الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: وَضَعَّفَ أَبُو الْفَرْجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: وَغُلُوُّ الرَّافِضَةِ فِي حُبِّ عَلِيٍّ عليه السلام حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ وَضَعُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي فَضَائِلِهِ، مِنْهَا أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ فَفَاتَتْ عَلِيًّا عليه السلام الْعَصْرُ فَرُدَّتْ لَهُ الشَّمْسُ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ مُحَالٌ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْوَقْتَ قَدْ فَاتَ وَعَوْدُهَا طُلُوعٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يَرُدُّ الْوَقْتَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْهَاءَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَيْلِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَبْعُدُ عَنْ عَيْنِ سُلَيْمَانَ فِي السِّبَاقِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ وَهُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ. وقد مضى القول فيه في" يوسف."«1»
[سورة ص (38): الآيات 34 الى 40]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ" قِيلَ: فُتِنَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ مَا مَلَكَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ عِشْرِينَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَ" فَتَنَّا" أَيِ ابْتَلَيْنَا وَعَاقَبْنَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَصَمَ إِلَى سُلَيْمَانَ عليه السلام فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ جَرَادَةَ امْرَأَةِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا فَهَوَى أَنْ يَقَعَ الْقَضَاءُ لَهُمْ، ثُمَّ قَضَى بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، فَأَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ عُقُوبَةً لِذَلِكَ الْهَوَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام احْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَقْضِي بَيْنَ أَحَدٍ، وَلَا يُنْصِفُ مَظْلُومًا مِنْ ظَالِمٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ:" إِنِّي لَمْ أَسْتَخْلِفْكَ لِتَحْتَجِبَ عَنْ عِبَادِي وَلَكِنْ لِتَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَتُنْصِفَ مظلومهم".
(1). راجع ج 9 ص 145 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية. [ ..... ]
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام سَبَى بِنْتَ مَلِكٍ غَزَاهُ فِي الْبَحْرِ، فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا صِيدُونَ. فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مَحَبَّتُهَا وَهِيَ تُعْرِضُ عَنْهُ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ إِلَّا شَزْرًا، وَلَا تُكَلِّمُهُ إِلَّا نَزْرًا، وَكَانَ لَا يُرْقَأُ لَهَا دَمْعٌ حُزْنًا عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَتْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْجَمَالِ، ثُمَّ إِنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَصْنَعَ لَهَا تِمْثَالًا عَلَى صُورَةِ أَبِيهَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ فَصُنِعَ لَهَا فَعَظَّمَتْهُ وَسَجَدَتْ لَهُ، وَسَجَدَتْ مَعَهَا جَوَارِيهَا، وَصَارَ صَنَمًا مَعْبُودًا فِي دَارِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً، وَفَشَا خَبَرُهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلِمَ بِهِ سُلَيْمَانُ فَكَسَرَهُ، وَحَرَقَهُ ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَصَابَ ابْنَةَ مَلِكِ صِيدُونَ وَاسْمُهَا جَرَادَةُ- فِيمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ- أُعْجِبَ بِهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ، فَخَوَّفَهَا فَقَالَتِ: اقْتُلْنِي وَلَا أُسْلِمُ فَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَكَانَتْ تَعْبُدُ صَنَمًا لَهَا مِنْ يَاقُوتٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي خُفْيَةٍ مِنْ سُلَيْمَانَ إِلَى أَنْ أَسْلَمَتْ فَعُوقِبَ سُلَيْمَانُ بِزَوَالِ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّهُ لَمَّا ظَلَمَ الْخَيْلَ بِالْقَتْلِ سُلِبَ مُلْكَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إنه قارب بعض نسائه في شي مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُمِرَ أَلَّا يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَّا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، فَعُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً" قِيلَ: شَيْطَانٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرَ أَهْلِ التفسيرين، أَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ سُلَيْمَانُ عليه السلام عَلَيْهِ، وَاسْمُهُ صَخْرُ بْنُ عُمَيْرٍ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ سُلَيْمَانَ عَلَى الْمَاسِ حِينَ أَمَرَ سُلَيْمَانُ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَوَّتَتِ الْحِجَارَةُ لَمَّا صُنِعَتْ بِالْحَدِيدِ، فَأَخَذُوا الْمَاسَ فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ بِهِ الْحِجَارَةَ وَالْفُصُوصَ وَغَيْرَهَا وَلَا تُصَوِّتُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مَارِدًا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ جَمِيعُ الشَّيَاطِينِ، وَلَمْ يَزَلْ يَحْتَالُ حَتَّى ظَفِرَ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ لَا يَدْخُلُ الْكَنِيفَ بِخَاتَمِهِ، فَجَاءَ صَخْرٌ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ حَتَّى أَخَذَ الْخَاتَمَ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ سُلَيْمَانَ أُمِّ وَلَدٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا الْأَمِينَةُ، قَالَهُ شَهْرٌ وَوَهْبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: اسْمُهَا جَرَادَةُ. فَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَسُلَيْمَانُ هَارِبٌ، حَتَّى رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَاتَمَ وَالْمُلْكَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ وَضَعَ خَاتَمَهُ تَحْتَ فِرَاشِهِ، فَأَخَذَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْتِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخَذَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ يَدِ سُلَيْمَانَ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ الشَّيْطَانَ وَكَانَ اسْمُهُ آصِفَ: كَيْفَ تُضِلُّونَ النَّاسَ؟ فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: أَعْطِنِي خَاتَمَكَ حَتَّى أُخْبِرَكَ. فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ الشَّيْطَانُ الْخَاتَمَ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، مُتَشَبِّهًا بِصُورَتِهِ، دَاخِلًا عَلَى نِسَائِهِ، يَقْضِي بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَيَأْمُرُ بِغَيْرِ الصَّوَابِ «1» . وَاخْتُلِفَ فِي إِصَابَتِهِ لِنِسَاءِ سُلَيْمَانَ، فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِنَّ فِي حَيْضِهِنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُنِعَ مِنْ إِتْيَانِهِنَّ وَزَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ مُلْكُهُ فَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَضَيَّفُ النَّاسَ، وَيَحْمِلُ سُمُوكَ الصَّيَّادِينَ بِالْأَجْرِ، وَإِذَا أَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ أَكْذَبُوهُ. قَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ بَعْدَ أَنِ اسْتَنْكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حُكْمَ الشَّيْطَانِ أَخَذَ حُوتَهُ مِنْ صَيَّادٍ. قِيلَ: إِنَّهُ اسْتَطْعَمَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخَذَهَا أُجْرَةً فِي حَمْلِ حُوتٍ. وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ صَادَهَا فَلَمَّا شَقَّ بَطْنَهَا وَجَدَ خَاتَمَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ زَوَالِ مُلْكِهِ، وَهِيَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي عُبِدَ" فِيهَا" الصَّنَمُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّمَا وَجَدَ الْخَاتَمَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي أَخَذَهُ أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: بَيْنَمَا سُلَيْمَانُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وَهُوَ يَعْبَثُ بِخَاتَمِهِ، إِذْ سَقَطَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ." وَحَكَى يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَجَدَ خَاتَمَهُ بِعَسْقَلَانَ، فَمَشَى مِنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عباس وغيره: ثم إن
(1). هذه الأقوال لا تصح قطعا لمنافاتها للعصمة التي هي من أخص صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولو صح شي منها لكان الوحى محل الشك والارتياب، وقد قال أبو حيان في تفسيره: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهى مما لا يحل نقلها، وهى إما من أوضاع اليهود أو الزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان. إلى أن قال: لم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به، ويستحيل عقلا وجود بعض ما ذكروه، كتمثل الشيطان بصورة نبى، حتى يلتبس أمره عند الناس، ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي. ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبى، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها. وقال الألوسي: ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض. الله أكبر!! هذا بهتان عظيم، وخطب جسيم. وسيأتي للمؤلف تضعيف هذا القول أيضا.
سُلَيْمَانَ لَمَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مُلْكَهُ، أَخَذَ صَخْرًا الَّذِي أَخَذَ خَاتَمَهُ، وَنَقَرَ لَهُ صَخْرَةً وَأَدْخَلَهُ فِيهَا، وَسَدَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَأَوْثَقَهَا بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا بِخَاتَمِهِ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ: هَذَا مَحْبِسُكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَمَّا أَخَذَ سُلَيْمَانُ الْخَاتَمَ، أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ وَالرِّيحُ، وَهَرَبَ الشَّيْطَانُ الَّذِي خَلَفَ فِي أَهْلِهِ، فَأَتَى جَزِيرَةً فِي الْبَحْرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا: لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَرِدُ عَيْنًا فِي الْجَزِيرَةِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْكَرَ! قَالَ: فَنَزَحَ سُلَيْمَانُ مَاءَهَا وَجَعَلَ فِيهَا خَمْرًا، فَجَاءَ يَوْمَ وُرُودِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَمْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَشَرَابٌ طَيِّبٌ إِلَّا أَنَّكِ تُطِيشِينَ الْحَلِيمَ، وَتَزِيدِينَ الْجَاهِلَ جَهْلًا. ثُمَّ عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، ثُمَّ شَرِبَهَا فَغَلَبَتْ عَلَى عَقْلِهِ، فَأَرَوْهُ الْخَاتَمَ فَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. فَأَتَوْا بِهِ سُلَيْمَانَ فَأَوْثَقَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى جَبَلٍ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ جَبَلُ الدُّخَانِ فَقَالُوا: إِنَّ الدُّخَانَ الَّذِي تَرَوْنَ مِنْ نَفَسِهِ، وَالْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ بَوْلِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ آصِفُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ اسْمُهُ حَبْقِيقُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ الشَّيْطَانُ بِسُلَيْمَانَ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي حَقٍّ، وَهُمْ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي بَاطِلٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجَسَدَ وَلَدٌ وُلِدَ لِسُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ اجْتَمَعَتِ الشَّيَاطِينُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنْ عَاشَ لَهُ ابْنٌ لَمْ نَنْفَكَّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالسُّخْرَةِ، فَتَعَالَوْا نَقْتُلْ وَلَدَهُ أَوْ نَخْبِلْهُ. فَعَلِمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ فَأَمَرَ الرِّيحَ حَتَّى حَمَلَتْهُ إِلَى السَّحَابِ، وَغَدَا ابْنُهُ فِي السَّحَابِ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ الشَّيَاطِينِ، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِخَوْفِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَى كُرْسِيِّهِ مَيِّتًا. قَالَ مَعْنَاهُ الشَّعْبِيُّ. فَهُوَ الْجَسَدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً". وَحَكَى النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ أَكْثَرَ مَا وَطِئَ سُلَيْمَانُ جَوَارِيَهُ طَلَبًا لِلْوَلَدِ، فَوُلِدَ لَهُ نِصْفُ إِنْسَانٍ، فَهُوَ كَانَ الْجَسَدَ الْمُلْقَى عَلَى كُرْسِيِّهِ جَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ فَأَلْقَتْهُ هُنَاكَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ سُلَيْمَانُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى
تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ الله لجاهد وا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ" وَقِيلَ: إِنَّ الْجَسَدَ هُوَ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا الصِّدِّيقُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا فُتِنَ سَقَطَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ وَكَانَ فِيهِ مُلْكُهُ، فَأَعَادَهُ إِلَى يَدِهِ فَسَقَطَ فَأَيْقَنَ بِالْفِتْنَةِ، فَقَالَ لَهُ آصِفُ: إِنَّكَ مَفْتُونٌ وَلِذَلِكَ لَا يَتَمَاسَكُ فِي يَدِكَ، فَفِرَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَائِبًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَا أَقُومُ مَقَامَكَ فِي عَالَمِكَ إِلَى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَكَ مِنْ حِينِ فُتِنْتَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِبًا إِلَى رَبِّهِ، وَأَخَذَ آصِفُ الْخَاتَمَ فَوَضَعَهُ فِي يَدِهِ فَثَبَتَ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ. وَقَامَ آصِفُ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَعِيَالِهِ، يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِهِ، إِلَى أَنْ رَجَعَ سُلَيْمَانُ إِلَى مَنْزِلِهِ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَأَقَامَ آصِفُ فِي مَجْلِسِهِ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَأَخَذَ الْخَاتَمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْجَسَدَ كَانَ سُلَيْمَانَ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا حَتَّى صَارَ جَسَدًا. وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ الْمَرِيضُ الْمُضْنَى فَيُقَالُ: كَالْجَسَدِ الْمُلْقَى.
صِفَةُ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ وَمُلْكِهِ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يُوضَعُ لَهُ سِتُّمِائَةِ كُرْسِيٍّ، ثم يجئ أَشْرَافُ النَّاسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَأْتِي أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي الْإِنْسَ، ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتُقِلُّهُمْ، وَتَسِيرُ بِالْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَقَالَ وَهْبٌ وَكَعْبٌ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ، أَمَرَ بِاتِّخَاذِ كُرْسِيٍّ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ لِلْقَضَاءِ، وَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ بَدِيعًا مَهُولًا بِحَيْثُ إِذَا رَآهُ مُبْطِلٌ أَوْ شَاهِدُ زُورٍ ارْتَدَعَ وَتَهَيَّبَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ مِنْ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ مُفَصَّصَةٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَأَنْ يُحَفَّ بِنَخِيلِ الذَّهَبِ، فَحُفَّ بِأَرْبَعِ نَخَلَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، شَمَارِيخُهَا الْيَاقُوتُ الْأَحْمَرُ وَالزُّمُرُّدُ الْأَخْضَرُ، عَلَى رَأْسِ نخلتين منهما طاوسان مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِ نَخْلَتَيْنِ نِسْرَانِ مِنْ ذَهَبٍ بَعْضُهَا مُقَابِلٌ لِبَعْضٍ، وَجَعَلُوا مِنْ جَنْبَيِ الْكُرْسِيِّ أَسَدَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمُودٌ مِنَ الزُّمُرُّدِ الْأَخْضَرِ.
وَقَدْ عَقَدُوا عَلَى النَّخَلَاتِ أَشْجَارُ كُرُومٍ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَاتَّخَذُوا عَنَاقِيدَهَا مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، بِحَيْثُ أَظَلَّ عَرِيشُ الْكُرُومِ النَّخْلَ وَالْكُرْسِيَّ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ عليه السلام إِذَا أَرَادَ صُعُودَهُ وَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، فَيَسْتَدِيرُ الْكُرْسِيُّ كُلُّهُ بِمَا فِيهِ دَوَرَانُ الرَّحَى الْمُسْرِعَةِ، وَتَنْشُرُ تِلْكَ النُّسُورُ وَالطَّوَاوِيسُ أَجْنِحَتَهَا، وَيَبْسُطُ الْأَسَدَانِ أَيْدِيَهُمَا، وَيَضْرِبَانِ الْأَرْضَ بِأَذْنَابِهِمَا. وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ يَصْعَدُهَا سُلَيْمَانُ، فَإِذَا اسْتَوَى بِأَعْلَاهُ أَخَذَ النِّسْرَانِ اللَّذَانِ عَلَى النَّخْلَتَيْنِ تَاجَ سُلَيْمَانَ فَوَضَعَاهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يَسْتَدِيرُ الْكُرْسِيُّ بِمَا فِيهِ، وَيَدُورُ معه النسران والطاوسان وَالْأَسَدَانِ مَائِلَانِ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى سُلَيْمَانَ، وَيَنْضَحْنَ عَلَيْهِ من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناول حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ قَائِمَةٌ عَلَى عَمُودٍ مِنْ أَعْمِدَةِ الْجَوَاهِرِ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ التَّوْرَاةَ، فَيَفْتَحُهَا سُلَيْمَانُ عليه السلام ويقرؤها عَلَى النَّاسِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ. قَالُوا: وَيَجْلِسُ عُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَرَاسِيِّ الذَّهَبِ الْمُفَصَّصَةِ بِالْجَوَاهِرِ، وَهِيَ أَلْفُ كُرْسِيٍّ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَجْلِسُ عُظَمَاءُ الْجِنِّ عَلَى كَرَاسِيِّ الْفِضَّةِ عَنْ يَسَارِهِ وَهِيَ أَلْفُ كُرْسِيٍّ، ثُمَّ تَحُفُّ بِهِمُ الطَّيْرُ تُظِلُّهُمْ، وَيَتَقَدَّمُ النَّاسُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ. فَإِذَا تَقَدَّمَتِ الشُّهُودُ لِلشَّهَادَاتِ، دَارَ الْكُرْسِيُّ بِمَا فِيهِ وَعَلَيْهِ دَوَرَانَ الرَّحَى الْمُسْرِعَةِ، وَيَبْسُطُ الْأَسَدَانِ أَيْدِيَهُمَا ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاوسان أَجْنِحَتَهُمَا، فَتَفْزَعُ الشُّهُودُ فَلَا يَشْهَدُونَ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ يَدُورُ بِذَلِكَ الْكُرْسِيِّ تِنِّينٌ مِنْ ذَهَبٍ ذَلِكَ الْكُرْسِيُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عظيم مِمَّا عَمِلَهُ لَهُ صَخْرٌ الْجِنِّيُّ، فَإِذَا أَحَسَّتْ بِدَوَرَانِهِ تِلْكَ النُّسُورُ وَالْأُسْدُ وَالطَّوَاوِيسُ الَّتِي فِي أَسْفَلِ الْكُرْسِيِّ إِلَى أَعْلَاهُ دُرْنَ مَعَهُ، فَإِذَا وقفن وقفن كلهن عل رَأْسِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ يَنْضَحْنَ جَمِيعًا عَلَى رَأْسِهِ مَا فِي أَجْوَافِهِنَّ مِنَ الْمِسْكِ والعنبر. فلما توفي سليمان بعث بخت نصر فَأَخَذَ الْكُرْسِيَّ فَحَمَلَهُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ كَيْفَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَضَعَ رَجُلَهُ ضَرَبَ الْأَسَدُ رِجْلَهُ فَكَسَرَهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا صَعِدَ وَضَعَ قدميه جميعا. ومات بخت نصر وَحُمِلَ الْكُرْسِيُّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ قَطُّ مَلِكٌ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَلَعَلَّهُ رُفِعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ أَنابَ" أَيْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ وَتَابَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي" أَيِ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي" وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" يُقَالُ: كَيْفَ أَقْدَمَ سُلَيْمَانُ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا مَعَ ذَمِّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبُغْضِهِ لَهَا، وَحَقَارَتِهَا لَدَيْهِ؟. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَسِيَاسَةِ مُلْكِهِ، وَتَرْتِيبِ مَنَازِلِ خَلْقِهِ، وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى رُسُومِهِ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَظُهُورِ عِبَادَتِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ، وَنُظُمِ قَانُونِ الْحُكْمِ النَّافِذِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَتَحْقِيقِ الْوُعُودِ فِي أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ حَسَبَ مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ لِمَلَائِكَتِهِ فَقَالَ:" إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ"[البقرة: 30] وحوشي سُلَيْمَانُ عليه السلام أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ طَلَبًا لِنَفْسِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَزْهَدُ خَلْقِ اللَّهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا سَأَلَ مَمْلَكَتَهَا لِلَّهِ، كَمَا سَأَلَ نُوحٌ دَمَارَهَا وَهَلَاكَهَا لِلَّهِ، فَكَانَا مَحْمُودَيْنِ مُجَابَيْنِ إِلَى ذَلِكَ، فَأُجِيبَ نُوحٌ فَأُهْلِكَ مَنْ عَلَيْهَا، وَأُعْطِيَ سُلَيْمَانُ الْمَمْلَكَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَضْبِطُهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ عِبَادِهِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ مُلْكًا عَظِيمًا فَقَالَ:" لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ثُمَّ قَالَ لَهُ:" هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" قَالَ الْحَسَنُ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ فِي نِعَمِهِ غَيْرَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليه السلام فإنه قال:" هذا عَطاؤُنا" الْآيَةَ. قُلْتُ: وَهَذَا يَرُدُّ
مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: إِنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ دُخُولًا الْجَنَّةَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السلام لِمَكَانِ مُلْكِهِ فِي الدُّنْيَا. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقُوتِ وَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا كان عطاؤه لَا تَبِعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمِنَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:" وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ". وَفِي الصَّحِيحِ:" لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعَوْتَهُ" الْحَدِيثُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فَجَعَلَ لَهُ مِنْ قَبْلِ السُّؤَالِ حَاجَةً مَقْضِيَّةً، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ:" لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" أَيْ أَنْ يَسْأَلَهُ. فَكَأَنَّهُ سَأَلَ مَنْعَ السُّؤَالِ بَعْدَهُ، حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ أَمَلُ أَحَدٍ، وَلَمْ يَسْأَلْ مَنْعَ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَهُ مُلْكًا لَا ينبغي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، لِيَكُونَ مَحَلُّهُ وَكَرَامَتُهُ مِنَ الله ظاهرا في خلق السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام لَهُمْ تَنَافُسٌ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَهُ، فَكُلٌّ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَحَلِّهِ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا لَمَّا أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِفْرِيتَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ وَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، أَرَادَ رَبْطَهُ ثُمَّ تذكر قوله أَخِيهِ سُلَيْمَانَ:" رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" فَرَدَّهُ خَاسِئًا. فَلَوْ أُعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ذَهَبَتِ الْخُصُوصِيَّةُ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ علم أنه شي هُوَ الَّذِي خُصَّ بِهِ مِنْ سُخْرَةِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى أَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً" أَيْ لَيِّنَةً مَعَ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا حَتَّى لَا تَضُرَّ بِأَحَدٍ، وَتَحْمِلَهُ بِعَسْكَرِهِ وَجُنُودِهِ وَمَوْكِبِهِ. وَكَانَ مَوْكِبُهُ فِيمَا رُوِيَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، مِائَةَ دَرَجَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مَعَ جَوَارِيهِ وَحَشَمِهِ وَخَدَمِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قال: كان لسليمان ابن دَاوُدَ عليه السلام أَلْفُ بَيْتٍ أَعْلَاهُ قَوَارِيرُ وَأَسْفَلُهُ حَدِيدٌ، فَرَكِبَ الرِّيحَ يَوْمًا فَمَرَّ بِحَرَّاثٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْحَرَّاثُ فَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ مُلْكًا عَظِيمًا! فَحَمَلَتِ الرِّيحُ كَلَامَهُ فَأَلْقَتْهُ فِي أُذُنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ فَنَزَلَ حَتَّى أَتَى الْحَرَّاثَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكَ، وَإِنَّمَا مَشَيْتُ إليك لئلا تتمنى مالا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَتَسْبِيحَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْكَ لَخَيْرٌ مِمَّا أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ. فَقَالَ الْحَرَّاثُ: أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ كَمَا أَذْهَبْتَ هَمِّي. قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَيْثُ أَصابَ" أَيْ أَرَادَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَصَابَ الصَّوَابَ وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. أَيْ أراد الصواب وأخطأ الجواب، قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ
أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يستطع
…
وفأخطأ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ
وَقِيلَ: أَصَابَ أَرَادَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ بِلِسَانِ هَجَرَ. وَقِيلَ:" حَيْثُ أَصَابَ" حِينَمَا قَصَدَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِصَابَةِ السَّهْمِ الْغَرَضَ المقصود." وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ" أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ وَمَا سُخِّرَتْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ." كُلَّ بَنَّاءٍ" بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَيْ كُلَّ بَنَّاءٍ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَبْنُونَ لَهُ مَا يشاء. قال «1»
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ
…
قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وَخَيِّسِ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ
…
- يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعُمُدِ
" وَغَوَّاصٍ" يَعْنِي فِي الْبَحْرِ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الدُّرَّ. فَسُلَيْمَانُ أَوَّلُ مَنِ اسْتُخْرِجَ لَهُ اللُّؤْلُؤ مِنَ الْبَحْرِ." وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ" أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ حَتَّى قَرَنَهُمْ فِي سَلَاسِلِ الْحَدِيدِ وَقُيُودِ الْحَدِيدِ، قَالَ قَتَادَةُ. السُّدِّيُّ: الْأَغْلَالُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي وَثَاقٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر «2»
فَآبَوْا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا
…
- وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِكُفَّارِهِمْ، فَإِذَا آمَنُوا أَطْلَقَهُمْ وَلَمْ يُسَخِّرْهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا عَطاؤُنا" الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الملك، أي هذا الملك عطاؤنا فَأَعْطِ مَنْ شِئْتَ أَوِ امْنَعْ مَنْ شِئْتَ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ، عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً إِلَّا عَلَيْهِ فِيهَا تَبِعَةٌ إِلَّا سُلَيْمَانَ عليه السلام، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ". وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" هَذَا عَطاؤُنا" إِلَى مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَكَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَكَانَ فِي ظَهْرِهِ مَاءَ مِائَةِ رَجُلٍ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عن ابن عباس «3» . ومعناه في البخاري. وعلى هذا
" فَامْنُنْ" مِنَ الْمَنِيِّ، يُقَالُ: أَمْنَى يُمْنِي وَمَنَى يَمْنِي لُغَتَانِ، فَإِذَا أَمَرْتَ مَنْ أَمْنَى قُلْتَ أَمْنِ، وَيُقَالُ: مِنْ مَنَى يَمْنِي فِي الْأَمْرِ امْنِ، فَإِذَا جِئْتَ بِنُونِ الْفِعْلِ نُونِ الْخَفِيفَةِ قلت امنن. ومن
(1). هو النابغة ألذ بياني: ويروى إذ قال المليك له. ويروى فازجرها عن الفند. أي الخطاء. وخيس أي ذلل. والصفاح جمع صفاحة بشد الفاء وهى حجارة رقاق عراض.
(2)
. هو عمرو بين كلثوم والبيت من معلقنه.
(3)
. قال أبو حيان في تفسيره: ولعله لا يصح عن ابن عباس لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتى من القدرة على ذلك.