار ومجرور متعلقان بأحد الاسمين قبلهما على التنازع، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لإحداهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و (أولي) مضاف، و {الْأَلْبابِ} مضاف إليه.

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)}

الشرح: لما بين الله تعالى: أنه ينصر رسله، وينصر المؤمنين في الدنيا، والآخرة، وضرب المثل في ذلك بحال موسى؛ خاطب بعد ذلك محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: فاصبر. أي: على أذى قومك كما صبر موسى-عليه السلام-على أذى فرعون. قال الكلبي: نسخت آية القتال آية الصبر. انتهى. جمل. نقلا من تفسير الخطيب.

{فَاصْبِرْ} أي: يا محمد على أذى قومك، كما صبر من قبلك. {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أي:

بالنصر، والعزة، والسيادة، كما نصر موسى، وغيره من الرسل على أقوامهم، والله سبحانه لا يخلف وعده. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أي: وأقبل على أمر دينك، وتدارك فرطاتك، كترك الأولى، والاهتمام بأمر العدى بالاستغفار، فإنه تعالى كافيك في النصر، وإظهار الأمر. انتهى.

ص: 370

بيضاوي. وقال القرطبي: قيل: واستغفر لذنب أمتك، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: لذنب نفسك. على رأي: من يجوز الصغائر على الأنبياء، ومن قال: لا تجوز؛ قال: هذا تعبد للنبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء، كما قال تعالى:{وَآتِنا ما وَعَدْتَنا} والفائدة: زيادة الدرجات، وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده. وقيل: فاستغفر الله من ذنب صدر منك قبل النبوة. انتهى.

وهذا الأخير لا وجه له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم قبل النبوة، وبعدها.

وجملة القول: قد تمسك بهذه الآية، وأمثالها من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء، وقالوا: لو لم يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب؛ لما أمر بالاستغفار، والجواب: أن درجة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات، ومنصبه أشرف المناصب، فلعلو درجته، وشرف منصبه، وكمال معرفته بالله عز وجل، فما وقع منه على وجه التأويل، أو الاجتهاد، كما في أسرى بدر، وإذنه في التخلف للمنافقين عن غزوة تبوك، وغير ذلك من أمور الدنيا، فإنه ذنب بالنسبة إلى منصبه العظيم، وجاهه الكريم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وذلك بالنسبة إلى منازلهم العالية، ودرجاتهم الرفيعة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [43] من سورة (التوبة)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ..} . إلخ: أي: داوم على التسبيح، والتحميد لربك في جميع الأوقات.

والمراد منه: الأمر بالمواظبة على ذكر الله، وألا يفتر اللسان عنه؛ حتى يصبح في زمرة الملائكة الأبرار؛ الذين {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء) والمراد بالتسبيح: تنزيه الله عن كل ما لا يليق به. هذا؛ والخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه غيره من أمته؛ لأنه عام لسائر المكلفين. وإنما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم، الذي هو أخو الموت، فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم-وهو وقت الحياة من موت النوم-بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأما وقت العشي، وهو آخر النهار، فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت، فيستحب له أن يستقبله بالذكر؛ لأنه حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله عز وجل. هذا؛ وقيل: إن المراد بالتسبيح في هذين الوقتين الصلوات الخمس، أقول: وهن من أعظم التسبيح.

هذا؛ والإبكار من طلوع الشمس إلى الضحوة الكبرى، ومثله: بكرة (بضم الباء، وسكون الكاف). هذا؛ ويقابل العشي بالغدو كما في الآية رقم [46] كما يقابل بالغداة: كما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [28]: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} كما يقابل الغدو بالآصال، وهو جمع: أصيل، قال تعالى في سورة (النور) رقم [36]:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} ومثله في سورة (الأعراف) رقم [205] وسورة (الرعد) رقم [15] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 371

الإعراب: {فَاصْبِرْ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك قد وقع للأنبياء قبلك؛ فاصبر على أذى قومك، وتأس بهم.

(اصبر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمتعلق محذوف، كما رأيت تقديره، والكلام مستأنف، لا محل له. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {وَعْدَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {حَقٌّ:} خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {وَاسْتَغْفِرْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِذَنْبِكَ:} متعلقان به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. (سبح): أمر، وفاعله أنت. {بِحَمْدِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: ملتبسا بحمد، وانظر الآية الأخيرة من سورة (الزمر)، و (حمد) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِالْعَشِيِّ:} متعلقان بالفعل سبح.

{وَالْإِبْكارِ:} معطوف على ما قبله.

{إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ..} . إلخ: عام في كل مجادل مبطل؛ وإن نزلت في مشركي مكة؛ الذين كانوا يجادلون بالباطل؛ ليدحضوا به الحق. وقيل: هم اليهود، كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لست صاحبنا، بل هو المسيح بن داود (يريدون الأعور الدجال) يبلغ سلطانه البر، والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا الملك، فهم ينتظرونه كما ينتظر المسلمون المهدي، وعيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وانظر الآية رقم [35] السابقة.

{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ} أي: لا يوجد في صدورهم، وقلوبهم إلا كبر، وتكبر عن الإيمان بك، والانقياد لك، فهم يريدون الرياسة، والزعامة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك يا محمد! ودفعوا آياتك؛ خيفة أن تتقدمهم، وأن تترأس عليهم، وأن يكونوا تحت يدك، وأمرك، ونهيك؛ لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة. أو أرادوا أن تكون لهم النبوة دونك حسدا، وبغيا. ويدل عليه ما حكاه الله من قولهم:{لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} الآية رقم [11] من سورة (الأحقاف).

{ما هُمْ بِبالِغِيهِ} أي: ببالغي مرادهم من الرياسة، أو النبوة، أو دفع آيات الحق بالباطل، بل ما يرومونه من ذلك ليس بحاصل لهم، بل الحق الذي جئت به هو المرفوع، وقولهم، وقصدهم، ومرادهم هو الموضوع. {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ..}. إلخ: أي: فالتجئ وتحصن بالله من

ص: 372

كيدهم، ولا تعبأ بهم، فإن الله يدفع عنك شرهم، وينصرك عليهم، ويعلي دينك، ويرفع شأنك.

وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهو السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم، وأحوالهم، وحركاتهم، وسكناتهم، لا يعزب عنه شيء من ذلك.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وانظر الآية رقم [35] فالإعراب واحد في الباقي. {إِنَّ:} حرف نفي بمعنى:

«ما» . {فِي صُدُورِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {كِبْرٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ}. {ما:} نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {أَتاهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم {ما} . {بِبالِغِيهِ:} الباء: حرف جر صلة. (بالغيه): خبر {ما} مجرور لفظا، منصوب محلا. وإن اعتبرت {ما} مهملة؛ فالضمير مبتدأ، و (بالغيه) خبره، فهو مرفوع، وعلامة رفعه الواو المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالياء التي جلبها حرف الجر الزائد، وحذفت النون على الاعتبارين للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {كِبْرٌ} وهو أولى من اعتبارها حالا من الضمير المجرور محلا بالإضافة. والرابط: الضمير المجرور محلا بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَاسْتَعِذْ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر رقم [4]. (استعذ): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بِاللهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منهم؛ فاستعذ بالله من كيدهم، وشرهم. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ:} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [8] فهو مثله بلا فارق إفرادا وجملة.

{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)}

الشرح: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ:} أي: لخلق الله للسموات، والأرض، وإنشاؤهما وابتداعهما على غير مثال سبق أعظم من خلق الناس أجمعين، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما كيف يعجز عن خلق ما هو أحقر، وأهون؟! والغرض من ذلك الاستدلال على البعث؛ لأن الإله الذي خلق السموات، والأرض مع عظمهما قادر على إعادة الأجسام بعد فنائها. فمن قدر على خلق السموات والأرض، فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى، قال تعالى في سورة (الأحقاف) رقم [33]:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}

ص: 373

{وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} .

وقوله تعالى: {أَكْبَرُ} أي: أعظم، وأشق بحسب عادة الناس في مزاولة الأعمال من أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الصغير، وإن كان بالنسبة إلى الله تعالى لا تفاوت بين الصغير، والكبير، وقال تعالى في سورة (الروم) رقم [27]:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ:} انظر الآية رقم [29] من سورة (الزمر) ففيها الكفاية.

الإعراب: {لَخَلْقُ:} اللام: لام الابتداء. (خلق): مبتدأ، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، انظر تقديره في الشرح. {وَالْأَرْضِ:}

معطوف على ما قبله. {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ خَلْقِ:} متعلقان ب: {أَكْبَرُ،} و {لَخَلْقُ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف أيضا. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل.

{أَكْثَرَ:} اسمها، و {أَكْثَرَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. وقيل: في محل نصب حال. ولا وجه له قطعا.

{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)}

الشرح: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} أي: الجاهل، والعالم، والكافر، والمؤمن.

فهذا مثل ضربه الله لهما؛ أي: فكما لا يتساوى الأعمى مع البصير؛ فكذلك لا يتساوى المؤمن المستنير بنور القرآن، والكافر الذي يتخبط في الظلام. ففي الكلام استعارة تصريحية؛ حيث شبه الله الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير بجامع ظلام الطريق، وعدم الاهتداء على الكافر، واستعار البصير للمؤمن بطريق الاستعارة التصريحية.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ} أي: لا يستوي المحسن، والمسيء، فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، وهي فيما بعد البعث، وزيادة (لا) في المسيء؛ لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل، والكرامة.

{قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ} أي: إن الذين يتذكرون إذا ذكروا، ويتعظون إذا وعظوا قليلون. هذا؛ ويقرأ الفعل بالياء بالغيبة لمناسبة ما قبله، ويقرأ بالتاء على الخطاب التفاتا من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ، وإظهار العنف الشديد، والإنكار البليغ. وانظر فوائد الالتفات في سورة (الصافات) رقم [137].

ص: 374

هذا؛ والفعل {يَسْتَوِي} من الأفعال التي لا تكتفي بواحد، فلو قلت: استوى زيد؛ لم يصح فمن ثمّ لزم العطف على الفاعل، أو تعدده. ولا تنس المطابقة، والمقابلة بين الضدين في هذه الآية، وهي من المحسنات البديعية. وقال الجمل نقلا عن السمين: واعلم: أن التقابل يجيء على ثلاث طرق: إحداها: أن يجاور المناسب ما يناسبه، كهذه الآية. والثانية: أن يتأخر المتقابلان، كقوله تعالى:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} . رقم [24] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والثالثة: أن يقدم مقابل الأول، ويؤخر مقابل الآخر، كقوله تعالى:{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ..} . إلخ رقم [19] وما بعدها من سورة (فاطر)، وكل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله:{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . انتهى.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {يَسْتَوِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {الْأَعْمى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَالْبَصِيرُ:} معطوف على ما قبله. {وَالَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على ما قبله.

وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {الْمُسِيءُ:} معطوف على ما قبله.

{قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ:} لقد ذكر ابن هشام-رحمه الله تعالى-في مغني اللبيب في هذه الجملة وأمثالها إعرابا، فأنا أنقله لك باختصار، فقال:{ما} محتملة لثلاثة أوجه:

أحدها: الزيادة، فتكون لمجرد تقوية الكلام، فتكون حرفا باتفاق، و {قَلِيلاً} بمعنى:

النفي، وإما لإفادة التقليل، مثلها في:(أكلت أكلا مّا) وعلى هذا يكون تقليلا بعد تقليل.

الثاني: النفي، و {قَلِيلاً} نعت لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف؛ أي: تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا.

الثالث: أن تكون مصدرية، وهي وصلتها فاعل ب:(قليل)، و {قَلِيلاً} حال معمول لمحذوف، وعليه المعنى: أي: ذكروا فأخروا قليلا تذكرهم. أجازه ابن الحاجب، ورجح معناه على غيره. انتهى. بتصرف كبير.

ولم يذكر إعراب {قَلِيلاً} على الوجه الأول، وذكر سليمان الجمل الوجه الأول، واعتبر {قَلِيلاً} نعتا لمصدر محذوف مثل اعتباره في الوجه الثاني، وذكر أبو البقاء الوجه الثاني، وقال: التقدير: فما يتذكّرون قليلا، ولا كثيرا. وجملة:{قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ} مستأنفة، أو

ص: 375

تعليلية، لا محل لها على الاعتبارين. وهذا الإعراب مأخوذ من إعراب ابن هشام لقوله تعالى:

{فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} وهي الآية رقم [88] من سورة (البقرة).

{إِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)}

الشرح: {إِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها:} لا شك في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها؛ لأنه لا بد من جزاء؛ لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ:} لا يصدقون بها، ولا يعترفون، ولا يقرون بوقوعها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به، كما قال تعالى في سورة (الروم) رقم [7]:{يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} . قال الفخر الرازي: والمراد بأكثر الناس: الكفار الذين ينكرون البعث، والقيامة. انتهى. صفوة التفاسير. أقول: والأكثرية الساحقة من المسلمين في هذه الأيام لا يصدقون بيوم القيامة، ولا يقرون بوقوعه، وأكبر شاهد على ذلك أعمالهم الخبيثة، وأفعالهم الشنيعة؛ التي قد لا يقدم عليها كثير من الكفار. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [29] من سورة (الزمر). هذا؛ و (الريب): الشك، تقول: رابني هذا الأمر: أوقعني في شك، وحقيقة الريبة: قلق النفس، واضطرابها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . خرجه الترمذي، والنسائي، عن الحسن بن علي-رضي الله عنهما.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {السّاعَةَ:} اسمها. {لَآتِيَةٌ:} اللام: هي المزحلقة. (آتية): خبر {إِنَّ،} وفاعله مستتر فيه. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل {إِنَّ} .

{رَيْبَ:} اسم مبني على الفتح في محل نصب اسم {لا} . {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان ل: {إِنَّ،} واعتبارها في محل نصب حال من الضمير المستتر في: (آتية) غير مستبعد. والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ:} اسم (لكنّ)، و {أَكْثَرَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَقالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)}

الشرح: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ:} وحدوني، واعبدوني؛ أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم ذنوبكم. وقيل: هو الذكر، والدعاء، والسؤال. وهو الموافق لصريح اللفظ، ولما روى النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدّعاء هو

ص: 376

العبادة، ثم قرأ:{وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..} . إلخ». وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه أيضا، أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه-أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا، لم تعط إلا للأنبياء:

كان الله تعالى إذا بعث النبيّ، قال: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمّة:{اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . وكان الله إذا بعث النبيّ قال: ما جعل عليك في الدّين من حرج، وقال لهذه الأمة:{وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وكان الله إذا بعث النبيّ جعله شهيدا على قومه، وجعل هذه الأمة شهداء على النّاس». ذكره الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» .

وكان خالد الربعي يقول: عجيب لهذه الأمة! قيل لها: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمرهم بالدعاء، ووعدهم الاستجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله تعالى:

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} فها هنا شرط. انتهى. قرطبي بتصرف. وجملة القول:

أمرنا الله بالدعاء، ووعدنا الإجابة، كيف لا؟ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [186]:

{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ} . وقال جل شأنه في سورة (الأعراف) رقم [55]: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} والنبي صلى الله عليه وسلم حثنا على الدعاء، ورغبنا فيه حتى جعله رأس العبادة، ومخ الطاعة. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدّين، ونور السموات والأرض» . رواه الحاكم. وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع ممّا نزل، وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل، فيلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة» . رواه الطبراني، والحاكم.

وعن أنس-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«الدعاء مخّ العبادة» . رواه الترمذي.

وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله، فإنّ الله يحبّ أن يسأل. وأفضل العبادة انتظار الفرج» . رواه الترمذي.

هذا؛ وإن للدعاء شروطا، وآدابا، وأركانا يجب توافرها لتحقيق الإجابة. وخذ ما يلي: مرّ إبراهيم بن أدهم-رحمه الله تعالى-بسوق البصرة، فاجتمع إليه الناس، وقالوا: يا أبا إسحاق! ما لنا ندعو، فلا يستجاب لنا؟! قال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله، فلم تؤدوا حقه. زعمتم أنكم تحبون رسول الله، وتركتم سنته. قرأتم القرآن، فلم تعملوا به. أكلتم نعم الله، فلم تؤدوا شكرها. قلتم: الشيطان عدوكم، فلم تخالفوه. قلتم: الجنة حق، فلم تعملوا لها.

قلتم: النار حق، ولم تهربوا منها. قلتم: الموت حق، ولم تستعدوا له. انتبهتم من النوم، فاشتغلتم بعيوب الناس، ونسيتم عيوبكم. ودفنتم موتاكم، ولم تعتبروا.

هذا؛ وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف قال الله تعالى: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد يدعو الإنسان كثيرا، فلا يستجاب له؟! قلت: للدعاء شروط: منها: الإخلاص في الدعاء،

ص: 377

وأن لا يدعو؛ وقلبه لاه مشغول بغير الدعاء، وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة للإنسان، وأن لا يكون فيه قطيعة رحم. فإن كان الدعاء بهذه الشروط؛ كان حقيقا بالإجابة، فإما أن يعجلها له، وإما أن يؤخرها له إلى الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. يدل عليه ما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يدعو الله بدعاء إلاّ استجيب له، فإمّا أن يعجّل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعاه؛ ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، أو يستعجل» . قالوا: يا رسول! وكيف يستعجل؟ قال: يقول:

«دعوت ربّي فما استجاب لي» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. انتهى. بتصرف.

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إمّا أن يعجّل له دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها» . قالوا: إذا نكثر! قال: «الله أكثر» .

رواه أحمد، والحاكم، وغيرهما. هذا؛ لا تنس: أن لفظ رجل يشمل المرأة، ولفظ مسلم يشمل المسلمة، فالمرأة مثل الرجل في كل مأمور به، ومنهي عنه.

هذا؛ وقال الغزالي-رحمه الله تعالى-: فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم: أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم، فيتدافعان، فكذلك الدعاء، والبلاء. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع ممّا نزل، وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل، فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» . أخرجه الطبراني، والحاكم عن عائشة-رضي الله عنها. وليس من شرط الاعتراف بالقضاء ألا يحمل السلاح، وألا يسقي الأرض، وقد قال تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} رقم [101] من سورة (النساء)، فقدر الله تعالى الأمر، وقدر سببه. انتهى. بتصرف.

هذا؛ وقد تعدى الفعل: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} باللام، وقد عدّي بنفسه في قول كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه:[الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

والفرق بين الآية والبيت: أن هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه، وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه، وأما البيت؛ فمعناه: لم يستجب دعاءه (على حذف المضاف). هذا؛ والسين والتاء زائدتان؛ لأن (استجاب) بمعنى: أجاب.

{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي:} انظر الكبر، والتكبر في الآية رقم [60] من سورة (الزمر)، وانظر شرح العبادة في الآية رقم [60] من سورة (يس). {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ:} هذا وعيد، لا بد أن ينفذ

ص: 378

في حق المتكبرين عن عبادة الله، وطاعته، والإعراض عن دعاء الله، وسؤال العبد حوائجه من الله إعراض عن طاعته، وعبادته؛ لأن الدعاء رأس العبادات، وروح الطاعات، كما رأيته سابقا.

{داخِرِينَ:} صاغرين، حقيرين، ذليلين. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [18] من سورة (الصافات).

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): فعل ماض. {رَبُّكُمُ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {اُدْعُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {أَسْتَجِبْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الأمر، وهو عند الجمهور جواب شرط محذوف، والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» .

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكلام في محل نصب مقول القول. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ} .

{يَسْتَكْبِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{عَنْ عِبادَتِي:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {سَيَدْخُلُونَ:} السين:

حرف استقبال. (يدخلون): فعل مضارع، والواو فاعله. {جَهَنَّمَ:} مفعول به. {داخِرِينَ:}

حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية:{سَيَدْخُلُونَ..} .

إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها.

{اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)}

الشرح: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: جعله للهدوء، والاستقرار بالنوم، والراحة مع أزواجكم، وأولادكم؛ ليزول التعب، والكلال، والسكون، والهدوء بعد اضطراب، واستقرار بعد حركة. {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} أي: مضيئا؛ لتهتدوا به في قضاء حوائجكم. أو: جعلنا شمسه مضيئة للإبصار، فيكون المعنى مبصرا فيه بالضوء؛ لأن النهار لا يبصر، بل يبصر فيه، فهو من إسناد الحدث إلى زمانه، فهو مجاز عقلي، مثل: ليله قائم، ونهاره صائم. هذا؛ وفي الكلام حذف، وتقدير؛ إذ التقدير: الله الذي جعل لكم الليل مظلما؛ لتسكنوا فيه، وجعل لكم النهار مبصرا؛ لتتحركوا فيه، وتسعوا إلى معايشكم. فحذف من أحدهما ما أثبته في الآخر، ويسمى هذا احتباكا في الكلام. هذا؛ ولا تنس: أن {جَعَلَ} هنا بمعنى: خلق، فلذا تعدى إلى مفعول واحد فقط، والفرق بين: خلق، وجعل الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين. وانظر شرح {اللَّيْلَ} و {النَّهارَ} في الآية رقم [37] من سورة (يس).

ص: 379

{إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ:} لم يقل: المفضّل، أو المتفضّل؛ لأن المراد: تنكير الفضل، وأن يجعل فضلا، لا يوازيه فضل، وذلك إنما يكون بالإضافة. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ:} لم يقل: ولكن أكثرهم؛ حتى يتكرر ذكر الناس؛ لأن في هذا التكرير تخصيصا لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكافرون فضل الله، ولا يشكرونه، كقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ،} وقوله جل شأنه: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} وانظر شرح (الناس) في الآية رقم [27] من سورة (الزمر). هذا؛ والفضل، والفاضلة، والإفضال، وجمعهما: فضول وفواضل.

هذا؛ والفعل: شكر، يشكر يتعدى بنفسه، وبحرف الجر. تقول: شكرت الله، وشكرت له، كما تقول: نصحت زيدا، ونصحت له، وقوله تعالى:{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} مثل قوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [13]: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} . والشكر: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. ومن أسماء الله تعالى: الشكور، ومعناه: هو الذي يجازي على يسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره.

{جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اللَّيْلَ:} مفعول به. {لِتَسْكُنُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {جَعَلَ،} أو هما متعلقان ب: «مظلما» الذي رأيت تقديره في الشرح. {فِيهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالنَّهارَ:} معطوف على {اللَّيْلَ} . {مُبْصِراً:} معطوف على «مظلما» الذي رأيت تقديره، ومتعلقه محذوف، وهذا يفيد: أن مظلما و {مُبْصِراً} مفعول ثان، أو هما حال من الليل، والنهار. وجملة:{جَعَلَ لَكُمُ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{اللهُ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {لَذُو:} اللام: هي المزحلقة. (ذو):

خبر {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذو) مضاف، و {فَضْلٍ} مضاف إليه. {عَلَى النّاسِ:} متعلقان ب: {فَضْلٍ؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل لما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ أَكْثَرَ..} . إلخ معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وانظر إعراب مثلها في الآية رقم [59]. هذا؛ والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ..} . إلخ مذكورة في كثير من السور بحروفها.

ص: 380

{ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (62)}

الشرح: {ذلِكُمُ اللهُ..} . إلخ: أي: ذلكم الله المميز بالأفعال التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم، فاعبدوه، وأخلصوا له العبادة، والتوحيد. {خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ:} في هذه الدنيا، لم يشركه أحد في خلق أي شيء. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} المتفرد بالإيجاد، والإعدام، والإحياء، والإماتة، والإعزاز، والإذلال، والإغناء، والإفقار، الجامع لهذه الصفات من الإلهية، والربوبية، وخلق الأشياء كلها.

{فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن عبادته، وتوحيده إلى عبادة غيره مما لا ينفع، ولا يضر؟! هذا؛ وأصل الإفك: قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب:

أفاك؛ لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل، وهو بهذا المعنى من الباب الرابع، ومصدره: إفك، كعلم، ويغلب مجيء فعله بالبناء للمجهول، ويكون بمعنى: الصرف كما في هذه الآية وغيرها كثير، وقال تعالى في سورة (الذاريات):{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} ومصدره: أفك كضرب، وهو من الباب الثاني. وقد يجيء بالبناء للمعلوم، كما في قوله تعالى من سورة (الشعراء) رقم [45]:{فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} وقوله تعالى في الآية رقم [22] من سورة (الأحقاف): {قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا} و {يَأْفِكُونَ} في سورة (الشعراء) بمعنى: الكذب، و (تأفكنا) في سورة (الأحقاف) بمعنى: الصرف.

الإعراب: {ذلِكُمُ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {اللهُ:} خبر أول. {رَبُّكُمْ:} خبر ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {خالِقُ:} خبر ثالث، و {خالِقُ} مضاف، و {كُلِّ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [3]، والجملة الاسمية في محل رفع خبر رابع. خذ هذا الإعراب: وقد جوز اعتبار لفظ الجلالة خبرا واحدا، وما بعده بدل منه، كما جوز اعتبار لفظ الجلالة بدلا من اسم الإشارة، والخبر ما بعده. هذا، وهذا الكلام مذكور بحروفه في سورة (الأنعام) رقم [102]. والجملة الاسمية:{ذلِكُمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَأَنّى:} الفاء: هي الفصيحة. (أنى): اسم استفهام بمعنى: كيف، مبني على السكون في محل نصب حال من واو الجماعة. هذا؛ وإن اعتبرتها للمكان كما هو أصل معناها فتكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلقة بالفعل بعدها، ويكون المعنى: فإلى أين تؤفكون.

ص: 381

{تُؤْفَكُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، ومتعلقه محذوف. انظر تقديره في الشرح. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وثابتا؛ فأين تذهبون، وتصرفون عن الحق؟! والكلام كله مستأنف لا محل له.

{كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (63)}

الشرح: {كَذلِكَ يُؤْفَكُ..} . إلخ: المعنى: كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل، كذلك يؤفك

إلخ، أو المعنى: كل من جحد بآيات الله، ولم يتأملها، ولم يطلب الحق أفك، كما أفكوا؛ أي: كما صرفوا عن الحق. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا تحزن يا محمد على إنكار قومك؛ فإن من قبلهم فعل ذلك. هذا؛ والجحد: الإنكار، والتكذيب، والكفر، وقلة الخير. وجحده حقه، وجحده بحقه، وبابه: قطع.

الإعراب: {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: أفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون إفكا كائنا مثل إفك قومك يا محمد! لأن المضارع بمعنى: الماضي. {يُؤْفَكُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِآياتِ:} متعلقان بما بعدهما، وآيات مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:«يجحدون بآيات الله» في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)}

الشرح: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً} أي: جعل لكم الأرض مستقرا في حياتكم وبعد مماتكم. أو المعنى: جعلها ثابتة مستقرة غير متحركة مضطربة، قال تعالى في سورة (النمل) رقم [61]:{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً..} . إلخ.

{وَالسَّماءَ بِناءً:} سقفا مرفوعا كالقبة، وفي سورة (البقرة) رقم [22]:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً} . {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ:} بأن خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء، والتخطيطات، متهيئين لمزاولة الصنائع، واكتساب الكمالات. قال

ص: 382

الزمخشري: لم يخلق الله حيوانا أحسن صورة من الإنسان. انتهى. وصدق الله إذ يقول في سورة (التين): {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} أي: من أنواع اللذائذ، والمستلذات، والمشتهيات من الماكل، والمشارب والملابس. والطيبات: ما يستلذ من المباحات. وقيل: الحلال الصافي القوام، فالحلال: ما لا يعصى الله فيه، والصافي:

ما لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك النفس، ويحفظ العقل.

{ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ} أي: ذلكم ربكم الذي فضلكم على كثير من المخلوقات، وميزكم عليهم، وأكرمكم بأشياء كثيرة. {فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} أي: تنزه الله عن كل ما لا يليق به. وقال الخازن: تمجد، وتعظم، وارتفع. وفي سورة (الفرقان): تكاثر خيره من البركة، وهي كثرة الخير وزيادته، أو تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته، وأفعاله، وهي كلمة تقديس وتعظيم، لم تستعمل إلا لله وحده، وهو ملازم للماضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر، قال الطّرمّاح:[الطويل]

تباركت لا معط لشيء منعته

وليس لما أعطيت يا ربّ مانع

هذا؛ ونقل الجمل عن الخطيب في شرح الآية ما يلي: لما كانت دلائل وجوده تعالى، إما أن تكون من الآفاق، وهي أقسام، وذكر منها أحوال الليل، والنهار، كما تقدم؛ بين منها أيضا هنا الأرض، والسماء، فقال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً..} . إلخ مع كونها في غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرة الله، والسماء على علوها وسعتها مع كونها أفلاكا دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل، والنهار، والإظلام، والإضاءة. ثم ذكر دلائل النفوس، وهي دلائل أحوال البدن على وجود الصانع القادر الحكيم، فقال:{وَصَوَّرَكُمْ..} . إلخ. انتهى.

الإعراب: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً:} الإعراب مثل الآية رقم [61] بلا فارق. {وَصَوَّرَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، وجملة:{فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} معطوفة عليها أيضا. {وَرَزَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} والكاف مفعول به.

{مِنَ الطَّيِّباتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها أيضا، والجملة الاسمية:{اللهُ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ} انظر الآية رقم [62]. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. (تبارك): فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {رَبُّ:} صفة، أو بدل من لفظ الجلالة، و {رَبُّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها أيضا.

ص: 383

{هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)}

الشرح: {هُوَ الْحَيُّ} أي: الباقي الذي لا يموت، الحي الحياة الحقيقية التي لا انقضاء لها، والحي هو المدرك الفعال لما يريد، وهذه إشارة إلى العلم التام، والقدرة التامة. {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ:} انظر الآية رقم [3] من سورة (الزمر) ففيها الكفاية. {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ:} وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: من قال: لا إله إلاّ الله؛ فليقل على أثرها:

الحمد لله ربّ العالمين.

الإعراب: {هُوَ الْحَيُّ:} مبتدأ، وخبر، وجملة:{إِلهَ إِلاّ هُوَ} في محل رفع خبر ثان، وانظر إعرابها في الآية رقم [3]. والجملة الاسمية:{هُوَ الْحَيُّ} مستأنفة، لا محل لها.

{فَادْعُوهُ:} الفاء: أراها الفصيحة. (ادعوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا فادعوه. {مُخْلِصِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء، وفاعله مستتر فيه؛ لأنه جمع اسم فاعل. {إِلهَ:} جار ومجرور متعلقان به. {الدِّينَ:}

مفعوله، والكلام بجملته معطوف على ما قبله. {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {رَبِّ:} صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف يقع حالا من واو الجماعة، التقدير: قائلين: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} .

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي:

قل يا محمد لقومك: إن الله تعالى نهاني أن أعبد هذه الآلهة؛ التي تعبدونها من دون الله. وكانوا قد دعوه إلى عبادتهم، وإلى آلهتهم التي يقدسونها، ويعظمونها. وفي ذلك زجر لهم، وقطع لآمالهم في أن يعود الرسول صلى الله عليه وسلم لتقديس آلهتهم، وتعظيمها؛ مع أنه لم يعترف بها منذ نشأته.

{لَمّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي} أي: حين جاءتني الآيات الواضحات من عند ربي. والبينات هي:

ص: 384

أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال، والعظمة، وصريح العقل يشهد: أن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الحجارة المنحوتة، والأخشاب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل. {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} أي: أن أخضع، وأذل، وأنقاد لله وحده، وأن أخلص له ديني، وأن أطهر نفسي من عبدة غيره. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [12] من سورة (الزمر)، وانظر جمع ما لا يعقل في رقم [43] منها.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها:{نُهِيتُ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {أَعْبُدَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذين تدعونهم. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لَمّا:} حرف بمعنى: حين مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {نُهِيتُ} . {جاءَنِي:} ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به.

{الْبَيِّناتُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها. {مِنْ رَبِّي:} متعلقان بالفعل (جاء)، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْبَيِّناتُ،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

هذا؛ والمصدر المؤول من: {أَنْ أَعْبُدَ} في محل نصب بنزع الخافض، التقدير: نهيت عن عبادة الذين

إلخ، أو هو مفعول ثان على التوسع بإجراء المتعدي إلى واحد، إلى مفعولين، وجملة:{نُهِيتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأُمِرْتُ:} الواو: حرف عطف. (أمرت): ماض مبني للمجهول، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمصدر المؤول من:{أَنْ أُسْلِمَ} في محل نصب مفعول به ثان للفعل: (أمر)، أو هو منصوب بنزع الخافض، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أمرت بالإسلام. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [12] من سورة (الزمر) تجد ما يسرك. {لِرَبِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (رب) مضاف، و:{الْعالَمِينَ} مضاف إليه

إلخ، وجملة:{وَأُمِرْتُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها: {نُهِيتُ..} . إلخ فهي في محل رفع خبر مثلها. هذا؛ ومفعول {أُسْلِمَ} محذوف، التقدير: أسلم أمري له، أو: أسلم، وأخلص توحيدي له.

ص: 385

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)}

الشرح: لما استدل على ثبوت الإله بأربع من دلائل الآفاق، وهي: الليل، والنهار، والأرض، والسماء، وبثلاث من دلائل الأنفس، وهي: التصوير، وحسن الصورة، ورزق الطيبات؛ ذكر من دلائل الأنفس كيفية تكون البدن من ابتداء كونه نطفة إلى آخر الشيخوخة، والموت، فقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ..} . إلخ. انتهى. جمل نقلا من زاده. وفي مختصر ابن كثير: أي: هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له، وعن أمره، وتدبيره، وتقديره يكون ذلك كله.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ} أي: خلق أباكم آدم، أو خلق أصلكم من تراب على تقدير مضاف، وهو خلق غير مباشر، وهناك خلق مباشر؛ أي: إن كل إنسان خلق من تراب، وذلك إذا عرفنا: أنه خلق من النطفة، والنطفة منشؤها من الدم، والدم مستمد من الأغذية، والأشربة على اختلافها، وتنوعها، وكلها مستخرجة من الأرض، والتراب، وكل ذلك معلوم، ومعروف.

{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ:} مني، من النطف، وهو الصب، وأصلها: الماء القليل، ويكون من الرجل، والمرأة، والجمع نطاف، ونطف. والنطفة: الماء الصافي قلّ، أو كثر. {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ:} قطعة من الدم جامدة، وذلك: أن النطفة تصير بعد أربعين يوما من استقرارها في الرحم دما غليظا، والعلقة دويبة سوداء تعيش في الأرض الرطبة، والجمع: علق، وفي سورة (الحج) رقم [5]:

{مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:«أنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثمّ يبعث الله ملكا، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ، وسعيد، ثمّ ينفخ فيه الرّوح، فو الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة؛ حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار؛ حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها» . أخرجه البخاري ومسلم.

{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً:} وفي سورة (الحج): {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} و {طِفْلاً} بمعنى: أطفالا، والتوحيد لإرادة الجنس، أو على تأويل كل واحد منكم، وأيضا:

فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:[الكامل]

ص: 386

يا عاذلاتي لا تردن ملامتي

إنّ العواذل لسن لي بأمير

لم يقل: بأمراء. وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدرا، كالرضا، والعدل، فيقع على الواحد، وعلى الجمع. قال الله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} هذا؛ والطفل: ولد كل وحشية، والمطفل: ذات الطفل من الإنسان، والحيوان، والوحش، والجمع:

مطافل، ومطافيل، والآية من سورة (النور) رقم [31] انظر شرحها هناك.

{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ:} منتهى الشباب، وشدته، وقوته، وهو ثلاث وثلاثون سنة على المعتمد. وقيل: الأشد ما بين ثمانية عشر عاما، إلى ثلاثين، وهو ما يفسر به في حق اليتيم في كثير من الآيات:{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} الآية رقم [34] من سورة (الإسراء). {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} أي: يبقيكم؛ لتصيروا شيوخا. هذا؛ والأشد عند سيبويه جمع، واحده شدّة. وقال الكسائي: واحده شدّ، وزعم أبو عبيد: أنه لا واحد له من لفظه عند العرب. وفي القاموس: وهو جمع لا واحد له، أو هو واحد جاء على بناء الجمع.

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ:} من قبل بلوغ الشيخوخة، أو بلوغ الأشد. {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى} أي: الأجل المحتوم لانقضاء آجالكم، وأعماركم. {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: ولكي تعقلوا، وتفهموا دلائل قدرته تعالى، وتؤمنوا بأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، وانظر شرح:

{ثُمَّ} في الآية رقم [67] من سورة (الصافات).

قال الإمام الفخر: رتب الله تعالى عمر الإنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد، والشيخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل، فإن الإنسان في أول عمره يكون في النماء، والنشوء، وهو المسمى بالطفولة، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء من غير أن يحصل له ضعف، وهذا بلوغ الأشد، ثم يبدأ بالتراجع، ويبدأ فيه الضعف والنقص، وهذه مرتبة الشيخوخة. هذا؛ وخذ قوله تعالى في سورة (يس) رقم [68]:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ،} وقوله تعالى في سورة (الروم) رقم [54]: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} . انظر شرح الآيتين في محالهما. هذا؛ وانظر شرح «الشيخ» في الآية رقم [23] من سورة (القصص).

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ وخبر. {خَلَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

{الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ تُرابٍ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، تقديره: مبتدئا، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ،} معطوفان على ما قبلهما.

{يُخْرِجُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} والكاف مفعول به. {طِفْلاً:} حال من الكاف، وهو مؤول بالجمع كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على جملة

ص: 387

الصلة، لا محل لها مثلها، والمضارع مؤول بالماضي للمناسبة. {لِتَبْلُغُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَشُدَّكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: يبقيكم؛ لتبلغوا أشدكم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{لِتَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص منصوب مثل سابقه، والواو اسمه. {شُيُوخاً:} خبره، و {لِتَكُونُوا} بعد التأويل معطوف على ما قبله، أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف، التقدير:

ويبقيكم لتكونوا شيوخا، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَمِنْكُمْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (منكم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [23] من سورة (الأحزاب)، فهو يشبه ما هنا. {يُتَوَفّى:}

فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى:{مِنْ} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {مِنْ} أو صفتها. {مِنْ قَبْلُ:}

متعلقان بما قبلهما، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، والجملة الاسمية معترضة على اعتبار ما بعدها معطوفا على ما قبله، ومستأنفة على اعتباره متعلقا بمحذوف، التقدير: ويبقيكم؛ لتبلغوا أجلا، وهو معطوف على محذوف، التقدير: ويبقيكم؛ لتعيشوا؛ ولتبلغوا. {أَجَلاً:} مفعول به. {مُسَمًّى:} صفة {أَجَلاً} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَلَعَلَّكُمْ:}

الواو: حرف عطف. (لعلكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وهو يفيد أن (لعل) للتعليل.

{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: الله هو القادر على الإحياء، والإماتة، والإيجاد، والإعدام. {فَإِذا قَضى أَمْراً} أي: أراد أمرا من الأمور. {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: احدث، فيحدث من غير كلفة، ولا معاناة مشقة، ولا تعب. وكل ذلك من كمال قدرته على الإحياء، والإماتة، والإيجاد والإعدام، وسائر ما ذكر من الأفعال الدالة على قدرته. وهذا تمثيل لكمال قدرته، وتصوير لسرعة وجودها من غير أن يكون هناك أمر ومأمور، فلا يحتاج في تكوين ما يريد إلى عدة، وتجشم كلفة. والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق، من حيث: إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد، والمواد. ولا تنس الطباق بين {يُحْيِي} و (يميت).

ص: 388

تنبيه: قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في مغنيه: قد يعبر بالفعل عن إرادته، وأكثر ما يكون بعد أداة الشرط، نحو قوله تعالى:{فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} رقم [98] من سورة (النحل)، و {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} رقم [6] من سورة (المائدة)، {وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ذكرت هذه الآية في كثير من السور، و {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} رقم [42] من سورة (المائدة)، و {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} رقم [126] من سورة (النحل)، {إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} رقم [9] من سورة (المجادلة)، و {إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا..} . إلخ رقم [12] من سورة (المجادلة)، وفي الحديث الصحيح قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا أتى أحدكم الجمعة؛ فليغتسل» . فهو يريد-رحمه الله تعالى-أن المعنى: إذا أردت القراءة؛ إذا أردتم القيام إلى الصلاة؛ إذا أراد قضاء أمر، إن أردت الحكم، إن أردتم العقاب؛ فعاقبوا؛ إذا أردتم المناجاة؛ فلا؛ إذا أردتم مناجاة الرسول؛ إذا أردتم الطلاق؛ إذا أراد أحدكم إتيان الجمعة؛ فليغتسل.

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {يُحْيِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والمفعول محذوف للتعميم، التقدير: يحيي الأموات، ويميت الأحياء. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إذا): انظر الآية رقم [12]. {قَضى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الموصول. {أَمْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (إنما): كافة ومكفوفة. {يَقُولُ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} أيضا. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{كُنْ:} فعل أمر تام، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية (إنما)

إلخ جواب (إذا) لا محل لها من الإعراب، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على الجمل الاسمية قبله، لا محل له مثلها. {فَيَكُونُ:} الفاء: حرف عطف.

(يكون) تام، وفاعله يعود إلى:{أَمْراً،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو يكون، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها، وهذا القول يعزى لسيبويه.

وقيل: إنّ (يكون) معطوف على {يَقُولُ} وهو يعزى للزجاج، والطبري. وقيل: هو معطوف على (كن) من حيث المعنى، وهو قول الفارسي. انتهى. جمل من سورة (البقرة). هذا؛ وقرأ ابن عامر بالنصب على أن الفعل منصوب، ب:«أن» مضمرة بعد الفاء السببية. وضعّفه أبو البقاء.

وأقول: لا يمكن سبك مصدر من: «أن» المضمرة، والفعل المضارع، وعطفه على مصدر متصيد من الفعل السابق؛ إذ لا يقال: يقول له: ليكن حدوث فحدوث. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

وهذا التركيب ذكر في سورة (البقرة) رقم [117]، وفي سورة (آل عمران) رقم [47]، وفي سورة (مريم) رقم [35]، وفي سورة (النحل) رقم [40].

ص: 389

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنّى يُصْرَفُونَ (69)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} ألم تنظر نظر تبصر واعتبار. {إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ:} في القرآن {أَنّى يُصْرَفُونَ} كيف يجادلون فيه، ويصرفون عنه، فلم يهتدوا به؟! فهو تعجيب من أحوالهم الشنيعة، وآرائهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب، والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ..} . إلخ بيان لابتناء جدالهم على معنى فاسد، لا يكاد يدخل تحت الوجود، فلا تكرار فيه؛ أي: انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آيات الله الواضحة الموجبة للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال فيها؛ كيف يصرفون عنها بالكلية. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود.

وقال النسفي: ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع، فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام، أو ثلاثة أصناف، أو للتأكيد. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، وانظر تقدير المصدر في الشرح. {إِلَى الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يُجادِلُونَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَنّى:} اسم استفهام بمعنى: «كيف؟» مبني على السكون في محل نصب حال من واو الجماعة. هذا؛ وإن اعتبرتها للمكان-كما هو أصل معناها-فتكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلقة بما بعدها، ويكون المعنى: فأين تصرفون؟ {يُصْرَفُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)}

الشرح: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ} أي: بالقرآن، أو بجنس الكتب السماوية. {وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا:} من سائر الكتب، أو الوحي، أو الشرائع. وانظر شرح (الرسل) في الآية رقم [1] من سورة (الأحزاب). {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ:} فيه تهديد شديد ووعيد أكيد من الله تعالى لهؤلاء المكذبين، كما قال تعالى في كثير من الآيات:{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . هذا؛ وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة، وتكرارها.

ص: 390

تنبيه: قال أكثر المفسرين: نزلت الآية في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية؛ فلا أدري فيمن نزلت؟! وقال أبو قبيل: لا أحسب المكذبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا. وقال عقبة بن عامر-رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية في القدرية» . ذكره المهدوي. انتهى. قرطبي. وهل وجدت طائفة القدرية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا مما يضعف هذا الحديث، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بدلا من الموصول قبله، أو عطف بيان عليه، أو نعتا له، أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، أو هو في محل نصب على الذم بفعل محذوف، وعلى هذه الأوجه فجملة:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} مستأنفة سيقت للتمهيد، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، ودخلت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وجملة:{كَذَّبُوا بِالْكِتابِ} صلة الموصول، لا محل لها. {وَبِما:} جار ومجرور معطوفان على قوله: {بِالْكِتابِ} و (ما):

اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالباء. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {أَرْسَلْنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (سوف): حرف تسويف واستقبال، وهي للتأكيد. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، وانظر محل الجملة فيما سبق.

{إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ (72)}

الشرح: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ:} ف: {إِذِ} بمعنى: «إذا» وهذا جواب عن اعتراض، حاصله: أن (سوف) للاستقبال، و {إِذِ} للماضي، فهو مثل قولك: سوف أصوم أمس. ومحصل الجواب أن {إِذِ} هنا مستعملة في الاستقبال، مكان:«إذا» ، وسوغ استعمالها أن هذا لما كان من أخبار الله تعالى، وهي مقطوع بوقوعها، فكأنها وقعت، فعبر فيها بما هو للماضي مع كون المعنى على الاستقبال، واستعمال {إِذِ} بمعنى: إذا هنا نظير عكسه في قوله تعالى في سورة (الجمعة):

{وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً..} . إلخ انتهى. من الخطيب. وهذا على اعتبار {إِذِ} ظرفا متعلقة بالفعل السابق، وأجاز السمين اعتباره مفعولا له. كما جوز أن تكون منصوبة ب: اذكر مقدرا؛ أي: اذكر لهم وقت {الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} ليخافوا وينزجروا، فهذه ثلاثة أوجه، خيرها أوسطها. انتهى.

جمل بتصرف. هذا؛ و {الْأَغْلالُ} جمع غل، يقال: في رقبته غل من حديد، ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله: أن الغل كان يتخذ من جلد، وعليه شعر، فيقمل، والغل والغلة: حرارة العطش، وكل ذلك بضم الغين، وهو بكسرها بمعنى: الحقد، ورحم الله من يقول:[البسيط]

ص: 391

يا طالب العيش في أمن وفي دعة

رغدا بلا قتر صفوا بلا رنق

خلّص فؤادك من غلّ ومن حسد

الغلّ في القلب مثل الغلّ في العنق

هذا؛ وقال التيمي: لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل؛ لوهصه حتى يبلغ الماء الأسود. هذا؛ و (السلاسل) جمع: سلسلة، وهي معروفة. قال الراغب: وتسلسل الشيء:

اضطرب، كأنه تصور منه تسلسل متردد فتردّد لفظه تنبيه على تردّد معناه. وماء سلسل: متردد في مقره. انتهى. وخذ قوله تعالى في سورة (الحاقة) في حقّ من يأخذ كتابه بشماله بعد أن يدعو بالثبور وعظائم الأمور: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ} {يُسْحَبُونَ:}

يجرون بها في الحميم أي: في جهنم، قاله الجلال. وقال الخطيب: أي: الماء الحار، الذي يكسب الوجوه سوادا، والأعراض عارا، والأرواح عذابا، والأجسام نارا. وقال القرطبي: الحميم:

المتناهي في الحر. {ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ} أي: يطرحون فيها، فيكونون وقودا لها؛ قاله مجاهد.

يقال: سجرت التنور، أي: أوقدته، وسجرته: ملأته، ومنه قوله تعالى في سورة (الطور):{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} أي: المملوء. فالمعنى على هذا: تملأ بهم النار. وقال الشاعر يصف وعلا: [المتقارب]

إذا شاء طالع مسجورة

ترى حولها النّبع والسّمسما

أي: عينا مملوءة. والمراد: أنه يعذبون بأنواع من العذاب، وينقلون من بعضها إلى بعض، كما قال تعالى في سورة (الرحمن):{يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ،} وقال في سورة (الدخان):

{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .

الإعراب: {إِذِ:} ظرف مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {يَعْلَمُونَ،} أو هو مفعول به ل: {يَعْلَمُونَ،} أو هو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف متعلق بهذا المقدر. {الْأَغْلالُ:} مبتدأ. {فِي أَعْناقِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل جر بإضافة (إذ) إليها، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَالسَّلاسِلُ:} معطوف على: {الْأَغْلالُ} عطف مفرد على مفرد، أو هو مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: السلاسل في أرجلهم، فيكون العطف عطف جملة على جملة مثلها. {يُسْحَبُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية فيها ثلاثة أوجه:

أحدها: الاستئناف. الثاني: أنها في محل رفع خبر: (السلاسل). الثالث: أنها في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والتقدير على الأول: يسحبون بها. وعلى الثاني:

مسحوبين بها. هذا؛ ويقرأ بنصب السلاسل، وفتح ياء يسحبون على أن:(السلاسل) مفعول به مقدم، وعليه: فالجملة الفعلية في محل نصب حال، لا غير.

ص: 392

هذا؛ وقرئ بجر: (السلاسل). وهي قراءة شاذة، ووجهه: أنه محمول على المعنى؛ لأن المعنى: أعناقهم في الأغلال، والسلاسل، فيكون في الكلام قلب؛ لأن الأعناق هي التي توضع في الأغلال. ومثله: قولهم: عرضت الناقة على الحوض. وانظر رقم [34] من سورة (الأحقاف) للكلام على القلب. وقال الزجاج: المعنى: وفي السلاسل يسحبون، وهذا يعني: أنه معطوف على الحميم. قال ابن الأنباري: والخفض على هذا المعنى غير جائز. قال مكي: وهو لا يجوز؛ لأن المعطوف المخفوض لا يتقدم على المعطوف عليه، لا يجوز: مررت؛ وزيد بعمرو، ويجوز في المرفوع، تقول: قام وزيد عمرو، ويبعد في المنصوب، لا يحسن: رأيت وزيدا عمرا، أقول: خذ قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه-في هجاء هند وزوجها أبي سفيان، وهو يؤيد العطف في المنصوب:[الكامل]

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

{فِي الْحَمِيمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ثُمَّ:} حرف عطف. {فِي النّارِ:} متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية:«يسجرون في النار» معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها.

{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (74)}

الشرح: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ} أي: يقال لهم، ويقولون: ضلوا، والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق الوقوع، وقد ذكرته لك مرارا. وانظر إعلال {قِيلَ} في الآية رقم [45] من سورة (يس). {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللهِ} . وهذا تقريع، وتوبيخ، والمراد: أين الأصنام، والمعبودات الباطلة التي كنتم تعبدونها من دون الله؟! {قالُوا ضَلُّوا عَنّا} أي: غابوا عنا فلم نرهم، وانظر شرح:(ضل) في الآية رقم [71] من سورة (الصافات). {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} أي: بل تبين لنا: أنا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم، فإنهم ليسوا شيئا يعتد به، كقولك:

حسبته شيئا فلم يكن، وليس هذا إنكارا لعبادة الأصنام، بل هو اعتراف بأنّ عبادتهم الأصنام كانت باطلة، فلم تغن عنهم شيئا. وقال بعض المفسرين: جحدوا عبادة الأصنام، وإنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم، وخذ قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [23]:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} . {كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ:} حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو يضلهم عن آلهتهم؛ حتى لو تطالبوا؛ لم يتصادفوا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَيْنَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على

ص: 393

الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُشْرِكُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: أين الذي كنتم تشركون به، والجملة الاسمية هذه في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ}. وانظر ما ذكرته في سورة (الصافات) رقم [35] {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف؛ الذي رأيت تقديره، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وجملة:{ضَلُّوا عَنّا} في محل نصب مقول القول. {بَلْ:} حرف عطف، وانتقال. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {نَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم)، واسمه ضمير مستتر تقديره:«نحن» .

{نَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل تقديره:

«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {نَكُنْ}. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {شَيْئاً:} مفعول به، وجملة:{لَمْ نَكُنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: يضل الله الكافرين إضلالا مثل إضلال قومك. {يُضِلُّ:} فعل مضارع. {اللهِ:} فاعله. {الْكافِرِينَ:}

مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة، وهي من قول الله تعالى.

{ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)}

الشرح: {ذلِكُمْ..} . إلخ: أي: تقول لهم الملائكة: ذلكم العذاب بما كنتم تفرحون بالمعاصي. يقال لهم ذلك توبيخا؛ أي: إنما نزل بكم من العذاب ما نزل بسبب: أنكم كنتم تظهرون في الدنيا السرور بالمعصية، وكثرة المال، وكثرة الأولاد، والصحة، والمنصب، والجاه. وقيل: إن فرحهم بما عندهم: أنهم قالوا للرسل: نحن نعلم: أنا لا نبعث، ولا نعذب. وكذا قال مجاهد في قوله عز وجل:{فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} . رقم [83] الآتية. {وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ:} قال مجاهد وغيره: أي:

بما تبطرون، وتأشرون. هذا؛ وروى خالد عن ثور، عن معاذ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض البذخين الفرحين، ويحبّ كلّ قلب حزين، ويبغض أهل بيت لحمين، ويبغض كل حبر سمين» . فأما أهل بيت لحمين فالذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة، وأما الحبر السمين: فالمتحبر بعلمه، ولا يخبر بعلمه الناس، يعني: المستكثر من علمه،

ص: 394

ولا ينتفع به الناس. ذكره الماوردي، وقد قيل في اللّحمين: إنهم الذين يكثرون أكل اللحم، ومنه قول عمر-رضي الله عنه: اتقوا هذه المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر، ذكره المهدوي، والأول قول سفيان الثوري. انتهى. قرطبي.

هذا؛ والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب، وأكثر ما يستعمل في اللذات البدنية، وقد ذم الله الفرح في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} سورة (القصص) رقم [76]، وقوله جلت قدرته:{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} رقم [10] من سورة (هود)، ولكنه مطلق فإذا قيد الفرح لم يكن ذمّا؛ لقوله تعالى في حق الشهداء رقم [170] من سورة (آل عمران):

{فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ..} . إلخ، وقال سبحانه في سورة (يونس) رقم [58]:{فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: برحمته، وجوده، وإحسانه. وقال تعالى في سورة (الروم) رقم [4]:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} .

الإعراب: {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية، تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وهي في الأصل في محل نصب مقول القول للقول الذي رأيت تقديره في الشرح. وإعراب {كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ} مثل إعراب:{كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} بلا فارق بينهما. {بِغَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (غير) مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه. {وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} معطوف على ما قبله، وهو مثله في الإعراب، والتأويل، والتعليق، والتقدير بلا فارق.

{اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}

تنبيه: لا أرى مزيدا للكلام في هذه الآية على ما ذكرته في الآية رقم [72] من (الزمر) شرحا، وإعرابا، وهي في محل نصب مقول القول للقول الذي رأيت تقديره قبل الآية السابقة.

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)}

الشرح: {فَاصْبِرْ} أي: فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، فإن وعد الله بتعذيبهم كائن لا محالة، وهذا تسلية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ووعد له بالنصر على أعدائه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [55]. {فَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي: من القتل، أو الأسر. وقد وقع ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم،

ص: 395

فإن الله تعالى قد أقر عينه يوم بدر، ثم فتح الله عليه مكة، وسائر جزيرة العرب في حياته، ووعد أصحابه ملك كسرى، وقيصر على لسانه، وقد حقق الله عز وجل ذلك لأصحابه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ:} قبل أن ترى تحقيق ذلك. {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ:} يوم القيامة؛ أي: فننتقم منهم أشد الانتقام، ونحوه قوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [41]:{فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} .

تنبيه: (إمّا): أصلها: إن ما «إن» الشرطية، و «ما» الزائدة، فأفادت التوكيد؛ لأن معنى «إن» في الأصل: الشك، فزال هذا المعنى بسبب «ما» ؛ ولذا أكد الفعل بعدها بنون التوكيد الثقيلة.

وذكر ابن هشام في المغني أن توكيد الفعل بعدها قريب من الواجب، وذكر آيات كثيرة؛ الفعل المضارع مؤكد فيها بنون التوكيد. وأضيف: أنه قرئ قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [26]:

{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} بدون تأكيد الفعل بنون التوكيد.

الإعراب: {فَاصْبِرْ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا للكافرين في الآخرة؛ فاصبر على أذى قومك، وتأسّ بمن سلف قبلك من الأنبياء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والمتعلق محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح، والكلام مستأنف لا محل له على الوجهين المعتبرين بالفاء.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {وَعْدَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {حَقٌّ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محل لها. {فَإِمّا:}

الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إمّا):(إن): حرف شرط جازم، و (ما): صلة. {نُرِيَنَّكَ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به أول، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {بَعْضَ:} مفعول به ثان، و {بَعْضَ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{نَعِدُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف وهو العائد؛ إذ التقدير: نعدهم إياه، والجملة هذه صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:{نُرِيَنَّكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فذاك حاصل، {أَوْ:} حرف عطف. {نَتَوَفَّيَنَّكَ:}

معطوف على نرينك، فهو مثله في إعرابه. {فَإِلَيْنا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط المقدر قبل:

{نَتَوَفَّيَنَّكَ} . (إلينا): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية جواب للشرط المقدر قبل:{نَتَوَفَّيَنَّكَ} .

وهذا الكلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. هذا؛ وقال البيضاوي-رحمه لله تعالى-:

ويجوز أن يكون-أي: جملة (إلينا يرجعون) -جوابا لهما؛ أي: للشرطين: المذكور والمقدر،

ص: 396

بمعنى: إن نعذبهم؛ في حياتك، أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب. ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ:} انظر تفصيل ذلك في الآية رقم [1] من سورة (الأحزاب). {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ} أي: ذكرنا قصصهم، وأخبارهم في القرآن، وهم خمسة وعشرون، والباقي لم نقصهم عليك فيه. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [164]:

{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} . {وَما كانَ لِرَسُولٍ} أي: ما صح وما استقام لرسول. وهذا التعبير: {وَما يَنْبَغِي} {وَما كانَ} ونحوهما معناه: الحظر، والمنع، لحظر الشيء، والحكم بأنه لا يجوز، كما في هذه الآية، وربما كان لامتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى في سورة (النمل) رقم [60]:{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} وربما كان لامتناع العلم بامتناعه شرعا، كقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [79]:{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} وقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [51]: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ..} . إلخ. وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك صلاة الفجر في الجماعة، ونحو ذلك.

{أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} أي: أن يأتي بمعجزة إلا بأمر الله، وتقديره، فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته، وإرادته كسائر القسم، ليس لأحد منهم اختيار في إيثار بعضها، والاستبداد بإتيان المقترح بها.

{فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ} أي: قضاؤه وحكمه بنزول العذاب. {قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي: حكم بإنجاء المحق المطيع لربه، وتعذيب المبطل العاصي لخالقه، ورازقه. {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ:}

المعاندون للحق، السادرون في شهوات الغي بعد ظهور الآيات، الذين يجادلون بالباطل، ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت، وكانوا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يفجر لهم في أرض مكة عيونا، وأنهارا. هذا؛ وختم الله هذه الآية بقوله:{الْمُبْطِلُونَ} وختم آخر السورة بقوله: {الْكافِرُونَ} لأن الأول متصل بقوله: {قُضِيَ بِالْحَقِّ} ونقيض الحق، هو الباطل، والثاني متصل بإيمان غير نافع، ونقيض الإيمان الكفر.

المعنى الإجمالي للآية: إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: أنت كالرسل من قبلك، وقد ذكرنا حال بعضهم لك، ولم نذكر حال الباقين، وليس منهم أحد أعطاه الله آيات معجزات؛ إلا وقد جادله

ص: 397

قومه، وكذبوه فيها، فصبروا. وكانوا أبدا يقترحون على أنبيائهم إظهار المعجزات الزائدة على ما أتوا به عنادا، وعبثا، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، والله سبحانه علم الصلاح في إظهار ما أظهروه دون غيره، ولم يقدح في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة على ما أتيت به لمّا لم يكن إظهارها حاصلا؛ لا جرم لم تظهرها. انتهى.

جمل نقلا من الخطيب.

هذا؛ والقصص: تتبع الأثر، يقال: قص فلان أثر فلان؛ أي: تتبعه ليعرف أين ذهب؟ ومنه قوله تعالى حكاية عن قول أم موسى في سورة (القصص) رقم [11]: {وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره، وإنما سميت الحكاية قصة؛ لأن الذي يقص الحديث، يذكر تلك القصة شيئا فشيئا. قال تعالى في سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ} رقم [100].

تنبيه: لقد قص الله علينا من قصص الأنبياء، والمرسلين في كتابه المبين ما فيه عظة، وعبرة للمؤمنين، وأرشدنا إلى مواطن العظة، والعبرة في حياة كل رسول؛ لنقتدي بهم في سيرتهم العطرة، وأخلاقهم الطاهرة، وليكونوا مصابيح تضيء للناس طرق السعادة، والفلاح. قال تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} رقم [111] وقد ذكرت قصص الأنبياء في سور عديدة، فجاءت مكررة بحسب الظاهر، ولكن هذا التكرار له حكمته البالغة، وإشارته الدقيقة، فإنه يدل على إعجاز القرآن الكريم، وعلى أنه حقا كتاب منزل من عند الله.

فإن أبلغ البلغاء، وأفصح الفصحاء يستحيل عليه إذا كتب قصة مرة واحدة أن يكتبها مرة أخرى بألفاظ غير الأولى مع المحافظة على متانة الأسلوب، وفصاحة الألفاظ، وبلاغة التعبير، ولا بد أن يرى الفرق بين الأسلوبين واضحا كل الوضوح، أما القرآن الكريم فقد تفنن في سرد القصص بنفس تلك الفصاحة، والبيان، والروعة، والإتقان، فجاءت القصة فيه مكررة معبرة عن معنى واحد، ولكن بألفاظ أخرى، وعبارات مختلفة، فسبحان القادر على كل شيء، الذي أنزل كتابه المعجز تبيانا لكل شيء، وهدى، ورحمة لقوم يؤمنون. انتهى. «النبوة والأنبياء» للصابوني. بتصرف.

الإعراب: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً:} انظر الآية رقم [34] فالإعراب لا يتغير. {مِنْ قَبْلِكَ:}

متعلقان بمحذوف صفة رسلا، والكاف في محل جر بالإضافة، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. هذا هو الإعراب الظاهر، والمتعارف عليه في مثل هذا التركيب، والأصح: أن مضمون الجار والمجرور: {مِنْهُمْ}

ص: 398

مبتدأ، و {مِنْ} هي الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض؛ أي: فبعض الرسل من قصصنا، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} رقم [110] من سورة (آل عمران) فعطف (أكثرهم) على (منهم) يؤيد أن معناه: بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل]

منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: «منهم» بما هو مبتدأ، أعني: لفظة: «بعضهم» وهذا ممّا يدل على أن مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ وليوث جمع: ليث، وهو السبع. لا ترام: لا تقصد. قمشت:

جمعت من هنا وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء. هذا؛ وقد قال أبو البقاء: هذا الإعراب في هذه الآية فقط، وأجاز الوجه الأول، ولكنه اعتبر {مِنْهُمْ} صفة {رُسُلاً} و {مِنْ} فاعلا بالجار والمجرور، وبه قال الجمل نقلا من كرخي، والجملة الاسمية على ما قدمته من الإعراب في محل نصب صفة {رُسُلاً،} أو هي مستأنفة، لا محل لها.

{قَصَصْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة {مِنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو: شخص قصصنا عليك ذكره. {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وهي مثلها في إعرابها.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. وقيل: حرف عطف. (ما) نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لِرَسُولٍ:} متعلقان ب: {كانَ،} والمصدر المؤول من: {أَنْ يَأْتِيَ} في محل رفع اسم كان، التقدير: وما كان لرسول الإتيان. {بِآيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاّ:} حرف حصر.

{بِإِذْنِ:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} و (إذن:) مضاف. و (الله) مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وانظر سورة (الشورى) الآية رقم [51]. هذا؛ وقيل: الجار والمجرور:

{لِرَسُولٍ} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، والمصدر المؤول في محل رفع اسمها المؤخر، والجار والمجرور:{بِإِذْنِ} استثناء من أعم الأحوال. {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف.

(إذا): انظر الآية رقم [12]. وجملة: {جاءَ أَمْرُ اللهِ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {قُضِيَ:}

فعل ماض مبني للمجهول. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل. وقيل: نائب الفاعل مستتر، تقديره:«هو» أي: الأمر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، {وَخَسِرَ:} فعل ماض.

{هُنالِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية وهو مستعار للزمانية هنا، وقال السمين: لا يحتاج لهذا؛ بل يصح إبقاؤه على أصله. انتهى. متعلق بالفعل قبله، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الْمُبْطِلُونَ:} فاعل: (خسر) مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (إذا)، لا محل لها مثله.

ص: 399

{اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79)}

الشرح: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ:} خلق، وسخر، وانظر الآية رقم [61]. و {الْأَنْعامَ:} المراد بها ما يؤكل من الحيوانات، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، فمنها ما يركب، ومنها ما يؤكل، فالإبل تركب، وتؤكل، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار، والترحال إلى البلاد النائية، والأقطار الشاسعة. والبقر تؤكل، ويشرب لبنها، وتحرث عليها الأرض. والغنم تؤكل، ويشرب لبنها.

والجميع تجز أصوافها، وأشعارها، وأوبارها، فيتخذ منها الأثاث، والثياب، والأمتعة. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [71] من سورة (يس) وما بعدها، فالبحث هناك ضاف كاف.

الإعراب: {اللهُ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} .

{لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْأَنْعامَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لِتَرْكَبُوا:}

فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. (منها): متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، التقدير:«جعل لكم الأنعام مسخرة للركوب» . {وَمِنْها:}

الواو: حرف عطف. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تَأْكُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، وهو في المعنى معطوف على قوله:{لِتَرْكَبُوا مِنْها} إذ المعنى جعل الأنعام للركوب، وللأكل منها. وخذ ما يلي:

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: لم قال: {لِتَرْكَبُوا مِنْها} {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها} ولم يقل: لتأكلوا منها، ولتصلوا إلى منافع؟ أو: هلا قال: منها تركبون، ومنها تأكلون، وتبلغون عليها حاجة في صدوركم؟ قلت: في الركوب في الحج، والغزو، وفي بلوغ الحاجة الهجرة من بلد إلى بلد؛ لإقامة دين، أو طلب علم، وهذه أغراض دينية، إما واجبة، أو مندوب إليها، مما يتعلق به إرادة الحكيم، وأما الأكل، وإصابة المنافع؛ فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته. انتهى.

وقد رد على الزمخشري المعلق على الكشاف بقوله: والجواب الصحيح: أن المقصود المهم من الأنعام، والمنفعة المشهورة فيها إنما هي الركوب، وبلوغ الحوائج عليها بواسطة الأسفار، والانتقال في ابتغاء الأوطار، فلذلك ذكرهما هنا مقرونين باللام، الدالة على التعليل والغرض، وأما الأكل، وبقية المنافع، كالأصواف، والأوبار، والألبان، وما يجري مجراها؛ فهي؛ وإن كانت حاصلة منها؛ فغير خاصة بها خصوص الركوب، والحمل، وتوابع ذلك، بل

ص: 400

الأكل بالغنم خصوصا الضأن أشهر، فلذلك اختيرت الضحايا منها على الغنم، فلذلك جردت هذه المنافع بالإخبار عن وجودها فيها غير مقرونة بما يدل على أنها المقصود. انتهى.

{وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}

الشرح: {وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ} أي: في الأنعام منافع، وهو ما ذكر من الأصواف، والأشعار، والألبان، والنسل، وغير ذلك. {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي: ما ذكر من حمل الأثقال، والتنقل في الأسفار. هذا؛ و {حاجَةً} هي ما يحتاج إليه. وتجمع على: حاج، وحوج (بوزن عنب) وحوائج على غير قياس، وحاجات، قال الشاعر:[الطويل]

أرى الدّهر إلاّ منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلاّ معذّبا

وهذا هو الشاهد رقم [117] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» و «المنجنون» الدولاب الذي يستقى عليه. و: «الدهر» : الزمان. {وَعَلَيْها:} على الأنعام. {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ:} الحمل على الأنعام في البر، والحمل على الفلك في البحر، وإنما قال (على الفلك) ولم يقل: في الفلك؛ للمزاوجة؛ أي: للمشاكلة، وتغيير النظم في الأكل؛ لأنه في حيز الضرورة. وقيل: لأنه يقصد به التعيش، والتلّذذ. والركوب، والمسافرة عليها قد يكونان لأغراض دينية واجبة ومندوبة، أو للفرق بين العين والمنفعة. انتهى. بيضاوي. وقال الجمل نقلا من أبي السعود:

فالجواب: أن كلمة (على) للاستعلاء، والشيء الذي يوضع على الفلك، كما يصح أن يقال:

وضع فيه؛ صح أن يقال: وضع عليه. ولما صح الوجهان، كانت لفظة:(على) أولى، حتى تتم المزاوجة في قوله:{وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} .

الإعراب: {وَلَكُمْ:} الواو: حرف عطف. (لكم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو هما متعلقان ب:{مَنافِعُ} بعدهما. {مَنافِعُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها في المعنى؛ إذ المعنى: ولتنتفعوا بها.

{وَلِتَبْلُغُوا:} معطوف على {لِتَرْكَبُوا} وهو مثله في الإعراب، والتأويل، والتقدير. {عَلَيْها:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {حاجَةً:} مفعول به. {فِي صُدُورِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {حاجَةً،} والكاف في محل جر بالإضافة. (عليها): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {وَعَلَى الْفُلْكِ:} معطوفان على ما قبلهما. {تُحْمَلُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو في المعنى معطوف على ما قبله؛ إذ المعنى: ولتبلغوا عليها

ولتحملوا عليها وعلى الفلك.

ص: 401

{وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (81)}

الشرح: {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ:} دلائله الدالة على كمال قدرته، وفرط رحمته، والمراد: ما ذكر في الأرض، والسماء، وفي الأنفس من دلائل قدرته. {فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ} أي: فأي آية من تلك الآيات تنكرون؟ فإنها لظهورها، ووضوح أمرها لا تقبل الإنكار. هذا؛ وقال الجلال:

وتذكير (أي): أشهر من تأنيثه. انتهى. فلذلك لم يقل: فأية آيات الله؟ لأن التفرقة بين المذكر، والمؤنث في الأسماء الجامدة نحو: حمار، وحمارة غريب، وهي في:(أي) أغرب لإبهامها. انتهى. نقلا من أبي السعود. هذا؛ وقد ورد تأنيثها كثيرا، ومنه قول الكميت وهو الشاهد رقم [1] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]

بأيّ كتاب، أم بأيّة سنة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب

الإعراب: {وَيُرِيكُمْ:} الواو: حرف عطف. (يريكم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله)، تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول، والفعل معطوف على ما قبله في المعنى؛ إذ المعنى: وليريكم. {آياتِهِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأَيَّ:} الفاء: حرف استئناف. (أيّ): مفعول به مقدم، و (أيّ): مضاف، و {آياتِ:} مضاف إليه، و {آياتِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {تُنْكِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)}

الشرح: لا أرى حاجة ماسة للمزيد من الكلام على هذه الآية بأكثر مما ذكرته في الآية رقم [21] من هذه السورة. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي: فلم ينفعهم ما جمعوه من الأموال، وما شيدوه من الدور، والقصور، والقلاع، والحصون شيئا، ولا دفع عنهم العذاب فتيلا.

الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على مقدر. أي: أعجزوا فلم

إلخ، (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسِيرُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {فَيَنْظُرُوا:} فعل مضارع مجزوم على اعتبار الفاء عاطفة، أو هو منصوب على اعتبارها

ص: 402

للسببية، و «أن» مضمرة بعدها، وعلامة جزمه، أو نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى اعتبار الفعل منصوبا يؤول مع «أن» المضمرة الناصبة له بمصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، ويكون التقدير: فهلاّ حصل منهم سير في الأرض، فنظر في عاقبة الذين من قبلهم؟! هذا؛ ومثل هذه الآية في جواز اعتبار الفعل مجزوما، أو منصوبا بعد الفاء قول زهير بن أبي سلمى المزني، وهو الشاهد رقم (167) من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]

ومن لا يقدّم رجله مطمئنّة

فيثبتها في مستوى الأرض يزلق

{كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها، وهو معلق للفعل قبله عن العمل لفظا. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسمها، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} تامة؛ فالمعنى لا يأباه، ويكون {عاقِبَةُ} فاعلها، و {كَيْفَ} في محل نصب حال من:{عاقِبَةُ،} والعامل {كانَ} وهي بمعنى: حدث، وعلى الاعتبارين فالجملة الفعلية في محل نصب سدت مسد مفعول الفعل قبلها.

{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَكْثَرَ:}

خبر (كان). {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَكْثَرَ،} وجملة: {كانُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأَشَدَّ:} معطوف على: {أَكْثَرَ} . {قُوَّةً:} تمييز. (آثارا): معطوف على {قُوَّةً} أو هو على تقدير: أكثر آثارا، والمعنى: يؤيده. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صفة (آثارا). {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَغْنى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين: مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ما أغنى عنهم الذي، أو:

شيء كانوا يكسبونه. وعلى اعتبار {فَما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ما أغنى عنهم كسبهم. هذا؛ وأجيز اعتبار {فَما} استفهامية في محل نصب مفعول به مقدم، التقدير: أي شيء أغنى

إلخ؟ {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، وجملة:

{يَكْسِبُونَ} في محل نصب خبر (كان).

{فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)}

الشرح: {فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ:} بالمعجزات الواضحات، والحجج الدامغات.

{فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ:} يريد الله علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى

ص: 403

في سورة (الروم) رقم [7]: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، والظلف عن الملاذ، والشهوات؛ لم يلتفتوا إليها، وصغروها، واستهزؤوا بها، واعتقدوا: أنه لا علم أنفع، وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. أو علم الفلاسفة، والدهريين، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله؛ دفعوه، وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط: أنه سمع بموسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. أو المراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم، فرح ضحك منه، واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤوا بالبينات، وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين، ويدل عليه قوله:{وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} . أو الفرح للرسل؛ أي: الرسل لما رأوا جهلهم، واستهزائهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم، وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم، واستهزائهم. انتهى. نسفي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [85] الآتية.

هذا؛ وفي الآية الكريمة فن التهكم، وهو في اصطلاح البيانيين: الاستهزاء، والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير، والوعد في موضع الوعيد، والعلم في موضع الجهل، تهاونا من القائل بالمقول له، واستهزاء به، قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى: {بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} الآية رقم [66] من سورة (النمل)، وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون:

لا نبعث، ولا نعذب، وفي قوله تعالى حكاية عن قول الكافر المنكر للحساب، والجزاء، والبعث رقم [50] من سورة (فصلت):{وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى،} وفي قوله تعالى: {وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} رقم [36] من سورة (الكهف). وكانوا يفرحون بذلك، ويدفعون به البينات، وعلم الأنبياء، وهذا صريح قوله تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} رقم [53] من سورة (المؤمنون)، وما أحسن قول الحماسي:[الوافر]

أتاني من أبي أنس وعيد

فثلّ تغيّظ الضّحاك جسمي

ثل: أهلك، والتغيظ: الغيظ، والحنق، والغضب، وكنى عن أبي أنس بالضحاك، الذي كان ملكا قصدا للسخرية، والاستهزاء به.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [25]. {جاءَتْهُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {رُسُلُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة.

{بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {رُسُلُهُمْ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة

ص: 404

(لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها؛ لأنها ابتدائية على اعتبار (لمّا) حرفا. {فَرِحُوا:}

ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محل لها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {عِنْدَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْعِلْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الظرف، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معطوف على ما قبله. (حاق): فعل ماض {بِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {فَلَمّا:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلا بالباء، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: وحاق بهم استهزاؤهم، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها مثله. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما: {يَسْتَهْزِؤُنَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان).

{فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)}

الشرح: {فَلَمّا رَأَوْا} أي: أبصر، ورأى الأقوام الذين كذبوا الرسل. {بَأْسَنا} أي:

العذاب الشديد، وعاينوا أهواله، ومقدماته، كالذي حصل من قوم صالح، وهود، والذي حصل من فرعون عند معاينة الغرق. {قالُوا آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ:} لا شريك له. {وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ:} مع الله، والمراد: كفرهم بالأصنام التي عبدوها طوال حياتهم؛ حيث تبين: أنها لم تنفعهم شيئا. ولم تغن عنهم من الله شيئا. هذا؛ وإعلال: {رَأَوْا} مثل إعلال (نادوا) من سورة (ص) رقم [3].

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [25]. {رَأَوْا:} ماض مبني على الفتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق. {بَأْسَنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، وقل في الجملة الفعلية ما رأيته في الآية السابقة قبلها. {قالُوا:} ماض، وفاعله. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِاللهِ:}

متعلقان بما قبلهما. {وَحْدَهُ:} حال من لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة، وساغ ذلك لتأويله ب:«منفردا» ، وجملة:{آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ} في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معطوف على ما قبله. (كفرنا): فعل، وفاعل. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على

ص: 405

السكون، و (نا): اسمه. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُشْرِكِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كُنّا بِهِ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَكَفَرْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)}

الشرح: {فَلَمْ يَكُ..} . إلخ: أي: فلم يكن ينفعهم الإيمان حين شاهدوا العذاب، أو شاهدوا مقدماته، وأهواله. {سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ} أي: إن سنة الله قد جرت في الأمم الخالية بعدم قبول الإيمان عند معاينة العذاب. {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ:} الكافرون خاسرون في كل وقت، ولكن خسارتهم أكبر، وندامتهم أعظم، وخيبتهم أشد عند معاينة العذاب. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [78]. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [62]:{سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً،} وقال في سورة (الإسراء) رقم [77]: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً} . هذا؛ والبأس: العذاب الشديد. والبأس: شدة الحرب. قال تعالى في حق المنافقين في سورة (الأحزاب) رقم [18]: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً} ومؤنثه: البأساء. وتفسر بالجوع، والفقر. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [177]:{وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} . هذا؛ والبؤس (بضم الباء) المكروه، والضيق، ومؤنثه البؤسى. هذا؛ وضد البأساء: النعماء، وضد البؤسى:

النعمى، وضد البأس: الخير بأنواعه. و {خَلَتْ:} أصله: خلا، فلما اتصلت به تاء التأنيث، صار خلات، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وانظر شرح (السنة) في الآية رقم [62]: من سورة (الأحزاب).

تنبيه: وفائدة ترادف الفاآت في هذه الآيات: أن {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} نتيجة قوله: (كانوا أكثر منهم)، و {فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} كالبيان، والتفسير لقوله:{فَما أَغْنى عَنْهُمْ} كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلما يحسن إلى الفقراء. {فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} تابع لقوله:{فَلَمّا جاءَتْهُمْ} كأنه قال: فكفروا {فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} آمنوا. وكذلك {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ} تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله. والله أعلم. انتهى. نسفي.

وقال الجمل نقلا من أبي السعود: الأولى لبيان عاقبة كثرتهم، وشدة قوتهم؛ أي: إن عاقبتها خلاف وضد ما كانوا يؤملونه منها، وهو نفعها، فلم يترتب عليها، بل ترتب عدمه، كقولك: وعظته، فلم يتعظ. والثانية تفسير وتفصيل ما أجمل وأبهم من عدم الإغناء. والثالثة لمجرد التعقيب، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها، واقعا عقيبه؛ لأن مضمون قوله:{فَلَمّا}

ص: 406

جاءَتْهُمْ

إلخ: أنهم كفروا، فكأنه قيل: فكفروا، ثم لما رأوا بأسنا؛ آمنوا. والرابعة للعطف على «آمنوا» كأنه قيل: فآمنوا، فلم ينفعهم؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَلَمْ:} الفاء: حرف استئناف، أو الفاآت كلها للعطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة، كما رأيت في الآية رقم [28]. {يَنْفَعُهُمْ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به.

{إِيمانُهُمْ:} يجوز أن يكون اسما ل: (كان)، وفاعل {يَنْفَعُهُمْ} ضمير مستتر يعود إليه، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {يَكُ} تقدم عليه. ويجوز أن يرتفع بأنه فاعل {يَنْفَعُهُمْ} وفي (كان) ضمير الشأن، وأنه لا يكون من باب التنازع. انتهى. جمل نقلا عن السمين. أقول: ما المانع من اعتباره من باب التنازع؟ كما رأيت في الآية رقم [22]؟ هذا؛ وقد أحال الجمل على قوله تعالى: {ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ،} رقم [137] من سورة (الأعراف)، والذي ذكره في هذه الآية أربعة أوجه:

أحدها: ما ذكرته من التنازع. الثاني: أن اسم (كان) ضمير عائد على (ما) الموصولة، و (يصنع) مسند لفرعون، والجملة خبر (كان) والعائد محذوف، التقدير: ودمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون. الثالث: أن تكون (كان) زائدة، و (ما) مصدرية. والتقدير: ما يصنع فرعون؛ أي: صنعه. قال الجمل: وينبغي أن يجيء هذا الوجه أيضا وإن كانت (ما) موصولة اسمية على أن العائد محذوف، تقديره: ودمرنا الذي يصنعه فرعون. الرابع: أن (ما) مصدرية أيضا، و (كان) ليست زائدة، بل ناقصة، واسمها ضمير الشأن والأمر، والجملة من قوله:{يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} خبر (كان)، فهي مفسرة للضمير. انتهى. جمل هناك.

هذا؛ وأرى: أن الآية هنا وفي رقم [22] لا تشاكلان آية (الأعراف) ألبتة؛ لأنها ذكر فيها (ما) قبل الفعل، وهي موصولة، أو مصدرية، كما هو ظاهر، ولم تذكر في الآيتين في هذه السورة وهذا بون جدير بالاعتبار للتفريق بين ما هنا، وهناك. هذا؛ والهاء مع الفعل في محل نصب مفعول به، ومع الاسم في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَلَمْ يَكُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {لَمّا:} ظرف بمعنى: «حين» مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: (ينفع). {رَأَوْا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق.

{بَأْسَنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها.

{سُنَّتَ:} مفعول مطلق، عامله محذوف؛ أي: سن الله ذلك سنة، و {سُنَّتَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في

ص: 407

محل نصب صفة {سُنَّتَ اللهِ} . {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة. {الَّتِي} هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى {الَّتِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي عِبادِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والكلام:

{سُنَّتَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل له. {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} في الآية رقم [78] وهي هنا مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من {عِبادِهِ} والرابط: الواو فقط. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (غافر) بحمد الله وتوفيقه

تفسيرا وإعرابا.

ص: 408