الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ" أَيْ يُهِينُهُ وَيُذِلُّهُ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِالْجُوعِ وَالسَّيْفِ." وَيَحِلُّ عَلَيْهِ" أي في الآخرة" عَذابٌ مُقِيمٌ." قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى في غير موضع «1» .
[سورة الزمر (39): آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" أَيْ يَقْبِضُهَا عِنْدَ فَنَاءِ آجَالِهَا" وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها" اخْتُلِفَ فِيهِ. فَقِيلَ: يَقْبِضُهَا عَنِ التَّصَرُّفِ مَعَ بَقَاءِ أَرْوَاحِهَا فِي أَجْسَادِهَا" فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى " وَهِيَ النَّائِمَةُ فَيُطْلِقُهَا بِالتَّصَرُّفِ إِلَى أَجَلِ مَوْتِهَا، قَالَ ابْنُ عِيسَى «2». وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَيَقْبِضُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ تَوَفِّيهَا نَوْمَهَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ وَفَاتُهَا نَوْمُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامِ فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَرَادَ جَمِيعُهَا الرُّجُوعَ إِلَى الْأَجْسَادِ أَمْسَكَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ عِنْدَهُ، وَأَرْسَلَ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِلَى أَجْسَادِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِذَا نَامُوا، فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتَعَارَفَ" فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى " أَيْ يُعِيدُهَا. قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: فَمَا رَأَتْهُ نَفْسُ النَّائِمِ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ إِرْسَالِهَا إِلَى جَسَدِهَا فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَمَا رَأَتْهُ بَعْدَ إِرْسَالِهَا وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا فِي جَسَدِهَا تُلْقِيهَا الشَّيَاطِينُ، وَتُخَيِّلُ إِلَيْهَا الْأَبَاطِيلَ فَهِيَ الرؤيا الكاذبة.
(1). راجع ج 8 ص 388 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(2)
. في نسخة: قاله أبو عيسى.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: النَّوْمُ وَفَاةٌ وَالْمَوْتُ وَفَاةٌ. وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" كَمَا تَنَامُونَ فَكَذَلِكَ تَمُوتُونَ وَكَمَا تُوقَظُونَ فَكَذَلِكَ تُبْعَثُونَ." وَقَالَ عُمَرُ: النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ:" لَا النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ وَالْجَنَّةُ لَا مَوْتَ فِيهَا" خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" فِي ابْنِ آدَمَ نَفْسٌ وَرُوحٌ بَيْنَهُمَا مِثْلُ شُعَاعِ الشَّمْسِ، فَالنَّفْسُ الَّتِي بِهَا الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَالرُّوحُ الَّتِي بِهَا النَّفَسُ وَالتَّحْرِيكُ، فَإِذَا نَامَ الْعَبْدُ قَبَضَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ." وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَالزَّجَّاجِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَفِي هَذَا بُعْدٌ إِذِ الْمَفْهُومُ من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شي وَاحِدٌ، وَلِهَذَا قَالَ:" فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى" فَإِذًا يَقْبِضُ اللَّهُ الرُّوحَ فِي حَالَيْنِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ، فَمَا قَبَضَهُ فِي حَالِ النَّوْمِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَغْمُرُهُ بِمَا يَحْبِسُهُ عَنِ التصرف فكأنه شي مَقْبُوضٌ، وَمَا قَبَضَهُ فِي حَالِ الْمَوْتِ فَهُوَ يُمْسِكُهُ وَلَا يُرْسِلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ:" وَيُرْسِلُ الْأُخْرى " أَيْ يُزِيلُ الْحَابِسَ عَنْهُ فَيَعُودُ كَمَا كَانَ. فَتَوَفِّي الْأَنْفُسِ فِي حَالِ النَّوْمِ بِإِزَالَةِ الْحِسِّ وَخَلْقِ الْغَفْلَةِ وَالْآفَةِ فِي مَحَلِّ الْإِدْرَاكِ. وَتَوَفِّيهَا فِي حَالَةِ الْمَوْتِ بِخَلْقِ الْمَوْتِ وَإِزَالَةِ الْحِسِّ بِالْكُلِّيَّةِ." فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ" بِأَلَّا يَخْلُقُ فِيهَا الْإِدْرَاكَ كَيْفَ وَقَدْ خَلَقَ فِيهَا الْمَوْتَ؟ " وَيُرْسِلُ الْأُخْرى " بِأَنْ يُعِيدَ إِلَيْهَا الْإِحْسَاسَ. الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ، هَلْ هُمَا شي وَاحِدٌ أَوْ شَيْئَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْأَظْهَرُ أنهما شي وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآثَارُ الصِّحَاحُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ «1» بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ" وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَلَمْ تَرَوُا الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ" قَالَ:" فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ" خَرَّجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(1). شق بصره: أي انفتح.
" تَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَانَ فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي" التَّذْكِرَةِ." وَفِي صَحِيحِ، مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا" مَلَكَانِ يَصْعَدَانِ بِهَا." وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ بِلَالٌ فِي حَدِيثِ الْوَادِي: أَخَذَ بِنَفْسِي يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقَابِلًا لَهُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي حَدِيثِ الْوَادِي:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا وَلَوْ شَاءَ رَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا." الثَّالِثَةُ- وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشَابِكٌ لِلْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَةِ، يُجْذَبُ وَيُخْرَجُ وَفِي أَكْفَانِهِ يُلَفُّ وَيُدْرَجُ، وَبِهِ إِلَى السَّمَاءِ يُعْرَجُ، لَا يَمُوتُ وَلَا يَفْنَى، وَهُوَ مِمَّا لَهُ أَوَّلُ وَلَيْسَ لَهُ آخِرُ، وَهُوَ بِعَيْنَيْنِ وَيَدَيْنِ، وَأَنَّهُ ذُو رِيحٍ طَيِّبَةٍ وَخَبِيثَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَجْسَامِ لَا صِفَةُ الْأَعْرَاضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَخْبَارَ بِهَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ." وقال تعالى:" فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ" [الواقعة: 83] يَعْنِي النَّفْسَ إِلَى خُرُوجِهَا مِنَ الْجَسَدِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْجِسْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلِيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يعلم ما خلفه بعد عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا." وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ:" فَارْحَمْهَا" بَدَلَ" فَاغْفِرْ لَهَا" وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ" زَادَ التِّرْمِذِيُّ" وَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ." وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا" وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ."