المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أولا، ورأى الباقون أنهم ماتوا، ويسمّى هذا رؤية الموت مجازا. - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أولا، ورأى الباقون أنهم ماتوا، ويسمّى هذا رؤية الموت مجازا.

أولا، ورأى الباقون أنهم ماتوا، ويسمّى هذا رؤية الموت مجازا. وسيأتي (1) في الأعراف أنهم ماتوا بالرجفة؛ أي: الزلزلة، ويمكن الجمع بينهما، بأنه حصل لهم الجميع. انتهى. من «الفتوحات». وقال الواحديّ: وإنما (2) أخذتهم الصاعقة؛ لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يريهم ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليهم، فلهذا عاقبهم الله تعالى. وهذه الآية موبخة للمعاصرين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، على مخالفة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم موسى، مع ما أتى به من المعجزات الباهرة. وفي التوراة: إن طائفة (3) منهم قالوا: لماذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا، وشاع ذلك في بني إسرائيل، وقالوا لموسى بعد موت هارون: إنّ نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم، وإسحاق، فتعمم الشعب جميعه، وأنت لست أفضل منه، فلا يحقّ لك أن تسودنا بلا مزيّة، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذهم إلى خيمة العهد، فانشقت الأرض، وابتلعت طائفة منهم، وجاءت نار من الجانب الآخر، فأخذت الباقين. اه.

وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى، يتمرّدون، ويعاندون، وسوط العذاب يصبّ عليهم صبا، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض، وسلّطت عليهم هوام الأرض وحشراتها، حتى فتكت بالعدد العديد، والخلق الكثير، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعاندوها

‌56

- {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ} وأحييناكم {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} وحرقكم بتلك النار الصاعقة، وموتكم يوما وليلة، وقاموا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيا! وعاشوا بعد ذلك؛ لأنهم (4) لما ماتوا، جعل موسى يبكي ويتضرع إلى الله، ويقول: يا رب! إنهم خرجوا معي وهم أحياء، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلا بعد

(1) الفتوحات.

(2)

الواحدي.

(3)

التوراة.

(4)

كرخي.

ص: 415

رجل، بعد ما مكثوا ميّتين يوما وليلة؛ وذلك لإظهار آثار القدرة؛ وليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يحيوا إلى يوم القيامة.

وقيّد البعث بقوله (1): {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} مع أنه إنما يكون بعد الموت، لما أنه قد يكون من الإغماء، أو من النوم. قال قتادة: أحياهم، ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكان ذلك الموت بلا أجل، وكانت تلك الموتة لهم، كالسّكتة لغيرهم قبل انقضاء آجالهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة. اه.

فإن قلت: كيف يجوز أن يكلّفهم، وقد أماتهم؟ فإن جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثوا بعد الموت؟.

قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة، هو الإماتة ثم الإحياء، وإنما منع ذلك من التكليف، لأنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ومعرفة ما في الجنة من اللذات، وما في النار من الآلام، وبعد العلم الضروري لا تكليف، فإذا كان المانع هو هذا، لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصعقة، أن لا يكون قد اضطرهم، وإذا كان كذلك صحّ أن يكلفوا من بعد، ويكون موتهم، ثم الإحياء بمنزلة النوم، أو بمنزلة الإغماء {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}؛ أي: لكي تشكروا الله سبحانه وتعالى، نعمة إحيائه لكم بعد موتكم بالصاعقة بالتوحيد والطاعة، أو لعلكم تشكرون وقت مشاهدتكم بأس الله بالصاعقة، نعمة الإيمان التي كفرتموها بقولكم:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فإن ترك النعمة لأجل طلب الزيادة كفران لها؛ أي: لعلكم تشكرون نعمة الإيمان، فلا تعودون إلى اقتراح شيء بعد ظهور المعجزة.

وفي «المراغي» (2): يرى بعض المفسرين: أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة، أو غيرها؛ ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبيّة لغيرهم. ويرى آخرون، أن المراد بالبعث: كثرة النسل؛ أي: إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتّى الأسباب، وظنّ أنهم ينقرضون، بارك الله في

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

ص: 416

نسلهم؛ ليعدّ الشعب بالبلاء السابق، للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتّع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها. وإنما قصّ الله سبحانه علينا هذا القصص، ووجهه إلى من كان من اليهود في عصر التنزيل؛ لبيان وحدة الأمة، وأن ما يبلوها به من الحسنات والسيئات، وما يجازيها به من النعم والنقم، إنما هو لمعنى فيها يسوّغ أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق، كأنّه وقع منه، ليعلم الناس أنّ الأمم متكافلة، سعادة الفرد منها، مرتبطة بسعادة سائر الأفراد، وشقاؤه بشقائهم، ويتوقّع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة، وإن لم يفعلها هو، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وفي هذا التكافل رقيّ الأمة، وتقدمها في المدنية والحضارة، إذ يحملها على التعاون في البأساء والضراء، فتحوز قصب السبق بين الأمم. وأصل (1) هذه القصة: أنّ موسى عليه السلام، لمّا رجع من الطور إلى قومه، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه والسامري ما قال، وأحرق العجل وألقاه في البحر، وندم القوم على ما فعلوا، وقالوا:{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} أمر الله سبحانه موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين من قومه من خيارهم، فلما خرجوا إلى الطور، قالوا لموسى: سل ربنا حتى يسمعنا كلامه؟ فسأل موسى عليه السلام ذلك، فأجابه الله، ولما دنا من الجبل، وقع عليه عمود من الغمام، وتغشّى الجبل كله، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه، وقال للقوم: ادخلوا، فكلم الله موسى يأمره وينهاه، وكلما كلمه تعالى أوقع على جبهته نورا ساطعا، لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه، وسمعوا كلامه تعالى مع موسى، افعل لا تفعل، فعند ذلك طمعوا في الرؤية، وقالوا ما قالوا، فأخذتهم الصاعقة، فخرّوا صعقين ميتين يوما وليلة، فلمّا ماتوا جميعا، جعل موسى يبكي ويتضرّع رافعا يديه إلى السماء يدعو، ويقول: يا إلهي! اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم، وماذا أقول لهم إذا أتيتهم، وقد

(1) روح البيان.

ص: 417

أهلكت خيارهم، لو شئت أهلكتهم قبل هذا اليوم مع أصحاب العجل، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فلم يزل يناشد ربّه حتى أحياهم الله سبحانه، وردّ إليهم أرواحهم، وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم.

قالوا: إن موسى (1) عليه السلام، سأل الرؤية في المرة الأولى في الطور، ولم يمت، لأن صعقته لم تكن موتا، ولكن غشية، بدليل قوله تعالى:{فَلَمَّا أَفاقَ} وسأل قومه في المرة الثانية، حين خرجوا للاعتذار وماتوا، وذلك؛ لأنّ سؤال موسى كان اشتياقا وافتقارا، وسؤال قومه كان تكذيبا واجتراء، ولم يسألوا سؤال استرشاد، بل سؤال تعنّت، فإنهم ظنّوا أنه تعالى يشبه الأجسام، وطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات، والأحياز المقابلة للرائي، وهي محال. وليس في الآية دليل على نفي الرؤية، بل فيها إثباتها، وذلك أنّ موسى عليه السلام، لمّا سأله السبعون لم ينههم عن ذلك، وكذلك سأل هو ربه الرؤية، فلم ينهه عن ذلك، بل قال:{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي} وهذا تعليق بما يتصوّر، قال بعض العلماء الحكماء: الحكمة في أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وجوه:

الأول: أن الدنيا دار أعدائه؛ لأن الدنيا جنة الكافر.

الثاني: لو رآه المؤمن لقال الكافر: لو رأيته لعبدته، ولو رأوه جميعا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.

الثالث: أنّ المحبة على غيب، ليست كالمحبة على عين.

الرابع: أن الدنيا محلّ المعيشة، ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معاشهم، فتعطلت.

الخامس: أنه جعلها بالبصيرة دون البصر؛ ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين.

(1) روح البيان.

ص: 418