المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ ‌ ‌كتاب الجهاد (1)   مصدر: جاهد، أي بالغ في قتال عدوه (2) - حاشية الروض المربع لابن قاسم - جـ ٤

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌كره إخراج تراب الحرم، وحجارته

- ‌لا يشرع صعود جبل الرحمة

- ‌«من وقف بعرفة، ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه»

- ‌ الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس

- ‌«من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج»

- ‌ يخطب الإمام بمنى يوم النحر

- ‌السنة أن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف

- ‌تضمن حجه ست وقفات للدعاء

- ‌إن أخطأ الناس، فوقفوا في الثامن، أو العاشر أجزأهم

-

- ‌كتاب الجهاد

- ‌يقسم فاضل بين أحرار المسلمين

- ‌ أخذ الجزية من جميع الكفار

- ‌فصل في أحكام أهل الذمة

- ‌ليس لكافر دخول مسجد، ولو أذن له مسلم

-

- ‌كتاب البيع

- ‌ لفظ الإيجاب والقبول، يشتمل على صور العقد

- ‌ الخامس (أن يكون) المعقود عليه (مقدورًا على تسليمه)

- ‌ يجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ

- ‌ السابع (أن يكون الثمن معلومًا) للمتعاقدين

- ‌ البيعتان في بيعة هو الشرطان في البيعة

- ‌«الثاني» ما يصح معه البيع

- ‌باب الخياروقبض المبيع والإقالة

- ‌ يجوز (لمن له الخيار الفسخ

- ‌ ما لم يعلم عيبه بدون كسره

- ‌باب بيع الأصول والثمار

الفصل: ‌ ‌ ‌ ‌كتاب الجهاد (1)   مصدر: جاهد، أي بالغ في قتال عدوه (2)

‌كتاب الجهاد

(1)

مصدر: جاهد، أي بالغ في قتال عدوه (2) وشرعا: قتال الكفار (3) .

(1) ختم به العبادات لأنه أفضل تطوع البدن، ولا يخفى أن له مناسبة خاصة بالعبادات، وعده بعضهم ركنًا سادسًا لدين الإسلام، فلذا أوردوه بعد أركان الإسلام الخمسة، وإن كان أتبعه بعض المصنفين بالحدود لإخلاء العالم من الفساد، وقال الوزير: وحيث أن الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج تحتاج إلى طمأنينة وظهور يد لإقامة ذلك، والمدافعة لمن نهى عنه من المشركين، كان الجهاد لازما فتعين ذكر علمه عقبه، وهو مشروع بالكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وفعله صلى الله عليه وسلم وأمر به، وقال «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق» .

(2)

فهو لغة: بذل الطاقة والوسع، وغلب في عرفهم على جهاد الكفار، وهو دعوتهم إلى الدين الحق، وقتالهم إن لم يقبلوا.

(3)

خاصة، بخلاف المسلمين من البغاة، وقطاع الطريق، وغيرهم، فبينه وبين القتال عموم مطلق، ويأتي حكم قتال البغاة وغيرهم، وجنس الجهاد كما قال ابن القيم وغيره، فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، وقال الحافظ: الجهاد شرعا، بذلك الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان، فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه

من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد، والمال، واللسان، والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد، ثم اللسان، ثم القلب.

ص: 253

(وهو فرض كفاية)(1) إذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس (2) وإلا أثم الكل (3) ويسن بتأكد مع قيام من يكفي به (4) .

(1) إجماعا لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} مالم يحضر العدو فيتعين على كل أحد، وفرض الكفاية ما قصد حصوله من غير شخص معين، فإن لم يوجد إلا واحد تعين عليه، ومعنى الكفاية هنا: نهوض قوم يكفون في قتالهم جندا، كان لهم دواوين أو أعدوا أنفسهم له تبرعًا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة به، ويكون بالثغور من يدفع العدو عن أهلها.

(2)

أي سقط فرض الجهاد عن باقي الناس الذين لا يقومون به لقوله {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وأصحابه، ولم يخرج قط للغزو إلا ترك بعض الناس، فاقتضى كونه فرض كفاية، إذا قام به البعض يكون سنة في حق الباقين، وإذا فعله الجميع كان كله فرضا، قال الشيخ: لعله إذا فعلوه جميعًا، فإنه لا خلاف فيه.

(3)

أي وإن لم يقم بجهاد الكفار أحد من المسلمين أثم كل المسلمين بتركه.

(4)

باتفاق الأئمة، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه يجب على أهل الثغر أن يقاتلوا من يليهم من الكفار، فإن عجزوا ساعدهم من يليهم، ويكون ذلك على الأقرب فالأقرب ممن يلي ذلك الثغر، وصار فرض عين إن لم يكن عذر، والأمر في ذلك مبني على غلبة الظن أن الغير يقوم به.

ص: 254

وهو أفضل متطوع به (1) .

(1) قال أحمد: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وقال الشيخ: اتفق العلماء فيما أعلمه أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد، وفي الصحيحين «لغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها» وفيهما «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد، وقيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: «مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» والأحاديث متظاهرة بذلك.

وهو سنام العبادة، وذروة الإسلام، وهو المحك، والدليل المفرق بين المحب والمدعي، فمن صدق المحب بذل مهجته وماله لربه، حتى يود لو أن له بكل شعرة نفسًا بذلها في مرضاته، ويود أن لو قتل ثم أحيى، ثم قتل ثم أحيي، قد سلم نفسه لمشتريها، وعلم أن لا سبيل إلى أخذ تلك السلعة الغالية إلا ببذل ثمنها {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} الآية، ففيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، وفيه إحدى الحسنين، إما النصر والظفر، وما الشهادة والجنة.

وفضله عظيم، كيف وحاصله بذل أعز المحبوبات، وإدخال أعظم المشقات على النفس، ابتغاء مرضاة الله، وتقربا إليه، ونفعه يعم المسلمين كلهم، وغيره لا يساويه في نفعه وخطره، فلا يساويه في فضله، والشهادة فيه تكفر الذنوب غير الدين، لقوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله: أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتبسا في سبيل الله؟ قال: «نعم إلا الدين» .

وقال الآجري: هذا إنما هو لمن تهاون في قضاء دينه، أما من استدان دينا وأنفقه في واجب عليه، أو في مشروع، من غير سرف ولا تبذير، ثم لم يمكنه قضاؤه بعد ذلك، فإن الله يقضيه عنه، مات أو قتل، قال الشيخ: وغير مظالم العباد

كقتل، وظلم، وزكاة، وحج، وغيرها، ولا يسقط حق الآدمي من دم، أو مال، أو عرض، بالحج إجماعًا، ولا بالجهاد.

ص: 255

ثم النفقة فيه (1)(ويجب) الجهاد (2) .

(1) أي في الجهاد، وفي الاختيارات، من عجز عنه ببدنه، وقدر عليه بماله، وجب عليه الجهاد بماله، نص عليه وقطع به القاضي في أحكام القرآن، عند قوله:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها، كما تجب النفقات والزكاة.

قال الشيخ: سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه، وقد تعين الجهاد؟ فقلت: من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين، كنفقة النفس، والزوجة، والولد الفقير، ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه، كالعبادات من الحج والكفارات، ومنها ما يقدم عليه إلا إذا طولب به، كصدقة الفطر، فإن كان الجهاد المتعين لدفع الضرر كما إذا حضره العدو، أو حضر الصف، قدم على وفاء الدين، كالنفقة وأولى، وإن كان استنفار الإمام، فقضاء الدين أولى، إذ الإمام لا ينبغي له استنفار المدين مع الاستغناء عنه، ولذلك قلت: لو ضاق المال عن إطعام جياع، والجهاد الذي يتضرر بتركه، قدمنا الجهاد، وإن مات الجياع، وقلت أيضا: إذا كان الغرماء يجاهدون بالمال الذي يستوفونه، فالواجب وفاؤهم، لتحصيل المصلحتين، الوفاء والجهاد، ونصوص أحمد توافق ما كتبته.

(2)

أي عينا على ذكر، مسلم، حر، مكلف، صحيح، ولو أعشى أو أعور، واجد -بملك، أو بذل إمام- ما يكفيه وأهله في غيبته، ومع مسافة قصر ما يحمله بلا خلاف، لقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} وقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ

مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} لأن هذه الأعذار تمنع من الجهاد، ولا يجب على أنثى بلا نزاع، ويلزم العاجز ببدنه في ماله، اختاره الشيخ وغيره.

ص: 256

(إذا حضره) أي حضر صف القتال (أو حضر بلده عدو)(1) أو احتيج إليه (2)(أو استنفره الإمام) حيث لا عذر له (3) .

(1) أي يجب عليه الجهاد عينًا إن لم يكن عذر بلا نزاع، وإن كانت المقاتلة أقل من النصف، فإنهم لو انصرفوا استولوا على الحريم، وهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، قال الشيخ: جهاد الدفع للكفار متعين على كل أحد.

وقال: إذا هجم العدو، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة، واجب إجماعا وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا، وهو خير مما في المختصرات، لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية أولا؟

(2)

أي في القتال والمدافعة، تعين عليه ولو بعد، إن لم يكن عذر، لدعاء الحاجة إليه، وقتال الدفع، مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا.

(3)

أي طلبه الإمام أو نائبه للخروج للقتال تعين عليه، ولم يجز لأحد أن يتخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ أهل أو مال ونحو ذلك، بلا نزاع، وذكر الشيخ حديث عبادة «على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وأثره عليه» ، قال: فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر، وهذا نص في وجوبه مع الإعسار، بخلاف الحج، وهذا في قتال الطلب، وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا

فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب من دفعه بعد الإيمان فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان.

ص: 257

لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (1) وقوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} (2) وإذا نودي: الصلاة جامعة (3) لحادثة يشاور فيها، لم يتأخر أحدٌ بلا عذر (4) .

(1) أي ( {إِذَا لَقِيتُمْ} ) أيها المسلمون {فئة} أي جماعة كافرة {فَاثْبُتُوا} لقتالهم ووطنوا أنفسكم للقائهم، {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا} أي ادعوه بالنصر والظفر بهم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي كونوا على رجاء الفلاح {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} يعني في أمر الجهاد والثبات {وَلا تَنَازَعُوا} أي لا تختلفوا {فَتَفْشَلُوا} تجبنوا وتضعفوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} جرأتكم وجدكم وحدتكم {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *} وهذه تعليم من الله لعباده آداب اللقاء، وطريق الشجاعة عند مواجهة العدو.

(2)

{انْفِرُوا} أي اخرجوا {فِي سَبِيلِ اللهِ} لجهاد عدوكم {اثَّاقَلْتُمْ} أي تثاقلتم، وتباطأتم، وتكاسلتم، وملتم (إِلَى) المقام في {الأَرْضِ} في الدعة والخفض وطيب الثمار، وكانت في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ *} كزاد الراكب، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، فهو في سبيل الله، ويجب النفير مع كل أمير، برا كان أو فاجرا بلا نزاع، بشرط أن يحفظ المسلمين.

(3)

بنصبهما على الإغراء والحال، ويرفعهما مبتدأ وخبر، أي قيل في الجيش: الصلاة جامعة.

(4)

لوجوب الجهاد بغاية ما يمكن من بدن، ورأي، وتدبير لا سيَّما العرفاء، ورجال النجدة والرأي، قال الشيخ: الجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو

بالدعوة، والحجة، واللسان، والرأي، والتدبير، والصناعة، فيجب بغاية ما يمكنه

ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم، قال: ولا غنى لولي الأمر من المشاورة فقد أمر بها تعالى فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وقال قتادة: ما شاور قوم قط يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى رشدهم، وما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، ولم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قيل: إن الله أمر بها لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وإذا استشارهم فبين له ما يجب اتباعه من الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيما في الدين والدنيا، وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يكون مستخرج رأيه ووجهه ما كان أشبه بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى أمكن معرفة ما دل عليه كان هو الواجب، فإن لم يمكن لضيق الوقت، أو عجزا لطالب أو تكافئ الأدلة عنده، فله أن يقلد من يرتضي عمله ودينه، هذا أقوى الأقوال.

ص: 258

(وتمام الرباط أربعون يومًا)(1) لقوله عليه السلام «تمام الرباط أربعون يوما» (2) .

(1) أي كماله المستحق عليه الأجر الجزيل، وإلا فيؤجر على ما دون الأربعين كما سيأتي، والرباط من توابع الجهاد في سبيل الله، ولزوم الثغور من أفضل الأعمال.

(2)

وعن أبي هريرة مرفوعًا، «من رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط» رواه سعيد، ونص عليه أحمد، وجزم به غير واحد، وفي السنن «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» ولمسلم «رباط يوم وليلة» وفي لفظ:«ليلة» خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات أجري عليه عمله ورزقه، وأمن من الفتان، وفي الصحيح «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» .

وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود، وفضائل الرباط في سبيل الله كثيرة، وتظاهرت الأحاديث بالترغيب فيه، وكثرة الثواب، وهو أفضل من المجاورة بمكة، حكاه الشيخ إجماعًا، وقال: المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، بلا نزاع، لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، وقال تعالى:{لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ} وكذا الحرس في سبيل الله، ثوابه عظيم للأخبار ولعظيم نفعه.

ص: 259

رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب (1) والرباط لزوم ثغر (2) لجهاد مقويا للمسلمين (3) وأقله ساعة (4) وأفضله بأشد الثغور خوفا (5) وكره نقل أهله إلى مخوف (6) .

(1) أبو الشيخ هو الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حبان الأصبهاني.

(2)

وفي النهاية: الرباط في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها. اهـ والثغر كل مكان يخيف أهله والعدو أو يخيفهم وسمي المقام بالثغر رباطا، لأن هؤلاء يربطون خيولهم، وهؤلاء يربطون خيولهم.

(3)

فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات.

(4)

أي أقل ما يقع عليه اسم الرباط ساعة، قال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط، والأجر بحسب ذلك.

(5)

لأنه مقامه به أنفع، وأهله به أحوج.

(6)

أي نقل ذريته ونسائه إلى ثغر مخوف، مخافة الظفر بهم، وإلا فلا يكره، كأهل الثغر به بأهليهم، وإن كان مخوفًا، لأنه لا بد لهم من السكنى بهم، وإلا لخربت الثغور، وتعطلت ويجب على عاجز عن إظهار دينه، بمحل يغلب فيه حكم الكفر أو البدع المضلة، الهجرة، إحرازا لدينه وقال الوزير وغيره

اتفقوا على وجوب الهجرة عن ديار الكفر لمن قدر على ذلك، وسن لقادر على إظهار دينه بنحو دار كفر، ولا تجب من بين أهل المعاصي لقوله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» الحديث.

والهجرة الخروج من تلك الدار إلى دار الإسلام، وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، متوعد من تركها، بل فرضها الله على رسوله قبل فرض الصوم والحج، قال الشيخ: لا يسلم أحد من الشرك إلا بالمباينة لأهله لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي في أي فريق كنتم، في فريق المسلمين، أو فريق المشركين؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الآيات، وقال:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ*} والمهاجرة مصادمة الغير، ومقاطعته ومباعدته، ولأبي داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» .

ص: 260

(وإذا كان أبواه مسلمين) حرين أو أحدهما كذلك (1)(لم يجاهد تطوعًا إلا بإذنهما)(2) لقوله عليه السلام «ففيهما فجاهد» صححه الترمذي (3) .

(1) أي مسلم حر عاقل.

(2)

قال الوزير وابن رشد وغيرهما: باتفاق العلماء، إلا أن يكون عليه فرض عين، مثل أن لا يكون هناك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به.

(3)

وروي البخاري معناه من حديث ابن عمر، ولأبي داود من حديث أبي سعيد «إن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» يعني بطاعتهما بعدم الخروج في الجهاد، وذلك لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، وجمهور العلماء أنه يحرم إذا منعاه أو أحدهما يشرط كونهما مسلمين حرين، قال الوزير: ولا تصح الاستنابة في الجهاد بجعل، ولا بتبرع، ولا بأجرة عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، سواء تعين المستنيب، أو لم يتعين.

ص: 261

ولا يعتبر إذنهما لواجب (1) ولا إذن جد وجدة (2) وكذا لا يتطوع به مدين آدمي (3) لا وفاء له (4) إلا مع إذن (5) أو رهن محرز (6) أو كفيل مليءٍ (7) .

(ويتفقد الإمام) وجوبا (جيشه عند المسير)(8) .

(1) كما إذا استنفره الإمام، أو حصر العدو البلد، وإن استويا فمصلحة الجهاد أعم، إذ هي لحفظ الدين، والدفاع عن المسلمين.

(2)

لظاهر الأخبار، ولا للكافرين، لفعل الصحابة، ولا لرقيقين لعدم الولاية، ولا لمجنونين لأنه لا حكم لقولهما.

(3)

بالإضافة احترازا ممن عليه دين لله، كحج وزكاة.

(4)

بالاتفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم، وقد سأله رجل: أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتبسا في سبيل الله؟ قال: «نعم إلا الدين، كذلك قال لي جبرئيل آنفا» والجمهور على الجواز إذا خلف وفاء، كما لو كان الدين لله.

(5)

أي إذن رب الدين، فيجوز لرضاه.

(6)

أي يمكن وفاء منه، لقصة عبد الله بن حرام، وعدم ضياع حق الغريم.

(7)

أي بالدين، أو وكيل يقضيه متبرعا فيجوز، لأنه لا ضرر على رب الدين، فإن تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه، لتعلق الجهاد بعينه، فيقدم على ما في ذمته، كسائر فروض الأعيان.

(8)

فيعرض جيشه، ويتعاهد الخيل والرجال، ويلزم كل أحد من إمام ورعية

إخلاص النية لله تعالى في الطاعات كلها، من جهاد وغيره، لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، ويلزم كل أحد بذل وسعه في ذلك، ويستحب أن يدعو سرا بحضور قلب، وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال:«اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» رواه أبو داود.

ص: 262

ويمنع) من لا يصلح لحرب من رجال وخيل (1) كـ (المخذل) الذي يفند الناس عن القتال، ويزهدهم فيه (2) .

(والمرجف) كالذي يقول: هلكت سرية المسلمين (3)

ومالهم مدد أو طاقة (4) وكذا من يكاتب بأخبارنا (5) أو يرمي بيننا بفتن (6) .

(1) كفرس حطيم، وشيخ هرم، ونحو ذلك، لكونه كلاًّ على الجيش، ومضيقًا عليهم، وربما كان سببًا للهزيمة.

(2)

كالقائل: الحر شديد، أو البرد شديد، والمشقة شديدة، أو لا تؤمن هزيمة الجيش، فلا يصحبهم ولو لضرورة، قال تعالى:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} .

(3)

وتشتت أمرهم، وضعفوا.

(4)

أي بالكفار، ونحو ذلك، ويحدث بقوة الكفار، وكثرتهم، وضعفنا وقلتنا، وغير ذلك، مما يوهن عزائم الجيش، ويفت في أعضادهم.

(5)

أي ويمنع أيضا من يكاتب بأخبارنا ويفشي أسرارنا.

(6)

ومعروف بنفاق وزندقة، ويمنع صبي لم يشتد، ونساء إلا لمصلحة.

ولا يغزى مع مخذل ومرجف، ومعروف بهزيمة، أو تضييع المسلمين، ويمنع جيشه من المعاصي والفساد، ويقدم الأقوى، لحديث «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ويحرم أن يستعين بمشرك، اختاره الشيخ وغيره، وقال غير واحد: لا تختلف الرواية أنه لا يستعان بهم، لقوله «ارجع فلن أستعين بمشرك» رواه مسلم، ولأن الكافر لا يؤمن مكره وغائلته، لخبث طويته إلا لضرورة، لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم استعان بناس من المشركين في حرب خيبر، وشهد صفوان حنينًا.

والضرورة مثل كون الكفار أكثر عددًا أو يخاف منهم، وإن جوز اشترط أن يكون حسن الرأي في المسلمين، قال الشيخ: وتحرم الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين، لأن فيه أعظم الضرر، ولأنهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى، ويحرم أن يعينهم المسلمون على عدوهم إلا خوفا من شرهم، لقوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية.

ص: 263

ويعرف الأمير عليهم العرفاء (1) ويعقد لهم الألوية والرايات (2) .

(1) جمع عريف وهو القائم بأمر القبيلة أو الجماعة من الناس، كالمقدم عليهم ينظر في حالهم ويتفقدهم، ويتعرف الأمير منه أحوالهم، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل على كل عشرة عريفًا يوم خيبر، و «يعرف» بضم المثناة التحتية مضارع «عرف» المشدد ويؤمر في كل ناحية أميرًا يقلده أمر الحرب، وتدبير الجهاد، ويكون من له رأي، وعقل، وخبرة بالحرب ومكائد العدو، مع أمانة، ورفق بالمسلمين، ونصح لهم، ومدار القتال على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به.

(2)

اللواء هو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، والراية بمعنى اللواء، وصرح جماعة بترادفهما، لكن روى أحمد والترمذي عن ابن عباس: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض

وينبغي أن يغاير بين ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم، ويجعل لكل طائفة شعارًا يتداعون به عند الحرب، قال سلمة: تمرونا مع أبي بكر، وشعارنا: أمت أمت.

ص: 264

ويتخير لهم المنازل (1) ويحفظ مكامنها (2) ويبعث العيون، ليتعرف حال العدو (3)(وله أن ينفل) أي يعطي زيادة على السهم (4) .

(1) أي أصلحها لهم كالخصبة، وأكثرها ماءً ومرعى.

(2)

جمع مكمن وهو المكان الذي يختفي فيه العدو، ليأمنوا هجوم العدو عليهم، ولا يغفل الحرس والطلائع، لئلا يأخذهم العدو بغتة.

(3)

ويتجسسون أخباره، ويكونون ممن لهم خبرة بالفجاج، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث الزبير يوم الأحزاب، وحذيفة أيضا وغيرهما، وينبغي أن يبتدئ الإمام بترتيب قوم في أطراف البلاد، يكفون من بإزائهم، من المشركين، ويأمر بعمر حصونهم، وحفر خنادقهم، وجميع مصالحهم، لأن أهم الأمور الأمن، ويجوز أن يجعل مالا لمن يعمل ما فيه غناء، أو يدل على طريق، أو قلعة أو ماء ونحوه، وبلا شرط، ويعد الصابر في القتال بأجر ونفل، ويف الجيش، لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ *} .

ولأن فيه ربط الجيش بعضه ببعض، ويجعل في كل جنبة كفوا، فقد جعل صلى الله عليه وسلم خالدا عن إحدى الجنبتين، والزبير على الأخرى، وأبا عبيدة على الساقة، ولأنه أحوط في الحرب، وأبلغ في إرهاب العدو.

(4)

أي المستحق مع سائر الجيوش، لعنايته، وقتاله، وغير ذلك، مأخوذ من النفل وهو الزيادة، ومنه نفل الصلاة، وجمهور العلماء على جوازه قال:

الشيخ: وعلى القول الصحيح أن يقول: من أخذ شيئا فهو له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما قال ذلك في غزوة بدر، لمصلحة راجحة على المفسدة، وكل ما دل على الإذن كهو، وأما إذا لم يأذن، أو أذن إذنا غير جائر، فللإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة، متحريا للعدل في ذلك.

ومن حرم على المسلمين جميع الغنائم، والحالة هذه، أو أباح للإمام أن يفعل فيها ما يشاء، فقد تقابل الطرفان، ودين الله وسط، واستمر فعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده على قسمة الغنائم، والإذن قد يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال، وظفر العدو بهم، ولأن الغزاة إذا اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فقسمتها بينهم هي العدل والإنصاف.

ص: 265

(في بدايته) أي عند دخوله أرض العدو (1) ويبعث سرية تغير، ويجعل لها (الربع) فأقل (بعد الخمس (2) وفي الرجعة) أي إذا رجع من أرض العدو (3) وبعث سرية (4) ويجعل لها (الثلث) فأقل (بعده) أي بعد الخمس (5) .

(1) وذلك أنه إذا دخل أمير دار حرب، بعث سرية تغير وإذا رجع بعث سرية أخرى، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما وجب لها، وقسم الباقي في الكل.

(2)

مما غنموا، ويقسم الباقي في الجيش كله، للخبر الآتي.

(3)

الثلث مما غنموا بعد الخمس، إذا أوقعوا بالعدو مرة ثانية، وزيد في الرجعة على البدأة لمشقة الرجعة، لأجل ما لحق الجيش من الكلال، وعدم الرغبة في القتال.

(4)

بعد القفول تغير على العدو.

(5)

وهذا مذهب جمهور أهل العلم.

ص: 266

ويقسم الباقي في الجيش كله (1) لحديث حبيب بن مسلمة: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة» رواه أبو داود (2)(ويلزم الجيش طاعته)(3) والنصح (والصبر معه)(4) .

(1) أي يقسم ما بقي بعد الخمس والتنفيل في الجيش كله، ومنهم السرية

المنفلة.

(2)

وغيره، ورواه ابن ماجه بمعناه وعن عبادة بن الصامت مرفوعًا نحوه رواه الترمذي وغيره.

وقال شيخ الإسلام: كان صلى الله عليه وسلم ينفل السرية الربع، وإذا رجعوا الثلث بعد الخمس، وقال: ويجوز أن ينفل السرية من أربعة الأخماس، وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض، ويأتي حديث ابن عمر وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض السرايا، قال: ويجوز أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية، كسرية تسري من الجيش، أو رجل صعد على حصن ففتحه، أو حمل على مقدم العدو فقتله، ونحو ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه يفعلون ذلك.

(3)

أي طاعة ولي أمرهم، والطاعة والانقياد، وهو امتثال أمره، ما لم يأمر

بمعصية.

(4)

في اللقاء، وأرض العدو لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان، وجب على المسلمين الحاضرين الثبات، وحرم عليهم الانصراف والفرار، إذ قد تعين عليهم إلا أن يكون متحرفًا لقتال، أو متحيزًا إلى فئة، أو يكون الواحد مع ثلاثة، أو المائة مع ثلاثمائة.

وقال ابن رشد: لا يجوز الفرار عن الضعف إجماعًا لقوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وذهب مالك إلى أن الضعف إنما يعتبر في القوة،

لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن واحد، إذا كان أعتق جوادًا منه، وأجود سلاحًا وأشد قوة، وهو مع ظن تلف أولى من الثبات، ويسن الثبات مع عدم ظن التلف، والقتال مع ظنه، فهما أولى من الفرار، وكذا قال الشيخ وغيره.

وقال الشيخ: لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب، فالأول بأن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين، فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا، ومثله لو هجم عدو على بلاد المسلمين، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم، والثاني لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة، أو قبلها فقبلها وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقا، إلا لمتحرف أو متحيز وقال: يسن انغماسه في العدو لمنفعة المسلمين، وإلا

نهي عنه، وهو من الهلكة وإن ألقي في مركبهم نار فعلوا ما يرون السلامة فيه بلا نزاع.

ص: 267

(1) أي وأطيعوا أولي الأمر منكم، وهم أمراء المسلمين، في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده، ولقوله صلى الله عليه وسلم «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» رواه النسائي، ولا نزاع في وجوب طاعته ما لم يأمر بمعصية، ولا نزاع في وجوب الغزو معه، برًّا كان أو فاجرًا، لحديث أبي هريرة مرفوعًا «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برًّا كان أو فاجرًا» رواه أبو داود، وفي الصحيح «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» .

وفي الصحيحين من حديث عبادة: بايعناه على السمع والطاعة، في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروًا كفرًا بواحًا، عندكم، فيه من الله برهان، ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه مطلقًا، وإلى ظهور الكفار على المسلمين، واستئصالهم وإعلاء كلمة الكفر.

ص: 268

(ولا يجوز) التعلف والاحتطاب و (الغزو إلا بإذنه (1) إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه) بفتح اللام أي شره وأذاه (2) لأن المصلحة تتعين في قتاله إذًا (3) ويجوز تبييت الكفار (4) .

(1) وكذا خروج من عسكر، وتعجيل، وبراز، وإحداث أمر إلا بإذنه، لأنه أعرف بحال الناس، وحال العدو، وقوتهم لقوله تعالى:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قال ابن رشد: اتفقوا على محاربة جميع المشركين، لقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} وقال: شرط الحرب بلوغ الدعوة باتفاق، أي لا تجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجمع عليه بين المسلمين لقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال: «فادعهم إلى الإسلام» .

(2)

فلا يحتاجون إلى الإذن إذًا، لأن دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا.

(3)

لا يشترط فيه الإذن ولا غيره، بل يجب الدفع بحسب الإمكان، ولا شيء بعد الإيمان أوجب من دفع الصائل الذي يفسد الدين والدنيا.

(4)

بلا نزاع، وهو كبسهم، وقلتهم وهم غارون، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبيت العدو، ويغير عليهم مع الغدوات.

ص: 269

ورميهم بالمنجنيق (1) ولو قتل بلا قصد صبيا ونحوه (2) .

(1) فإنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية، ويجوز رميهم بنار، وقطع سابلة، وماء، وهدم عامر، وقال الشيخ: اتفقوا على جواز إتلاف الشجر والزرع الذي للكفار، إذا فعلوا بنا مثل ذلك، ولم نقدر عليهم إلا به، وقال: اتفقوا على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر، عند الحاجة إليه، وليس ذلك بأولى من قتل النفوس، وما أمكن غير ذلك، وفي الإنصاف، ولا يجوز عقر دابة، ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه، وذكره الموفق وغيره إجماعا في دجاجة وطير، واختار جواز عقر دواب قتالهم، إن عجز المسلمون عن سوقه، ولا يدعها لهم.

وفي البلغة: يجوز قتل ما قاتلوا عليه في تلك الحال، جزم به الموفق وغيره، وقال: لأنه يتوصل به إلى قتلهم، وهزيمتهم، وليس فيه خلاف، وإن أحرزنا دوابهم إلينا لم يجز إلا للأكل، وإن تعذر حمل متاع، ولم يشتر، فللأمير أخذه لنفسه وإحراقه، وإلا حرم، ويجوز إتلاف كتبهم المبدلة، وقيل: يجب إتلاف كفر وتبديل.

والزرع والشجر ثلاثة أصناف، ما تدعو الحاجة إلى إتلافه لغرض ما، فيجوز قطعه وحرقه، قال الموفق: بلا خلاف نعلمه، والثاني ما يتضرر المسلمون بقطعة، فيحرم قطعه وما عداهما فقيل: يجوز، وهو المذهب، وقيل: لا إلا أن لا يقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا، قال أحمد: يكافئون على فعلهم، وكذا رميهم بالنار، وفتح الماء ليغرقهم، وهدم عامرهم، وجزم الموفق وغيره بالجواز إذا عجزوا عن أخذه بغير ذلك وإلا لم يجز.

(2)

كنساء وشيوخ ورهبان، لجواز النكاية بالإجماع في جميع المشركين،

وقال ابن رشد: النكاية جائزة بطريق الإجماع، في جميع أنواع المشركين

ذكرانهم، وإناثهم، شيوخهم، وصبيانهم، صغارهم وكبارهم، إلا الرهبان، فإن قوما رأوا أن يتركوا، ولا يؤسروا، بل يتركون دون أن يعرض لهم، لا بقتل ولا استعباد، لقوله عليه الصلاة والسلام «ذرهم وما حبسوا أنفسهم عليه» واتباعا لفعل أبي بكر، وفي الإنصاف: وإن تترسوا بمسلم لم يجز رميهم، إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم، ويقصد الكفار، وهذا بلا نزاع، قال القاضي: يجوز رميهم حال قيام الحرب، لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد.

ص: 270

ولا يجوز قتل صبي، ولا امرأة وخنثى، وراهب (1) وشيخ فإن (2) وزمن وأعمى لا رأي لهم (3) ولم يقاتلوا أو يحرضوا (4) .

(1) لا رأي لهم ولم يقاتلوا، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن النساء ما لم يقاتلن فإنهن لا يقتلن، إلا أن يكون ذوات رأي فيقتلن، ولأنهم يصيرون أرقاء بنفس السبي، ففي قتلهم إتلاف المال، ونبه بذكر الخنثى لاحتمال أن يكون امرأة، وأما الرهبان فقال الشيخ: هم قوم منقطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يسمَّى أحدهم حبيسًا، لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلا، ولا يخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به، والجمهور على أنه لا يقتل، ولا تؤخذ منه جزية.

(2)

لا رأي له، ولم يقاتل، أو يحرض على القتال، وإلا فيقتل اتفاقًا.

(3)

فإن شاركوا العدو في الرأي قتلوا اتفاقًا.

(4)

أي على القتال، فيقتلون، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا كان الأعمى والمقعد، والشيخ الفاني، وأهل الصوامع لهم رأي وتدبير وجب قتلهم، وإن تترس الكفار بهم جاز رميهم، قال الشيخ: والمثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها، والصبر عنها أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل

بهم زيادة في الجهاد، أو يكون نكالا لهم عن نظيرها، وأما إذا كان فيه دعاء لهم إلى الإيمان، وزجر لهم عن العدوان فإنه هنا نوع من إقامة الحدود، والجهاد المشروع، والمندوب إليه، وكذا قال الخطابي وغيره.

ص: 271

ويكونون أرقاء بسبي (1) .

(1) أي الصبي وما عطف عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسترق النساء والصبيان إذا سباهم، وأجمعت الصحابة على استعباد أهل الكتاب، ذكرانهم وإناثهم حكاه أبو عبيد وغيره، ويجوز استرقاق من لا تقبل منهم جزية عند بعض أهل العلم، ومن أسر أسيرا لم يجز قتله حتى يأتي به الإمام وإن قتله فلا شيء عليه، ويخير الإمام بين قتل لقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} واسترقاق لقوله صلى الله عليه وسلم «أعتقيها» ومنٍّ، وفداء لقوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولفعله صلى الله عليه وسلم بمنه على ثمامة وغيره، وفدائه الرجلين بالرجل.

قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الإمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق وبين المن والفداء، واختار الشيخ: يعمل المصلحة في المال وغيره، كما فعل صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، ومن أسلم منهم قبل حكمه فكمسلم قبل القدرة عليه، فيعصم نفسه، وولده الصغير، وماله، وحمل امرأته، لا هي ولا ينفسخ نكاحه برقها، ومن أسلم بعده لزمه حكمه.

ويجب هدم الأوثان، لقصة وفد ثقيف، وسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات ولو شهرا، فأبى وكذلك جميع القباب على القبور، وفي الإنصاف: وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره جاز، إن كانت المصلحة فيه، وإذا نزلوا على حكم حاكم جاز، ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين، من القتل والسبي، والفداء بلا نزاع، وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا، عصموا دماءهم، بلا نزاع، وإن سألوا أن ينزلوا على حكم الله لزمه أن ينزلهم، ويجري فيهم كالأسرى.

ص: 272

والمسبي غير بالغ منفردًا أو مع أحد أبويه مسلم (1) وإن أسلم أو مات أحد أبوي غير بالغ بدارنا فمسلم (2) وكغير البالغ من بلغ مجنونًا (3)(وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب)(4) .

(1) ولو مميزًا إن سباه مسلم تبعًا، لحديث «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه» رواه مسلم، وقد انقطعت تبعيته لأبويه، لانقطاعهما عنه، أو أحدهما وإخراجه من دارهما إلى دار الإسلام.

(2)

وظاهره أن الحربي والذمي في ذلك سواء، وقال ابن القيم: الراجح في الدليل قول الجمهور أنه لا يحكم بإسلامه بذلك، وهي رواية عن أحمد، اختارها الشيخ، والفرق بينهما وبين مسألتي السبي أن المسبي قد انقطعت تبعيته لمن هو على دينه، وصار تابعًا لسابيه المسلم، بخلاف من مات أبواه أو أحدهما، فإنه تابع لأقاربه، أو وصي أبيه، فإن انقطعت تبعيته لأبويه، فلم تنقطع لمن يقوم مقامهما من أقاربه، وأوصيائه، ويدل عليه العمل المستمر من عهد الصحابة إلى اليوم، بموت أهل الذمة وتركهم الأطفال، ولم يتعرض أحد من الأئمة وولاة الأمور لأطفالهم، ولم يقولوا: هؤلاء مسلمون.

(3)

أي فحكمه حكمه فيما ذكر.

(4)

وفي الانتصار باستيلاء تام، لا في فور الهزيمة، للبس الأمر، هل هو حيلة أو ضعف؟ وقال ابن القيم في قصة حنين: إن الغنيمة لا تملك بالاستيلاء عليها، إنما تملك بالقسمة لا بمجرد الاستيلاء، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء لم يستأن بهم ليردها عليهم، فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام رد نصيبه على بقية الغانمين دون ورثته، وهو مذهب أبي حنيفة.

ص: 273

وتجوز قسمتها فيها (1) لثبوت أيدينا عليها (2) وزوال ملك الكفار عنها (3) والغنيمة ما أخذ من مال حربي قهرًا بقتال، وما ألحق به (4) .

(1) أي قسمة الغنيمة في دار الحرب، وهذا مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء، وقال أصحاب أبي حنيفة، إن لم يجد الإمام حمولة جاز له قسمتها فيها، وقول الجمهور أولى، قال الأوزاعي، ما قفل صلى الله عليه وسلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسَّه وقسمه قبل أن يقفل، واتفقوا على أنه إذا قسمها الإمام بها نفذت قسمته.

(2)

بالاستيلاء عليها، وطرد الكفار عنها وقهرهم.

(3)

بأخذها من أيديهم، وحصولها في أيدي المسلمين، فزال ملكهم بذلك، والملك لا يزول إلى غير مالك، فصارت ملكًا للمسلمين، وأما أموال المسلمين فنص أحمد أنهم لا يملكونها إلا بالحيازة إلى دارهم، وقال الشيخ: الصواب أن الكفار يملكون أموال المسلمين، بالقهر ملكًا مقيدًا، لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه، سواء اعتقدوا تحريمه أو لا، وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم، نص عليه، وقال في رواية أبي طالب: ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك.

قال الشيخ: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال، قبضًا يعتقدون جوازه، فإنه يستقر لهم بالإسلام، كالعقود الفاسدة، والأنكحة والمواريث وغيرها، ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين بالإجماع اهـ وما لم يملكوه فإن ربه يأخذه مجانا، ولو بعد إسلام من هو معه، أو قسمته، وشرائه منهم، وإن جهل ربه وقف أمره، ولا يملك الكفار حرًّا مسلمًا، ولا ذميًا بالاستيلاء عليه، ويلزم فداؤهم لحفظهم من الأذى، ولا يملكون وقفا ونحوه.

(4)

مما أخذ فداء، أو أهدي للأمير، أو نوابه ونحوه وخرج بحربي

ما يؤخذ من أموال أهل الذمة، من جزية، وخراج ونحوه، و «قهرا بقتال» خرج به ما رحلوا وتركوه فزعا، وما يؤخذ من العشر، إذا اتجروا إلينا ونحوه.

ص: 274

مشتقة من الغنم وهو الربح (1)(وهي لمن شهد الوقعة) أي الحرب (من أهل القتال) بقصده (2) قاتل أو لم يقاتل (3) حتى تجار العسكر وأجرائهم المستعدين للقتال (4) .

(1) لحله للمسلمين بقهرهم العدو عنه، واستيلائهم عليه قال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا} وقال صلى الله عليه وسلم «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» والغنم بضم الغين فالغنيمة فعيلة بمعنى مفعولة أي مغنومة، ولم تحل لغير هذه الأمة، لحديث «وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي» وكانت قبل أن تنزل عليها نار فتأكلها.

(2)

أي بقصد الجهاد، بخلاف من لم يكن قاصدًا له.

(3)

وفاقا حكاه الوزير وغيره، وقال ابن رشد: الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور، وقال: إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين، إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال، ويسهم لدليل وجاسوس، ومن بعثهم الأمير لمصلحة وشبههم، وإن لم يشهدوا لفعله صلى الله عليه وسلم.

(4)

ومعهم السلاح، لأنهم ردء للمقاتل، لاستعدادهم، أشبه المقاتل، ولإسهام النبي صلى الله عليه وسلم لمسلمة، وكان أجيرا لطلحة، رواه مسلم، بخلاف من لم يكن قاصدا للقتال، كتاجر ونحوه، خرج بلا استعداد، ولا هو من العسكر، لأنهم لا نفع فيهم.

ص: 275

لقول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة (1)(فيخرج) الإمام أو نائبه (الخمس) بعد دفع سلب لقاتل (2) وأجرة جمع، وحفظ، وحمل (3) وجعل من دل على مصلحة (4) .

(1) رواه الشافعي وسعيد عن طارق أن عمر قاله.

(2)

حال الحرب أو انهزم والحرب قائمة فأدركه وقتله، فسلبه له لما في الصحيحين «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» قال الشافعي: قد حفظ هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة اهـ، أو قتله منفردًا لقصة ابن الأكوع، فإن المقتول كان منفردًا ولا قتال هناك، والسلب بالتحريك: ما كان على المقتول، من ثياب وحلي وسلاح، والدابة وما عليها بآلتها، والمراد بالدابة التي قاتل عليها، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال ابن رشد: وعليه جماعة السلف.

(3)

أي للغنيمة، فالخمس بعد ذلك، لاستحقاقهم لها من جميع الغنيمة.

(4)

أي ودفع جعل، بضم الجيم، لمن دل على مصلحة، من ماء أو قلعة ونحوهما لتقديم حقهم، وكذا ما أخذ من مال مسلم، أو معاهد، فأدركه صاحبه قبل قسمه، لم يقسم ورد إلى صاحبه بغير شيء، لما روى البخاري: أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وذهب فرس له فرده عليه خالد.

قال الشيخ: وإذا كان المغنوم مالاً، قد كان للمسلمين قبل، من عقار ومنقول، وعرفه صاحبه قبل القسمة، فإنه يرد إليه، بإجماع المسلمين، اهـ فإن قسم بعد العلم أنه مال مسلم، لم تصح قسمته، وإن أدركه مقسومًا فهو أحق به بثمنه لخبر ابن عباس مرفوعًا، «إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم، أخذته بالقيمة» ، وكذا بعد بيعه وقسم ثمنه، وما لم يملكوه، فلا يغنم بحال.

ص: 276

ويجعله خمسة أسهم (1) منها سهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم (2) مصرفة كفيء (3) وسهم لبني هاشم وبني المطلب (4) حيث كانوا، غنيهم وفقيرهم (5) وسهم لفقراء اليتامى (6) .

(1) متساوية لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} والذي عليه الجمهور: أنه لا يتعدى الخمس تلك الأصناف المنصوص عليها.

(2)

في حياته صلوات الله وسلامه عليه، واليوم هو لمصالح المسلمين، وذكر اسمه تعالى للتبرك، لأن الدنيا والآخرة له، قال تعالى:{للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} له الملك كله جل وعلا، وبيده الخير كله.

(3)

قال ابن رشد: وهو قول مالك وعامة الفقهاء، وكان صلى الله عليه وسلم يصنع بهذا السهم ما شاء، قال الشيخ: يتصرف فيه الإمام كالفيء، وهو قول مالك وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال.

(4)

وهو ثابت بعد موته صلى الله عليه وسلم لم ينقطع، ولأحمد من حديث جبير بن مطعم قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى لبني هاشم وبين المطلب، وقال:«إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» .

(5)

يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين حيث كانوا حسب الإمكان، غنيهم وفقيرهم فيه سواء.

(6)

خص فقراء اليتامى لأنه قد يكون يتيمًا ويكون غنيًّا فلا حظ له فيها، و «اليتيم» في العرف للرحمة، ومن أعطي لذلك اعتبرت فيه الحاجة، واليتيم في الأصل، من لا أب له ولم يبلغ.

ص: 277

وسهم للمساكين (1) وسهم لأبناء السبيل (2) يعم من بجميع البلاد حسب الطاقة (3)(ثم يقسم باقي الغنيمة) وهو أربعة أخماسها (4) بعد إعطاء النفل والرضخ (5) .

(1) أي أهل الحاجة، فيدخل فيهم الفقير، فهما صنفان في الزكاة فقط، وفي سائر الأحكام صنف واحد، ويجب أن يعطوا كالزكاة، واختار الشيخ إعطاء الإمام من شاء منهم للمصلحة كالزكاة، وقال: لا يختلف اثنان من المسلمين، أنه لا يجوز أن يعطي الأغنياء الذين لا منفعة لهم، ويحرم الفقراء، فإن هذا مضاد لقوله تعالى:{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} واختار أن الخمس والفيء واحد، يصرف في المصالح، كمذهب مالك، وهو رواية عن أحمد.

(2)

وهم المسافرون، البعيدون من مالهم، المحتاجون، كما في الزكاة لا الأغنياء.

(3)

يعني ممن ذكر، وحسب: بفتح السين، ويشترط في إعطاء ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، أن يكونوا مسلمين، فلا حق فيها لكافر ولا قن.

(4)

قال ابن رشد وغيره، اتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ من أيدي الروم، ما عدا الأرضين، أن خمسها للإمام، وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} لأن الله لما جعل لنفسه الخمس فهم منه أربعة الأخماس للغانمين قال: وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، إذا خرجوا بإذن الإمام لعموم الآية.

(5)

وبعد الخمس على ما تقدم، والنفل بالتحريك هو الزائد على السهم لمصلحة، لما روى أبو داود «لا نفل بعد الخمس» والرضخ بالضاد، والخاء المعجمتين هو ما دون السهم لمن لا سهم له من الغنيمة.

ص: 278

لنحو قن ومميز على ما يراه (1)(للراجل سهم) ولو كافرًا (2)(وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له سهمان لفرسه) إن كان عربيًّا (3) .

(1) أي الإمام أو نائبه فيفضل ذا البأس، والأنفع من العبيد، والصبيان المميزين، والنساء، قال الوزير: اتفقوا على أن من حضرها من مملوك، أو امرأة، أو ذمي، أو صبي رضخ له، على ما يراه الإمام، ولا يسهم لهم، وقال: اتفقوا على أن للإمام أن يفضل بعض الغانمين على بعض، فمن لا سهم له أحق، وقال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق، إلا ما ملكت أيمانكم وانتشر في الصحابة، فلا سهم للغلمان إجماعًا، وإنما يرضخ لهم والجمهور أن المرأة لا سهم لها، ويرضخ لها لحديث أم عطية، وكان يرضخ لنا من الغنيمة.

وقال ابن القيم: نص أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، والعطاء الذي أعطاه رسول الله لقريش والمؤلفة هو من النفل، نفل به النبي صلى الله عليه وسلم رءوس القبائل، والعشائر، ليتألفهم به وقومهم، على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس، والربع بعده، لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته، وأهله، واستجلاب عدوه إليه، وهكذا وقع سواء، وللإمام أن يفعل ذلك، لأنه نائب عن المسلمين إذا دعت الحاجة، فيتصرف لمصالحهم وقيام الدين، وإن تعين للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته، واستجلاب رءوس أعدائه إليه، ليأمن المسلمون شرهم، تعين عليه، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين.

(2)

إذا خرج بإذن الأمير، والمراد المكلف، وأجمعوا على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد، لا يشترط في الغنيمة مباشرة كل واحد في القتال.

(3)

أي العتيق، وهو ما أبوه وأمه عربيَّان، لخلوصه ونفاسته فخرج

الهجين، وهو ما أبوه عربي فقط، والمقرف عكسه، وهو ما أمه عربية فقط، والبرذون وهو ما أبواه نبطيان.

ص: 279

لأنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له، متفق عليه عن ابن عمر (1) وللفارس على فرس غير عربي سهمان فقط (2) ولا يسهم لأكثر من فرسين، إذا كان مع رجل خيل (3) ولا شيء لغيرها من البهائم (4) .

(1) ولأبي داود من حديث أبي عميرة نحوه وذلك سنة سبع، وقيل: كان أسهم كذلك يوم بني قريظة، وقال الحذاء لا يختلف فيه عن الصحابة، وهو قول جمهور العلماء، ولأن سهم الفارس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس، وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل.

(2)

لما روى مكحول أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما رواه سعيد وأبو داود مرسلا.

(3)

للخبر ولما رواه الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، ولأن حاجته إلى الثاني لكون إدامة ركوب واحد يضعفه، ويمنع القتال عليه، بخلاف ما فوق ذلك، فإنه مستغنى عنه، فيعطى صاحبها خمسة أسهم، سهم له، وأربعة لفرسيه العربيين، وهذا رواية عن أحمد، والجمهور أنه لا يسهم لغير فرس واحد، لظاهر الخبر، ولو أسهم لفرسين لاستفاض ذلك.

(4)

كفيل وبغل وبعير ونحوها، ولو عظم غناؤها، وقامت مقام الخيل،

ولم تخل غزاة منها، ولم يسهم لها صلى الله عليه وسلم وكذا أصحابه لم ينقل

أنهم أسهموا لغير الخيل، ولا خلاف في ذلك، ولأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفارس من الكلفة، قال الشيخ وغيره: ويرضخ للبغال، والحمير، وهو قياس الأصول، كما يرضخ لمن لا سهم له من النساء، والعبيد والصبيان.

ص: 280

لعدم وروده عنه عليه السلام (1)(ويشارك الجيش سراياه) التي بعثت منه من دار الحرب (فيما غنمت (2) ويشاركونه فيما غنم) (3) قال ابن المنذر: روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وترد سراياهم على قعدهم» (4) .

(1) أي أنه أسهم لغير الخيل، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا، وغيرها من الغزوات، ولم يسهم لها.

(2)

قال ابن رشد: الجمهور أن العسكر يشاركونهم فيما غنموا، وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «وترد سراياهم على قعدهم» رواه أبو داود، ولأن لهم تأثيرا أيضا في أخذ الغنيمة.

(3)

أي شارك السرايا الجيش فيما غنم الجيش، فأيهما غنم شاركه الآخر، نص عليه، وإذا لحق بالجيش مدد، أو صار الفارس راجلا، أو عكسه ونحوه، قبل تقضي الحرب، جعلوا كمن كان فيها كلها، وبعد تقضي الحرب، ولو لم تحرز الغنيمة لا شيء له.

(4)

ورواه أبو داود وغيره، ولأنها في مصلحة الجيش، قال الشيخ: كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير، يوم بدر، لأنه بعثهما في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم، وذكر حديث ابن عمر وهو في سرية، وأنهم نفلوا بعيرًا بعيرًا، وعنه: كان ينفل بعض من يبعث من السرايا، لأنفسهم خاصة، سوى قسمة عامة الجيش، قال: ولم يرد ما يدل على الاقتصار على نوع معين، ولا مقدار معين، فيفوض إلى رأي الإمام، وهو قول الجمهور.

ص: 281

وإن بعث الإمام من دار الإسلام جيشين، أو سريتين، انفردت كل بما غنمت (1)(والغال من الغنيمة)(2) .

(1) لانفراد كل منهما بما تعانيه.

(2)

قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب إجماعًا، للنهي الأكيد، والوعيد الشديد قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حاملا له على عنقه، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، والأحاديث في تحريم الغلول مستفيضة متعددة، منها قوله صلى الله عليه وسلم، «أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار ونار على أهله يوم القيامة» رواه أحمد وغيره، ومنها قوله:«لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة بكذا، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك» وقوله: «إن الشملة لتلتهب عليه نارًا» متفق عليهما.

واتفق المسلمون على تحريم الغلول للآية والأحاديث، وأجمعوا على أن على الغال رد ما غله، ويؤخذ للمغنم، ومن ستر على غال، أو أخذ مما أهدي له منها، أو باعه إمام أو جاب فهو غال، وقال الشيخ: وما أخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فلولي الأمر العاد استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسب العمل، قال أبو سعيد: هدايا العمال غلول، وروي مرفوعًا، ويشهد له قصة ابن اللتبية، وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطرهم عمر، لما خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، لأنه إمام عادل يقسم بالسوية.

وقال الشيخ: وعمال الفيء إذا خانوا فيه، وقبلوا هدية أو رشوة، فمن فرض له دون أجرته، أو دون كفايته عياله بالمعروف، لم يستخرج منه ذلك القدر، وإن قلنا: لا يجوز لهم الأخذ خيانة، فإنه يلزم الإمام الإعطاء.

ص: 282

وهو من كتم ما غنمه أو بعضه، لا يحرم سهمه (1)(يحرق) وجوبا (رحلة كله) ما لم يخرج عن ملكه (2)(إلا السلاح، والمصحف، وما فيه روح) وآلته ونفقته (3) وكتب علم (4) وثيابه التي عليه (5) وما لا تأكله النار فله (6) .

قال يزيد بن يزيد بن جابر (7) : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواه سعيد في سننه (8) .

(1) أي من الغنيمة، لوجود السبب الذي استحقه به، ولم يثبت حرمان سهمه في خبر، ولا دل عليه قياس، فبقي بحاله.

(2)

ببيع ونحوه، ولا يحرق سهمه، لأنه ليس من رحله، واتفقوا على أنه لا يقطع إذا كان له فيها سهم.

(3)

أي نفقة الغال، والآلة هي كسرجه ولجامه، وحبله ونحوه وعلفه.

(4)

أي وإلا كتب علم، فلا تحرق.

(5)

أي فلا تحرق، نص عليه.

(6)

لبقاء ملكه عليه، ولا تأثير للنار فيه.

(7)

عالم أهل دمشق، وتلميذ مكحول، وثقه غير واحد من الحفاظ.

(8)

ولأحمد، وأبي داود، عن ابن عمر: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه، واضربوه» فيعزر ولا ينفي وعنه: يعزر بما يراه الإمام، ولا يحرق، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء، وأئمة الأمصار، ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين، واختار الشيخ وتلميذه، أن تحريق رحل الغال من باب التعزير

لا الحد، فيجتهد الإمام بحسب المصلحة، واستظهره في الإقناع، وصوبه في الإنصاف، وقال البخاري: قد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه، وقال الدارقطني: هذا الخبر لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 283

(وإذا غنموا) أي المسلمون (أرضًا) بأن (فتحوها) عنوة (بالسيف)(1) فأجلوا عنها أهلها (خير الإمام بين قسمها) بين الغانمين (2)(ووقفها على المسلمين) بلفظ من ألفاظ الوقف (3) .

(1) أي غلبة وقهرا، وهذا أحد أصناف الأرضين بالاستقراء.

(2)

تخيير مصلحة، كالتخيير في الأسرى، فيفعل ما يراه أصلح، لأنه نائب المسلمين، فلا يفعل إلا الأصلح لهم، قال الشيخ: ومذهب الأكثرين أن الإمام يفعل ما هو الأصلح للمسلمين، من قسمها، أو حبسها، ولأنه صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر، ووقف نصفها لنوائبه، رواه أبو داود، فتملك بقسمتها، ولا خراج عليها، لأنها ملك للغانمين.

(3)

لأن الوقف لا يثبت بنفسه، فحكمها قبل الوقف حكم المنقول، وعنه: تصير وقفا بنفس الاستيلاء، قال في الإنصاف: هذا المذهب وعليه الأصحاب، وجزم به في الإقناع، وقال ابن القيم: معنى وقفها إقرارها على حالها، وضرب الخراج عليها، مستمرا في رقبتها، وقال: جمهور الصحابة والأئمة بعدهم على أن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها، وهذه كانت سيرة الخلفاء ولما قال بلال وذووه لعمر: اقسمها قال: اللهم اكفينهم فما حال عليهم الحول، ثم وافق سائر الصحابة عمر، وكذلك جرى في سائر البلاد التي فتحت عنوة، لم يقسم منها الخلفاء قرية واحدة، وكان الذي رآه وفعله عين الصواب، فجعلها وقفا على المقاتلة تجرى عليهم، حتى يغزو منها آخر المسلمين.

ص: 284

(ويضرب عليها خراجًا مستمرًّا يؤخذ ممن هي بيده)(1) من مسلم وذمي، يكون أجرة لها في كل عام (2) كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتحه من أرض الشام، والعراق، ومصر (3) وكذا الأرض التي جلوا عنها خوفا منا (4) .

(1) يتصرف فيها بنفسه أو يؤجرها، فالخراج في رقبتها.

(2)

تتكرر الجزية بتكرر الأعوام، بلا نزاع في الجملة.

(3)

ضرب عليها خراجًا مستمرًّا يؤخذ ممن هي بيده، وقال: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببَّانا، أي لا شيء لهم، ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها لهم خزانة يقتسمونها رواه البخاري، قال الشيخ: وجمهور الأئمة رأوا أن ما فعله عمر بن جعل الأرض مفتوحة عنوة فيئًا حسن جائز، وإن حبسها بدون استطابة الغانمين ولا نزاع أن كل أرض فتحها لم يقسمها.

وقال ابن القيم: إن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وإن كان الأصلح قسمة البعض، ووقف البعض فعل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأقسام الثلاثة، وقال الشارح: ولم نعلم أن شيئا مما فتح عنوة قسم بين الغانمين إلا نصف خيبر، فصار لأهله، لا خراج عليه، وسائر ما فتح عمر، ومن بعده لم يقسم منه شيء، قال الشيخ: وتنقلت أحوالها كالعراق، فإن خلفاء بني العباس نقلوه إلى المقاسمة، ومصر رفع عنها الخراج من مدة لا أعلم ابتداءها، وصارت الرقبة للمسلمين، وهذا جائز في أحد قولي العلماء.

(4)

أي كالعنوة في تخيير الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين، وضرب خراج مستمر عليها، وهذا الصنف الثاني.

ص: 285

أو صالحناهم على أنها لنا ونقرها معهم بالخراج (1) بخلاف ما صولحوا على أنها لهم ولنا الخراج عنها، فهو كجزية تسقط بإسلامهم (2)(والمرجع في) مقدار (الخراج والجزية) حين وضعهما (إلى اجتهاد الإمام) الواضع لهما (3) فيضعه بحسب اجتهاده لأنه أجرة، يختلف باختلاف الأزمنة (4) فلا يلزم الرجوع إلى ما وضعه عمر رضي الله عنه (5) .

(1) فيضرب عليها خراج، وهذا الصنف الثالث، وهو «نوعان» هذا أحدهما وهي كالعنوة في التخيير، ولا يسقط خراجها بإسلامهم، وعنه: تصير وقفا كالثانية، ويضرب عليها الخراج، ولا يغير إذا ضربه أحد الأئمة، لأنه نقض للحكم اللازم، ما لم يتغير السبب، فيغير المسبب لتغير سببه.

(2)

أي فإن ما يؤخذ من خراجها كجزية، كما ذكر، إن أسلموا، أو انتقلت إلى مسلم يسقط بإسلامهم، ويقرون فيها بغير جزية، لأنها ليست بدار إسلام، بخلاف ما قبلها، فلا يقرون فيها سنة بلا جزية، وهذا هو النوع الثاني.

(3)

فيرجع في قدر الخراج في ابتداء الوضع إلى تقدير الإمام من زيادة ونقص، على قدر حسب ما يؤدي إليه اجتهاده وتطيقه الأرض.

(4)

فرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، قال الشيخ: ويجتهد الإمام في الخراج والجزية، فيزيد وينقص بقدر الطاقة.

(5)

بل يستأنف الوضع فيما استؤنف فتحه، وما وضعه عمر رضي الله عنه على كل جريب درهما وقفيزا، وهو ثمانية أرطال، قيل بالمالكي، والجريب عشر قصبات في مثلها، والقصبة ستة أذرع، بذراع عمر، وهو ذراع متوسط، وقبضة وإبهام قائمة فيكون الجريب ثلاثة آلاف ذراع وست مائة مكسرًا.

ص: 286

وما وضعه هو أو غيره من الأئمة ليس لأحد تغييره (1) ما لم يتغير السبب (2) كما في الأحكام السلطانية (3) لأن تقديره ذلك حكم (4) .

(1) لأنه حكم من الإمام، ولا نقض لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف أو قسمة، أو فعله الأئمة بعده، ولا تغيير، لأنه نقض للحكم اللازم، وإنما التخيير والاستئناف فيما استؤنف فتحه، قال الوزير وغيره: الزيادة مع عدم الاحتمال لا تجوز، ولا النقصان، ومدار الباب أن تحمل الأرض ما تطيقه، وأن لا يتبع غيره مما لم يأذن فيه الشرع بحال، وأكد بالضمير البارز المنفصل لصحة العطف عليه، على المذهب الراجح.

(2)

كما لو تغيرت حال الأرض بأن غلت، أو رخصت، فيغير المسبب لتغيير سببه، قال الشيخ: ولو يبست الكروم بجراد أو غيره أو بعضها، سقط من خراجها بقدر ذلك، وإذا لم يمكن الانتفاع بها ببيع، أو إجارة، أو غيرها لم تجز المطالبة بخراجها.

(3)

للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، عالم زمانه، المتوفى ببغداد، سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وله مصنفات كثيرة منها الأحكام، ذكر فيها ما وضعه عمر وغيره، وأنه يختلف بما يختص بالأرض من جودة وبالزرع من اختلاف أنواعه، وبالسقي والشرب فلا بد لواضع الخراج من اعتبار ما وصف، من اختلاف الأرض، والزرع، والشرب، ليعلم ما تحمله الأرض من خراجها، فيقصد العدل فيما بين أهلها وأهل الفيء.

(4)

أي ما وضعه عمر ومن بعده حكم لازم، وليس لأحد تغييره، ولا نقضه، وإنما التغيير فيما استؤنف فتحه، ما لم يتغير السبب كما تقدم.

ص: 287

والخراج على أرض لها ماء تسقى به، ولو لم تزرع (1) لا على مساكن (2)(ومن عجز عن عمارة أرضه) الخراجية (3)(أجبر على إجارتها (4) أو رفع يده عنها) بإجارة أو غيرها (5) لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم (6)(ويجري فيها الميراث) فتنتقل إلى وارث من كانت بيده، على الوجه الذي كانت عليه في يد مورثه (7) .

(1) كالمؤجرة، وواجبها والحال ما ذكر خراج أقل ما يزرع، وهو درهم وقفيز، ولا خراج على ما لا يناله ماء، ولو أمكن زرعه، وإحياؤه ولم يفعل، وما لم ينبت، أو لم ينله إلا عاما بعد عام، نصف خراجه في كل عام، وهو على المالك، لأنه على رقبة الأرض كما تقدم.

(2)

فليس عليها خراج بالاتفاق، وإن حولت مزارع ونحوها فعليها.

(3)

وهي ما فتحت عنوة.

(4)

لئلا يتعطل خراجها على المسلمين.

(5)

أي أو غير الإجارة، كدفعها لمن يعمرها ويقوم بخراجها.

(6)

بسبب عجزه عن عمارتها، ويجوز شراء أرض الخراج استنقاذا، وذلك أن تنتقل إليها بما عليها من خراج، لامتناع الشراء الحقيقي، ويكره شراؤها للمسلم، لما في دفع الخراج من الذل، وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج عن إنسان، أو تخفيفه جاز، وسيأتي في المساقاة أن القائم في الكلف بالعدل كالمجاهد في سبيل الله.

(7)

كالملك ينتقل من مورث إلى وارث، إلا أنه ليس مثله من كل وجه.

ص: 288

فإن آثر بها أحدًا صار الثاني أحق بها، كالمستأجرة (1) ولا خراج على مزارع مكة والحرم (2)(وما أخذ) بحق بغير قتال (3)(من مال مشرك) أي كافر (4)(كجزية وخراج، وعشر) تجارة من حربي (5) أو نصفه من ذمي اتجر إلينا (6) .

(1) أي فإن آثر بالأرض الخراجية من كانت بيده أحدًا، صار المؤثر أحق بها، كالأرض المستأجر، إذا آثر بها المستأجر أحدًا، بإجارة ونحوها، كان الثاني أحق بها، لقيامه مقام الأول.

(2)

وإن كانت فتحت عنوة، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، ويحرم، بيعها، وإجارتها، وفاقًا لهما، كبقاع المناسك واختار الشيخ جواز البيع فقط، وتابعه ابن القيم، لأنه إنما يستحق التقدم على غيره بهذه المنفعة، واختص بها لسبقه وحاجته فهي كالرحاب، والطرق، من سبق إليها، فهو أحق بها، وإنما جاز البيع لوروده على المحل الذي كان البائع أحق به من غيره.

(3)

أي بحق الكفر لا من ذمي غصبًا ونحوه، أو ببيع ونحوه، و «بلا قتال» أخرج الغنيمة.

(4)

والفرق بين المشرك والكافر، أن المشرك هو المتخذ مع الله إلهًا آخر، والكافر هو الجاحد.

(5)

وكخراج وزكاة تغلبي، ولا يؤخذ في السنة إلا مرة واحدة.

(6)

أي نصف عشر تجارة من ذمي اتجر إلينا ففيء.

ص: 289

(وما تركوه فزعًا) منا (1) أو تخلف عن ميت لا وارث له (2)(وخمس خمس الغنيمة (3) فـ) هو (فيء) سمي بذلك لأنه رجع من المشركين إلى المسلمين (4) وأصل الفيء الرجوع (5) .

(1) وهربوا أو بذلوه فزعًا منا في الهدنة وغيرها، وهذا إذا لم نقصدهم بقتال، وإلا كان غنيمة.

(2)

مسلمًا كان أو كافرًا، يستخرج جميع ماله، فيصرف في مصالح المسلمين، قال الشيخ وغيره: اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم، فماله يصرف في مصالح المسلمين.

(3)

سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فإنه يصرف في مصالح المسلمين، قال الشيخ: يقسمه الإمام بنفسه في طاعة الله ورسوله، كما يقسم الفيء وهذا قول أكثر السلف، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومذهب أهل المدينة والرواية الأخرى عن أحمد، وهو أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة، اهـ وكذا ما يهدى لأمير الجيش، وبعض الغانمين، وغير ذلك مما سيأتي بيانه وغيره.

(4)

لأن المشركين لما أشركوا مع الله غيره، لم يبقوا مستحقين لتلك الأموال، التي إنما جعلها الله للاستعانة بها على عبادته، فأرجعها الله لعباده المسلمين، ليستعينوا بها على عبادته وحده.

(5)

قاله الشيخ وغيره، قال: والله خلق الخلق لعبادته، وأعطاهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فالكفار لما كفروا بالله، وعبدوا معه غيره، لم يبقوا

مستحقين للأموال، فأباح الله لعباده قتلهم، وأخذ أموالهم فصارت فيئا أعاده الله على عباده المؤمنين، لأنهم هم المستحقون له، وكل مال أخذ من الكفار

قد يسمى فيئًا، حتى الغنيمة، لقوله في حنين «ما يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم» لكن لما قال الله {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآيات، صار اسم الفيء عند الإطلاق، لما أخذ من الكفار بغير قتال.

وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس، كقول مالك وأبي حنيفة، وأحمد، وهو قول السلف قاطبة، وهو الصواب، فإن السنة الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئًا قط، ومنشأ الخلاف، أنه لما كان لفظ آية الخمس، وآية الفيء واحدًا، اختلف فهم الناس للقرآن، وصوب: أن مال الخمس والفيء سواء.

ص: 290

(يصرف في مصالح المسلمين)(1) .

(1) وقاله الشيخ وغيره، قال: وسائر الأموال السلطانية لجميع المصالح اتفاقًا، وقال: وما اجتمع من بيت المال، ولم يرد إلى أصحابه، فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه، أو فيما يضر قال: ومثله المظالم المجهول أربابها، والواجب على من حصلت بيد أموال، ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك، فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قوله في اللقطة «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه» .

وذكر أن من مات لا وارث له، ففي المصالح، ثم قال: فإن ما لم يعلم بحال، أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا كالمعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه، وهذا النوع ونحوه، إنما حرم لتعلق حق الغير به، فإذا كان الغير معدومًا، أو مجهولاً بالكلية، أو معجوزًا عنه بالكلية سقط حق تعلقه به مطلقا،

والإعدام ظاهر، والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك، كالمكوس وغيرها من أصحابها، فهذان قياسان قطعيان من السنة، والدليل الثاني، القياس،

وهو إما أن تحبس إلى أن تتلف، وإتلافها حرام، وحبسها أشد فتعين إنفاقها.

وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر، والثواب الذي يتقرب به إلى الله، فتصرف في سبيل الله.

قال: والغنيمة والخراج لمصالح المملكة، فيفتقر إلى اجتهاد الإمام، لعدم تعيين مصرفه، ولأن به يجتمع الجند على باب السلطان، فينفذ أحكام الشرع، ويحمي البيضة، ويمنع القوي من ظلم الضعيف، ويوصل كل ذي حق حقه، فلو فرقه غيره تفرقوا عنه، وزالت حشمته وهيبته وطمع فيه، فجر ذلك إلى الفساد، قال: وبيت المال ملك للمسلمين، يضمنه متلفه، ويحرم الأخذ منه إلا بإذن الإمام، ولا يجوز الصدقة به، ويسلمه إلى الإمام.

قال: ولا تتم رعاية الخلق إلا بالحق الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك، ولذلك من لم يقم بها سلب الأمر ونقل إلى غيره، وذكر آيات في الإنفاق والشجاعة، ثم قال: فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء، والقتال الذي هو الشجاعة،، وأن هذا مما اتفق عليه أهل الأرض.

وذكر أنه افترق الناس أربع فرق، فريق صاروا نهابين، وهابين، وفريق عندهم خوف ودين، يمنعهم عما يعتقدونه قبيحًا، لكن لا يعتقدون أن السياسة لا تتم بما يفعله أولئك من الحرام، فينهون أحيانا عن ترك واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله، فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج، والفريق الثالث الأمة الوسط، دين محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وهو إنفاق المال في المنافع للناس، فإن كانوا رؤساء فبحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال، وإقامة الدنيا والدين ولا يأخذون ما لا يستحقونه، فيجمعون بين التقوى والإحسان، ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا، والفريق الرابع يأخذ ولا يعطي غيره، فلا يصلح به دين ولا دنيا.

ص: 291

.......................................................

ص: 292

ولا يختص بالمقاتلة، ويبدأ بالأهم فالأهم (1) .

(1) قاله الشيخ وغيره، وقال: يبدأ بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، المقاتلة الذين هم للنصرة والجهاد، وهم أولى الناس بالفيء لأنه لا يحصل إلا بهم، حتى قيل: إن مال الفييء مختص بهم، ولا يجب عطاء إلا لبالغ، عاقل، حر، صحيح يطيق القتال، ومن مات بعد حلوله، دفع لورثته حقه، وصغار أولاده كفايتهم، فإذا بلغ ذكرهم أهلا فرض له إن طلب، وإلا ترك، قال عمرك ما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله، الرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وغناؤه، والرجل وحاجته.

قال الشيخ: «بلاؤه» هو الذي يجتهد في قتال الأعداء، «وغناؤه» هو الذي يغني عن المسلمين في مصالحهم، كولاة أمورهم، ومعلميهم، وأمثال هؤلاء، والرجل وسابقته، وهو من كان من السابقين الأولين، فإنه كان يفضلهم في العطاء على غيرهم، والرجل وفاقته، فإنه كان يقدم الفقراء على الأغنياء، وذكر نحوه ثم قال: وإذا عرفت أن العطاء بحسب منفعة الرجل، وبحسب حاجته في حال المصالح، وفي الصدقات أيضا، علمت أنه يبدأ بالأهم فالأهم.

قال: فإنه مع وجود المحتاجين، كيف يحرم بعضهم، ويعطي لغني لا حاجة له، ولا منفعة به، لا سيَّما إذا ضاقت أموال بيت المال عن إعطاء كل المسلمين، غنيهم وفقيرهم فكيف يعطى الغني الذي ليس فيه نفع عام، ويحرم الفقير المحتاج، بل الفقير النافع أولى.

قال: ولا يجوز لولي الأمر أن يعطي أحدًا ما لا يستحقه، لهوى نفسه، من قرابة، أو مودة أو نحو ذلك، وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء، ونواب، ووكلاء، ونص العلماء أنه يجب أن يقدم في مال الفيء والمصالح أهل المنفعة العامة، وإذا كان العطاء لمنفعة

المسلمين لم ينظر إلى الآخذ، هل هو صالح النية أو فاسدها؟ وإنما العطاء بحسب مصلحة دين الله.

قال: فأقوام من ذوي الحاجات، والدين، والعلم، لا يعطى أحدهم كفايته، ويتمزق جوعًا، وهو لا يسأل، ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه، وأقوام يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وأقوام لهم رواتب فوق حاجاتهم، وقوم لهم رواتب مع غناهم، وعدم حاجتهم، ولا يستريب مسلم أن السعي في تمييز الحق من غيره، والعدل بين الناس بحسب الإمكان، من أفضل أعمال ولاة الأمور، بل ومن أوجبها عليهم.

ص: 293