الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير وأوجه القراءة
67
- {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} وهذا توبيخ آخر لأخلاق بني إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت من أسلافهم؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! قصة إذ قال موسى عليه السلام، لأسلافكم وأجدادكم الذين نكثوا ميثاقي:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ؛ أي: إن ربكم يأمركم أن تذبحوا بقرة حين تدافعوا في القتيل الذي وجد فيهم، ولم يظهر قاتله، فترافعوا إلى موسى، فاشتبه أمر القتيل على موسى، وكان (1) ذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله تعالى ليبين لهم بدعائه، فدعاه لهم، فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها، فيحيا فيخبرهم بقاتله. واسم القتيل عاميل، وكان القاتل ابن عم المقتول، وكان مسكينا والمقتول كثير المال، فاستعجل ميراثه. وقيل: كان أخاه. وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه. وقال عطاء: كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال؛ فقتله لينكحها. كذا في «البحر» . وأول هذه القصة، قوله سبحانه وتعالى الآتي:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها} وإن كان مؤخرا في التلاوة، فحق (2) ترتيبها أن يقال:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} إلخ. {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلخ. {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} إلخ. وقوم موسى أتباعه وأشياعه.
فإن قلت: إذا كان حق الترتيب هكذا، فما وجه عدول التنزيل عنه؟
قلت: وجهه أنه لما ذكر سابقا خبائثهم وجناياتهم ووبخوا عليها، ناسب أن يقدم في هذه القصة ما هو من قبائحهم، وهو تعنتهم على موسى، لتتصل قبائحهم بعضها ببعض. اه. من «الخازن» .
روي عن ابن عباس، وسائر المفسرين (3): أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل
(1) روح البيان.
(2)
الخازن.
(3)
المراح.
قتل ابن أخيه، أو أخاه، أو ابن عمه لكي يرثه، ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام، فاجتهد موسى في تعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه؟ فسأله فأوحى الله إليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فتعجبوا من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت البقرة لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين، ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها فذبحوها، وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فصار المقتول حيا وعين لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية، فقتلوه قودا، فلم يعط من ماله شيئا، ولم يورث قاتل بعده.
وقد روى الحسن مرفوعا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده، لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم)(1) وإنّما اختصّ البقر من سائر الحيوانات، لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله، فاختبروا بذلك إذ هذا من الابتلاء العظيم، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه؛ أو لأن أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارا بأمه، كما سيأتي.
وقرأ الجمهور (2): {يَأْمُرُكُمْ} بضم الراء، وعن أبي عمرو السكون والاختلاس، وإبدال الهمزة ألفا {قالُوا} كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ هل سارعوا إلى الامتثال أولا؟ فقيل: قالوا: {أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا} ؛ أي: أتجعلنا مكان هزء وسخرية، وتستهزىء بنا وتلعب بنا يا موسى؟ حيث نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة، ولا جامع بينهما، وإنما قالوا ذلك: لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة، وإخباره بقاتله. قال بعض العلماء: كان ذلك هفوة منهم وجهالة، فما انقادوا للطاعة وذبحها، وقد كان الواجب عليهم أن يمتثلوا أمره ويقابلوه بالإجلال والاحترام، ثم ينتظروا ما يحدث بعد {قالَ} موسى وهو استئناف أيضا {أَعُوذُ
(1) البحر المحيط.
(2)
البحر المحيط.
بِاللَّهِ}؛ أي: امتنع بالله تعالى وألتجىء إليه من {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} ؛ أي (1): من المستهزئين بالمؤمنين؛ لأن الهزء والسخرية في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل وسفه، ودل على أن الاستهزاء بأمر الدين كبيرة، وكذلك بالمسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل، وصاحبه مستحق للوعيد، وليس المزاح من الاستهزاء. وقال علي رضي الله عنه لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حد العبوس. روي أنه قدم رجل إلى عبيد الله بن الحسين وهو قاضي الكوفة، فمازحه عبيد الله، فقال: جبتك هذه من صوف نعجة، أو من صوف كبش؟ فقال: أتجهل أيها القاضي؟ فقال له عبيد الله:
وأين وجدت المزاح جهلا؟ فتلا هذه الآية، فأعرض عنه عبيد الله؛ لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزاح من الاستهزاء، أو المعنى من المبلّغين عن الله الكذب. اه. «صاوي» .
وأصل هذه القصة (2): أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم! إني استودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل، فصارت العجلة في الغيضة عوانا؛ أي: نصفا بين المسنّة والشابّة، وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن كان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك قد ورثك عجلة استودعها في غيضة كذا، فانطلق وادع إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، أن يردها عليك،
وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمّى المذهبة؛ لحسنها وصفرتها؛ لأن صفرتها كانت صفرة زين لا صفرة شين، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها فتكلّمت البقرة بإذن الله تعالى، وقالت: أيها الفتى البارّ لوالدته! اركبني، فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمّي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
بني إسرائيل، لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه، فقالت له: إنك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة. قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكا ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف برّه بأمه، وكان الله به خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير واشترط عليك رضى والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضى أمي، فردّها إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق فأتى الملك، فقال: أستأمرت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا انقصها من ستة على أن استأمرها، فقال الملك إني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك، فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي؛ ليختبرك، فإذا أتى فقل له: أتأمر أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل، فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة، فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلا بملىء مسكها دنانير، فأمسكوها، وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها مكافأة له على برّه بوالدته، فضلا منه ورحمة. والوجه في تعيين البقرة دون غيرها من البهائم؛ أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل، وحبّب إليهم ذلك، كما قال تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} ثم تابوا وعادوا إلى طاعة الله تعالى وعبادته، فأراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة، وانقلاع ما كان منهم في قلوبهم وقيل: كان أفضل قرابينهم حينئذ البقر، فأمروا بذبح البقرة؛ ليجعل الله التقرب لهم بما هو أفضل عندهم.
وفي هذه القصة (1) بيان نوع آخر من مساويهم، لنعتبر به ونتعظ، وفيه من
(1) المراغي.