المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال ابن التمجيد (1): إنّ المسلمين لمّا قالوا لهم: لا - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: قال ابن التمجيد (1): إنّ المسلمين لمّا قالوا لهم: لا

قال ابن التمجيد (1): إنّ المسلمين لمّا قالوا لهم: لا تفسدوا في الأرض، توهّموا أنّ المسلمين أرادوا بذلك أنّهم يخلطون الإفساد بالإصلاح، فأجابوا بأنّهم مقصورون على الإصلاح، لا يتجاوزون منه إلى صفة الإفساد، فيلزم منه عدم الخلط. فهو من باب قصر الإفراد، حيث توهّموا أنّ المؤمنين اعتقدوا الشركة.

فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدلّ على القصر القلبيّ، وهو قوله تعالى:{أَلا} أيّها المؤمنون انتبهوا، واعلموا {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فإنّهم لمّا أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين، ونفوا الأخرى، واعتقدوا ذلك، قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه، ونفى عنهم ما أثبتوا.

والمعنى: هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، لا يتخطّون منه إلى صفة الإصلاح، من باب قصر الشيء على الحكم، فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد، ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين.

ثمّ استدرك بقوله: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} أنّهم مفسدون، للإيذان بأنّ كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة، لكن لا حسّ لهم حتى يدركوه. قال الشيخ في «تفسيره»: ذكر الشعور بإزاء الفساد أوفق؛ لأنّه كالمحسوس عادة، ثمّ فيه بيان شرف المؤمنين، حيث تولّى جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين.

‌12

- والحاصل: أنّهم أكّدوا ذلك بإنّما المفيدة للحصر، وبالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار. فردّ الله سبحانه عليهم بجملة مؤكّدة بأربع مؤكّدات:{أَلا} التي للتنبيه و {إن} وضمير الفصل، وتعريف الخبر، حيث قال:{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} ؛ أي: إنّهم وحدهم هم المفسدون، لا من أوماؤا إليهم من المؤمنين، ولكن لا يعلمون أنّ ما فعلوه فساد؛ لأنّه أصبح غريزة في طباعهم؛ بما تمكّن فيها من الشّبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم، والثقة بآرائهم. أو لا يعلمون أنّ الله تعالى يطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على فسادهم.

‌13

- {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} من طرف المسلمين بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن

(1) روح البيان.

ص: 176

المنكر إتماما للنصح وإكمالا للإرشاد، فإنّ كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عمّا لا ينبغي، وهو المقصود بقوله تعالى:{لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} ، والإتيان بما ينبغي، وهو المطلوب بقوله تعالى:{آمِنُوا} حذف المؤمن به؛ لظهوره؛ أي: آمنوا بالله وباليوم الآخر، أو أريد: فعلوا الإيمان.

والمعنى: أي (1) وإذا قال لهؤلاء المنافقين النبيّ صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه بطريق الأمر بالمعروف نصيحة لهم: آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر إيمانا صادقا، لا يشوبه نفاق ولا رياء. {كَما آمَنَ النَّاسُ}؛ أي: كما آمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله. والكاف في محل النصب على أنّه نعت لمصدر مؤكّد محذوف؛ أي: آمنوا إيمانا مماثلا لإيمانهم، فما مصدرية أو كافّة؛ أي: حقّقوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم. واللام (2) في النَّاسُ للجنس، والمراد به:

الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، أو للعهد، والمراد به: الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو من آمن من أهل بلدتهم؛ أي: من أهل ضيعتهم: كابن سلام وأصحابه.

والمعنى: آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص، متمحّضا من شوائب النفاق، مماثلا لإيمانهم.

{قالُوا} مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر، واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان {أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} الهمزة فيه للإنكار مع الاستهزاء والسخرية، واللام فيه مشار بها إلى الناس الكاملين، أو المعهودين، أو إلى الجنس بأسره، وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد. والسفه: خفّة عقل وسخافة رأي، يورثهما قصور العقل، ويقابله الحلم والأناة. وإنّما نسبوهم إليه مع أنّهم في الغاية القاضية من الرشد، والرزانة، والوقار؛ لكمال انهماك أنفسهم في السفاهة، وتماديهم في الغواية، وكونهم ممن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا،

(1) العمدة.

(2)

روح البيان.

ص: 177

فمن حسب الضلال هدى يسمّي الهدى لا محالة ضلالا؛ أو لتحقير شأنهم، فإنّ كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء، ومنهم الموالي، كصهيب، وبلال، أو للتجلّد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس: عبد الله بن سلام وأمثاله. وقيل: إنّما سفّهوهم؛ لأنّ الصحابة أنفقوا أموالهم في سبيل الله حتى افتقروا، وتحملّوا المشاقّ، فسموهم سفهاء لذلك.

فإن قيل: كيف يصحّ النفاق مع المجاهرة بقوله: {أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} .

قلنا: فيه أقوال:

الأول: إنّ المنافقين لعنهم الله، كانوا يتكلمون بهذا الكلام في أنفسهم دون أن ينطقوا به بألسنتهم، لكن هتك الله أستارهم، وأظهر أسرارهم عقوبة على عداوتهم، وهذا كما أظهر ما أضمره أهل الإخلاص من الكلام الحسن، وإن لم يتكلموا به بالألسن؛ تحقيقا لولايتهم، قال الله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} إلى أن قال: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} ، وكان هذا في قلوبهم، فأظهره الله تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم. وهذا قول صاحب «التيسير» .

والثاني: أنّ المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك، هذا قول البغويّ.

والثالث: قول أبي السعود في «الإرشاد» حيث قال: هذا القول وإن صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم، لكن لا يقتضي كونهم مجاهرين لا منافقين، فإنّه ضرب من الكفر أنيق، وفنّ في النفاق عريق؛ لأنّه محتمل للشرّ، كما ذكر في تفسيره، وللخير بأن يحمل على ادّعاء الإيمان، كإيمان الناس، وإنكار ما اهتمّوا به من النفاق على معنى: أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا، ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرون بذلك، قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير

وعلى الأول: ردّ الله - سبحانه - ذلك عليهم بجملة مؤكّدة بأربع تأكيدات كالسابقة، حيث قال:{أَلا} فانتبهوا أيّها المؤمنون {إِنَّهُمْ} ؛ أي: إنّ المنافقين

ص: 178

القائلين ما ذكر {هُمُ السُّفَهاءُ} لا غيرهم؛ لأنّ من ركب متن الباطل كان حقيقا بالسفه بلا امتراء. {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} أنّهم هم السفهاء، ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه، والمؤمنون بإيمانهم وإخلاصهم هربوا من السفه، وغبّوا في العلم والحقّ، وهم العلماء في الحقيقة، والمستقيمون على الطريقة.

فائدة: قال أبو حيان: وإذا التقت الهمزتان، أولاهما مضمومة، والثانية مفتوحة، نحو:{السُّفَهاءُ أَلا} ففي ذلك أوجه:

أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر.

والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو.

والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية.

والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واوا.

وأجاز قوم وجها.

خامسا: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع ذلك بعضهم.

وهذا ردّ (1) ومبالغة في تجهيلهم، فإنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع، أعظم ضلالة، وأتمّ جهالة من المتوقّف المعترف بجهله، فإنّه ربّما يعذر وتنفعه الآيات والنذر. وقال النسفيّ: وإنّما ذكر هنا {لا يَعْلَمُونَ} . وفيما تقدم {لا يَشْعُرُونَ} ؛ لأنه قد ذكر السفه هنا، وهو جهل، وكان ذكر العلم أحسن طبقا له. انتهى.

وفي «الروح» : واعلم أن قوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ} في الآية الأولى: نفي

(1) روح البيان.

ص: 179

الإحساس عنهم، وفي الثانية: نفي الفطنة؛ لأنّ معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة، وفي الآية الثالثة: نفي العلم، وفي نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق، وذلك: أنّه بيّن في الأولى: أنّ في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحسّ، وفي الثانية: أنّهم لا يفطنون تنبيها على أنّ ذلك لازم لهم؛ لأنّ من لا حسّ له لا فطنة له، وفي الثالثة: أنّهم لا يعلمون تنبيها على أنّ ذلك أيضا لازم لهم؛ لأنّ من لا فطنة له لا علم له، فإنّ العلم تابع للعقل، كما حكي: أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم عليه السلام أتى إليه جبريل عليه السلام بثلاث تحف: العلم، والحياء، والعقل. فقال: يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد، فاختار العقل. فأشار جبريل إلى العلم والحياء بالرجوع إلى مقرّهما، فقالا: إنّا كنا في عالم الأرواح مجتمعين، فلا نرضى أن يفترق بعضنا عن بعض في الأشباح أيضا، فنتبع العقل، حيث كان، فقال جبريل عليه السلام: استقرا، فاستقر العقل في الدماغ، والعلم في القلب، والحياء في العين.

فليسارع (1) العاقل إلى تحصيل العلم والمعرفة، حتى يصل إلى توحيد الفعل والصفة. قال الإمام القشيري - رحمه الله تعالى -: للعقل نجوم، وهي للشيطان رجوم، وللعلوم أقمار هي للقلوب أنوار واستبصار، وللمعارف شموس، ولها على أسرار العارفين طلوع، والعلم اللدنّي هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج، وللقلب بابان: باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام. فمثل القلب، كمثل الحوض الذي يجري فيه أنهار خمسة، فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة، بخلاف ما إذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى، فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو من كدرة، وشكّ، وشبهة، بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض الإلهيّ، فإنّه أصفى وأولى. انتهى.

(1) روح البيان.

ص: 180

قال الشيخ زين الدين الحافيّ - رحمه الله تعالى -: والعجب ممن دخل في هذه الطريقة المحمدية، وأراد أن يصل إلى الحقيقة اليقينية، وقد حصّل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعاني من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته، والإعراض عما سواه، لتنصبّ إلى قلبه العلوم اللدنية التي لو عاش ألف سنة في تدريس الاصطلاحات وتصنيفها، لا يشمّ منها رائحة، ولا يشاهد من آثارها وأنوارها لمعة. فالعلم بلا عمل عقيم، والعمل بلا علم سقيم، والعمل بالعلم صراط مستقيم. انتهى.

وعبارة المراغي هنا: (1){وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ} الذين اتبعوا قضيّة العقل، وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم، كعبد الله بن سلام وأشباهه من أحبارهم. {قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} أرادوا بالسفهاء: أتباع النبي صلى الله عليه وسلم. أمّا المهاجرون منهم: فلأنّهم عادوا قومهم وأقاربهم، وهجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم؛ ليتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ويسيروا على هديه. وأمّا الأنصار: فلأنّهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة، وتمادى في الغواية، ومن زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، وظنّ الضلال هدى أن يسمّي الهدى سفها وضلالا، كما مرّ. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ} وحدهم دون من عرّضوا بهم، ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم، واكتفوا بانتظار شفاعتهم، ولم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك المؤمنين الذين لا سلف لهم إلّا عابدي أصنام، وقد هداهم الله تعالى، وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان. {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أنّ المؤمنين سفهاء.

وقد ختمت هذه الآية بـ {لا يَعْلَمُونَ} ، وسابقتها بـ {لا يَشْعُرُونَ} ؛ لأنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالعلم اليقينيّ، والفائدة المرجوة منه، وهي السعادة في المعاش والمعاد، لا يدركها إلّا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في

(1) المراغي.

ص: 181