الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه، ولا يفكر فى منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوّره فى أحسن الصور، فى أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع فى لحده، إلى أمد قدره الله فى علمه، ثم يبعثه من قبره، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره، واجتناب نواهيه!
الإيضاح
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.
يقولون إذا تعجبوا من إنسان: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.
(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها، وأكثر ذهوله عن مسديها، وعمن غمره بها من حين إيجاده، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث:
المبدأ والوسط والمنتهى، وأشار إلى الأولى بقوله:
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟) أي من شىء حقير، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.
وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله:
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين، وقدره أطوارا وأحوالا، طورا بعد طور وحالا بعد حال، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.
وقد أثر عن بعضهم: كيف يتكبر الإنسان، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمّال عذرة.
وروى عن علىّ كرم الله وجهه قوله: كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين.
وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله:
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر، فآتاه قدرة العمل، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر، والتحذير من الشر، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم.
وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله:
(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه.
وفى قوله: «إِذا شاءَ» إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهو القادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا.
ثم أكد كفرانه بالنعم فقال:
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الآثار.