الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس، وهو حقيقة الكواكب وما أودع الله فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها.
وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب.
وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد: أي ذو الحس، والمشهود: وهو ما يفع عليه الحس.
أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم فى إيذائهم، حتى خدّوا لهم الأخاديد، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم الله من أعدائهم وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به.
وقد حكى الله هذا القصص، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين، ووعدا لعباده الصالحين، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة فى سبيله، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ- فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» .
الإيضاح
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي قسما بالسماء ذات الكواكب العظيمة التي لم يستطع لها إحصاء ولا عدّ، منها ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فى ألف ألف سنة وخمسمائة ألف، مع أن الضوء يسير فى الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو، ويصل فى سيره إلى القمر فى قدر ثانية وثلث الثانية، ولو جرى حول الكرة
الأرضية لدار حولها فى الثانية الواحدة نحو ثمان مرات، ولو أطلق مدفع فإن قنبلته نجرى نحو سنة ونصف سنة حتى تقطع المسافة التي يقطعها الضوء فى ثانية واحدة.
فما أبعد الكواكب التي يصل ضوؤها إلينا بعد مليون سنة ونصف المليون، وإلى أىّ حد هى عظيمة بالنسبة إلى شمسنا.
وقد أقسم الله بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة، وباهر الحكمة، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس فى هذه الحياة تدل على أن لها صانعا حكيما مدبرا إلى أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم، لنستدل بذلك على عظيم قدرته، وجليل حكمته.
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به على ألسنة رسله، وفيه يتفرد ربنا بالملك والحكم.
(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وبجميع ما خلق الله فى هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأى العين، فمنهم من يتدبر ويستفيد من النظر إليه، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئا.
وقصارى ذلك- إنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة، وليعتبروا بما حضر، ويبذلوا جهدهم فى درك حقيقة ما استتر.
(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.
ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن رجل ممن كانوا على دين عيسى بن مريم فدعا أهلها إلى دينه وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم وكان يتمسك باليهودية. فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذهم خيرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار وصار يؤتى
بالرجل منهم فيخيره، فمن جزع من النار وخاف العذاب ورجع عن دينه ورضى اليهودية تركه، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء- ألقاه فى النار وكان حولها يشرف على هلاكه.
ثم بيّن من هم أصحاب الأخدود فقال:
(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي إن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، لا جرم يكون حريقها عظيما، ولهيبها متطايرا.
(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها، ويحرقون فيها كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم، يشاهدون ما يفعله بهم من أتباعهم.
وفى هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، وتمكن الكفر منهم، إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدة جلدهم، ورباطة جأشهم، واستمساكهم بدينهم.
وقد يكون المعنى- يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فى التنكيل بالمؤمنين.
(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شىء لا يجوز العقاب عليه، بل ينبغى لكل أحد أن يكون عليه، ويدعو غيره إلى التمسك به، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه، وتهاب صولته، المنعم الذي يرجى ثوابه، وترتقب نعماؤه.
ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله:
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لأنه مالك الأمر كله فيهما، فلا مفرّ لأولئك الظالمين من سلطانه، وأن ما يلاقيه المؤمنون ليس إلا امتحانا وابتلاء مما يمحض الله به أهل طاعته، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.