المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بِآياتِ اللَّهِ}؛ أي: إن (1) ما حل بهم من ضروب - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بِآياتِ اللَّهِ}؛ أي: إن (1) ما حل بهم من ضروب

بِآياتِ اللَّهِ}؛ أي: إن (1) ما حل بهم من ضروب الذلة والمسكنة، واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى، وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون، ويقتلون النبيين بغير الحق، فهم قتلوا شعياء، وزكرياء، ويحيى، وغيرهم بغير الحق؛ أي: بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق؛ لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك.

وفي قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} مع أن قتل غير النبيين لا يكون إلا كذلك، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم، ولا متأوّلين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم.

{ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} ؛ أي: إن كفرهم بآيات الله، وجرأتهم على النبيين بالقتل إنما كانا بسبب عصيانهم، وتعدّيهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدّى حدوده مرة ضعف ذلك السلطان الدينيّ في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة، وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه،

‌62

- ثم دعا الله سبحانه وتعالى أهل الملل من المؤمنين بألسنتهم، واليهود، والنصارى، والصابئين إلى الإيمان الصادق وإخلاص العمل لله، وساقه بصيغة الخبر، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وهذه الآية معترضة بين قصص بني إسرائيل؛ أي إنّ (2) الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب، وهم المنافقون بقرينة انتظامهم في سلك الكفرة، والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق؛ للتصريح بأنّ تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا، ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا،

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 458

والأولى (1) أن يقال: إن المراد إن الذين صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وصاروا من جملة أتباعه، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن (2) حال هذه الملة الإسلامية، وحال من قبلها من سائر الملل، يرجع إلى شيء واحد، وهو: أنّ من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، استحقّ ما ذكره الله من الأجر، ومن فاته ذلك فاته الخير كلّه، والأجر دقّه وجلّه، والمراد بالإيمان ها هنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لمّا سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان، فقال:«أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره» ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن فليس بمؤمن، ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا، ولم يبق يهوديا، ولا نصرانيا، ولا مجوسيا.

اه. من الشوكاني.

وقيل المعنى (3): إن الذين آمنوا بالأنبياء الماضين قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، كبحيرا الراهب، وورقة بن نوفل، وقسّ بن ساعدة، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، ووفد النجاشي، وغيرهم {وَالَّذِينَ هادُوا}؛ أي: تهودوا وصاروا يهود من هاد إذا دخل في اليهودية، ويهود إما عربي من هاد إذا تاب، سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل، وخصّوا به، لما كانت توبتهم توبة هائلة، وإما معرب من يهوذا بالذال المعجمة اسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، فقلبتها العرب دالا مهملة. وقيل: إنما سمي اليهود يهودا؛ لأنهم إذا جاءهم رسول، أو نبيّ هادوا إلى ملكهم فدلّوه عليه فيقتلونه {وَالنَّصارى} جمع (4) نصران، كندامى جمع ندمان، سمّوا بذلك؛ لأنهم نصروا المسيح عليه السلام؛ أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: ناصرة، فسموا باسمها، أو لاعتزائهم إلى نصرة، وهي قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام، والمعنى؛ أي: والذين كانوا على الدين المحرّف الباطل الذي كان لليهود والنصارى {وَالصَّابِئِينَ} ؛ أي: الخارجين من دين إلى دين، وهم قوم من اليهود، أو النصارى صبئوا من دينهم. وقرأ نافع

(1) الشوكاني.

(2)

الشوكاني.

(3)

العمدة.

(4)

روح البيان.

ص: 459

{الصابون} بغير همز جمع صابىء من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية، والنصرانية، وعبدوا الكواكب، والملائكة، فكانوا كعبدة الأصنام، وإن كانوا يقرؤون الزبور، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.

فإن قلت: لم قدم النصارى على الصابئين هنا. وعكس في المائدة والحج؟.

قلت: لأن النصارى مقدمون على الصابئين في الرتبة؛ لأنهم أهل كتاب، فقدموا في البقرة لكونها أولا، والصابئون مقدمون على النصارى في الزمن، فقدموا في الحج، وروعي في (المائدة) المعنيان فقدموا في اللفظ وأخروا في المعنى إذ التقدير: والصابئون كذلك، كما في قول الشاعر:

فمن يك أمس في المدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

إذ التقدير: فإني لغريب بها وقيّار كذلك. اه. «فتح الرحمن» . وروي أنه جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لم يسمّى الصابئون صابئين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأنهم إذا جاءهم رسول أو نبي أخذوه، وعمدوا إلى قدر عظيم فأغلوه، حتى إذا كان محمى صبّوه على رأسه حتى ينفسخ» . كذا في «روضة العلماء» . واختلف القرّاء فيه، فهمزوه جميعا إلا نافعا، فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو إذا مال {مَنْ} مبتدأ خبره فلهم أجرهم، والجملة خبر إن؛ أي: من {آمَنَ} من هؤلاء الكفرة {بِاللَّهِ} وبما أنزل على جميع النبيين، ويجوز أن تكون من في موضع نصب بدلا من الذين أمنوا وما بعده؛ أي: من صدّق منهم بوحدانية الله سبحانه وتعالى {وَ} بمجيء {الْيَوْمِ الْآخِرِ} مع ما فيه من البعث، والحساب، والميزان، والمجازاة، وغيرها؛ أي: من أحدث منهم إيمانا خالصا بالمبدإ والمعاد على الوجه اللائق، ودخل في ملة الإسلام دخولا حقيقيّا {وَعَمِلَ} عملا {صالِحًا} مرضيا مقبولا عند الله تعالى.

قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)} ودخلت الفاء في قوله: {فَلَهُمْ} ؛ لتضمن اسم إنّ معنى الشرط {أَجْرُهُمْ} الموعود لهم؛ أي: ثواب أعمالهم مدّخرا لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ؛ أي: مالك أمرهم

ص: 460