الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التجوز في الإسناد:
قلنا: إن بحث الإسناد الخبير يتضمن ثلاثة موضوعات رئيسية هي: أغراض الخبر،
وأضرب الخبر، والتجوز في النسبة، وقد أشرنا إلى الموضوعين الأولين إشارات موجزة تفتح باب العلم فيها.
والتجوز في النسبة، أو المجاز العقلي كما هي الترجمة المشهورة لبابه يذكره بعض الباحثين في علم البيان من حيث إنه ضرب من المجاز، ويذكره البعض في أحوال الإسناد الخبري من حيث إنه حال من أحوال الإسناد الخبري، أو النسبة الخبرية.
والمهم أن الإسناد الذي قلنا: إنه مناط الفائدة ومتعلق الغرض من العبارة لا يجري على أسلوب الحقيقة في كل حال، أي أن المتكلمين لم يلتزموا إسناد الأحداث، والأفعال لما هي له دائما، وإنما يتوسعون ويتجوزون انطلاقا مع الخيال واستجابة للحس، وتأنفا في أداء المعاني، فالدموع ويرقرقها نسيم الصبا الذي جاس خلال ديار الأحبة يحمل أنفاسهم، ووميض الغمام يهيج غوافي الأشواق، ويشعل لهيب الحنين، والبرق وغناء الحمام يشجي، ويستفز لواعج الهوى، وحمام بطن ودان يثير بلابل الشوق في نفس قيس بن الملوح، فيقول:"من الطويل".
ألا يا حمامي بطن ودان هجتما
…
علي الهوى لما تغنيتما ليا
فأبكيتماني وسط أهلي ولم أكن
…
أبالي دموع العين لو كنت خاليا
والدمن الخوالي تهيج علل امرئ القيس، أو عقابيل علله وبقاياها في قوله:"من الطويل"
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت
…
كخط زبور في مصاحف رهبان
ذكرت بها الحي الجميع فهيجت
…
عقابيل سقم من ضمير وأشجان
والحجج جمع حجة وهي السنة، والزبور الكتاب، والمصاحف جمع مصحف، وهي: صحائف مكتوبة مجموعة بين دفتين، والعقابيل: جمع عقبول، وهي بقية العلة.
والرياح السوافي تدرج بما دق من التراب، فتغير آيات ابن الدمينة في قوله:"من الكامل"
دمن خلون وغيرت آياتها
…
دق التراب مسفة الأذيال
وذكريات حديث الصاحبة تهز ابن خفاجة في شيخوخته هزة تدير له الزمان كله والشباب، فيصبح ما مضى منه أمامه في قوله:"من الطويل"
لقد هزني في ريطة الشيب هزة
…
أرتني ورائي في الشباب أمامي
كل هذه الصور من القول الممتاز لم تستند فيها الأحداث، والأفعال إلى ما ينهض ويتصف بها على وجه الحقيقة، فخفقه البرق لا شتعل الشجا حقيقة، وإنما هي سبب يثيره ومثلها نسيم الريح، وحمام بطن ودان، والدمن الخوالي،
ووميض الغمام وذكريات الصاحبة كل هذه مثيرات، وأسباب وليست فاعلة لهذه الأحداث والأفعال، ولو قلت: زفرت دموعي لما هب نسيم الريح، واشتقت لما أومض الغمام، وأشجى الله فؤادي بخفقه البرق، وهاجت علل امرئ القيس لما أبصر الدمن الدوارس، واهتز ابن خفاجة لما ذكر أحاديث الصحاب، لكان الكالم جاريا على أسلوب الحقيقة؛ لأنك أسندت الأفعال والأحداث إلى ما هي له، والعبارة قد ذهبت عنها خصائصها الشعرية، وانطفأ فيها وهج الحس، وصارت إلى الكلام بارد مغسول كما يقولون.
ولما كانت الحقيقة العقلية شرطا في فهم المجاز العقلي، ومقدمة ضرورية له اعتاد الباحثون أن يذكروا شيئا عنها في صدر حديثهم عن التجوز في الإسناد، وقد عرفها الخطيب القزويني بقوله:"هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر"، وأول ما يلاحظ في هذا التعريف أنه يتكلم إسناد الفعل أو معناه، ومعنى الفعل هو اسم الفاعل، واسم المفعول والزمان، والمكان واسم التفضيل، وندع هذا التحديد ومناقشته إلى مكانه من البحث.
أما قوله: "إلى ما هو له"، فإنه يعني أن تسند الفعل إلى الفاعل الذي قام به، وفعله حقيقة كقولك: أنبت الله البقل، وكقولك: قام محمد، ورمى علي، وأنار القمر، وطلعت الشمس، وكالأفعال في قول الشاعر، وكان يتمثل بها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:"من البسيط"
من كان حين تمس الشمس جبهته
…
أو الغبار يخاف الشين والشعثا
وألف الظل كي تبقى بشاشته
…
فسوف يسكن يوما راغما جدثا
فقوله: "تمس الشمس جبهته" إسناد حقيقي؛ لأنه أسند المس إلى الشمس وهي فاعلة.
وقوله: "يخاف الشين والشعثا" كذلك إسناد حقيقي؛ لأنه أسند الخوف إلى هذا الفتى الذي يتكلم عنه، فقد كان نظيفا أنيقا مترفا يخاف من كل ما يشينه، ويشعث هيأته أي يغيرها ويثيرها، ومثله فسوف يسكن يوما؛ لأن فاعل يسكن هو ذلك الفتى بعد موته، الأفعال هنا مسندة إلى فاعليها الذين فعلوها، ولعلك تلحظ أن هذا الشاعر ذكر من مظاهر ترفه خوفه من الشمس، والشعث وحرصه على بقاء البشاشة، وماء الحياة الذي يترقرق في عوده، وهناك مظاهر كثيرة للترف سكت عنها الشاعر؛ لأنه أراد إلى ضرب خفي من المقابلة في العنى، فذكر الخوف من الشمس ليقابله بالدخول في التراب، والدفن فيه، وذكر الحرص على البشاشة، وماء الحياة ليقابله بيبس العود، وذهاب الحياة جملة بالموت المهيئ لدخول القبر.
ولما كانت مسألة خلق الأفعال من المسائل التي شغلت المسلمين نبه أهل هذه الصناعة إلى أننا، وإن كنا نعتقد معتقد أهل السنة، وأن الأفعال كلها عند التحليل الباحث عن مصدرها، مخلوقة لله إلا أننا نقول: إن زيدا هو الفاعل الحقيقي في قولنا رمي زيد؛ لأن الرمي معنى قائم بزيد، ووصف له، وله فيه كسب وتحصيل، وهذا يكفي ليكون الإسناد حقيقيًّا، فقولنا: إن خالق الأفعال كلها هو الله، وأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي لكل شيء لا يعني أن تكون كل الصور التي تستند فيها الأفعال لغيره سبحانه صورا مجازية، وهذا لو قلناه لكان ضربا من الهذيان، ولقادنا إلى كبيرة حين نسند أفعال القيام، والقعود والأكل والشرب وغيرهما مما يتنزه عنه جلاله.
وقد نبه العلامة ابن السبكي إلى أننا نقول: فاعل حقيقي ولا نريد به أنه هو الذي أثر وفعل حقيقة، وإنما نريد ما تعارف عليه القوم في أوضاعهم اللغوية، فإنهم لم يلاحظوا في قيام زيد غير نسبة القيام إليه، "وإن كان الله تعالى خالقه، ومن الأفعال التي خلقها الله ما لا يصح شرعًا أن تنسب إليه سبحانه كالأفعال المحرمة، وحاصل وجوه الإسناد الذي يوصف بأنه حقيقي تتلخص في إسناد الفعل لمن يقع منه الفعل الحقيقي، ويؤثر في وجوده، وذلك لا يكون
إلا لفاعل واحد هو الله، وأفعاله مثل خلق -زرق- وفي إسناد الفعل لمن يقع منه حكما مثل قام زيد، وفي إسناد الفعل إلى ما يتصف به مثل مرض زيد، وبرد الماء، وأمطرت السماء".
وقول الخطيب -في التعريف- عند المتكلم في الظاهر قيد في التعريف يبين أن العبرة بما يعتقده المتكلم كما يظهر لنا من حاله، فالموحد أي المعتقد نسبة الأفعال إلى الله وحده، حين يقول: أنبت الله الزهر، يكون كلامه واردا على سنن الحقيقة في الإسناد؛ لأنه أسند الإنبات إلى الله أي إلا ما هو له عند المتكلم، فإذا قال: أنبت الربيع الزهر قلنا: أنه متجوز في كلامه؛ لأنه أسند الحدث لغير الخالق سبحانه جريا على سنن المجاز، أما إذا قال الملحد الذي يؤمن بفاعلية الطبيعة، وتأثيرها في الأحداث والأشياء، وينكر الحق -سبحانه-: "أنبت الربيع الزهر، فهو غير متجوز في كلامه، ويجري أسلوبه على سنن الحقيقة؛ لأن أسند الفعل إلى ما هو له عنده، وفي معتقده، وهذا الأسلوب يكون حقيقة
وليس مجازًا، وإن كان باطلًا عندنا، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن هذه الطائفة الدهرية:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1، فقد أسندوا الإهلاك إلى الدهر وهم يعتقدون ذلك، وهو إسناد حقيقي، وإن كان باطلًا وشعراؤنا يسندون الأحداث إلا الأيام والدهر كثيرًا: فالدهر هو الذي فجع البارودي في حليلته، ولم يرحم ضناه وأفردهن:"قرحى العيون رواجف الأكباد"، ولم يقدح ذلك في إيمان البارودي؛ لأنه سلك في القول مسلك المجاز، والقرآن ينسب الأحدث للأيام في قوله تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} 2، وغير كثير، وكل ذلك سالك مسلك المجاز ما دام قائله لا يعتقد ظاهره، والقرائن هي التي ترشدنا إلى أنه يعتقد ما يقول أو لا يعتقد.
وقول الخطيب: "في الظاهر" يريد به أن ذلك الإسناد يكون حقيقة، إذا كان
1 الجاثية: 24.
2 المزمل: 17.
ظاهر حال المتكلم يدل على أنه يعتقده، أما مضمرات النفوس فلا سبيل لنا إلى معرفتها ما دام لم يدل عليها شيء في اللفظ، وبهذا يصير من الإسناد الحقيقي قول الملحد لمن لا يعرف إلحاده: أنبت الله البقل، فإن هذا وإن كان لا يطابق معتقد المتكلم في الحقيقة أي أنه إسناد إلى غير ما هو له عند المتكلم، فهو عندنا حقيقة مادمنا لا نعرف إلحاده.
قال الخطيب: فهي -يعني صور الإسناد الحقيقي، أو الحقيقية العقلية- أربعة، أحدها: ما يطابق الواقع والاعتقاد، كقول المؤمن: أنبت الله البقل.
والثاني: ما يطابق الواقع دون الاعتقاد، كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله، وهو يخفيها منه: خالق الأفعال كلها هو الله -والمعتزلي يعتقد أن أفعال العباد مخلوقة لهم.
والثالث: ما يطابق الاعتقاد دون الواقع كقول الجاهل: شفى الطبيب المريض، ومنه:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1.
والرابع: ما لا يطابق شيئا منها كالأقوال الكاذبة، مثل: جاء محمد، وهو لم يأت، فإنه من قبيل الإسناد الحقيقي؛ لأن السامع لا يعلم أن هذا كذب؛ ولأن التركيب من شأنه أن يفيد هذا المعنى، فإذا كان السامع يعلم أنه كذب، فهل يكون علمه قرينة على صرف التركيب عن ظاهره أم لا؟ المسألة فيها مناقشات يتولد بعضها من بعض، وهذا مما لا نريد الاسترسال فيه، وحسبنا هنا أننا ذكرنا هذه الأقسام التي ذكرها الخطيب، وشرحنا تعريفه.
أما التجوز في الإسناد، فقد عرفه الخطيب بقوله: هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول، والألفاظ يتكرر أكثرها في التعريفين، ونجد هخنا قوله إلى ملابس له بدل قوله هناك إلى ما هو له؛ لأن هذا هو أصل
1 الجاثية: 24.
الفرق بين الحقيقة، والمجاز في هذا الباب، فالإسناد هنا ليس إلى ما هو له عند المتكلم، وإنما هو إلى ملابس للفعل أو ما في معناه، وفي كلام الخطيب ما يوهم تحديد الملابسة بما ذكره في قوله، وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب"، وكأن هذه هي الدائرة التي لا يتجاوزها الإسناد، فالفعل أو ما في معناه يسند إلى المفعول، أو إلى المصدر أو الزمان إلى آخره ولا يتجاوز ذلك، وكأن هذا تحديد الملابسات والعلاقات، ويقول شراحه تعليقا على قوله: ويلابس الفاعل والمفعول به، قالوا: هذا استئناف بياني أتى به لتفصيل الملابس، ولم نجد من شراحه من يذكر أنه يريد بالملابسة ما هو أعم من هذه الملابسات المذكورة.
وقد جرت كتب المتأخرين، ومنها الكتب التي كتبت في عصرنا على هذه السنن، فذكرت هذه العلاقات ولم تتجاوزها، وذكروا إسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول، وكذلك اسم الفاعل إلى المفعول مثل قوله تعالى:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 1، وفاعل راضية ضمير يعود على العيشة، وهي في الحقيقة ليست راضية، وإنما هي مرضية، والراضي هو صاحبها وأصل التعبير عيشة راض صاحبها، فأسند الرضى إلى العيشة ليست مرضية فحسب كما هو حقيقة التعبير، وإنما العيشة أيضا راضية، والعيشة هي النعم التي يتقلب فيها أهل الجنة، ورضي العيشة أي النعمة يعني أنها دائمة باقية تألف صاحبها ويألفها، وتحبه ويحبها، وليس هذا غريبًا على ألف اللغة، ويمكن أن يقرب إلينا هذا الخيال الذي يثيره هذا المجاز قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه:"أحسني جوار نعمة الله، فإنهما قلما نفرت عن قوم، فكادت ترجع إليهم"، ومثله يقال في ماء دافق ففاعل الدفق ليس هو الماء، وإنما هو الشخص الذي يوصف بالفعل أي الشخص الدافق، والماء مدفوق، وأصل التعبير ماء دافق صاحبه، ولكن الدفق أسند إلى الماء وهو مفعول، وذلك على سبيل التجوز في الإسناد،
1 القارعة: 7.
ويفيد هذا التجوز أن الماء لسرعة اندفاعه كأنه دافق، أي كأنه يدفع بعضه بعضًا، وتسمى هذه العلاقة المفعولية أي أن الفاعل المجازي كان أصله مفعولا لهذا الفعل.
أما إسناد الفعل أو معناه المبني للمفعول إلى الفاعل، فقد ذكروا له قولهم: سيل مفعم بفتح العين، والسيل يفعم المكان أي يملؤه، والمكان هو الذي يفعم بفتح العين، ولكنهم تجوزوا في الإسناد فجعلوا السيل مفعمًا، ومثله:{كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} 1، فقوله: مأتيا مبني للمفعول، ومسند إلى ضمير الوعد الذي هو فاعل في الحقيقة؛ لأن الوعد يأتي ولا يؤتى، ولكنهم تجوزوا وأسندوا اسم المفعول إلى ضمير الفاعل للملابسة بين الفاعل الذي هو الوعد، والمأتى الذي هو معنى الفعل، وتسمى هذه علاقة الفاعلية أي أن المرفوع باسم المفعول فاعل لهذا الحدث، وله دلالاته، وكأن الوعد يأتيه الناس الذين يسيرون إلى قدر الله فيهم.
وقالوا في علاقة المصدر شعر شاعر، وفاعل كلمة شاعر ضمير يعود على الشعر، والشعر مصدر شعر الرجل أي قال شعرًا، والحقيقة أن الشاعر ليس هو الشعر وإنما هو قائله، ولكنهم تجوزوا وأسندوا ما هو للفاعل إلى المصدر لملابسة بين الفعل، والمصدر من حيث كون المصدر جزءًا من مفهوم الفعل، وقد اعترض العلامة السبكي على هذا المثال، وذلك؛ لأن كلمة شعر يراد بها هنا القول المشعور، ولا يراد بها المصدر، فالشعر الشاعر يعني أبيات الشعر الشاعرة، وأطلقوا المصدر أي الشعر على المفعول أي القول المشعور، وحق هذا المثال أن يكون مع قولنا عيشة راضية أي من علاقة المفعولية، ثم مثل لعلاقة المصدرية بقول الشاعر:"من الطويل":
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
1 مريم: 61.
وقالوا في علاقة الزمان: نهاره صائم، وليله قائم، فقد أسندوا الصوم إلى النهار أي ضميره، كما أسندوا القيام إلى الليل، والصائم هم الناس في النهار، وكذلك القائم هم الناس في الليل، ولكنهم أسندوا الحديث إلى الزمان من حيث وقوعه في هذا الزمان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أحمدك على العرق الساكن، والليل النائم"، والليل لا ينام وإنما ينام الناس فيه، وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: "العرق الساكن: السلامة والعافية، والبراء من الأدواء.
ومن المشهور في هذا الباب قول جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى
…
فنمت وما ليل المطي بنائم
وقالوا في علاقة المكان: طريق سائر، ونهر جار، فالذي يسير هم الناس في الطريق، ولكنهم أسندوا السير إلى الطريق لوقوعه فيه، وكذلك نهر جار إذا كان المراد بالنهر هو الشق في الأرض الذي يجري فيه أما إذا أريد به الماء، فلا تجوز فيه.
وقالوا في علاقة السبب: مبحتك جاءت بي إليك، فالمحبة لم تأت بك ولكنها كانت السبب.
هذه خلاصة العلاقات التي جرى القول عليها في دراسة المجاز العقلي ذكرناها بشواهدها المشهورة؛ لأنها تتردد نماذج يقاس عليها في كتب التفسير، والحديث والنحو، فأردنا أن نكون بارزة في هذا الكتاب.
ثم بعد ذلك نقول: إن هذا التحديد الذي تصوره الخطيب للمجاز العقلي تحديد ضيق، فقد حصره في إسناد الفعل، أو معناه إلى هذه الأنواع من المتعلقات، ولذلك نجد هذا التعريف قد ضاق عن كثير من صور التجوز في الإسناد، فهناك صور من المجاز لم تدخل في التعريف، وقد ذكر العلامة سعد الدين شيئا منها في كتابه المطول قال:
"وقد خرج عن تعريفه الإسناد المجازي أمران، وصف الفاعل والمفعول بالمصدر مثل رجل عدل، وقول الخنساء: "فإنما هي إقبال وإدبار"، فإن الإسناد هنا ليس إسناد الفعل ولا معناه، وإنما هو إسناد بين مبتدأ وخبر في قول الخنساء هي إقبال وإدبار، ووصف الذات بالمصدر في قولنا: رجل عدل".
وقد ذكر عبد القاهر قول الخنساء: "إنما هي إقبال وإدبار" من صور المجاز العقلي الجيد، ومثله رجل عدل، وقوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 1، وما جرى على هذا الأسلوب.
الأمر الثاني: وصف الشيء يوصف محدثه وصاحبه، مثل: الكتاب الحكيم والأسلوب الحكيم، فإن الحكمة في الحقيقة ليست وصفا للكتاب، وإنما هي وصف لصاحب الكتاب، وكذلك ليست وصفا للأسلوب، وإنما هي وصف لصاحبه، وتعريف الخطيب لا يتسع له؛ لأنه تجز في إسناد معنى الفعل إلى مفعول لا يتعدى هذا الفعل له إلا بواسطة، وفي كلام سعد الدين ما يفيد أن الصورة الثانية يمكن أن داخلة في تعريف الخطيب إذا قلنا: إن مراده بالمفعول الذي يلابسه الفعل ما يتعدى له الفعل بنفسه كما في عيشة راضية، وما يتعدى له بواسطة مثل: حكيم في أسلوبه وحكيم في كتابه، ومنه قوله تعالى:{فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} 2، وعذاب أليم، فإن البعيد ليس هو الضلال؛ لأن الضلال مصدر ضل وإنما هو الضال، والأليم أي المؤلم ليس هو العذاب، وإنما هو المعذب بكسر الذال، فمعنى الفعل هنا مسند إلى المصدر الذي يتعدى له بواسطة حرف الجر مثل: بعد في ضلاله وألم في عذابه، وقد ذكرنا في تعريفه للحقيقة العقلية أنه قصرها على إسناد الفعل أو معناه، وبهذا تكون الحقيقة العقلية، والمجاز العقلي كلاهما في الفعل، أو معناه ويخرج منها الإسناد بين الأسماء الجامدة، فقولنا: الإنسان حيوان ناطق، ومحمد أخوك، والكوفة دار خلافة على، وكان بسر بن أرطأة حربا ضد آل البيت،
1 البقرة: 189.
2 سورة ق: 27.
وقول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري، وما شاكل ذلك مما يكون فيه الإسناد بين الأسماء الجامدة ليس من المجاز، ولا من الحقيقة وكأن التراكيب من حيث الحقيقة الإسنادية، والمجاز الإسنادي ثلاثة أقسام: حقيقة ومجاز وما ليس بواحد منهما، وقد صرح الخطيب بذلك في مناقشته للسكاكي؛ لأن السكاكي لم يذكر الفعل ومعناه، وإنما قال: الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم يكون حقيقة، قال الخطيب:"وفيه نظر؛ لأنه غير مطرد لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلًا به، كقولنا: الإنسان حيوان مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازًا"، ولا شك أن هذا اعتراض ساقط، وقد اقتطع الخطيب بعض كلام الزمخشري، فكان له منه هذا التعريف، وقد عالجنا هذا بإيضاح في كتابنا "البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري".
أما قول الخطيب بتأول، فقد قال في بيان ذلك: وقولنا بتأول يخرج نحو قول الجاهل: شفى الطبيب المريض، فإن إسناد الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول، فهو من باب الحقيقة، ولهذا لم يحمل قول الشاعر الحماسي:"من المتقارب".
أشاب الصغير وأفنى الكبـ
…
ـير كر الغداة ومر العشي
على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره كما استدل على أن إسناد ميز إلى جذب الليالي في قول أبي النجم: "من الرجز":
قد أصبحت أم الخيار تدعي
…
علي ذنبا كله لم أصنع
من أن رأت رأسي كرأس الأصلع
…
ميزعنه قنزعًا عن قنزع
جذب الليالي أبطئ أو أسرعي
مجاز بقوله عقيبه:
أفناه قيل الله للشمس اطلعي
…
حتى إذا واراك أفق فارجعي
فالتأول عند الخطيب هو القرينة التي تفهم من الحال، أو التي ينصبها المتلكم في كلامه أمارة، ودليلا على مراده.
وقد تكلم عبد القاهر في هذه القرينة، وبين أنها إما أن تكون استحالة وقوع الفعل من الفاعل كقولك: سرتني رؤيتك، وإما أن تكون راجعة إلى
ما يعلم من حال المتكلم أو من كلامه، وكلام عبد القاهر في هذا أصل لكلام الخطيب الذي ذكرناه، وعبارة عبد القاهر، واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد أمرين، فإما أن يكون الشيء الذي أثبت له الفعل مما لا يدعي أحد من المحققين، والمبطلين أنه مما يصح أن يكون له تأثير في وجود المعنى الذي أثبت له، وذلك نحو قول الرجل: محبتك جاءت بي إليك، وقول عمرو بن العاص في ذكر الكلمات التي استحسنها:"هن مخرجاتي من الشام"، فهذا مما لا يثبت الفعل إلى للقادر، وأنه مما لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة كنحو ما قاله المشركون، وظنوه من ثبوت الهلاك فعلًا للدهر، فإذا سمعنا قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبـ
…
ـير كر الغداة ومر العشي
وقول أبي الأصبع: "من المنسرح"
أهلكنا الليل والنهار معا
…
والدهر يغدو مصمما جذعا
كان طريق الحكم عليه بالمجاز أن نعلم اعتقاد التوحيد، إما لمعرفة أحوالهم السابقة، أو بأن نجد في كلامهم من بعد إطلاق هذا النحو ما يكشف عن قصد المجاز فيه، كنحو ما صنع أبو النجم، فإنه قال أولا:
قد أصبحت أم الخيار تدعي
…
علي ذنبا كله لم أصنغ
من أن رأت رأسي كرأس الأصلع
…
ميز عنه قنزعًا عن قنزع
مر الليالي أبطئي، أو أسرعي
فهذا على المجاز، وجعل الفعل لليالي، ومرورها إلا أنه خفي غير بادي الصفحة، ثم فسر وكشف عن وجهه التأول، وأفاد أنه بنى أول كلامه على التخيل، فقال:
أفناه قيل الله للشمس اطلعي
…
حتى إذا واراك أفق فارجعي
فبين أن الفعل لله وأنه المعيد، والمبدئ والمنشئ، والمفني؛ لأنه المعنى في قيل
الله أمر الله، وإذا جعل الفناء بأمره، فقد صرح بالحقيقة، وبين ما كان عليه من الطريقة، هناك كتب محدثة ناقضت هذه المقررات، وقد قرأناها -علم الله- باحثين عن الحقيقة، فلم نقع فيها على شيء له قيمة، ورأينا أنه من اللغو أن نناقشها، ولوجدت من بين الشبه التي أثاروها شبهة تقع في قلب طالب علم ذكري لأوجب ذلك على أن أناقشها، وهي قائمة على افتراض أن علماء الأمة يجهلون طريقة النظر، وأنهم كذلك يجهلون طبيعة اللغة والأدب، وأنهم غافلون عن الأخطاء، والتناقضات الظاهرة فيما زعموا أنه مقررات إلى آخر هذه السلسلة التي حفظها الفارغون، ويعصم طالب العلم من هذا اللغط كله أن يعلم أن علماء الأمة عقلاء.
وكان حريا بالخطيب، وقد نظر في الكشاف، واستمد منه أكثر ما ذكره في هذا الباب، أن تتسع نظرته بمقدار اتساع نظره الزمخشري الذي ذكر أنواعًا من الملابسات أغفلها الخطيب، ومن جاءوا بعده.
ومن هذه الملابسات أو العلاقات:
إسناد الفعل إلى الجنس كله، وهو في الحقيقة مسند إلى بعضه، كقولهم: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل رجل منهم، قال الفرزدق:"من الطويل"
فسيف بني عبس وقد ضربوا به
…
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله نبا بيدي ورقاء، ورقاء هو زهير بن جزيمة العبسي أمره سليمان بن عبد الملك بضرب أعناق بعض أسرى الروم، وأعطاه سيفًا لا يقطع، فقال: بل أضربهم بسيف أبي رغوان مجاشع -يعني نفسه- فضرب عنق واحد، فانحرف السيف وارتفع عن المضرب فضحكوا، هكذا في مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف.
ويقول الزمخشري في قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} 1، أسند العقر إلى جميعهم؛ لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم".
وقد يسند الفعل إلى الجارحة التي هي آلته كقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 2، قال الزمخشري:"فإن قلت: هلا اقتصر على قوله آثم؟ وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هي أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثمًا مقترفا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي".
وقد يسند الفعل إألى ماله مزيد اختصاص، وقربى بالفاعل الحقيقي، يقول في قوله تعالى:{إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} 3، فإن قلت: لم أسند الملائكة فعل التقدير وهو لله وحده إلى أنفسهم، ولم يقولوا: قدره الله؟ قلت: لما لهم من القربى والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم، وأنهم لا يتميزون عنه، ثم نراه يحدد القاعدة التي يجري عليها هذا الأسلوب تحديدًا فيه شمول، واتساع يناسب كثرة هذه الطريقة، وسعة تصرفها في الكلام فيقول:
"والمجاز المحكي تصححه بعض الملابسات"، أي يكفي فيه أن تكون هناك ملابسة ما تصحح الإسناد -وبذلك يشمل كثيرًا من التراكيب التي تعتمد على ألوان من الملابسات تصحح بها الروابط والأسانيد.
1 الأعراف: 77.
2 البقرة: 283.
3 الحجر: 60.
والزمخشري في دراسته لصور هذا المجاز ينظر إلى تعريف عبد القاهر الذي لم يحدد الإسناد بالفعل ونحوه، ولم يحدد أنواع العلاقات، وإنما قال:"كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في الفعل لضرب من التأول"، وهذا هو التعريف الذي نرضاه.
وقد ذكر صاحب المفتاح هذا التعريف مع تغيير ليس ذا بال، ويحسن أن نذكر عبارة المفتاح ليتضح لنا الفرق بين الطريقتين.. يقول السكاكي:
"المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأول أفاده للخلاف لا بواسطة وضع"، ثم قال شارحًا أهمية قوله ما عند المتكلم، وفضلها على قولهم ما عند العقل، وكأنه بهذا يعرض بعبد القاهر قال:"وإنما قلت: خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه دون أن أقول: خلاف ما عند العقل؛ لئلا يمتنع طرده، بما إذا قال الدهري عن اعتقاد جهل أو جاهل غيره: أنبت الربيع البقل، رائيا إنبات البقل، من الربيع، فإنه لا يسمي كلامه ذلك مجازًا، وإن كان بخلاف العقل"، وقد رد الخطيب عليه هذا الاجتهاد بقوله: لا نسلم بطلان اطراده بما ذكره لخروجه بقوله: لضرب من التأول أي أن قول الملحد: أنبت الربيع البقل، ليس من المجاز وإن كان الحكم المفاد به خلاف ما عند العقل؛ لأنه يشترط في المجاز أن يكون هناك ضرب من التأول، ولا تأول في مثل هذا المثال، فلا محل لاحتياط السكاكي، ومخالفته كلام عبد القاهر وإيثاره قوله:"ما عند المتكلم" على قوله عبد القاهر: "ما عند العقل"؛ لأن عبد القاهر احتاط بقوله: ضرب من التأول فتحددت العبارة، واتضح التعريف.
وتختلف أنظار البلاغيين في تحديد طرفي الملابسة "وطرفا الملابسة غير طرفي الإسناد"، قالوا: الملابسة هي العلاقة بين الفاعل المجازي، وبين المسند أي بين الطريق وسار، في قولنا: سار الطريق، وهذا هو المفهوم من قولهم:
وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به إلى آخر ما ذكرنا، فالملابسة قائمة بين الفعل وما أسند إليه، وقال بعضهم ينظر في العلاقة إلى ما بين المسند المجازي، والمسند إليه الحقيقي، أي أن صحة التجوز راجعة إلى أن الفاعل المجازي مثل الطريق في المثال السابق له صلة، وملابسة بالفاعل
الحقيقي الذي هو الناس، وهذه الصلة هي المشاركة في تعلق الفعل بهما؛ لأن أصل التعبير، سار الناس في الطريق، فالفعل له تعلق بالفاعل الحقيقي من حيث وقوعه منه، وله تعلق بالفاعل المجازي من حيث إنه مكانه، ويفهم هذا أيضا من قول الزمخشري في تعريفه:"هو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له"، أي أن يسند الفعل إلى فاعل له علاقة، وملابسة بالفاعل الحقيقي، كما تلبست التجارة بالمشترين يعني في قوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 1؛ لأن الأصل فما ربح الناس، أو المشترون في تجارتهم، فهناك ملابسة بين التجارة والمشترين أي التجار، هذه الملابسة هي تعلق الفعل بكل منهما كما هو واضح في المثال.
وظاهر أنه إذا كانت هناك علاقة بين المسند من فعل، وشبهه والمسند إليه المجازي، فإنه يلزم أن تكون هناك علاقة بين الفاعل المجازي والفاعل الحقيقي، ولك أن تنظر إلى أيهما شئت.
والعلاقات والملابسات من أجل المباحث، وأطرفها في دراسة الأساليب؛ لأنهما تعني بيان ما بين الأشياء من صلات ووشائج، وكيف يتصورها الذهن، والخيال متقاربة حتى يصح أن يدل بعضها على بعض، ويذكر بعضها مكان بعض، أو متباعدة حتى لا يجوز ذلك، ولا ما يقرب منه كعطف بعضها على بعض، إذا اشتد التغاير.
وقد أطلق العلماء على هذا المجاز أسماء كثيرة منها المجاز في الإسناد، وذلك
1 البقرة: 16.
لكثرة وروده في النسب الإسنادية، التي بين الفاعلين والأفعال، والتي بين المبتدأ والخبر، وكان بعض الباحثين يضيق بتجاهل صوره الأخرى، فيجتهد في لفت الأذواق، والعقول إلى هذه الصور في النسب غير الإسنادية فيعرض بعضها، ثم يقول:"فتدبر ذلك فإنه بحث نفيس"، أو يقول:"فافهم وقس"، ولا تقصر المجاز العقلي على ما يفهم من ظاهر كلام السكاكي والخطيب، وغير ذلك من العبارات التي تثير الدارس وتغريه بالمتابعة، والعلامة ابن السبكي يضيق هو أيضا بطغيان التجوز في الإسناد على غيره، فيقتحر أن يسمى هذا المجاز:"مجاز الملابسة"، وحتى تكون هذه التسمية مشعرة بصفته، وتجاوزه النسبة الإسنادية.
ويسميه بعضهم "المجاز الحكمي"، وقالوا في جه هذه التسمية: إنها نسبة إلى حكم العقل، أو نسبة إلى الحكم الذي هو أشرف أفراده -وأفراد المجاز طرفان ونسبة، والنسبة أشرف من الطرفين كما قالوا.
ويسميه بعضهم المجاز النسبي أي الواقع في النسبة.
ويسميه بعضهم المجاز في الإثبات، ولوحظ الإثبات وحده مع أنه يقع في النفي كقوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 1؛ لأن النفي فرع الإثبات كما قال عبد الحكيم، ويسميه بعضهم المجاز في الجملة أو المجاز التركيبي؛ لأن موضعه التعلقات التي هي أساس التراكيب.
وأشهر أسمائه المجاز العقلي، ووجه هذه التسمية هي أن التصرف فيه يكون في أمر عقلي أي أنك حين تقول: حمتهم سيوفنا لا تكون متجوزًا لي كلمة حمتهم؛ لأنها مستعملة في معناها الحقيقي، ولا تكون متجوزًا في كملة السيوف وإنما تجوزت في أن أسندت الحماية إلى السيوف، وهذا تصرف المتكلم وعقله، ويمكن أن يكون أحد الطرفين أو كلاهما مجازيا، ولكنك لم
1 البقرة: 16.
تدخله هذا الباب إلا للتصرف الذي وقع في الإسناد وهو تصرف عقلي، وسوف نزيد هذه المسألة وضوحا حين نأتي إلى أقسامه من هذه الجهة.
وقد اجتهد عبد القاهر في بيان الفرق بين المجاز في المفرد، والمجاز في الإثبات، وأكد أن المتصرف في الأخير هو العقل الذي يقيم الروابط والصلات؛ لأن اللغة لم تأت لتحكم بحكم، فالحكم بأن الضرب فعل لزيد أو ليس بفعل له، أو أن المرض صفة له أو ليس صفة، شيء يضعه المتكلم ودعوى يدعيها، وما يرد عليها من اعتراض، وتصديق أو تكذيب، واعتراف أو إنكار، وتصحيح أو بطلان، فهو اعتراض على المتكلم، وليس للغة في ذلك سبيل.
وأكد عبد القاهر بهذا، وبغيره الفرق بين المجازين العقلي واللغوي، وبدأ في ذلك وأعاد، يؤكد ويدفع كل شبهة تحوم، وكل اعتراض يرد.
وقد لخص الخطيب قدرًا من هذه الدراسة، فقال:"وسمي الإسناد في هذين القسمين من الكلام -أعني الحقيقة والمجاز العقليين- عقليا؛ لاستناده إلى العقل دون الوضع؛ لأن إسناد الكلمة إلى الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة، فلا يصير ضرب خبرًا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلًا، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة، أن ضرب لإثبات الضرب، لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماض، وليس لإثباته في زمان المستقبل، وأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين، ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في قولنا: خط أحسن مما وشى الربيع، من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد، ذلك مما لا شك في بطلانه"، وهذا كما قلنا: ملخص، أو منقول من أسرار البلاغة.
أما قول الخطيب: ولو كان لغويا لكان حكمنا إلى آخره، فإنه تلخيص
لاعتراض أورده الجرجاني بعد ما فرق بين الأفعال التي تكون مصادرها في حكم الأجناس من المعاني لعمومها في الدلالة، مثل: فعل وأنشأ وخلق، والأفعال التي تكون مصادرها في حكم أنواع من المعاني لخصوصها مثل ضرب، وخرج، وذهب، وبين أن المفعولات للأفعال الأولى تسمى مفعولات مطلقا مثل: أنشأ الله الخلق وفعل زيد القيام، فالخلق والقيام، كلاهما مفعول مطلق أي ليس مفعولا به؛ لأنك لم توقع عليه فعلا كقولك: ضربت زيدًا، فزيد مفعول به؛ لأنك أوقعت عليه فعلا هو الضرب، وأن هذه الأفعال العامة قد ترد فيها الشبهة، فيقال: أن الفعل -فعل أو أنشأ- وضع في اللغة ليدل على قوع الحدث من الحي القادر، فإذا أسندته إلى الربيع، فقد تجاوزت الوضع اللغوي، وبين عبد القاهر خطأ هذا، وأكد أن اللغة وضعت فعل، وأنشأ للتأثير في وجود الحادث، فحسب غير ناظرة إلى ما ينسب إليه، والعقل هو الذي قرر أنه لا بد من مؤثر قادر.
وقبل الخطيب لخص الإمام الرازي كلام عبد القاهر في هذا، وارتضاه ومثله السكاكي، أما أمير المؤمنين حمزة بن يحيى العلوي فقد خالف في ذلك، وذهب إلى أن هذا المجاز مجاز لغوي، وأنكر على الإمام الرازي تسميته عقليا، قال العلوي: "اعلم أن هذه المجازات المركبة التي ذكرناها، ومثلناها بقوله تعالى:{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 1، وبقوله:{مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} 2، وقوله:{إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} 3، وغير ذلك من الأمثلة، فإنها كلها مجازات لغوية استعملت في غير موضوعاتها الأصلية، فلأجل هذا حكمنا عليها بكونها لغوية، وبيانه أن صفة أنبت وأخرج، وأخذ وضعت في أصل اللغة لصدور الخروج والنبات، والأخذ من القادر الفاعل، فإذا استعملت في صدورها من الأرض، فقد استعملت في صدورها من الأرض، فقد استعملت الصيغة في غير موضوعاتها، فلا جرم حكمنا بكونها مجازات لغوية، وقد زعم
1 الزلزلة: 2.
2 البقرة: 61.
3 يونس: 24.
ابن الخطيب الرازي أن المجازات المركبة كلها عقلية، وهذا فاسد لأمرين: أما أولًا؛ فلأن فائدة المجاز معناه حاصل في المجازات المركبة من كونه أفاد معنى غير مصطلح عليه، فلهذا كان المركب بالمعاني اللغوية أشبه، وأما ثانيا؛ فلأن المجاز المفرد في قولنا: زيد أسد قد وافقنا على كونه لغويا، فيجب أن يكون المركب أيضًا كذلك، والجامع بينهما أن كل واحد منهما قد أفاد غير ما وضع له في أصل تلك اللغة، فوجب الحكم عليه بكونه لغويًّا".
وبيدو أن العلامة الفاضل لم يقرأ هذا البحث القيم المقنع في كتاب أسرار البلاغة، فقد أنفق عبد القاهر أكثر من عشرين صفحة ليؤكد أن هذا المجاز عقلي، وليس لغويا، وقد أفلح في هذا.
ويبدو أن العلامة العلوي متأثر برأي في قضية خلافية مشهورة، ومضمونها: هل التراكيب اللغوية وضع وضعه أصحاب اللغة كما وضعوا مفرادتها؟ أم أن التراكيب من محض تصرف المتكلم، وأن أصحاب اللغة وضعوا مفرداتها فحسب، قال بعض الباحثين: إن الصور التركيبية جرى فيها الوضع كما جرى في المفردات، ولهذا وجدنا ناقدًا عظيما مثل الآمدي يستحسن أن يقف الشعراء، والأدباء عند هذه الصور فلا يتجاوزوها؛ لأن اللغة لا يقاس عليها، وكأنه ينتصر من وراء ذلك لمذهب البحتري، ويعيب عن طرف آخر طريقة أبي تمام؛ لأن له محاولات كثيرة في خلق تراكيب مجازية جديدة لم يألفها الاستعمال الأدبي، وذلك بخلاف البحتري الذي كان يجري على طريقة الشاعر الحاذق، والشاعر الحاذق كما يقول الآمدي:"يصور لك الأشياء بصورها، ويعبر عنها بألفاظها المستعملة فيها واللائقة بها، وذلك مذهب البحتري، ولهذا كثر الماء والرونق في شعره".
أقول: إن الآمدي يستحسن أن يقف الشعراء، والأدباء عند الصور، والتراكيب المألوفة فلا يتجاوزوها، وقد قال ذلك حين عاب صورة من صور المجاز في قول أبي تمام يودع صاحبه على ابن الجهم:"من الكامل"
هي فرقة من صاحب لك ماجد
…
فغدا إذابة كل دمع جامد
فافزع إلى ذخر الشئون وعذبه
…
فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد
والشاهد في قوله: "فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد"، فقد أراد أن الدمع يذهب بعض جهد الحزن الجاهد أي أن الحزن الذي جهدك، فهو الجاهد لك، قال الآمدي:"ولو كان استقام له أن يقول: بعض جهد المجهود لكان أحسن وأليق، وهذا أغرب وأظرف، وقد جاء أيضا فاعل بمعنى مفعول قالوا: عشية راضية، بمعنى مرضية ولمح باصر، وإنما هو مبصر فيه، وأشباه هذا كثيرة معروفة، ولكن ليس في كل حال يقال: وإنما ينبغي أن ينتهي في اللغة إلى حيث انتهوا ولا يتعدى إلى غيره، فإن اللغة لا يقاس عليها".
والآمدي في هذا يحرص على أن يحفظ عمود الشعر، ويصون إلف المجاز في اللغة حتى لا يخرج عن الذوق المألوف، وكان رجلًا دقيق الحس بالغ التأثر جيد العبارة، ولكننا لا نوافقه في أنه ينبغي أن ننتهي في هذا المجاز حيث انتهوا؛ لأننا نريد للمواهب الصادقة أن تضيف إلى تراث اللغة في التراكيب، والصور والأبنية ما يعد ثروة تتسع بها آفاقها، وترحب بها آمادها وهكذا فعل أمثال المتنبي وأبي العلاء، ومن قبلهم الأعشى وامرؤ القيس، وغيرهم ممن نهجوا للأساليب طرقا، وفتحوا لها آفاقا.
وهذا الجانب المهم لم يدرس في أدبنا دراسة جادة، أي أننا لم نحدد تحديدًا دقيقا ما أضافه كل شاعر من شعرائنا الكبار إلى ثروة اللغة التركيبية من ألوان في الصياغة، والتشكيل اختراعها هو، وكانت هناك محاولة متواضعة تناولت بيان سيدنا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فعددت بعض الصور التي أضافها صلى الله عليه وسلم في بيانه الشريف إلى ثروة اللغة مثل:"حمي الوطيس"، ولم يفحص كلام رسول الله فحصا كاملا ليأتي بنتيجة محددة، في هذا الباب، ومثل ذلك أسلوب القرآن، فإنه على كثرة ما كتب فيه لم يتحدد لنا بوضوح ما نهجهه للغة من طرق، وما فتق لها من أساليب
البيان وصور التراكيب، وهذا درس صعب جدا، ولكنه ضروري في تاريخ التراكيب، ورصد نمو الأساليب ويجد فيه النابهون من طلاب العلم، ومحبيه مجالا فسيحا لجهود صادقة، وعد عن ذا، وعد إلى قضيتنا لنقول: إن القول بأن المجاز التركيبي مجاز لغوي متأثر بالرأي القائل، أن التراكيب اللغوية من وضع أصحاب اللغة، فكما وضع العرب إزاء كل معنى مفرد لفظا يدل عليه، وضعوا كذلك إزاء كل معنى مركب تركيبا يدل عليه، وقد ربط العلامة ابن السبكي القول في كون هذا المجاز لغويا، أو عقليا بالقول في هذه القضية وعبارته: الحقيقة والمجاز التركيبيان هل هما لغويان أم لا؟ وذلك مبني على أن المركبات موضوعة أولًا؛ إن قلنا بالأول فنعم وإلا فلا.
وقلت: إن العلامة العلوي متأثر بالقول بالوضع في التراكيب لقوله: والجامع بينهما أن كل واحد منهما قد أفاد غير ما وضع له في أصل تلك اللغة، وهذا يعني أن التركيب في المجاز العقلي مستعلم في غير ما وضع له، وهذا واضح في أن العلامة يرى أن واضع اللغة وضع تراكيبها كما وضع مفرداتها، وواضع اللغة يقصد به أهلها الذين اصطلحوا على تحديد معانيها إفرادًا وتركيبا.
وقد اختلف البلاغيون حول المسمى بالحقيقة، والمجاز العقليين هل هو الكلام؟ أي الجملة كلها؟ فنقول -في قول قيس بن الملوح:"من الطويل"
ألَا يا حمامي بطن ودان هجتما
…
على الهوى لما تغنيتما ليا
فأبكيتماني وسط أهلي ولم أكن
…
أبالي دموع العين لو كنت خاليا
إن قوله: هجتما على الهوى، مجاز، وقوله: فأبكيتماني مجاز.
وكذلك نقول -في قول أبي حناك البراء في رثاء إخوته: "من الطويل"
أبعد بني أمي الذين تتابعوا
…
أرجي الحاية أم من الموت أجزع؟
ثمانية كانوا ذؤابة قومهم
…
بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنع
أولئك إخوانه الصفاء رزئتهم
…
وما الكف إلا أصبع ثم أصبع
إنه حقيقة عقلية.
أم أن الموصوف بهما هو الإسناد فقط، فنقول: إن الإسناد في عشر قيس إسناد مجازي، والإسناد في قول أبي حناك إسناد حقيقي، وحينئذ يكون إطلاقنا المجاز على الجملة كلها مجاز آخر معناه تسمية الكل "الجملة" باسم الجزء "الإسناد"، وكذلك يقال في الحقيقة، وليس وراء تمحيص القول في هذا غناء، فعد عنه إلى غيره.
أما صورة التجوز فإن منها ما لا نرى التجوز فيه إلا في الإسناد، ويكون طرفا الإسناد مستعملين استعمالًا حقيقيا، ومن أمثلة ذلك وجيده، قول الفرزدق في قصيدته، "إن الذي سمك السماء":"من الطويل".
يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا
…
ضرب تطير له السواعد أرعل
واختراط السيوف سلها وتهيؤها للنزال، والضرب الأرعل الشديد السريع والرجل الأرعل، الطياش الأحمق، يريد أن يقول: إنا إذا ابتدأ الشد نحمي نساءنا بضرب شديد وسريع، تطير له السواعد، ولكنه تصرف في التركيب تصرفا أخرج به صورة الكلام مخرجا غير الذي قلناه، وذلك بإسناد الحماية إلى الضرب، فقال: يحمي نساءنا ضرب، وقدم قوله: إذا اخترط السيوف على الفاعل، وأوقع هذا الشرط معترضا بين جزأي الجملة؛ لأنه أراد أن يبرز صعوبة ذلك الوقت الذي يحمي هذا الضرب الأرعل فيه النساء، وأنه وقت يصاب فيه غيرهم بالدهش والفجاءة.
ولكمة اختراط لها مغزى جليل؛ لأنها تعني اجتذاب السيوف، وسلها بشدة واندفاع وتهور، فاللحظات لحظات موت خاطف سريع، وفي البناء
للمجهول إشارة إلى السرعة الفائقة حتى كأن السيوف تسل وحدها، فليس للاختراط فاعل، والكلمة تبعث في شطر البيت حركة مفاجئة، وفارهة تناسب شعور الفخر الهائج، وتتلاقى مع الحركة الطائشة المتناثرة في شطر البيت الثاني:"تطير له السواعد"، وقوله: يحمي كلمة مستعملة فيما وضعت له؛ لأن المراد هنا أصل معناها، وكذلك كلمة ضرب وهما طرفا المجاز، وإنما وقع التجوز في أن صار الضرب فاعلًا للحماية، والحامي في الحقيقية ليس الضرب، وإنما هم القوم بالمنازلة والمقارعة، وفي هذا تأكيد لقدرتهم على حماية حرماتهم من جهة أنه إذا كان ضربهم قادرا على الحماية فهم عليها أقدر، هكذا يرى عبد القاهر، وفيه أيضا إشارة إلى شدة الضرب، وتميزه واستقلاله ونهوضه بالذود والحماية، وهذا هو الخيال الكامن وراء المجاز.
ومن ذلك قول حاجز بن عوف الأختمي في قصيدته: "صباحك وأسلمي عنا أماما": "من الوافر"
أبي عبر الفوارس يوم داج
…
وعمي مالك وضع السهاما
فلو صاحبتنا لرضيت عنا
…
إذا لم تغبق المائة الغلاما
أراد بقوله: عبر الفوارس أي خبر قوة عدوه وعدها، وعرفها ثم احتال في الرجوع إلى قومه، من قولهم: عبر الدنانير، وزنها دينارا دينارًا، واليوم الداجي هو اليوم الصعب الشديد، وكأنه ترى كواكبه، ووضع السهام أي وضع الأنصباء، وكان الحارث بن يشكر يأخذ سهاما من الأزد إذا غنموا نفاجة منه واقتدارًا، فمنع ذلك ذهل بن الأخشمي عم الشاعر وكان أبيا شجاعا، والغبوق ما يحلب من الإبل والغنم، وما يشرب بالعشي، وبابه نصر، يفخر الشاعر بعمه ووالده ثم يقول لصاحبته: لو صاحبتنا في زمان الشدة، والجدب لعرفت وفرة سخائنا، والشاهد قوله: إذا لم يتغبق المائة الغلاما، والغابق ليست الإبل وإنما هم القوم من لبن الإبل، فأسند الغبوق إلى الإبل إسنادا مجازيا؛ لأنها من الغبوق بسبيل حيث درت لبنها، فأعانت على الغبوق.
يقول عبد القاهر: "يريد إذا كان العام جدب وجفت ضروع الإبل، وانقطع الدر، حتى إن حلب منها مائة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد".
ومن نادر ذلك وجيده قول الخنساء في رثاء صخر: "من البسيط"
فما عجول لدى بو تطيف به
…
لها حنينان إعلان وإسرار
أودى به الدهر عنها فهي مرزمة
…
قد ساعدتها على التحنان أظآر
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني يوم فارقني
…
صخر وللعيش إحلاء وإمرار
العجول: الناقة التي فقدت ولدها فهي واله، والبو: ولد الناقة، والمراد به هنا الجلد يحشى ثمامًا أو تبنا، فيقرب من أم الفصيل، فتعطف عليه فتدر، والآظآر: جمع ظئر وهي العاطفة على ولد غيرها لترضعه، وقالوا: ظأرني على الأمر، أي: أكرهني كأنه عطفه عليه ولواه، وقالوا: ظأرتهم الرماح على الصلح كأنها ترغمهم وتلويهم عليه، والمرزمة ذات الإرزام وهو الحنين وصوت تخرجه الناقة من حلقها لا تفتح به فما، وقالوا: لا أفعل ذلك ما أرزمت أم حائل، أي ما حنت عجول حال ولدها
…
وشاهدنا قولها: "فإنما هي إقبال وإدبار"، فقد أسندت الإقبال والإدبار إلى الناقة عل طريقة قولنا: زيد عدل، وهذا تجوز في الإسناد، والإقبال، والإدبار كلاهما مستعمل في أصل معناه، وهذا الإسناد أفاد أن هذه الناقة حين ذكرت ولدها ارتاعت من شدة ما تجد، واشتدت بها الوجد وأخذت تقبل وتدبر، وكأنها لفرط إقبالها وإدبارها، صارت إقبالًا وإدبارًا، قال عبد القاهر:"لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناها فتكون قد تجوزت في نفس الكلمة، وإنما تجوزت في أن جعلتها -لكثرة ما تقبل وتدبر، ولغلبة ذلك عليها واتصاله بها، وأنه لم يكن لها حال غيرها -كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار"، والناقة هنا استحالت إقبالا وإدبارًا، هي هكذا في هذ الشعر.
ويرفض عبد القاهر أن يكون الكلام على حذف مضاف، والتقدير: فإنما هي ذات إقبال وإدبار، أو أن يكون على تأويل المصدر باسم الفاعل أي فإنما هي مقبلة ومدبرة؛ لأن كلا الاثنين لا يصف آثار الذعر العنيف حين ادكرت الناقة فصيلها، ولا يصف ما أرادته الخنساء، يقول عبد القاهر: "وعلم أنه ليس بالوجه أن يعد هذا على الإطلاق معد ما حذف منه المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، مثل قوله عز وجل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1
…
وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف، ويقولون: إنه في تقدير فإنما هي ذات إقبال وإدبار..... وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء؛ لأننا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا: فإنما هي ذات إقبال وإدبار أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول، وإلى كلام عامي مرذول، وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلًا في بيت المتنبي:"من الوافر".
بدت قمرا ومالت خوط بان
…
وفاحت عنبرا ورنت غزالا
أنه في تقدير محذوف، وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت: بدت مثل القمر ومالت مثل خوط بان، وفاحت مثل عنبر، ورنت مثل غزال في أنا نخرج إلى الغثاثة، وإلى شيء يعزل البلاغة عن سلطانها، ويخفض من شأنها، ويصد أوجها من محاسنها، ويسد باب المعرفة بها وبلطائفها علينا"، ثم يؤكد رفض هذا ويحتم أخذ المعنى كما يعطيه هذا البناء الذي بني عليه الشعر.
والذي يفيد أن الناقة كأنها صارت بجملتها إقبالًا وإدبارًا حتى كأنها قد تجسمت منها، ولو أرادت الشاعرة خلاف هذا المعنى لقالت: فإنما هي ذات إقبال وإدبار، أما أن تكون قد بنت معناها هذا البناء الشعري المصور، ثم بعد ذلك ننزله بالتقدير إلى هذا المعنى المغسول: فذلك مما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة، وهذا النص نص جديد، وكأن سلطان البلاغة
1 يوسف: 82.
ومحاسنها، ولطائفها كل ذلك في خلق الصور اللغوية التي يدلك عبد القاهر عليها في الفرق بين الكلامين الشعر، والكلام الغث المغسول.
وقد ألمع العلامة ابن جني إلى أصل هذا الشرح الممتاز حين قال معلقا على هذا البيت: "الأحسن في هذا أن يقال: كأنها خلقت من الإقبال والإدبار، لا على أن يكون من باب حذف المضاف".
وقد رويت أبيات الخنساء في صورة أخرى اختلطت فيها الأشطار، وتحرفت بعض الكلمات، من ذلك الرواية التي جاءت في ذيل دلائل الإعجاز، فقد رويت هكذا:
فما عجول لدى بو تطيف به
…
قد ساعدتها على التحنان أظآر
أودى به الدهر عنها فهي مرزمة
…
لها حنينان إصغار وإكبار
ترعى إذا نسيت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا الخلط لا يخطئه الحس، فحنين العجول يذكر مع طوفانها حول البو، كما في الرواية التي أثبتناها أولًا، ومساعدة الأظآر لها على التحنان يناسب إرزامها، فقد قالوا: إن الإرزام أقل من التحنان، وكأن أصوات أشواقها تتصاعد إرزاما وتحنانا، وقولها هنا: إذا نسيت، كبيرة في الشعر لا تقع فيها الخنساء؛ لأن ناقتها تغفل فقط ولا تنسى؛ لأنها إذا نسيت فقد ذهبت لوعتها، والذكر حصول الشيء، وحضوره سواء كان بعد غفلة أو بعد نسيان، وحديث الناقة في أبيات الخنساء كله مثل تصف به لوعتها، وهذا فن من القول خلوب كتب فيه زكي مبارك كتابة طيبة أفادها من الشيخ المرصفي، الذي قال في مزايا أسلوب الأعشى: إنه ابتدع أسلوبا لم يسبقه إليه الشعراء، واقتدى به من جاء بعده منهم في هذا الأسلوب، ثم شرح الطريقة التي جاءت عليها الآبيات، وأظن أن طواعية هذه الطريقة، وسلاستها في شعر الخنساء، ولبيد والنابغة،
وغيرهم ممن عاصر الأعشى تجعل قبول قول الشيخ المرصفي رحمه الله غير ميسور، فجريان الأساليب المخترعة على ألسنة الشعراء يحتاج إلى زمن تلين فيه، وتطوع حتى تمضي في يسر، وسهولة وعذوبة كما نراها في شعر هؤلاء.
وكان من خبر صخر لما طعنه أبو ثور الأسدي حين جمع لهم، وأغار عليهم، أن نتأ من جرحه شيء أضناه حولًا، وبقي في بيته كالأسد المريض، فسمع رجلًا يسأل امرأته، ويقول: كيف صخر؟ فقالت: لا ميت فينعى ولا صحيح فيرجى، فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرز أمه عليه، فقال أبياتا جيادًا:"من الطويل"
أرى أم صخر ما تجف دموعها
…
وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة
…
عليك ومن يغتر بالحدثان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه
…
وقد حيل بين العير والنزوان
لعمري لقد أنبهت من كان نائمًا
…
وأسمعت من كانت له أذنان
فأي امرئ ساوى بأم حليلة
…
فلا عاش إلا في شقا وهوان
قال أبو العباس المبرد، ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه فبكاها، فقال:"من الطويل"
أيا جارتا إن الخطوب قريب
…
من الناس كل المخطئين تصيب
أيا جارتا إنا غريبان ههنا
…
وكل غريب للغريب نسيب
والجنازة: الميت أو سريره، قال صاحب اللسان: إذا ثقل على القوم امرؤ، واغتموا به فهو جنازة عليهم، ثم ذكر البيت، ودع ذا لنتابع صور التجوز في الإسناد.
ومنها أي من التجوز في الإسناد وحده قول سلمة الجعفي يرثي أخاه لأمه: "من الطويل"
فتى كان يعطي السيف في الروع حقه
…
إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
…
إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وثوب الداعي رجع صوته في الدعاء مرة أخرى ليسمع صوت دعائه واستغاثته، وعطاء السيف حقه هو الضرب به في حال الشد، وإروائه من دم الأعداء، وشقاء الجزر به؛ لأنه كان ينحرها لضيفانه فهو شجاع جواد، وقوله: يدنيه الغنى من صديقه، مجاز في الإسناد؛ لأن الغنى لا يدنيه وإنما يدنو هو من صديقه بسبب غناه، ومثله: ويبعده الفقر، وفضل هذا الأسلوب على طريق الحقيقة هو أنه يؤكد سببية الغنى، في دنو الممدوح من أصدقائه حتى كأن الغنى هو الذي يدنيه، ويدفعه نحوهم، وكأن الفقر هو الذي يبعده، ومنه قول عمار الأسدي يرثي ولده معينا، وهو من جيد الرثاء:"من الوافر"
ظللت بجسر سابور مقيما
…
يؤرقني أنينك يا معين
وناموا عنك واستيقظت حتى
…
دعاك الموت وانقطع الأنين
والظلول أصله المكث نهارًا، ولكنهم توسعوا في معناه، فأطلقوه على الأوقات كلها، جسر سابور بلد من بلاد الفرس، والشاهد قوله: يؤرقني أنينك؛ فإن الشاعر أرق لأنين ولده، وهذه الصورة بالغة في التأثير، وهي كما ترى خالية من الاحتفال والمبالغات، وإنما تصف معاناة نفس صرفها حزنها الواله عن العناية بالصنعة، فجاءت الأبيات وليس فهيا إلا ترجيع الحزن وترنح البكاء، وحسبها من الشعر هذا.
ومن هذا الضرب في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} 1، فقد أسندت زيادة الإيمان إلى الآيات، وهي في الحقيقة سبب أي زادهم الله إيمانا بسبب الآيات، ومثله:{فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} 2، ومزية المجاز هنا أن الآيات لقوة سببيتها
1 الأنفال: 2.
2 التوبة: 124.
وفاعليتها في النفوس كأنها هي التي فعلت زيادة الإيمان، فالمراد توضيح أهمية الآيات وفاعليتها.
ومنه قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 1، والأرض لا تخرج وإنما يخرج الله منها أثقالها، فهي مكان الفعل وليست فاعلة، وفي هذا الإسناد تخييل محرك ومثير، فأنت ترى الأرض فاعلة جاهدة تخرج أثقالها، وهذه الإضافة في قوله: أثقالها تشعر بأنها أثقال هائلة جسام؛ من حيث كانت أثقال هذا الكوكب الهائل الضخم الذي حمل الجبال، والبحار وثقلاء الناس، والمقام مقام ذكر الساعة وما فيها من ذهول وفزع، وتصور الأرض وهي جاهدة تخرج الأثقال في هذا الوقت الفزع واقع أحسن موقع، ثم فيه إشارة إلى أنها لا تبقى في باطنها شيئا؛ لأنها تقذف بنفسها كل ما انطوى في طياتها.
ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ} 2، فقد أسند أقلت إلى ضمير الرياح، والرياح لا تحمل وإنما القدرة التي تسخر الرياح، وهذا المجاز يريك الرياح، وقد حملت ثقال السحاب وناءت بها، وكأنها أثقلتها وأعجزتها، فجاء فعل السوق مسندا إلى الذات القادرة على حركة الريح، فساقته بأحماله الثقال.
وقد تجد في الجملة التي بنيت على التجوز في الإسناد مجازًا لغويًّا في أحد طرفيها، ومما جاء المسند إليه فيها على طريق المجاز قول الفرزدق يذكر قومه، وإبلهم المههملة في الصحراء اتكالًا على ذكرهم:"من الطويل".
سقاها خروق في المسامع لم تكن
…
علاطا ولا مخبوطة في الملاغم
والعلاط صفحة العنق، قالوا: ما ملح علاطيها أي صفحتي عنقها، ثم
1 الزلزلة: 2.
2 الأعراف: 57.
أطلق على السمة في عرض العنق من أطلاق المحل على الحال، وصار كأنه حقيقة فيما هو مجاز فيه، والملاغم الأشداق وما حولها، قالوا: زبده على ملاغمه، ثم أطلق على الزبد الذي يكون فوق الأشداق في مثل قولهم: رمى البعير بلغامه، وقد تلغمت المرأة بالطيب أي طيبت فمها، والمخبوطة في الملاغم أي الموسومة في الأشداق.
يقول الفرزدق: إن إبلنا حين ترد الماء لتشرب لا يمنعها أحد، وهي غير موسومة بعلامة؛ لأن ذكر أصحابها قد ملأ الأسماع، والشاهد في قوله: سقاها خروق حيث أسند السقي إلى الخروق، وقالوا: كنى عن الشهرة بالخروق في المسامع، وكأن الذكر الجهير والصيت الذائع لنفاذه، وبلوغه قد خرق الأسماع، وقد يكون توجيه العبارة غير هذا الذي قالوه؛ لأن خروق المسامع يراد بها في كلامهم مجاري الصوت في الأذن، قالوا: جرى حديثهم في خروق المسامع أي سمعهم الناس، ومنه:"من الطويل"
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها
…
سواها وما طهرتها بالمدامع
وتلتذ منها بالحديث وقد جرى
…
حديث سواها في خروق المسامع
أي وقد جرى حديث سواها في أذنك.
والمراد بخروق المسامع في بيت الفرزدق ليس هو مجاري الصوت، وإنما الصوت نفسه أي الذكر وبعد الصيت، وأطلق خروق المسامع أي مجاري الصوت على الصوت، أي الذكر كما يطلق المحل على الحال، والشاهد كما قلت: هو أن هذه الإبل سقتها الخروق أي سقاها الذكر، والصيت وأفسح الناس لها الطريق لما يعرفون من قوة أصحابها ومنعتهم، والذي سقاها حقيقة هم الناس بسبب ما يسمعون، ولكن هذا التجوز وضح السبب، وأبرزه حين خيل أنه هو الذي سقى الإبل.
ومن هذا الضرب الذي يقع في التجوز في الإسناد، والمسند إليه قولك: أقلقتني بنات الليل، وبنات الليل تقع في كلامهم كناية عن الهموم، والأحزان كما يذكرون بنات الدهر، ويريدون الشدائد، والبلايا.
ومن هذا الضرب قول الباردوي في رثاء زوجته: "من الكامل"
أيدي المنون قدحت أي زناد
…
وأطرت أية شعلة بفؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فيلق
…
وحطمت عودي وهو رمح طراد
ويد المنون: استعارة مكنية للموت، وقدح الزناد إخراج ناره، والفيلق: الجيش والكتيبة العظيمة، والشاهد قوله:"أوهت عزمي"، فالوهن أسند إلى يد المنون وهي سبب له وليست فاعلة، وقدح الزناد مثل يضرب لإثارة كوامن الأحزان والشجون، وكذلك إطارة الشعلة من الفؤاد تصوير لذهاب العقل عند الدهش والفجاءة بالأمر الجلل.
والصور في هذين البيتين كما نرى تتزاحم، ويدخل بعضها في بعض
…
قدح الزناد، وإطارة شعلة الفؤاد
…
وحطم العود وهي أيضًا صورة تمثيلية لبيان ضعفه وتخريب بنائه، ثم هناك تجوز في الإسناد في أوهت عزمي كما قلنا، والذي أريده أنه ينبغي أن نبين بدقة موطن المجاز، فلا يلتبس علينا، فنزعم مثلا أن قوله: أوهنت عزمي استعارة كأخواته، أو أن قوله: حطمت عودي مجاز في الإسناد؛ لأن هذا وإن صح مع الاحتجاج والتمحل، فإنه مفسد الشعر، واعلم أن المجاز في الإسناد يضفي على الجملة ظلا خادعا من التلوين يحسبه من لا خبرة له ببناء الأساليب تجوزا فيها، ألست ترى في قولنا: أنبت الربيع البقل الذي هو من أوضح أمثلة هذا المجاز نوعا من الخيال يوهمك أن الربيع مشبه بالحي القادر على ذلك، وانظر إلى قولنا: أهاجته ذكريات عذاب، ألست ترى ظلا من الخيال يوهمك أن الذكريات هنا مشبهة بحي يقع منه الفعل؟ نعم هذا كائن، ولذلك ذهب السكاكي إلى الناظر في المثبت له لا في الإثبات، وأدخل المجاز العقلي في قسم الاستعارة بالكناية تقليلًا للأقسام، وقد دفع هذا باعتراضات قوية قد نشير إلى بعضها، والمهم أن المتأمل للأساليب يلمح فرقًا بين المجازين في أكثر الصور، وإن كان يدق أحيانا، وعلينا أن نفسر كل صورة بما يناسبها، وبما هو الأظهر فيها من طرق البيان، فلا نتكلف ولا نلوي أعناق الاستعارة لنوجهها على طريق المجاز في الإسناد.
أتراك لو قلت في قوله: "من الطويل"
ولما نعى الناعي بريدًا تغولت
…
بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر
أن قوله: تغولت بي الأرض، مجاز عقلي أسند فيه التغول إلى الأرض، والأرض مكان التغول، وتكون مهدرًا لمزية الصنعة في هذا التصوير الخلاب حين أفسدته بهذا التحليل، وإن أمكنك أن تدافع عنه؟ أليس من البر بهذه الصورة أن نقول: إنها تصوير وتمثيل لحاله، واستلاب نفسه حين فوجئ بنعي أخيه بتلك الحال المفروضة أي حال من تغولته الأرض، وهم يزعمون أن في الأرض غولًا يغتال الأقوام، قال طريف بن وهب يخاطب زوجته في رثاء ولده:
"من الطويل"
فإن الذي تبكين قد حال دونه
…
تراب وزوراء المقام دحول
نحاه للحد زبرقان ومالك
…
وفي الأرض للأقوام قبلك غول
نقول: إنه شبه حاله حين أفرغ النعي نفسه بحال من تغولته الأرض، ثم استعار صورة المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة التمثيلية وراء ذكر الأرض التي تحمل إشارة إلى سرعة الاختطاف والاستلاب، وزوراء المقام القبر، والدحول هوة تكون في الأرض.
ولا أستطيع أن أضع حدًّا يهدي إلى الطريق الذي تخرج عليه الأساليب إلا المهارة الخاصة، وحسن التذوق للفروق الدقيقة بين طعوم الأساليب المتشابهة، والله يهدي من يشاء إلى صراط المستقيم.
ومما وقع فيه التجوز في الإسناد، والمسند إليه قول ابن خفاجة:"من الطويل"
وإني إذا ما شاقني لحمامة
…
رنين وهزتني لبارقة ذكرى
لأجمع بين الماء والنار لوعة
…
فمن مقلة ريا ومن كبد حرى
أراد بالرنين صوت الحمامة، وإنما يقال له: هديل، وسجع، وترجيع، وتطريب، ولعلهم أدركوا في صوت الحمامة ما يشبه رنة القوس، ورنة القوس من
أصوات الشجى، والحنين، وقد ذكروا الرنين للمرأة في نوحها، وللسحابة في رعدها، وللماء في خريره، وهو في كل هذا مجاز؛ لأن الرنين في أصل معناه الصيحة الحزينة، هكذا في المعاجم.
واستعمال الرنين في صوت الحمامة مجاز بتشبيه هديلها بالرنين، وفيه مجاز آخر في الإسناد حين جعله الشاعر فاعلا لقوله: شاقني؛ لأنه باعث الشوق وليس فاعله، وفي هذا التجوز توضيح للأثر العميق الذي أحسه الشاعر بسماع صوت الحمام، وكأنه هو الذي فعل فيه الشوق وأحدثه.
وقد يقع التجوز في الإسناد والمسند، ومنه قوله تعالى في ضراعة زكريا عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 1، وهن العظم: أي ضعف وأراد عليه السلام أصابني الوهن، ولكنه جاء على هذه الصورة، وأسند الوهن إلى العظم، وهو للبدن كله ليشير إلى أن العظم الذي هو سناد البدن، وموضع القوة فيه، قد أصابه الوهن فما بالنا بغيره؟ هكذا قال الزمخشري: وتأمل التوافق الصوتي في: إني وهن العظم مني، وكيف دل على عمق ما يجد.
وشاهدنا في قوله: واشتعل الرأس شيبًا، فقد أرادج بالاشتعال ظهور شيب الرأس، ولكنه عبر بالاشتعال على سبيل الاستعارة التبعية ليفيد معنى العموم والمفاجأة في الظهور، وليصف عاطفة نبي الله زكريا عليه السلام، وإحساسه بهذا الشيب الذي كأنه اختطف شبابه في سرعة فائقة أو صيره رمادًا، وكأن الشيب نار اشتعلت في شبابه، ولو قال: ظهر
الشيب لكان كأنه يصف ظهور الشيب فقط، ثم جاء إسناد الاشتعال إلى الرأس، والرأس مكان الاشتعال، والمشتعل حقيقة هو الشعر في الرأس، فأكد بهذا إحساسه بعموم الشيب،
1 مريم: 4.
واستغراقه لجميع رأسه، وإسناد الفعل إلى المكان يفيد العموم
كقولنا: اشتعل الطريق نارا، واشتعلت النار في الطريق، وتفجرت الأرض عيونا، وتفجرت العيون في الأرض.
ومما جاء على طريقة هذا القول في عموم الشيب قول الشاعر:
قالت قتيلة ما له
…
قد جللت شيبا شواته
والشواة جلد الرأس، فقد أسند الشاعر ظهور الشيب الذي عبر عنه بالتجليل أي الغطاء، إلى شواة الرأس، كما أسندت الآية ظهور الشيب المعبر عنه بالاشتعال، ولكن الاستعارة في البيت لم تكن مثل الاستعارة في الآية، ولا في مرتبتها؛ لأن التجليل وإن أفاد التغطية، والعموم أي أن الشيب قد جلل كل رأسه، وغطاه فقد فاته أن يصف بياض الشيب ولألاءه، فالشاعر لم يحس بالشيب إحساسًا مشرقا مضيئًا، ولعله في هذا يعكس شعور صاحبته التي يجري القول على لسانها، والتي برمت بشيبه المغطى المظلم القاتم الذي يشبه في ظلمته غروب الشيخوخة.
ولهذه الطريقة مذاق حسن، انظر قولهم: سال بهم الوادي ترى في هذا التعبير أن القوم قد فاض بهم المكان، وأطبقوا كل موضع فيه، ومن جيد ذلك قول الشاعر:
وسالت بأعناق المطي والأباطح
وهي صورة حية يرى الأبطح المترامية قد فاضت بأعناق المطايا العجلة، لما استحثتها أشواق راكبيها، وواضح أن هذا والذي قبله مما وقع التجوز فيه في الإسناد والمسند؛ لأن السيلان فيه مستعار للسير الحثيث السريع اللين الذي يشبه سيلان الماء، وفضل قول الشاعر: سالت بأعناق المطي الأباطح على قولنا: سالت الأباطح بالمطايا، يكمن في هذه اللفتة في قوله: بأعناق المطي حيث جعل الأباطح لا تسيل بالمطايا هكذا جملة، وإنما اختار من المطايا الأعناق والرءوس؛ لأن أعناق الإبل تخضع، أو تهطع إذا أسرعت، وهم
يقولون: إن الإبل إذا غذت السير طامنت أعناقها، وكأن رءوسها تتراقص عند التخويد والهملجة.
ومن أحسن ما نسب فيه الفعل إلى الأعناق، قوله تعالى تسلية لرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغ حزنه على عناد قومه جهد نفسه، فبين له سبحانه أنه لو أراد لأنزل عليهم آية بينة ملزمة لهم لا يجدون في مواجهتها إلا الإذعان، والانقياد والخضوع، قال سبحانه:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 1، وبخع نفسه بلغ منها الجهد، وهو من قولهم: بخع الشاة إذا بلغ بذبحها القفا، وقوله: فظلت أعناقهم لها خاضعين، لما كان التطامن، والإذلال والخوضع والاستسلام يظهر كله في العنق نسب الخضوع إليها، ورمز بهذا الجمع الذي هو جمع السالم حين قال: خاضعين، إلى أن الصفة في الحقيقة للقوم؛ لأن خاضعين لا يأتي إلا في أوصاف العقلاء، وانظر إلى قوله: فظلت، بصيغة الماضي والسياق كله للمستقبل، وكيف أفادت هذه الصيغة سرعة الامتثال حتى كأن هذا الحدث من أحداث الزمن الذي سلف، والصورة كما ترى غنية بالإيحاء دقيقة في التصوير تجسد مشهدا من مشاهد الرهبة، والخضوع المستسلم الصامت الذليل.
ومما يذكره البلاغيون من شواهد تهيئة العبارة لهذا المجاز حتى يحسن موقعه قول الشاعر يصف جمله الذي أحبه، وتناسى به طلاب العامرية؛ لأنه سمح في سيره كريم رقيق المشافر مرقال سريع السير ضامر البطن، قلق الضفر بسبب هذا الضمور، مثلم الأخفاف من كثرة السير، إذا أحسته الأفاعي تحيزت، وانقبضت رءوسها مخافة أخفافه، ثم أنه يقطع الليل بعين صادقة صافية كأنها زجاجة جال فيها الماء، ولم تمتلئ به قال:"من الطويل"
تناسى طلاب العامرية إذ نأت
…
بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر
1 الشعراء: 3، 4.
إذا ما أحسته الأفاعي تحيزت
…
شواة الأفلاعي من مثلمة سمر
تجوب له الظلماء عين كأنها
…
زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر
والشاهد في قوله: تجوب له الظلماء عين، فقد أسند الجوب الذي هو قطع الظلماء إلى العين، فالأصل يجوب الجمل الظلماء بعينه، ولكنه عدل إلى المجاز، فأسند الفعل إلى آلته، ولم يكتف بهذا أي لم يقل تجوب عينه الظلماء، وإنما لمس التعبير لمسة العارف البصير، فنكر "عين" ليهيئ لنفسه وصفها بالصفاء، والسلامة؛ لأنها لو كانت معرفة لامتنع وصفها بهذه الجملة، ولما نكر العين، وقطعها عن الإضافة إلى الجمل وصلها بالجمل بقوله:"له"، وهذا الضمير المجرور هو الذي ربط البيت كله بغرض الشاعر الذي هو وصف الجمل، وتظهر أهمية هذا الضمير لو أسقطه، فإن الكلام يصير بدونه لا علاقة له بالجمل انظر: تجوب الظلماء عين كأنها زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر.
تجد كلاما باطلا؛ لأن العين غير المضافة إلى صاحبها لا تستقل بجوب الظلماء، وهو كقولك: رأيت قطارا يجري في الهواء، وعينا تتلفع الظلماء، ورجلا له أذن يشرب بها الماء، ومثل هذا من الهذر الذي لا يخرج من عقل، والشاعر قد تنبه إلى أهمية هذا الضمير فذكره، وقدمه على الفاعل، والمفعول المتعلقين بالفعل لأهميته في ربط الكلام بموضوعه، وقال عبد القاهر: "فأنت الآن تعلم أنه لولا أنه قال: تجوب له فعلق له بتجوب لما صلحت العين؛ لأن يسند تجوب إليها، ولكان لا تتبين جهة التجوز في جعله تجوب فعلا للعين كما ينبغي، وكذلك تعلم أنه لو قال مثلا: تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع، ولاضطرب عليه معناه، وانقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن، فتأمل هذا واعتبره، فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة، وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهد لها، وتقدم أو تؤخر
ما يعلم به أنك مستعير ومشبه، ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة"، وراجع قراءته وتأمله؛ لأنه من النصوص النفيسة في فهم دقائق صنعة الشعر.
وواضحج أن المثبت في هذا المجاز، وهو تجوب فيه مجاز؛ لأن الجوب معناه القطع، قالوا: جاب الثوب والصخر أي قطعه، ومنه قوله تعالى:{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 1، أي قطعوه، وهو مستعار هنا لنفاذ البصر، واستطاعة الرؤية خلال الظلام، كما قالوا في المجاز: جاب الفلاة أي قطعها ونفذ فيها وتغلغل، والنوق تجوب أدرع الظلماء، والجابية التيتنفذ في اللاد وتتغلغل فيها، وجوائب الأطيار جمع لهذه الجائبة.
ومما وقع فيه التجوز في الإثبات، والمثبت قول الأبيرد اليربوعي يرثي أخاه بريدا:"من الطويل"
ولما نعى الناعي بريدا تغولت
…
بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر
عساكر تغشى النفس حتى كأنني
…
أخو سكرة دارت بهامته الخمر
فتى إن هو استغنى تخرق في الغنى
…
وإن قل مال لم يضع متنه الفقر
والعرب يزعمون -كما قلنا- أن في الأرض غولا يغتال الناس، والغيلان في الصحراء تتخطفهم، فتضلهم عن المحجة وتذهب بعقولهم، وأراد الشاعر أنه لما سمع نعي أخيه طاشت نفسه، وكأن الأرض قد اغتالته، ودوران الأرض بالمفجوع معنى متداول في الشعر، قال طريف بن وهب في رثاء ولده:"من الطويل"
وظلت بي الأرض الفضاء كأنما
…
تصعد من أركانها وتجول
والعساكر في قوله: عساكر تغشى النفس، مستعار للشدة التي أحاطت بروحه إحاطة تمكن واستيلاء، وقوله: تخرق في الغنى أي أسرف في العطاء
1 الفجر: 9.
وهو مجازاتهم البليغة في الشجاعة والجود، وقوله: لم يضع متنه الفقر، هو شاهدنا، أراد لم يذله الفقر، وقد أسند وضع المتن إلى الفقر، والفقر سبب في الذل، وليس فاعلًا له وهو كقولهم: فلان وضعه الشح، ووضعه الجبن، أي كان سببا في وضعه وهوانه، وقد عبر الشاعر عن الذل بوضع المتن أي وطاءة الظهر وتطامن المناكب، وقد يقال: إن هذا من صور الاستعارة المكنية التي يشبه فيها الذليل المنقاد بالدابة الوطيئة الظهر المتطامنة المناكب، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت دابة ذلولا.
وحين تراجع أساليب المجاز تلحظ أن كثيرًا منها يمكنك أن ترجع بالإسناد فيه إلى ما حقه أن يسند إليه أي إلى الحقيقة، فقوله: نام ليلي وتجلى همي يسهل أن تقول فيه: نمت في ليلي، وكذلك تقول في قوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 1، فما ربحوا في تجارتهم، وفي قوله: تجوب له الظلماء عين، يجوب الجمل الظلماء بعينه، وفي قوله: يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب، نحمي نساءنا بضرب.. إلى آخر ما قدمنا من الصور.
ولا يخفى أننا قد ذهبنا بموضع المزية من التعبير، أو سورة الفرقان كما يسميها عبد القاهر، وكان صف هذا المجاز بأنه كنز من كنوز البلاغة، وأنه مادة الشاعر المفلق، والكاتب البيلغ في الإبداع والإحسان، وأنه يجيء به الكلام مطبوعًا مصنوعًا، ويقع به بعيد المرام قريب الأفهام، وأن من شأنه أن يفخم عليه المعنى، وتحدث فيه النباهة.
وهناك تراكيب جاءت على طريقة التجوز، ولم يألفها الاستعمال مسندة إلى ما هي له أي لم يجر إسنادها إلى فاعليها الحقيقيين في العرف الاستعمالي في الشعر، والأدب والكلام عامة؛ من ذلك قولهم: أقدمني بلدك حق لي
1 البقرة: 16.
على إنسان، فإن الإقدام هنا مسند إلى الحق، والحق ليس فاعل الإقدام، وإنما هو داع إليه، فالإسناد إسناد مجازي والعلاقة السببية، ولكن الناس لم يستعملوا الإسناد الحقيقي في هذه الصيغة كما استعملوا الإسناد الحقيقي في مثل ربح الناس في تجارتهم، ومثله قول الشاعر:"من مجزوء الوافر"
وصيرني هواك وبي
…
لحيني يضرب المثل
أراد أن هواك صيرني مثلا يضرب في هلاك المحبة، فأسند الفعل صيرني إلى هواك، والذي صيره ليس الهوى، وإنما الهوى سبب في هذه الصيرورة، ولم يعرف
في الاستعمال إسناد حقيقي لهذا التركيب.
ومثله قوله أبي نواس: "من مجزوء الوافر"
يزيد وجهه حسنا
…
إذا ما زدته نظرا
أراد أن محاسن وجهه لا تتناهى، فكلما ازددت فيها تأملًا تكشفت لك من روائعه آيات من الحسن بعدها آيات، فأسند الزيادة إلى الوجه، الوجه ليس فاعلا زيادة الحسن للمتأمل، وإنما هو سبب هذه الزيادة، ولم يجر العرف باستعمال إسناد حقيقي لهذا التركيب، قال عبد القاهر: "واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير أن أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة مثل أن تقول في: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، ربحوا في تجارتهم، وفي: يحمي نساءنا ضرب نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يأتي في كل شيء، ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل -في قولك: أقدمني بلدك حق لي على إنسان فاعلا سوى- الحق، وكذلك لا تستطيع في قوله:
وصيرني هواك وبي
…
لحيني يضرب المثل
وقوله:
يزيدك وجهه حسنا
…
إذا ما زدته نظرًا
أن تزعم أن لصيرني فاعلا قد نقل عنه الفعل، فجعل للهوى كما فعل ذلك في: ربحت تجارتهم، ويحمي نساءنا- ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قولك: يزيدك وجهه، فاعلا غير الوجه".
ثم اعترض ابن الخطيب الرازي على هذا، وقال: إن كل فعل لا بد له من فاعل حقيقي، إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقيًّا، وأنكر هذا الكلام على عبد القاهر، وعبارة الرازي، قال -بعد ما نقل كلام عبد القاهر الذي ذكرناه-:"وفيه نظر، وذلك؛ لأن الفعل يستحيل وجوده إلا من الفاعل، فالفعل المسند إلى شيء إما إن يسند إلى ما هو مسند في ذاته إليه، فيكون الإسناد حقيقا، وإذا لم يسند إلى ذلك الشيء؛ فلا بد من شيء آخر يكون هو مستندا لذاته إليه، وإلا لزم حصول الفعل لا عن فاعل، وهو محال".
وقول ابن الخطيب: أن الفعل لا بد له من فاعل، كلام لا ينقضه من له عقل، ولكنه لا يرد على عبد القاهر؛ لأن عبد القاهر لم يتعرض لهذه القضية، وإنما يقول: إن هناك تراكيب جرت في لسانهم على أسلوب المجاز في الإسناد، ولم يعهدها لسناهم جارية على أسلوب الحقيقة، وهو لا يدعي أن هناك أفعالًا تصدر من غير فاعل، وكان ينتظر من ابن الخطيب -وهو من أعلام علماء المسلمين، وصاحب التفسير الكبير- أن يأتي بما ينقض كلام عبد القاهر من أساليب العرب، فيقول: إن العرب استعملوا في: أقدمني بلدك حق لي على إنسان قولهم كذا، ويأتي بهذا التركيب على أسلوب الحقيقة؛ لأن هذه هي القضية، وليست صدور الأفعال، من فاعلها موضع مناقشة، وعبارة عبد القاهر عبارة واعية؛ لأنها تقرر بوضوح أن هذه الأفعال في هذه التراكيب ليس لها فاعل حقيقي تستطيع أن تقول: إنها نقلت من الإسناد إليه إلى الفاعل المجازي، فلا يمكنك أن تثبت للفعل في أقدمني بلدك حق على إنسان فاعلًا سوى الحق، فنفيه وجود الفاعل الحقيقي لهذه الأفعال ليس نفيا مطلقا، يعني أن عبد القاهر لا يقول: إن هناك أفعالا ليس لها فاعلين، وإنما هو نفي لوجود الفاعل الحقيقي في هذه التراكيب في
الاستعمال، وإذا كان ابن الخطيب قد بنى اعتراضه على هذا الأصل الذي قدمنا، فإن أبا يعقوب أورد الاعتراض على الإمام عبد القاهر من جهة أخرى تتلخص في أن المجاز فرع الحقيقة، ولك فرع لا بد له من أصل، فوجب أن يكون لكل مجاز حقيقة، وعبارته: "ولا يختلجن في ذهنك بعد أن اتضح لك كون المجاز فرع أصل تحقق مجاز أيا كان بدون حقيقة يكون متعديا عنها لامتناع تحقق فرع من غير أصل، فلا يجوز في نحو: سرتني رؤيتك، ونحو: أقدمني بلد حق على فلان، ونحو:
وصيرني هواك وبي
…
لحيني يضرب المثل
ونحو:
يزيدك وجهه حسنا
…
إذا ما زدته نظرا
أن لا يكون لكل فعل من هذه الأفعال فاعل في التقدير إذا أنت أسندت الفعل إليه، وجدت الحكم واقعا في مكانه الأصلي عند العقل، ولكن حكم العقل فيها، فأيما ترى ارتضى بصحة استنادها فهو ذلك"، يعني أن العقل إذا ارتضى فاعلا لفعل، فهو فاعله فليس المعول عليه الاستعمال، وإنما قبول العقل، لأن يكون هذا الفعل مسندًا إلى هذا الفاعل.
ولا ينكر عبد القاهر أن أي مسند إليه يرتضى العقل صحة إسناد هذه الأفعال إليه يكون الإسناد معه حقيقيا، وإنما يقول:"إنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في هذه التراكيب فاعلًا سوى المذكور"، أي أنه لم يرد فاعل حقيقي لها في الاستعمال العرفي كما يقول البناني.
ولذلك نرى أن عبد القاهر لا ينكر من ناحية العقل هذه التقديرات التي ذهب إليها السكاكي في هذه الصور من مثل قوله: أقدمتني نفسي لأجل حق لي على فلان، وصيرني الله بسبب هواك، ويزيدك الله حسنًا في وجهه، لا ينكر صحة هذا الكلام، وإنما ينكر أن تكون هذه الاستعمالات متعارفة، وأنها مما جرى بها لسانهم، وقد أشار البناني إلى أن هذه التأويلات تكلف، وتطلب
لما لا يقصد في الاستعمال، ولا يتعلق به الغرض من التراكيب، ورحمهم الله جميعا.
وقد ألفت الكتب طرق هذا الموضوع، وكان لهذا الإغراء المنطقي الذي ساق فيه الرازي اعتراضه سلطان على النفوس المؤمنة، فانصرف كثير منهم عن رأي عبد القاهر من غير تمحيص له، وشايعوا الرازي والسكاكي، والرازي كما قلت: إمام عظيم القدر في الفكر الإسلامي، ولكنه لم يذكر في السياق البلاغي إلا بكتاب لخص فيه كتابي عبد القاهر، فكأنه محمول عليه، ولولاه لم يذكر في عداد القوم، وليس له في التلخيص جهد كبير، وانظر إلى ضرب من ضروب تعمقه في مثال: أقدمني بلدك حق لي على فلان، فقد ذهب إلى أنه ليس من المجاز، وبيان وجهه في ذلك هو أن الإقدام معناه فعل القادر للقدوم، والقادر على القدوم لا يحتاج في فعله إلا إلى الداعي الذي يدعوه، وقد وجد الداعي هنا، وهو الحق في البلد، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا مجاز في الكلام أصلًا، ثم استدرك بعد هذا وأراد أن يحرر كلامه، فقال: إلا أن يقال: الداعي هو العلم بذلك الحق لا نفس الحق، فيكون مجازًا من هذا الوجه، ومعنى هذا أنك لو قلت: أقدمني بلدك علمي بحق لي عند فلان لكان حقيقة؛ لأن الداعي إلى القدوم هو العلم بالحق وليس الحق، وهذا كلام مرفوض، وتعمق فاسد، وكأن السكاكي كان يقصد إلى بيان خطأ هذا الوجه حين لفت قارئ كتابه التفاتة تنبهه، وتحذره من أن يعتقد صحة هذا الكلام في قوله: "وإياك والظن بأقدمني بلدك حقل لي على فلان، ومحبتك جاءت بي إليك كونهما حقيقتين، فالفعلان فيهما مسندان كما ترى إلى مجرد الداعي، والفعل لا يقبل الداعي فاعلًا، وإنما يقبله محركا للفاعل، ويكاد يكون نصا في الرد على الرازي.
وقد أثار كلام الرازي في مثال: أقدمني بلدك، كثيرًا من الجدل والمحاورات، وإن كان السكاكي قد سارع إلى إبطاله، فإن ابن يعقوب المغربي، والعلامة السيد الشريف، ومولانا الشيخ الدسوقي كلهم أفاض في إمكان أن
يكون أقدمني بلدك حق على فلان من أساليب الحقيقة، ويذهبون في ذلك مذاهب عديدة، وقد ضاق سعد الدين بهذا الشغب في هذه الحالة، وأوصى العلماء باختيار المثال الذي لا مجال فيه للمناقشة حتى لا تستنفد الجهود في هذه السراديب، وهذه هي المماحكات اللفظية التي كنت أعنيها حين قلت: إن الجهل بها لا يضر، وإن التبحر فيها لا ينفع، قلت: هذا وأنا ناظر لكلام سعد الدين حتى لا تتفرق بهذا العلم السبل، فتتفرق بيه عن سبيله.
أشرت إلى أن التجوز في الإسناد يلقي على الجملة ظلا من التلوين يخيل أن الفاعل المجازي قد جرت فيه استعارة، وأن السكاكي ذهب إلى هذا، فأنكر المجاز العقلي، ورجع به إلى الاستعارة المكنية، وذلك رغبة منه في تقليل الأقسام، وملخص توجيهه أنه يشبه الفاعل المجازي بالفاعل الحقيقي، ثم يدعي أن المشبه صار هو المشبه به، ثم يطلق لفظ المشبه الادعائي أي الذي ادعى أنه المشبه به على المشبه به، كما هو مذهبه في الاستعارة المكنية، فيقول في قولنا: أنبت الربيع البقل: أن الربيع مشبه بالحي القادر، ثم ادعى أن الربيع قادر مختار، ثم أطلق لفظ المشبه الادعائي أي الربيع الذي ادعى أنه قادر مختار على المشبه به أي الحي القادر، وكذلك يقول في قوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، أنه شبه التجارة بالمشترين، ثم ادعى أن التجارة مشبه به، ثم أطلق لفظ المشبه الادعائي على المشبه به، وهكذا تنصرف نظرته عن الإسناد، ولا يرى فيه تجوزًا، وإنما التجوز كان في الفاعل الحقيقي، والذي دفعه إلى ذلك -كما قال- الرغبة في تقليل الأقسام، ولهذه الرغبة أيضا أنكر الاستعارة التبعية.
والرغبة في تقليل الأقسام أمر يحرص عليه كل باحث بشرط ألا يدفعنا ذلك إلى تجاهل الخصوصيات الواضحة التي تتميز بها الطرق المختلفة في أداء المعاني، والأبر بالأساليب أن ننظر في كل صورة بما يلائمها، وكثير من صور المجاز العقلي يطفئها جريانها على طريقة الاستعارة بالكناية، ألا تراك لو قلت في قول الفرزدق، سقاها خروق في المسامع: أنه شبه الخروق بالساقي تكون قد فسرت الشعر على غير مراده، وأجريته على غير طريقته؛ لأن الفرزدق لم
يلحظ هذا، وإنما أراد أن يقول: إن ذكر قومه وصيتهم البعيد الذي ملأ الأسماع كان سببا قويا في أن أفسح الناس لهذه الإبل، ولم يتعرض لها أحد، فبالغ في هذه السببية حين صيرها فاعلة الفعل، فجعل الذكر الذكر هو الساقي، ويقال مثله في: يحمي نساءنا ضرب، فإنه أراد أن يبالغ في قوتهم، واقتدارهم وأن ضربهم الشديد الأرعل، والذي تطير له السواعد هو سبب في حماية نسائهم، وأنه هو السبب الذي ليس وراءه سبب آخر، فنسب الحماية إليه، ومثله قوله - تعالى-:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، فقد أراد والله أعلم بمراده أن يؤكد سببية التجارة في الربح، فأسند الربح إلبها ثم نفى ذلك، ولعلك تقول: إن الآية واردة في سياق بيان ضلال الذين اشتروا الضلالة بالهدى، وأن هذه التجارة لا ربح فيها، فكيف نقول: إن التجوز في الإسناد مشير إلى قوة سببية هذه التجارة في ربح أصحابها؟
والوجه عندنا أن هذا يشير إلى معنى دقيق هو أنه ينبغي لصاحب العقل، والدين أن يدع هذه البيعة المذكورة في قوله:{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} حتى ولو كانت سببا أكيدا للربح فما بالك بها، وهي لست رابحة، وهذا معنى دقيق، وله نظائر في كلام الله، والكلام الفصيح.
القصد الأهم في صور المجاز العقلي إلى الإسناد والتصرف فيه، وقد يتبع ذلك كما قلت تشبيه الفاعل المجازي بالفاعل الحقيقي، ولكن هذا يكون ظلا لهذا التجوز، وتابعا له ولم يقصد إليه في هذه الأساليب، نعم هناك صور تشتبه، ويرددها الدارسون بين المجاز العقلي، والاستعارة المكنية والتبعية، ولكننا لو حققنا النظر كما ينبغي وأوتينا حسا أقوى، وإدراكا أسمى لتميزت الصور وبرزت فروقها الخفية، وألوانها الدقيقة على أن التردد بين الفنون الثلاثة إنما يكون غالبا في الأمثلة المؤلفة التي يدور عليها الدرس، وللعلامة السيد الشريف كلام دقيق في هذا الموضوع ذكره في حاشيته على المطول، ومجال تحقيق هذا الموضوع هو علم البيان، وقد حققته في التصوير البياني.
وقد دفع الخطيب أفكار السكاكي لهذا الباب بردود قوية، وإن كانت نوقشت في الكتب المطولة.
قال الخطيب: وفيما ذهب إليه نظر؛ لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 1، صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} 2، فاعل الدفق لا الماء، وبيان ذلك في كلام الخطيب أن السكاكي -كما قلنا- يجعل الفاعل المجازي مشبها للفاعل الحقيقي، ثم يستعير اللفظ الدال على المشبه إلى المشبه به، أي أن العيشة مشبهة بصاحبها الذي هو الفاعل الحقيقي، ثم استعير لفظ العيشة إلى صاحبها إلى طريقة السكاكي في الاستعارة بالكناية، فمعنى العيشة هو صاحبها، وكأن الجملة تئول فهو في صاحب عيشة، وهذا فاسد.
ومثله يقال في: {مَاءٍ دَافِقٍ} ؛ لأن فاعل دافق المجازي هو الماء، والسكاكي يشبه الفاعل المجازي الذي هو الماء بالفاعل الحقيقي الذي هو الشخص الدافق، ثم يستعير لفظ المشبه أي الماء إلى المشبه به، أي الشخص الدافق، ويئول الأسلوب إلى أنه خلق من صاحب ماء، وهذا فاسد؛ لأن المراد بيان القدرة في خلقه من الماء لا من صاحب الماء.
قال الخطيب: ولا تصح -أي ويلزم على قول السكاكي ألا تصح- الإضافة في نحو قولهم: نهاره صائم وليله قائم؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح، وهذا بين في ضوء ما شرحناه.
وحين نتأمل صور هذا المجاز نجد كل واحدة منها تثير في النفس خيالا طريفا، من حيث نرى فيه الأحداث، والأفعال مضافة إلى غير فاعليها المألوفة،
1 القارعة: 7.
2 الطارق: 6.
في الوجود، فالسيوف تحمي والخروق تسقي، والنهار يصوم واليل يقوم، وهذا يمتعنا بطرف من الخيال.
ثم إننا نجد وراء ذلك دلالة على توكيد العلاقات، والملابسات وإبرازها، كتوكيد السببية في مثل قولهم: جمعتهم الطاعة، وفرقتهم المعصية، فإن هذا الأسلوب أدل على بيان أهمية الطاعة، وسببيتها في بقاء القوم مجتمعين ناعمين، وأدل كذلك على بيان خطر المعصية، وسببيتها في تفريق جمعهم، وذهاب شملهم من قولنا: اجتمع شملهم سببب طاعتهم، وتفرق جمعهم بسب معصيتهم، ومثل ذلك تجده في قولهم:"أذل الحرص أعناق الرجال"، فإنه تأكيد لسببية الحرص في الإذلال من حيث كان الحرص هو الفاعل، وهذا أبين في ذم الحرص من قولك: أذل الله أعناق الرجال بسبب الحرص، وقولك: تخطفهم الطريق أدل على كثرة المتخطفين في الطريق الفزع، حتى ليخيل إلينا مع هذا التعبير أن المتخطفين يكمنون في موضع كل قدم، ولا تجد شيئا من هذا لو قلت: تخطفتهم السباع، أو المهلكات في الطريق.
وقد تنبه أصحاب اللغة إلى دلالة هذه الخصوصة، فاصطنعوها في التعبير عن نفوسهم، فرويت إلينا مع أقدم شعر عرفناه إلى الآن في هذا الأدب، ويرجع إلى ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة قرون ونصف، خلافا للمشهور من أقوال مؤرخي الأدب، فجذيمة الأبرش يقول في اعتذار ذكي لماح عن اغتيال حسان بن تبع لفتية من أصحابه كان قد غزا بهم جذيمة طسم، وجديس:
ثم أبنا غانمين مَعًا
…
وأناس بعدنا ماتوا
نحن كنا في ممرهم
…
إذ ممر القوم خوات
والخوت من قولهم: خاتت العقاب على الشيء، واختاتت أي تنقضت، والممر الخوات أي الطريق الذي يختطف السائرين فيه أي الذي تتخطف مهلكاته السائرين، فأسند جذيمة التخوت إلى الطريق؛ لبيان أنه طريق موبق، وكأن أرضه هي التي تنقص السائرين، فلا لوم على هؤلاء الفتية، ولا قدح في
شجاعتهم، وقد استطردت إلى ذلك كما قلت لأشير إلى قدرة هذه الخصوصية على الإثارة، واستجابتها إلى الخيال في هذا الزمن القديم، فقد ذكر المحققون أن جذيمة عاش بين 480-350 قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد درس هذه الأبيات شيخ العربية العلامة: محمود محمد شاكر في كتابه "الفرقان" الذي سماه "أباطيل وأسمار".
ومن مزايا هذه الخصوصة، فوق التوسع في بناء العبارة، وملاحظة الملابسات على مقتضيات الخيال، أنك تجد الأسلوب معه أعذب لفظا، وأحسن موقعا وأملا بالفائدة، وانظر إلى قولنا: كرم زيد أصلا، وحسن وجها، وضاق صدرًا وتصبب عرقا، وما جرى على هذه الطريقة، تجدك قد وصفت زيدا بالكرم، ثم أشرت بكلمة أصل ووقوعها تمييزا إلى مرادك، وأنك تقصد كرم أصله، ولكن بعد ما أوقعت في النفس وصفه بالكرم، وهكذا بقية الأمثلة.
ويتضح الفرق بالعودة بالإسناد إلى أصله الحقيقي في هذه الأمثلة تقول: كرم أصل زيد وحسن وجهه، وتصبب عرقه وضاق صدره، فتجد فرقا في جوهر المعنى، وفي بناء صورته.
ويجب أن نذكر أننا لا نستطيع أن نفسر كل أسباب الحسن في العبارة؛ لأن ذلك لا يقدر عليه أحد، فالمزايا تتأبى على التعليل المستقصى، والشرح الكاشف، وهناك مكامن تكمن فيها أسباب الخلابة في العبارة، وتستتر في مطوايها آيات الحسن، ونؤخذ بها ولا نستطيع بيانها، وكأنها السحر المخبوء الذي يحسونه في البيان، وهذه آية من آيات الجمال في كل صورة، لا تستطيع أن تفسر كل ما يقع في نفسك حين تملأ عينيك، وقلبك بالنظر في وجه طفل واداع بريء، ولا تستطيع أن تشرح لنا مراجع الحسن، والخلابة التي تستهويك، وتسحرك في رشاقة ظبي غرير، وكل ذلك من باب واحد، وحين نتكلم في مراجع المزية إنما نصف ما يظهر لنا ونستطيع لمحة فيها، نحن ننبه فقط إلى ما تنبه إليه حسنا، والناس في ذلك متفاوتون، ويبقى بعد كل جهد أمور تدركها المعرفة، ولا تحيط بها الصفة، كما يقول أهل الذوق.
وقد نوه عبد القاهر ببلاغة هذا المجاز وحسن موقعه، وأهميته في اتساع فنون القول، كما أشرنا إلى أن بعض صوره قد تراها لكثرة استعمالها وتداولها، كأنها تفقد بعض بهائها، فلا ينبغي أن تكون سبيلًا إلى انتقاص أهميته، فإن الابتذال يعرض لكثير من الأساليب حين تذهب كثرة تداولها بمزيد من حسنها وخلابتها، قال في ذلك:"وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع، والإحسان والاتساع في طرق البيان، وأن يجيء الكلام مطبوعًا مصنوعًا، وأن يضعه بعيد المرام قريبا من الأفهام، ولا يغرنك أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان، وأشباه ذلك مما تجده لسعته، وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها، فليس هو كذلك أبدًا، بل يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها، والنادرة تأنق لها".
ثم حاول في أسرار البلاغة أن يعلل لهذا الحسن الذي وصفه هنا في أسلوب مبهم، مليء بالعبارات الغنائية التي تطري هذه الخصوصية، فلو فتشت فيه عن سر خلابة فيها لأعياك أن تقع عليه، حاول في أسار البلاغة أن يعلل لهذا الحسن، فذكر أن الإسناد إلى الفاعل المجازي تأكيد لصدور الفعل عن الفاعل الحقيقي؛ لأنه إذا صح أن يكون الفعل من الفرع أي إذا صح أن يقع الفعل من الفاعل المجازي، وهو فرع فإن حدوثه من الأصل أكد.
فالمجاز العقلي إثبات بدليل، وهذا الإثبات هو أيضا سر بلاغة المجاز اللغوي، والكناية عنده.
وعبارته في ذلك: "والنكتة أن المجاز لم يكن مجازًا؛ لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه، بل؛ لأنه أثبت لما لا يستحقه تشبيها وردا إلى ما يستحق، وأنه ينظر من هذا إلى ذلك، وإثبات ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن
الإثبات للأصل الذي هو المستحق، فلا يتصور الجمع بين شيئين في وصف، أو حكم من طريق التشبيه، والتأويل حتى يبدأ بالأصل في إثبات ذلك الوصف، والحكم له".
وكنت على أن أدع هذا الموضع اكتفاء بالذي كتبته لولا أمر يتصل بنشأته، وإن كان هذا مخالفًا لمنهجي في هذه الدراسة، لأني لم أشغل بنشأة هذه الفنون، فدراستي لها ليست دراسة تاريخية، وإنما هي دراسة تتناولها كما تصورت في آخر مراحلها، ودرس تاريخ المسائل من أجل الدروس في كل علم، ولكنه يقدم بعد اكتمال التصوير لهذه المسائل.
قلت: لم أكن لأشغل بأمر يتصل بنشأة هذا الموضوع، لولا أن القول الذي أرى رفضه في نشأته يتصل بالتراث الإسلامي في هذا الحقل كله، وقد أشرت في مدخل الدراسة إليه.
ذكر المرحوم طه حسين أن ابن سينا لما عرب كتاب الخطابة لأرسطو، وجعله في متناول الفكر العربي، هيأ بذلك أسباب التوفيق بين البيانين العربي، واليوناني اللذين عاشا متجاورين دون أن يتلاقيا ويتآلفا، وكان تلاقيهما على يد عبد القاهر الذي قرأ الفصل الخاص بالعبارة في كتاب ابن سينا، وفكر فيه كثيرا، وحاول أن يدرسه دراسة نقد وتمحيص، وكان من أثر هذا التأمل وهذه الدراسة أن صار عبد القاهر تلميذا لأرسطو، فإذا تكلم عبد القاهر عن الاستعارة، فهو يشرح ما ذكره أرسطو في الصورة، وإذا تكلم عبد القاهر في صور المجاز المرسل، فهو يشرح ما ذكره أرسطو في إطلاق اسم الجنس على النوع، واسم النوع على الجنس، وإذا تكلم في المجاز الحكمي، فإنما هو من ابتكارات عبد القاهر ما دام هذا المجاز ليس في كتاب أرسطو، ويصح أن نسميه المجاز الكلامي؛ لأنك إذا قلت مع عبد القاهر: أنبت الربيع البقل، فهو مجاز؛ لأن الربيع لا ينبت البقل، ولكن الذي ينبته هو الله تعالى، وينفق
عبد القاهر جهدًا غير قليل في الدفاع عن مجازه هذا، وفي تميزه عن المجاز المعروف، ولكن لا شك أن الأساس المعروف الذي يبنى عليه هذا التميز محل نظر، وكأن العلامة المرحوم يشير إلى عدم تقبله الفرق بين المجازين، وأن الأفضل أن يكون مجازًا واحدا هو مجاز أرسطو، وينتهي الأستاذ في محاضرته إلى أن أرسطو لم يكن المعلم الأول للمسلمين في الفلسفة وحدها، ولكنه إلى جانب ذلك معلمهم في علم البيان، وقد حمل المرحوم هذا الفكر إلى أحفاد أرسطو في مؤتمر المستشرقين، وملأهم به زهوا فوق زهو، وكانو آنذاك مغتصبين بلادنا، وينهبون خيراتها، والمصريون الأحرار يجاهدونهم بأرواحهم ودمائهم، وعميد الأدب ورائد التنوير يضرب بعلومهم علومنا، وبتاريخهم تاريخنا، وبآبائهم آباءنا، وعلى سنته هذه يمضي بقية الرواد، وأعلام النهضة ورجال التنوير، وأنا أقرأ هذا ومثله كثير، وأذكر مقالة قسيس أسباني كان يعيش في الأندلس، ورأى قومه من القوط، والنصارة قد فتنوا بالعرب المسلمين، وآدابهم وعاداتهم، فتكلموا العربية وقرأوا شعرها، ولبسوا ثياب العرب، فصاح فيهم هذا القسيس قائلا: إنكم إن فتنتم بثقافتهم، وعلومهم ولغتهم، وتراثهم فلن تخرجوهم من بلادكم، وكان هذا القسيس صادقًا في وطنيته مع ضلاله وكفره، ولهذا وغيره أرتاب في هذه الشخصيات، وفي حملة فكرهم من بعدهم، والذي أعرفه منهم معرفة قريبة يؤكد عندي هذا الارتياب، ولنترك هذا ونعود إلى القضية؛ وواضح جدا أن التراث العربي يتضمن بحوثا طيبة في المجازين اللغوي، والعقلي قبل عبد القاهر، ولا يخطئنا ذلك إذا نظرنا في كتاب "الكامل"، و"الخصائص"، و"البديع" و"الوساطة"، و"الموازنة"، وغيره ذلك، وكان جهد عبد القاهر بعد هؤلاء جهدًا طيبًا ومباركا، فقد بسط ما أجملوه، وحرر كثيرا من المسائل، وميز الفنون بعضها من بعض، وقد أنفق أكثر جهده في أسرار البلاغة ليؤكد الفروق بين المصطلحات؛ لأنه قد سبق بدراسة المسائل كلها.
وقد تغلغلت مقالة الدكتور طه رحمه الله في كثير من الدراسات؛ لأنه كان مسموع المقالة من جهة؛ ولأن المسألة تلتبس جدا على من لم يراجع بدقة
جهود سلف عبد القاهر؛ لأن البلاغة اليونانية قريبة جدًّا، وخاصة في هذه الفصول من البلاغة العربية.
وحسبنا في سياقنا هذا أن نشير إلى أن المجاز الحكمي لم يكن من ابتكارات عبد القاهر إلا عند من يعتقدون أنه لا يأخذ إلا من التراث اليوناني، أما الذين يصبرون على قراءة التراث الإسلامي، فإنهم يرون أن هذا المجاز كان موضع اهتمام جماعات العلماء، اهتم به النحاة والمتكلمون، والبلاغيون، واهتم به النحاة؛ لأن موضوعه الحكم الذي هو موضع الإثبات، والنفي في الجملة ومناط الفائدة فيها، واهتموا به أيضا؛ لأنه موضع العامل وسبيل الأعراب، واهتم به المتكلمون لاتصال صوره بموضوعين من مواضع الخلاف الهمة بينهم: إضافة إلى الأفعال غير الحسنة إلى الله تعالى مثل الختم، والغي والإضلال، وخلق أفعال العباد، وقد اجتهدت طوائف المتكلمين في مناقشة الآيات، والأحاديث التي تصادمت وجهتها في هاتين القضيتين، وكان بحثهم كثيرا ما ينصب على الإسناد وصرفه عن ظاهره، وذلك بين جدا، ولا بأس هنا من ذكر بعض البدايات في التراث الإسلامي التي لا يصح مع وجودها أن نقول: إن عبد القاهر ابتكر هذا الباب؛ لأنه ليس في البلاغة اليونانية.
قال سيبويه في قول الخنساء، وهو من أشهر شواهد هذا الباب عند عبد القاهر وغيره:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
فجعلها الإقبال والإدبار مجاز على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم، وليلك قائم، وهذا وارد في كلام عبد القاهر.
ويقول أبو زكريا الفراء في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، وهي أيضا من الشواهد المهمة عند عبد القاهر "ربما قال القائل: كيف تربح التجارة، وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك، وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم، ومثله في كتاب
الله: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} 1، وإنما العزيمة للرجال، فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم يجز ذلك إن كانت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه، أو يوضع؛ لأنه قد يكون العبد تأجرا، فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو، من معناه إذا كان متجوزًا فيه، فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزك، ورقيقك، كان جائزًا لدلالة بعضه على بعض".
ويقول ابن قتيبة في مخالفة اللفظ معناه:
ومنه أن يجيء المفعول به على لفظ الفاعل كقوله سحبانه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} 2، أي لا معصوم من أمره، وقوله:{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق، وقوله:{فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضي بها، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} 3، أي: مأمونا فيه، وقوله:{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 4، أي: مبصر بها والعرب تقول: ليل نائم وسر كاتم.
ويقول الآمدي:
وقد جاء فاعل بمعنى مفعول، قالوا: عيشة راضية بمعنى مرضية ولمح باصر، وإنما هو يبصر فيه، وأشباه هذا كثيرة معروفة.
وهذه الإشارات التي ذكرها هؤلاء الأئمة وغيرها كثير، كانت مادة بحث هذا الباب عند عبد القاهر، وإن كان بسطها ووضعها في منهج دقيق، وميز هاذ المجاز، وجعله بابا مستقلا.
والله الموفق للصواب.
1 محمد: 21.
2 هود: 43.
3 العنكبوت: 76.
4 الإسراء: 12.