الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صنيعه، وعدم تأثره، وإن فعله فعل الجاهل بالشّرع، أو الأحمق الخالي عن العقل. والمراد (1) بها: حثّ الواعظ على تزكية النفس، والإقبال عليها بالتكميل؛ لتقوم بالحق، وتقيم غيرها، لا منع الفاسق من الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما، لا يوجب الإخلال بالآخر.
ويروى أنه كان عالم من العلماء، مؤثّر الكلام، قويّ التصرف في القلوب، وكان كثيرا ما يموت من أهل مجلسه واحد، أو اثنان من شدة تأثير وعظه. وكان في بلده عجوز لها ولد صالح، رقيق القلب، سريع الانفعال، وكانت تحترز عليه، وتمنعه من حضور مجلس الواعظ، فحضره يوما على حين غفلة منها، فوقع من أمر الله تعالى ما وقع، ثمّ إن العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق فقالت:
أتهدي الأنام ولا تهتدي
…
ألا إن ذلك لا ينفع
فيا حجر السّنّ حتى متى
…
تسنّ الحديد ولا تقطع
وأشدّ (2) ما قرّع الله سبحانه في هذا الموضع، من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أوّلا أمرهم للناس بالبرّ، مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس؛ إيهاما للناس بأنهم مبلغون عن الله ما يتحمّلونه من حججه، ومبيّنون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه،
وهم أترك الناس لذلك، وأبعدهم من نفعه، وأزهدهم فيه.
وهذا الخطاب (3) وإن كان موجها إلى اليهود، فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم، فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح، لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد.
45
- وبعد أن بيّن سبحانه
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.
(3)
المراغي.
سوء حالهم، وذكر أن العقل لم ينفعهم، والكتاب لم يذكّرهم، بيّن (1) لهم طريق التّغلّب على الأهواء والشهوات، والتخلّص من حب الرئاسة والوجاهات، فقال:{وَاسْتَعِينُوا} يا بني إسرائيل! على ترك ما تحبون من الدنيا، وعلى الدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان أثقل ثقيل عليكم؛ أي: اطلبوا المعونة والمساعدة على ذلك {بِالصَّبْرِ} ؛ أي: بحبس النفس عن الشهوات، ومنعها عنها، وبتحمّل ما يشق عليها من التكاليف الشرعية، كالصوم {وَ} بأداء {الصَّلاةِ} المفروضة التي هي عماد الدين، وجامعة لأنواع العبادات، وناهية عن الفحشاء والمنكر، أو استعينوا (2) على قضاء حوائجكم، بانتظار الظفر والفرج، توكّلا على الله تعالى، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات، لما فيه من كسر الشهوة، وتصفية النفس {وَالصَّلاةِ} ؛ أي الناهية عن الفحشاء والمنكر. وقدّم الصبر عليها؛ لأنه مقدّمة الصلاة، فإنّ من لا صبر له، لا يقدر على إمساك النفس عن الملاهي حتى يشتغل بالصلاة، فلا يمكن حصولها كاملة إلا به. اه. «كرخي»: أي: استعينوا بالتوسّل
…
الخ؛ أي: بالتوسل بالصلاة، والإلتجاء إليها حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب، وجبر المصائب، كأنهم؛ أي: بني إسرائيل، لمّا أمروا بما شقّ عليهم، لما فيه من ترك الشهوة، وترك الرياسة، والإعراض عن المال، عولجوا بذلك.
وروى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم: كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما نعي له بنت وهو في سفر، فاسترجع وقال: (عورة سترها، ومؤونة كفاها، وأجر ساقه الله، ثم تنحّى عن الطريق وصلّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} .
واعلم: أنّ الصبر (3) الحقيقيّ إنما يكون، بتذكّر وعد الله بحسن الجزاء، لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات
(1) العمدة.
(2)
روح البيان.
(3)
المراغي.
التي تشق عليها، والتفكر في أن المصائب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له، والتسليم لأمره. والاستعانة به تكون باتباع الأوامر، واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها، وحرمانها لذاتها، وتكون بالصلاة؛ لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر؛ ولما فيها من مراقبة الله تعالى في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجي فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات.
{وَإِنَّها} ؛ أي: وإن الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} ؛ أي: لثقيلة شاقّة {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} ؛ أي: إلا على المتواضعين المستكينين إلى طاعة الله تعالى، الخائفين من سطوته، المصدّقين بوعده ووعيده. وقال ابن جرير: معنى الآية (1): واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين؛ أي: المتواضعين المستكينين لطاعة الله، المتذللين من مخافته. هكذا قال والظاهر (2): أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، فإنها عامة لهم ولغيرهم. والله أعلم.
وفي «البحر» : أنّ الضمير في {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} عائدة على الصلاة، هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية، أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. وقيل: يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله:{وَاسْتَعِينُوا} فيكون مثل: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} ؛ أي: العدل أقرب. وقيل: غير ذلك، وأظهرها ما بدأنا به أولا. انتهى.
والاستثناء في قوله (3): {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} مفرغ؛ لأن المعنى: وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين؛ أي: وإن الصلاة لشاقّة صعبة الاحتمال، إلا على المخبتين لله، الخائفين من شديد عقابه، وإنما (4) لم تثقل على هؤلاء؛ لأنهم
(1) الطبري.
(2)
ابن كثير.
(3)
البحر المحيط.
(4)
روح البيان.