المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

في الثلاثة، ويجوز أن ينتصب بقوله: {تَرَكَهُمْ}. {بُكْمٌ}؛ أي: خرس عن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: في الثلاثة، ويجوز أن ينتصب بقوله: {تَرَكَهُمْ}. {بُكْمٌ}؛ أي: خرس عن

في الثلاثة، ويجوز أن ينتصب بقوله:{تَرَكَهُمْ} .

{بُكْمٌ} ؛ أي: خرس عن نطق الحقّ، لا يقولونه لمّا أبطنوا خلاف ما أظهروا، فكأنّهم لم ينطقوا. وهو جمع أبكم، والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأبكم والأخرس كلاهما بمعنى واحد، والبكم: آفة في اللسان يمنع اعتماد الصوت على مخارج الحروف.

{عُمْيٌ} ؛ أي: فاقدوا الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤدّيهم إلى الهدى، وفاقدوا البصيرة أيضا؛ لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له. فالعمى هنا مستعمل في عدم البصر والبصيرة جميعا، والعمى: فقدان البصر خلقة كان أم لا. والكلام في كل من الثلاثة على التشبيه البليغ، كما سيأتي. وهذه صفاتهم في الدنيا، ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها. قال تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} ، فلا يسمعون سلام الله، ولا يخاطبون الله، ولا يرونه، والمسلمون كانوا سامعين للحقّ قائلين بالحق، ناظرين إلى الحقّ، فيكرمون يوم القيامة بخطابه، ولقائه، وسلامه.

{فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ؛ أي: هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه، وضيّعوه، وباعوه. أو لا يرجعون عمّا هم عليه من الغيّ، والضلال، والفساد. والفاء: للدلالة على أنّ اتصافهم بالأحكام السابقة سبب تحيّرهم واحتباسهم. وهذه الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وأفادت أنّهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات، حيث استحقّوا الذمّ بتركه، وأنّ قوله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ليس بنفي الآلات، بل هو نفي تركهم استعمالها.

‌19

- ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى مثلا آخر لهم؛ زيادة في الكشف والإيضاح، فقال:{أَوْ} مثلهم في حيرتهم وترددهم ويصحّ أن تكون {أَوْ} للتنويع، أو للإبهام، أو للشكّ، أو الإباحة، أو التخيير، أو الإضراب، أو بمعنى الواو، وأحسنها الأول. قال الشوكاني عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك؛ لقصد التخيير بين المثلين؛ أي: مثّلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل

ص: 191

للشكّ، فقد توسّع فيها حتى صارت لمجرد التساوي من غير شكّ. وقيل: إنّها بمعنى الواو، قاله الفرّاء، وغيره. انتهى. وقوله:{كَصَيِّبٍ} على حذف مضاف؛ أي: صفتهم وحالهم في تردّدهم وحيرتهم، كصفة وحال أصحاب صيّب؛ أي: مطر يصوب؛ أي: ينزل من السماء، ويقع على الأرض من الصوب، وهو النزول. أصله: صيوب نظير سيّد، كما سيأتي. والكاف مرفوع المحل، معطوف على الكاف الذي في قوله:{كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} . و {أَوْ} للتخيير والتساوي.

أي: (1) كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين، والقصتان سواء في استقلال كلّ واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. وقرىء أو كصايب وهو اسم فاعل من صاب يصوب، وصيب أبلغ من صائب،

ذكره في «البحر» .

وقوله: {مِنَ السَّماءِ} متعلّق بصيّب؛ أي: كأصحاب مطر نازل من السماء.

والسماء: سقف الدنيا، وتعريفها للإيذان بأنّ انبعاث الصيّب ليس من أفق واحد، فإنّ كلّ أفق من آفاقها؛ أي: كلّ ما يحيط به كلّ أفق منها سماء على حدة.

والمعنى: أنّه صيّب عامّ نازل من غمام مطبق، آخذ بآفاق السماء. وفيه أنّ السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماؤه، لا كزعم من يزعم أنّه يأخذه من البحر.

قال الإمام: من الناس من قال: المطر إنما يتحصّل عن ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثمّ ينزل مرة أخرى، وأبطل الله ذلك المذهب هنا، بأن بيّن أنّ ذلك الصيب نزل من السماء.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ تحت العرش بحرا ينزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله، فيغربله، فليس من قطرة تقطر، إلّا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة، إلّا بكيل معلوم، ووزن

(1) روح البيان.

ص: 192