الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي بالأفق الواضح، وضنين: أي بخيل، رجيم: أي مرجوم مطرود من رحمة الله، فأين تذهبون: أي أىّ مسلك تسلكون وقد قامت عليكم الحجة، أن يستقيم:
أي على الطريق الواضح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر، وبيّن أن الناس حينئذ يقفون على حقائق أعمالهم فى النشأة الأولى، ويستبين لهم ما هو مقبول منها وما هو مردود عليهم- أردف ذلك بيان أن ما يحدّثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بينات من الهدى، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم: إنه ساحر أو مجنون، أو كذاب، أو شاعر ما هو إلا محض افتراء، وأن لجاجكم فى عداوته وتألّبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار، وأنكم فى قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره، ودخيلة دعوته.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا إن هذه عبارة للعرب فى القسم تريد بها تأكيد الخبر كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، وكأنه يقول: أنا لا أقسم بكذا وكذا على إثبات ما أذكره، ولا على وجوده فهو واضح جلىّ ليس فى حاجة إلى الحلف والمراد به القسم المؤكد.
(بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي بالكواكب جميعها، وهى تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل: أي تطلع فى أماكنها كالوحش فى كنسها وقد أقسم بها سبحانه، لما فى حركاتها وظهورها طورا واختفائها طورا آخر من الدلائل على قدرة مصرّفها، وبديع صنعه، وإحكام نظامه.
ويرى بعض العلماء أن المراد بها الدرارىّ الخمسة وهى: عطارد، والزّهرة، والمرّيخ، والمشترى، وزحل، لأنها تجرى مع الشمس، ثم ترى راجعة حتى تختفى فى ضوئها، فرجوعها فى رأى العين هو خنوسها، واختفاؤها هو كنوسها.
(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي والليل إذا أدبر وولى، وفى إدباره زوال الغمّة التي تغمر الأحياء، بانسدال الظلمة وانحسارها.
(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والصبح إذا أسفر وظهر نوره، وفى ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة فى نهار جديد، إذ تنطلق الإرادات، لتحصيل الرغبات، وسدّ الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت.
ثم ذكر المحلوف عليه فقال:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن ما أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الساعة ليس بكهانة ولا اختلاق، بل هو قول نزل به جبريل وحيا من ربه، وإنما كان قوله لأنه هو الذي حمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وقد وصف هذا الرسول بخمسة أوصاف:
(1)
(كَرِيمٍ) أي عزيز على ربه، إذ أعطاه أفضل العطايا، وهى الهداية والإرشاد، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده.
(2)
(ذِي قُوَّةٍ) فى الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ، وقد جاء فى آية أخرى:«عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» .
(3)
(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذى جاه ومنزلة عند ربه يعطيه ما سأل.
(4)
(مُطاعٍ ثَمَّ) أي هو مطاع عند الله فى ملائكته المقربين، فهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه.
(5)
(أَمِينٍ) على وحي ربه ورسالاته، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال.
وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه فقال:
(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد صلى الله عليه وسلم بالمجنون كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر مما لم يكن معروفا لهم كما حكى عنهم فى قوله: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» وقوله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» وقوله: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .
وفى التعبير (بِصاحِبِكُمْ) استدلال عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم فى دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة، وصدق لهجة، وكمال عقل، ووفور حلم، وتفوّق على جميع الأنداد والأتراب فى صفات الخير- لم يكن ادّعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا.
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي وإن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى، وقد تمثل له جبريل فى مثال يظهر ويبصر، فتجلى لعينيه، وأعلم أنه جبريل فعرفه.
وقد ذكرت هذه الرؤية فى سورة النجم فى قوله: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى» .
(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وليس محمد بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين لا يأتى به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب فى ماضى حياته، فهو غير متّهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه.
ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقوّلونها عليه فقال:
(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا الذي يتكلم به محمد بقول ألقاه
الشيطان على لسانه حين خالط عقله كما تزعمون، فإنه قد عرف بصحة العقل، وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين.
وقد حكى الله سبحانه عن الأمم جميعا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون فقال:
«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .
ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر، وجهلوا سبيل الحكمة فقال:
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأىّ سبيل تسلكونها وقد سدّت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم، وبطلت مفتريانكم، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.
ثم بيّن حقيقة القرآن فقال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة يتذكرون بها ما غرز فى طباعهم من حب الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع، والقدوة السيئة.
ثم بيّن أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال:
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي إنه ذكر يتذكر به من وجّه إرادته للاستقامة على جادّة الحق والصواب أما من انحرف عن ذلك فلا يؤثر فيه هذا الذكر ولا يخرجه من غفلته.
والخلاصة- إن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ويطلبه، ويجدّ فى كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثم دفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة فى فعل ما يريد، وله الاختيار التام فيما يفعل، وهو منقطع العلاقة فى إرادته من سلطان ربه فقال:
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي إن إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله فيكم بقدرته، الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم