الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة يس (36): الآيات 45 الى 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ" قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي" اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" أَيْ مِنَ الْوَقَائِعِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ" وَما خَلْفَكُمْ" مِنَ الْآخِرَةِ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ" وَما خَلْفَكُمْ" مَا يَأْتِي مِنَ الذُّنُوبِ. الْحَسَنُ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مَا مَضَى مِنْ أَجَلِكُمْ" وَما خَلْفَكُمْ" مَا بَقِيَ مِنْهُ. وَقِيلَ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مِنَ الدُّنْيَا،" وَما خَلْفَكُمْ" مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قال سُفْيَانُ. وَحَكَى عَكْسَ هَذَا الْقَوْلِ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا عَمِلُوا لَهَا،" وَما خَلْفَكُمْ" مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَاحْذَرُوهَا وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَا. وَقِيلَ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مَا ظَهَرَ لَكُمْ" وَما خَلْفَكُمْ" مَا خَفِيَ عَنْكُمْ. وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ إِذَا قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ أَعْرَضُوا، دَلِيلُهُ قول بَعْدُ:" وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ" فَاكْتَفَى بِهَذَا عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ" أَيْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ أُمِرُوا بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ قَالَ لَهُمْ فُقَرَاءَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَعْطُونَا مَا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَنَّهَا لِلَّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً"
[الأنعام: 136] فَحَرَمُوهُمْ وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَطْعَمَكُمْ- اسْتِهْزَاءً- فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا" أَنُطْعِمُ" أَيْ أَنَرْزُقُ" مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ" كَانَ بَلَغَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ. فَقَالُوا هُزْءًا أَنَرْزُقُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَغْنَاهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ بِمَكَّةَ زَنَادِقَةٌ، فَإِذَا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ أَيُفْقِرُهُ اللَّهُ وَنُطْعِمُهُ نَحْنُ. وَكَانُوا يَسْمَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّقُونَ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَغْنَى فُلَانًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعَزَّ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ كَذَا. فَأَخْرَجُوا هَذَا الْجَوَابَ مَخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَبِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: قَالُوا هَذَا تَعَلُّقًا بِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ:" أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ" أَيْ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ رَزَقَنَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَكُمْ فَلِمَ تَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ مِنَّا؟. وَكَانَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ بَاطِلًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا مَلَّكَ عَبْدًا مَالًا ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِيهِ حَقًّا فَكَأَنَّهُ انْتَزَعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ، فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ. وَقَدْ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَطْعَمَهُمْ وَلَكِنْ كَذَبُوا فِي الِاحْتِجَاجِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:" سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا"[الأنعام: 148]، وَقَوْلُهُ:" قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ"[المنافقون: 1]." إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" قِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فِي سُؤَالِ الْمَالِ وَفِي اتِّبَاعِكُمْ مُحَمَّدًا. قَالَ مَعْنَاهُ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ حِينَ رَدُّوا بهذا الجو أب. وَقِيلَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَانَ يُطْعِمُ مَسَاكِينَ الْمُسْلِمِينَ فَلَقِيَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِطْعَامِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا بَالُهُ لَمْ يُطْعِمْهُمْ؟ قَالَ: ابْتَلَى قَوْمًا بِالْفَقْرِ، وَقَوْمًا بِالْغِنَى، وَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ بِالصَّبْرِ، وا مر الْأَغْنِيَاءَ بِالْإِعْطَاءِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَنْتَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِطْعَامِ هَؤُلَاءِ وَهُوَ لَا يُطْعِمُهُمْ ثُمَّ تُطْعِمُهُمْ أَنْتَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى "[الليل: 6 - 5] الْآيَاتِ. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَقْوَامٌ يَتَزَنْدَقُونَ فَلَا يؤمنون بالصانع واستهزء وا بالمسلمين بهذا القول، ذكره القشيري والماوردي.
قوله تعالى:" وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ" لَمَّا قِيلَ لَهُمُ:" اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ" قَالُوا:" مَتى هذَا الْوَعْدُ" وَكَانَ هَذَا اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ أَيْضًا أَيْ لَا تَحْقِيقَ لِهَذَا الْوَعِيدِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَا يَنْظُرُونَ" أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ" إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً" وَهِيَ نَفْخَةُ إِسْرَافِيلَ" تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ" أَيْ يَخْتَصِمُونَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ فَيَمُوتُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَهَذِهِ نَفْخَةُ الصَّعْقِ. وَفِي" يَخِصِّمُونَ" خَمْسُ قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كثير" وهم يختصمون" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ. وَكَذَا رَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ. فَأَمَّا أَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ وَأَصْحَابُ نافع سوى ورش فرو وا عنه" يختصمون" بِإِسْكَانِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ ساكنين. وقرا عاصم والكسائي" وهم يختصمون" بإسكان الخاء
وتخفيف الصَّادِ مِنْ خَصَمَهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ" وَهُمْ يختصمون" بكسر الخاء وتشديد الصاد ومعناه يختصم بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْحُجَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمَّادٌ عَنْ عَاصِمٍ كَسْرَ الْيَاءِ وَالْخَاءِ والتشديد. قال النحاس: القراءة الولي أَبْيَنُهَا وَالْأَصْلُ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْخَاءِ- وَفِي حَرْفِ بى" وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ"- وَإِسْكَانُ الْخَاءِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ جمع بين ساكنين وليس أحد هما حَرْفَ مَدٍّ وَلِينٍ. وَقِيلَ: أَسْكَنُوا الْخَاءَ عَلَى أَصْلِهَا، وَالْمَعْنَى يَخْصِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَخْصِمُونَ مُجَادِلَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا" يَخِصِّمُونَ" فَالْأَصْلُ فِيهِ أَيْضًا يَخْتَصِمُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ ثُمَّ كُسِرَتِ الْخَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَجْوَدُ وَأَكْثَرُ، فَتَرَكَ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْقَاءِ حَرَكَةِ التَّاءِ عَلَى الْخَاءِ وَاجْتَلَبَ لَهَا حَرَكَةً أُخْرَى وَجَمَعَ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَجْوَدُ وَأَكْثَرُ. وَكَيْفَ يَكُونُ أَكْثَرَ وَبِالْفَتْحِ قِرَاءَةُ الْخَلْقِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ! وَمَا رُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ كَسْرِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ فَلِلْإِتْبَاعِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ"«1» فِي" يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ"
(1). انظر ج 1 ص 291 طبعه ثانية أو ثالثة.