المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فيه حتى جعل نفس الهدى على حدّ: زيد عدل. والمعنى؛ أي: - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: فيه حتى جعل نفس الهدى على حدّ: زيد عدل. والمعنى؛ أي:

فيه حتى جعل نفس الهدى على حدّ: زيد عدل.

والمعنى؛ أي: هذا الكتاب هاد ومرشد للمؤمنين المتصفين بالتقوى من سخط الله تعالى، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

‌3

- ثم وصف المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} ؛ أي يصدّقون ويوقنون {بِالْغَيْبِ} أي: بالشيء الغائب عنهم مما لم تدركه عقولهم، ولم تعرفه حواسّهم مما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من اليوم الآخر وأحواله من البعث، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وغير ذلك من أهواله.

والإيمان: تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها، وأمارته: العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين. والغيب: ما غاب عنهم علمه، كذات الله سبحانه، وملائكته،، والدار الآخرة وما فيها من البعث، والنشور، والحساب، والمجازاة. والإيمان بالغيب: هو اعتقاد وجود موجود وراء المحسّسات، متى أرشد إليه الدليل، أو الوجدان السليم. ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض، منزه عن المادّة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله وانفرد بعلمها، كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر، لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به، أمّا من لا يعرف إلّا ما يدركه الحسّ، فإنه يصعب إقناعه، وقلّما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.

وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إمّا (1) موصول بالمتقين، ومحلّه الجرّ على أنّه صفة مقيّدة له، إن فسّرت التقوى بترك المعاصي فقط، مرتّبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، أو موضحة إن فسرت التقوى بما هو المتعارف شرعا، والمتبادر عرفا من فعل الطاعات، وترك المعصيات معا؛ لأنّها حينئذ تكون تفصيلا لما انطوى عليه اسم الموصول إجمالا، وصفة مادحة للموصوفين بالتقوى المفسّرة بما مرّ من فعل الطاعات، وترك السيئات. وتخصيص ما ذكر من

(1) الفتوحات.

ص: 111

الخصال الثلاث بالذكر؛ لإظهار شرفها، وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسم التقوى من الحسنات. أو محلّه النصب على المدح بتقدير: أمدح، أو الرفع عليه بتقدير: هم. وإمّا مفصول عنه مرفوع بالابتداء، خبره الجملة المصدّرة باسم الإشارة، كما سيأتي بيانه، فالوقف على المتقين حينئذ وقف تامّ؛ لأنّه وقف على مستقلّ، وما بعده أيضا مستقل، وأما على الوجوه الأول، فالوقف حسن غير تامّ؛ لتعلّق ما بعده به وتبعيته له. اه. «أبو السعود» .

وقرأ الجمهور (1): {يُؤْمِنُونَ} بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش والسوسي وأبو جعفر وقفا ووصلا، وحمزة وقفا فقط وهذه القراءات كلها في المتواتر، وقرأ رزين - شاذا - بتحريك الهمزة، مثل:{يُؤَخِّرَكُمْ} ، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لسكونها، وأقرّ همزة أفعل؛ لتحركها، وتقدمها، واعتلالها في الماضي والأمر. اهـ. من «البحر» .

وقوله: {بِالْغَيْبِ} : الغيب هنا مصدر بمعنى اسم الفاعل، كما مرّت الإشارة إليه، قال أبو السعود: والغيب: إما مصدر وصف به الغائب مبالغة، كالشهادة في قوله تعالى:{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} ؛ أي: ما غاب عن الحسّ والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة، وهو قسمان:

قسم: لا دليل عليه، وهو المراد من قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} .

وقسم: قامت عليه البراهين كالصانع وصفاته، والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام، والشرائع، واليوم الآخر، وأحواله من البعث والنشر، والحساب والجزاء، وهو المراد ههنا. فالباء: صلة للإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازا عن الوثوق، وهو واقع موقع المفعول به. وإمّا مصدر على حاله كالغيبة، فالباء: متعلّقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل، كما في قوله تعالى:

(1) البحر المحيط.

ص: 112

{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} ؛ أي: يؤمنون ملتبسين بالغيبة إما عن المؤمن به؛ أي: غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير مشاهدين لما معه من شواهد النبوة، وإما عن الناس؛ أي: غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم. وقيل: المراد بالغيب القلب؛ لأنّه مستور، والمعنى: يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالباء حينئذ للآلة. وترك ذكر المؤمن به على التقادير الثلاثة؛ إيماء للقصد إلى إحداث نفس الفعل، كما في قولهم: فلان يعطي ويمنع؛ أي: يفعلون الإيمان، وإما للاكتفاء بما سيجيء، فإنّ الكتب الإلهية ناطقة بتفاصيل ما يجب الإيمان به.

{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ؛ أي: يؤدّونها بحقوقها الظاهرية من الشروط، والأركان، والسنن، وترك المفسدات، والمكروهات، والباطنية، كالخشوع، وحضور القلب، والإخلاص. والصلاة في هذه الآية: اسم جنس، أريد بها الصلوات الخمس، كما في «الروح». وإقامتها: عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها، وسننها، وآدابها خلل، من أقام العود إذا قوّمه وعدّله. وقيل: عبارة عن المواظبة عليها من قولهم: قامت السوق إذا نفقت. وقيل: عبارة عن التشمير لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم: قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجاد، وضدّه قعد عن الأمر وتقاعد.

واعلم: أنّ الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، ودعاء المعبود بالقول، أو بالفعل، أو بكليهما، يشعر العابد بالحاجة إليه؛ استدرارا للنعمة، أو دفعا للنقمة، والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام، من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه، لو أقيمت على وجهها، أمّا إذا خلت عن الخشوع، فإنّها تكون صلاة لا روح لها، وإن كانت قد وجدت صورتها، وهي الكيفيات المخصوصة، ولا يقال للمصّلي حينئذ: أنّه امتثل أمر ربه، فأقام الصلاة؛ لأنّ الإقامة مأخوذة من أقام العود، إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها، واستشعار الخشية

ص: 113

ومراقبة الخالق، كأنّك تنظر إليه، كما ورد في الحديث:«أعبد الله كأنّك تراه، فإنّ لم تكن تراه فإنه يراك» .

ولما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسمو بها إلى الملكوت الأعلى، أبان الله سبحانه عظيم آثارها بقوله:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين، فقال:«الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام» . وقد أمر الله سبحانه بإقامتها بقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} ، والمحافظة عليها، وإدامتها بقوله:{الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} ، وبأدائها في أوقاتها بقوله:{إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا} ، وبأدائها جماعة بقوله:{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، وبالخشوع فيها بقوله:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} .

{وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ} أي: ومن بعض ما أعطيناهم، وملّكناهم من الأموال؛ لأنّ المراد بالرزق هنا: الملك، وليس المراد به الرزق الحقيقي، إذ لا يمكن تعديه لغيره. وفي قوله:{وَمِمَّا} حذف نون من التبعيضية لفظا وخطّا؛ لإدغامها في ما الموصولة. {يُنْفِقُونَ} : ويصرفون إنفاقا واجبا، كالزكاة، والنفقة على الوالدين والعيال، أو مندوبا، كالتوسعة على العيال، ومواساة الأقارب والفقراء، فالإنفاق هنا شامل للواجب والمندوب، كما اختاره ابن جرير. وروي عن ابن عباس: أنّ المراد بها: زكاة الأموال. والرزق في اللغة: العطاء، وفي العرف: ما ينتفع به الحيوان، وهو يتناول الحلال والحرام عند أهل السنة، كما قال أحمد بن رسلان:

يرزق من شاء ومن شا أحرما

والرزق ما ينفع ولو محرّما

ولكنّ (1) القرينة ههنا تخصصه بالحلال؛ لأنّ المقام مقام المدح. وتقديم المفعول للاهتمام به، وللمحافظة على رؤوس الآي. وإدخال من التبعيضية عليه؛ للكفّ عن الإسراف المنهيّ عنه. وصيغة الجمع في رزقنا مع أنّه تعالى واحد لا

(1) روح البيان.

ص: 114

شريك له؛ لأنّه خطاب الملوك، والله تعالى مالك الملك، وملك الملوك، والمعهود من كلام الملوك أربعة أوجه: الإخبار على لفظ الواحد، نحو: فعلت كذا، وعلى لفظ الجمع، نحو: فعلنا كذا، وعلى ما لم يسم فاعله، نحو: رسم كذا، وإضافة الفعل إلى اسمه على وجه المغايبة، نحو: أمركم سلطانكم بكذا، والقرآن نزل بلغة العرب، فجمع الله فيه هذه الوجوه كلّها فيما أخبر به عن نفسه، فقال تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} على صيغة الواحد، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} على صيغة الجمع، وقال فيما لم يسمّ فاعله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} وأمثاله، وقال في المغايبة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وأمثاله، كذا في «التيسير» .

والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أنّ في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمراد بهذا الإنفاق: الصرف إلى سبيل الخير فرضا كان أو نفلا. ومن فسّره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها، وهي الصلاة.

واعلم: أنّه سبحانه ذكر في الآية الإيمان، وهو بالقلب، ثمّ الصلاة وهي بالبدن، ثمّ الإنفاق وهو بالمال، وهو مجموع كل العبادات. ففي الإيمان النجاة، وفي الصلاة المناجاة، وفي الإنفاق الدرجات، وفي الإيمان البشارة، وفي الصلاة الكفارة، وفي الإنفاق الطهارة، وفي الإيمان العزة، وفي الصلاة القربة، وفي الإنفاق الزيادة.

فصل في مسائل تتعلق بالصلاة

المسألة الأولى: واعلم أنّ الناس بالنسبة إلى الصلاة على أربع طباق:

الأولى: طبقة لم يقبلوها، ورأسهم أبو جهل لعنه الله، وفي حقّه قال تعالى:{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} ، وذكر مصيرهم بقوله:{ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} .

والثانية: طبقة قبلوها ولم يؤدوها، وهم أهل الكتاب، وذكرهم الله تعالى

ص: 115

بقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} وهم أهل الكتاب {أَضاعُوا الصَّلاةَ} ، وذكر مصيرهم {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .

والثالثة: طبقة قبلوها وأدّوا بعضا منها، ولم يؤدُّوا بعضا آخر متكاسلين، وهم المنافقون، وذكرهم الله تعالى بقوله:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى} .

والرابعة: طبقة قبلوها، وهم يراعونها في أوقاتها بشرائطها، ورأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} ، وأصحابه كذلك، وذكرهم الله تعالى بقوله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} ، وذكر مصيرهم بقوله:{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} .

المسألة الثانية: روي (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما (بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلّا الله، فلمّا صدّق زاد الصلاة، فلمّا صدّق زاد الزكاة، فلمّا صدّق زاد الصيام، فلمّا صدّق زاد الحج، ثمّ الجهاد، ثمّ أكمل لهم الدين).

وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي بمكة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشاء، فلمّا عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس، كما في «روضة الأخيار» .

وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج؛ لأنّ المعراج أفضل الأوقات، وأشرف الحالات، وأعزّ المناجات، والصلاة بعد الإيمان أفضل الطاعات، وفي التعبّد أحسن الهيئات، ففرض أفضل العبادات في أفضل الأوقات، وهو وصول العبد إلى ربّه، وقربه منه.

المسألة الثالثة: في ذكر بعض الحكم. وأمّا الحكمة في فرضيتها؛ فلأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أسري به شاهد ملكوت السموات بأسرها وعبادات سكّانها من الملائكة، فاستكثرها صلى الله عليه وسلم غبطة، وطلب ذلك لأمّته، فجمع الله له في الصلوات الخمس

(1) روح البيان.

ص: 116