المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مسخهم قردة وخنازير، فأجدر بسلائلهم - الذين كانوا في عصر - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: مسخهم قردة وخنازير، فأجدر بسلائلهم - الذين كانوا في عصر

مسخهم قردة وخنازير، فأجدر بسلائلهم - الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلّل دورهم دور الأنصار - أن لا يجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يصرّوا على كفرهم، وعدم التصديق بما جاء به خوفا من أن يحل بهم ما حلّ بأسلافهم، مما لا قبل لهم به من غضب الله تعالى، فمن عهودهم التي نكثوها: أنهم اعتدوا يوم السبت. ذاك أنّ موسى عليه السلام حظّر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم، والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم؛ وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى، لكنهم عصوا أمره، وتجاوزوا حدود الدين، واعتدوا في السبت فجازاهم الله تعالى بأشد أنواع الجزاء، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني، وأنزلهم أسفل الدركات، فجعلهم

يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخسّ أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية بأنواع المنكرات جهارا عيانا بلا خجل، ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة.

أسباب النزول

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم، والعدني في مسنده من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال سلمان: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم؟ فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا

} الآية إلى قوله: {يَحْزَنُونَ} .

التفسير وأوجه القراءة

‌61

- {وَإِذْ قُلْتُمْ} ؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل! حين كنتم في التيه تأكلون من المن والسلوى، فمللتم منه، وذكرتم عيشا كان لكم بمصر، وقلتم لنبيكم عليه السلام {يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ}؛ أي: على نوع واحد من الطعام الذي هو المن والسلوى، ولن نكتفي به. وهذا (1) تذكير لجناية أخرى لأسلاف بني

(1) روح البيان.

ص: 451

إسرائيل، وكفرانهم لنعمة الله عز وجل. خاطبهم تنزيلا لهم مكان آبائهم؛ لما بينهم من الاتحاد، وكان هذا القول منهم في التيه حين سئموا من أكل المن والسلوى؛ لكونهما غير مبدلين، والإنسان إذا داوم شيئا واحدا سئمه، وتذكروا عيشهم الأول بمصر؛ لأنهم كانوا أهل فلاحة، فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا: يا موسى! لن نصبر على طعام واحد غير مبدّل بنوع آخر، والطعام ما يتغذى به. وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان؛ لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فيصيران طعاما واحدا، أو أريد بالواحد نفي التبدل والاختلاف، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدّة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها. قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا.

وفي «تفسير البغوي» والعرب تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين؛ لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقيل: المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء، فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض، لاستغناء كل واحد بنفسه، وكان فيهم أوّل من اتخذ العبيد والخدم {فَادْعُ لَنا}؛ أي: فاسأل لأجلنا {رَبَّكَ} أن يخرج لنا من نبات الأرض. ولغة بني عامر بكسر العين، جعلوا دعا من ذوات الياء، كرمى يرمي؛ والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء؛ أي: إن دعوته {يُخْرِجْ لَنَا} أي يظهر لنا ويوجد شيئا {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} ومفعول يخرج محذوف، كما قدّرنا والجزم في جواب الطلب، فإنّ دعوته سبب الإجابة؛ أي: إن تدع لنا ربك يخرج لنا شيئا مما تنبته الأرض من الحبوب والبقول، فقد سئمنا المن والسلوى وكرهناه، ونريد ما تخرجه الأرض كعادتنا في مصر. وفي قوله:{مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} (1) إسناد مجازي بإقامة القابل وهو الأرض، مقام الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، ومن تبعيضية، وما موصولة، ومن في قوله:{مِنْ بَقْلِها} بيانية واقعة موقع الحال من الضمير العائد إلى ما المحذوف؛ أي: مما تنبته الأرض، أو من ما الموصولة؛ أي: حال كون ذلك النابت من

(1) روح البيان.

ص: 452

بقول الأرض وحبوبها؛ أي: من أطايب بقولها. ويجوز أن تكون بدلا من (ما) الأولى بإعادة الجار، فمن على هذا تبعيضية، كهي في مما تنبت. والبقل: كل ما تنبته الأرض من الخضر، أو كل نبات لا يبقى له ساق، والمراد أصناف البقول التي يأكلها الناس، كالكراث، والسلق، والخص، والملوخية، والنعناع، والفجل، وشبهها {وَقِثَّائِها} وقرأ (1) يحيى بن وثاب، وطلحة بن مصرف، وغيرهما {وَقِثَّائِها} بضم القاف وهي لغة فيه. وقرأ الجمهور بكسرها وهي المشهورة، والقثاء: شيء يشبه الخيار معروف، ولكن المراد به هنا: كلّ شيء من خضرواتها، كالبطيخ، والخيار، والدباء، والقرع. فالمراد بالبقول؛ ما يؤكل ورقه من البقول، وبالقثاء؛ ما يؤكل ثمره منها، أو هو من عطف الخاص على العام، والبقل: ما ليس له ساق ضدّ الشجر {وَفُومِها} ؛ أي: حنطتها وهو الأقرب؛ لأن ذكر العدس يدلّ على أنه المراد؛ لأنه من جنسه. وقيل: هو الثوم، كما هو مرويّ عن ابن عباس، ومجاهد، وهو اختيار الكسائي لقراءة ابن مسعود {وثومها} بالثاء المثلثة؛ ولأنّ ذكر البصل يدلّ على أنه هو المراد فإنه من جنسه. قال ابن التمجيد في «حواشيه» . وحمله على الثوم أوفق من الحنطة؛ لاقتران ذكره بالبصل والعدس، فإن العدس يطبخ بالثوم، والبصل. {وَعَدَسِها} وهو حب معروف يستوى كيله ووزنه {وَبَصَلِها} بقل معروف تطيب به القدور، وإنما طلبوا (2) هذه الأنواع؛ لأنها تعين على تقوية الشهوة؛ أو لأنهم ملّوا من البقاء في التيه، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد، وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة.

وقال أبو حيان: وأحوال (3) هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة، فذكروا أولا: ما هو جامع للحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، إذ البقل منه ما هو بارد رطب، كالهندبا، ومنه ما هو حار يابس، كالكرفس والسذاب، ومنه ما هو حار

(1) البحر المحيط.

(2)

الخازن.

(3)

البحر المحيط.

ص: 453

وفيه رطوبة عرضيّة، كالنعناع. وثانيا: القثاء وهو بارد رطب. وثالثا: الثوم وهو حار يابس. ورابعا: العدس وهو بارد يابس. وخامسا: البصل وهو حار رطب، وإذا طبخ صار باردا رطبا، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة. انتهى.

وقوله: {قالَ} كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله لهم، أو موسى عليه السلام، فقيل: قال إنكارا عليهم. إلخ. والظاهر (1) عود الضمير في قال إلى موسى، ويحتمل عوده على الرب تعالى، ويؤيده {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ}. والهمزة في قوله:{أَتَسْتَبْدِلُونَ} ؛ للإنكار، والاستبدال: الاعتياض. وقرأ أبيّ {أتبدلون} وهو مجاز؛ لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى، لكن لما كان حصول التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى: أتسألون تبديل {الَّذِي هُوَ أَدْنى} ؛ أي: أتأخذون لأنفسكم، وتختارون لها الطعام الذي هو أدنى، وأخسّ من البقل وما بعدها {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}؛ أي: بدل الذي هو خير وأنفس؛ لأن الباء تدخل على المتروك دون المأخوذ، وخيريّة المن والسلوى في اللّذاذة، أو سقوط المشقة والسعي في تحصيلها، وغير ذلك. ولا كذلك الفوم، والعدس، والبصل، وأمثالها. قال بعضهم: الحنطة وإن كانت أعلى من المن والسلوى، لكن خساستها ههنا بالنسبة إلى قيمتها، وليس في الآية ما يدل على قطعها عنهم على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى. وحصول ما طلبوا مكانه؛ لتحقق الاستبدال في صورة المناوبة؛ لأنهم أرادوا بقولهم لن نصبر على طعام واحد أن يكون لهم هذا تارة وذاك أخرى.

وقرأ زهير الفرقبيّ، ويقال له: زهير الكسائيّ {أدنأ} بالهمزة.

والمعنى: أي (2) قال لهم موسى منكرا عليهم ويحكم: أتريدون استبدال الطعام الذي هو أخسّ، من البقل، والقثاء، والفوم، والبصل، عن الطعام الذي هو أنفس، وأفضل، وأعلى، الذي هو المن والسلوى، فإنه خير في اللذة، والنفع، وعدم الحاجة إلى السعي، فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا لهم: {اهْبِطُوا

(1) البحر المحيط.

(2)

العمدة.

ص: 454

مِصْرًا}؛ أي: انحدروا واخرجوا من التيه، وانزلوا إن كنتم تريدون هذه الأشياء مصرا من الأمصار، وانزلوا بلدة من البلدان؛ لأنكم في البرية فلا يوجد فيها ما تطلبون، وإنما يوجد ذلك في الأمصار والبلدان، وليس المراد هنا مصر فرعون؛ لقوله تعالى:{يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وإذا وجب عليهم دخول تلك الأرض، فكيف يجوز دخول مصر فرعون وهو الأظهر. وقيل: مصر فرعون الذي خرجتم منه، وصرفه حينئذ مع وجود السبيين، وهما: العلمية والتأنيث المعنوي لإرادة البلد، أو لسكون وسطه، كنوح، ولوط، وفيها العجمة والتعريف، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه وعبارة «الروح» هنا: والمصر: (1) البلد العظيم من مصر الشيء يمصره؛ أي: قطعه سمي به؛ لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة، وقد تسمى القرية مصرا، كما تسمى المصر قرية، وهو ينصرف ولا ينصرف، فصرف ههنا؛ لأن المراد به غير معين. وقيل:

أريد به مصر فرعون، وإنما صرف؛ لسكون وسطه، كهند، ودعد، ونوح؛ أو لتأويله بالبلد دون المدينة، فلم يوجد فيه غير العلمية. انتهى. قال أبو حيان:

فتلخّص من قراءة التنوين أن يكون مصرا غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصرا غير معين من أمصار الشام، أو معينا وهو بيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال. انتهى.

وقرأ الجمهور (2): {اهْبِطُوا} بكسر الباء، لأنه من باب ضرب. وقرىء بضم الباء على أنه من باب دخل وهما لغتان، والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصرا هنا. وقرأ الحسن، وطلحة، والأعمش، وأبان بن تغلب بغير تنوين، وبيّن كذلك في مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان {فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} تعليل للأمر بالهبوط؛ أي: فإن لكم فيه ما سألتموه من بقول الأرض ونباتها، ثم قال تعالى منبها على ضلالهم، وفسادهم، وبغيهم، وعدوانهم:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} ؛ أي: جعلت على فروع بني إسرائيل الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم {الذِّلَّةُ} ؛ أي: الذل والهوان بضرب الجزية عليهم، وإلزامهم

(1) روح البيان.

(2)

البحر المحيط.

ص: 455

إياها إلزاما لا يبرح {وَالْمَسْكَنَةُ} ؛ أي: الفقر والفاقة، وسمي الفقير مسكينا؛ لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة؛ أي: جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم، كما يضرب الطين على الحائط، فهو استعارة بالكناية، فترى اليهود وإن كانوا مياسير، كأنهم فقراء إما على الحقيقة، أو على التكلف مخافة أن تضاعف عليهم الجزية. والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الجمهور، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق، أو القائلون {ادْعُ لَنا رَبَّكَ} ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة. ذكره في «البحر» .

{وَباؤُ} ؛ أي: رجعوا {بِغَضَبٍ} وسخط عظيم كائن {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: استحقّوا الغضب واللعنة من الله تعالى بسبب طغيانهم، وكفرهم نعمة الله تعالى. وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه {ذلِكَ} المذكور من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب من الله، وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور في قوله:{بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ} ؛ أي: بسبب أن اليهود كانوا يجحدون على الاستمرار بآيات الله الباهرة؛ التي هي المعجزات الساطعة الظاهرة على يدي موسى عليه السلام؛ التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر، وما لم يعدّ، كاليد، والعصا، والضفادع، والقمّل، والجراد، أو بسبب أنهم يجحدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وينكرون صفته في التوراة، والإنجيل، وبالقرآن، وآية الرجم التي في التوراة والإنجيل {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} عندهم؛ أي: وبسبب قتلهم الأنبياء ظلما حتى عندهم، كشعياء، وزكريا، ويحيى، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام. وفائدة (1) التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل: أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق، إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحدهم عليهم السلام، فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من

(1) روح البيان.

ص: 456

المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس، والحسن رضي الله عنهم: لم يقتل قطّ من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر، فظهر أن لا تعارض بين قوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا} : وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} مع أنه يجوز أن يراد به النصرة بالحجّة وبيان الحق، وكلهم بهذا المعنى منصور. روي أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا.

فإن قلت: لم عرّف الحق هنا ونكره في آل عمران والنساء؟

قلت: لأن ما هنا لكونه وقع أولا إشارة إلى {الْحَقِّ} الذي أذن الله أن تقتل النفس به، وهو قوله:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} فكان التعريف به أولى، وهناك أريد به {بغير حق} في معتقدهم ودينهم، فكان بالتنكير أولى انتهى. من فتح الرحمن.

{ذلِكَ} المذكور من كفرهم بآيات الله العظام، وقتلهم أنبياء الله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام {بِما عَصَوْا}؛ أي: بسبب عصيانهم بترك المأمورات {وَكانُوا يَعْتَدُونَ} ؛ أي: وبسبب اعتدائهم ومجاوزتهم الحد بارتكاب المنهيات؛ أي: ذلك بسبب مجاوزتهم أمري وارتكابهم محارمي؛ أي: جرّ بهم العصيان والتمادي في العدوان إلى المشار إليه، فإن صغار الذنوب إذا دووم عليه أدت إلى كبارها، كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها، وسقم القلب بالغفلة عن الله تعالى منعهم عن إدراك لذاذة الإيمان وحلاوته؛ لأن المحموم ربما وجد طعم السّكر مرّا، فالغفلة سمّ للقلوب مهلك، فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله نفرتك عن الطعام المسموم و (ما) في قوله:

{بِما عَصَوْا} مصدرية، كما أشرنا إليه في الحل؛ أي: ذلك بعصيانهم، ولم (1) يعطف الاعتداء على العصيان؛ لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي؛ وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائما، والمعنى {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ

(1) البحر المحيط.

ص: 457