الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المظهر والمضمر:
لحظ البلاغيون أن دراسة وضع المظهر موضع المضمر وعكسه، ودراسة الالتفات تتصل بباب المسند إليه؛ لأنها من أحوله، فألحقوها بهن كما لحظوا أن أساليبها مما لا تجري على مقتضى المقررات المتعارفة، وإنما هي ضروب من المخالفة، فترجموا لها بخروج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر، وألحقوا به أسلوب الحكيم؛ لأنه ضرب من المخالفة.
وقد تابعناهم في ذلك لبنائه على ملاحظات دقيقة في ربط مباحث العلم، وتلاحقها في نظام يجمعها، ثم إننا نكره الاختلال في تنظيم مسائل العلم ما دام لها وجه، وليس هذا قيدا على الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد النافع هو في مسائل العلم؛ لأنها جوهر.
أما مخالفة مقتضى الظاهر في الإضمار والإظهار، فقد قالوا: الأصل ألا يذكر الضمير إلا وقد سبقه ما يعود عليه ليكون المقصود بالكلام واضحا، تقول: لقيت زيدا وأكرمته، فتذكر الضمير في أكرمته؛ لأنه سبقه ما يعود عليه، ولا تقول لقيته هكذا ابتداء؛ لأن ذلك ضرب من التعمية، والإلباس يناقض القصد من اللغة والبيان.
ومع وضوح هذا الأصل تجد صورًا من الأساليب بنيت على خلافه، فيذكر الضمير ليفسر بمتأخر عنه في بعض هذه الصور، أو يذكر منن غير مفسر اعتمادًا على فهم السامع، أو وضوح المعنى أو غير ذلك مما نشير إلى بعضها إن شاء الله.
ومن الصور التي يفسر فيها الضمير بمتأخر عنه ما يكون الضمير فيه ضمير الشأن والقصة، والأساليب التي تصاغ على هذا الطريقة حين تصيب مواقعها تجد لها مذاقا حسنا ووقعا جليلا؛ لأن الضمير حين يطرق النفس من غير أن
يكون له عائد يعود عليه يصيرها إلى حالة من الغموض، والإبهام لا قرار لها معها، فتستشرف إلى اكتشاف الحقيقة المتوارية وراء الغموض المثير، فإذا جاءت الجملة المفسرة تمكن معناها، ووقع في القلب موقع القبول، وتراهم لا يبنون الكلام على هذا الأسلوب إلا في المعاني المهمة التي يهيئون النفوس لتلقيها، وإذا رأيتهم يمثلون له بمثل قولنا: هو زيد قائم أو هي هند قائمة -وإن كانوا يقولون: إن المختار في ضمير القصة ألا يؤنث إلا إذا كان في العبارة مؤنثا لا؛ لأن هذا المؤنث هو مرجعه-؛ لأن مرجعه هو الجملة كلها -ولكن؛ لأن حس الكلمات كأنه ألف ضمير المؤنث مذكورًا فيما فيه تأنيث- إذا رأيتهم يمثلون له بمثل هذه الأمثلة، فاعلم أنها أمثلة نحوية لاتراعى فيها المعاني بقدر ما يراعى فيها بيان الصناعة وشرح القاعدة، وليس من الفصيح أن نقول: هو زيد قائم أو هي هند قائمة؛ لأن الخبر الواقع بعد ضمير الشأن لا بد، وأن يكون خبرًا ذا بال، نعم يصح ذلك إذا كان زيد، أو هند مما يكون خبر قيامه مهما؛ لأن الشأن فيه لا يقوم لمانع يعلمه المخاطب، وأدرت إخباره بزوال هذا، وأن زيدا صار يقوم.
ومن مواقعه الجليلة قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1، فقوله: هو ضمير الشأن ومفسره الجملة بعده، وواضح أن مضمونها معنى كبير هو محور الصراع في تاريخ البشرية، ولو قال سبحانه:{اللَّهُ أَحَدٌ} لما وجدت للكلام هذا الأثر، وهذا القوة التي تحسها النفس من هذه التهيئة المؤذنة بأن ما سيأتي بعدها كلام له خطر عظيم.
وخذ قوله تعالى بعد ما ذكر قصة المكذبين وإهلاكه القرى وهي ظالمة قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 2، قوله: فإنها ضمير الشأن والقصة، وتفسيره قوله: لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى
1 الإخلاص: 1.
2 الحج: 46.
القلوب التي في الصدور، وقد هيأ النفس لتلقي هذا المعنى الجليل الذي يفسر موقف العقول المنكرة من الأدلة البينة.
ومنه قول أبي خراش الهذلي في أبياته التي ذكر فيها عروة أخاه وخراش ابنه، وكانا قد أسر فقتل عروة ونجا خراش قال:"من الطويل"
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا
…
خراش وبعض الشر أهون من بعض
فوالله ما أنسى قتيلا رزيته
…
بجانب قوسي ما مشيت على الأرض
على أنها تعفو الكلوم وإنما
…
نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
قال على أنها فذكر ضمير القصة، وهيأ به النفس لتلقي هذا المعنى الغريب الذي يشير إلى أن الآلام مهما كانت قاسية، فإنها لا تستعصي على الأيام التي تبتلعها وتطويها، ويشير أيضا إلى أن الإنسان مستهدف للأحداث، وأن تعاقبها يجعل المرء في شغل بالثانية عن الأولى، وكان هذا المعنى غريبا؛ لأنه استدرك به على قوله قبله: فوالله ما أنسى قتيلا، وقد ألم الأحوص بهذا المعنى في قوله:"من البسيط"
إن القديم وإن جلت رزيته
…
ينضو فينسى ويبقى الحادث الأنف
قال المرزوقي: وأبلغ مما قاله قول الآخر: "من الطويل"
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده
…
ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
ومنه قول أبي تمام: "من الطويل"
على أنها الأيام قد صرن كلها
…
عجائب حتى ليس فيها عجائب
فالضمير في قوله: أنها ضمير القصة، والجملة المفسرة كما ترى ذات معنى جليل، فقد تكاثرت العجائب حتى ألفت، وفقدت ما به تكون عجيبة، فليس فيها عجائب.
ومن الصور التي يفسر فيها الضمير بمتأخر عنه قولهم: نعم رجلًا زيد إذا
اعتبر زيد خبر مبتدأ محذوف؛ لأن فاعل نعم يكون ضميرًا عائدا على مفعول مبهم كالمظهر في نعم الرجل، أي ليس له مدلول معين، وهذا الإبهام تفسيره الجملة المذكورة بعده -هو زيد- فإذا كان المخصوص مبتدأ مؤخرًا، ونعم خبرًا مقدمًا، فلا يدخل في هذا الباب؛ لأن الضمير الفاعل عائد حينئذ على المخصوص.
وقد يأتي الإضمار من غير ذكر مفسر، وذلك اعتمادًا على وضوح المراد وادعاء أنه معروف حاضر في القلب لا يخطر بالبال سواه، كما ترى في مطالع القصائد التي تذكر الصاحبة بضمير عائد عليها مثل قوله: زارت عليها للظلام رواق، وموقعه من الملاحظة والعذوبة على ما ترى، وقد يكون الإضمار خاليا من هذه الإشارة، وإنما اعتمد فيه على مجرد الوضوح فقط كما في قول أبي كبير الهذلي يذكر تأبط شرًا:"من الكامل"
مما حملن به وهن عواقد
…
حبك النطاق فشب غير مهبل
أراد في قوله: ما حملن به، النساء، ولم يجر لهن ذكر لوضوح المراد، والمعنى -كما يقول المرزوقي- وهذا الفتى من الفتيان الذي حملت أمهاتهم بهم، وهن غير مستعدات للفراش، ولا واضعات ثياب الحفلة، فنشأ محمودا مرضيا لم يدع عليه بالهبل والثكل.
أما وضع المظهر موضع المضمر، فإنه يشير إلى معان قد يكون بعضها من خصوص دلالة الاسم الظاهر الذي أوثر وضعه موضع المضمر، فإذا كان اسم إشارة أفاد كمال العناية بتميزه؛ لأن الخبر عنه خبر غريب، وذلك كقول ابن الراوندي الزنديق:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
…
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
…
وصير العالم النحرير زنديقا
ققوله: هذا يعني به مضمون البيت السابق، وهو عجز العاقل في تحصيل رزقه وفلاح الجاهل في تحصيله، اسم الإشارة يعود إلى هذا المضمون، وهو معنى غير محسوس، والمقام للإضمار كما يقول سعد الدين، ولكنه وضع
اسم الإشارة موضع الضمير لتمييز هذا المعنى، وتحديده تهيئة للإخبار عنه بهذا الخبر الغريب، وهو أنه حير الأوهام، وأحال العالم النحرير أي الذي ينحر المسائل، أو يقتلها علما أحاله جاحدًا زنديقا، وتبا له فقد كذب على العلماء، وماذا لو عاش في زماننا، ورأى أوطاننا يعيش فيها اللصوص، ويموت فيها الأنبياء.
وقد ذكرنا في ذكر المسند إليه، وتعريفه بالإشارة شواهد يصلح كثير منها لهذا الموضوع.
ومن ذلك والمذكور غير اسم الإشارة قول إبراهيم بن أدهم: "من الوافر"
إلهي عبدك العاصي أتاك
…
مقرا بالذنوب وقد دعاك
فإن تغفر فأنت لذاك أهل
…
وإن تطرد فمن يرحم سواك
قال عبدك، وهو يريد نفسه، وكان الظاهر أن يقول: أنا أتيتك، ولكن آثر قوله: عبدك؛ لأن في كلمة عبد معنى التذلل والخضوع، ثم في هذه الإضافة ما يرشح الرجاء؛ لأن فيه أنني عبدك الذي هو مضاف إليك، وكل هذا مما يحسن به سياق
الضراعة والدعاء.
وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 1، قال:{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، وقد تقدم ذكرهم؛ لأن في هذه الصلة ما يشير إلى استحقاقهم العذاب
النازل عليهم، وفيه أيضا زيادة تقرير أنهم ظالمون، وهذا الأسلوب يرد في القرآن كثيرا، ووراءه إشارات مستحسنة، انظر إلى قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ
1 البقرة: 59.
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 1.
قال ابن الأثير: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، ولم يقل: وقالوا، كالذي قبله للدلالة على صدور ذلك عن إنكار عظيم، وغضب شديد، وتعجب من كفرهم بليغ لا سيما، وقد انضاف إليه قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} ، وما فيه من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في ذلك من المبادهة كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المبين قبل أن يتدبروه:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
وابن الأثير يستمد مما ذكره الزمخشري في هذه الآية الكريمة، فقد نبه فيها إلى لطائف، فلحظ مدلول كلمة الحق، وإن مقالتهم هذه الخاطئة قالوها للحق، وذلك تسجيل عليهم بالتجاوز البين، والبعد الواضح عن محجة الصواب، ثم كلمة لما وما فيها من المبادهة، أي أنهم فور مجيء الحق قالوا تلك المقالة، من غير نظر وتدبر.
قال: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ، فذكرهم بضمير المخاطب ثم قال:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وكان سياق الأسلوب أن يقول: ثم أنزل الله سكينته عليكم، ولكن لما كان في إنزال السكينة لطفا بهم، وتكريما لهم قال: رسوله والمؤمنين فذكرهم بأوصاف التكريم والتعظيم، وذكر أهليتهم لنزول السكينة، وفيه تعظيم لشأن الإيمان، وأن من حصله على وجه كان مع الرسول في الكرامة.
1 سبأ: 43.
2 التوبة: 25، 26.
قال: وقال الكافرون والأصل أن يقال: وقالوا: ولكنهم ذكروا بصفة الفكر ليتقرر أنه لا يقول في نبي الله هذه المقالة إلا جاحد لكل خير، كافر بكل حقيقة، وأن الكفر يقترن بالكذب والبهتان، ومجانبة الصدق والعدل، ولولا أنه أفسد طباعهم لما اجترءوا على من يعرفون فضله وصدقه.
وواضح من هذه الشواهد أن هذه الإشارة إنما أوحت بها دلالة المظهر؛ لأنها ذات خصوصية في السياق مثل الذين ظلموا، والكافرين، ورسوله -والمؤمنين، وهناك ضرب من وضع الظاهر موضع المضمر يراد به مع هذه الخصوصية تقرير المظهر، وتمكينه في القلوب، ومن ذلك قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} 2، قال {اللَّهُ الصَّمَدُ} بعد ذكر لفظ الجلالة، وآثر المظهر على الضمير؛ لأن للفظ الجلالة بمدلوله الكريم وقعًا عظيمًا في القلوب، والمراد تمكين الألوهية، وإشاعة هيمنتها في الضمائر، وخذ المصحف واقرأ فيه من أي موضع تشاء تجد هذا الأسلوب، وكأنه أصل من أصول البلاغة القرآنية، تجد أسماء الله الحسنى، وخصوصًا هذا الاسم الأعظم يقع هذا الموقع في كثير من الجمل القرآنية لينساب نورها الغامر في القلوب، وتشيع مدلولاتها فتتمكن من النفوس زيادة تمكن، وتتقرر في السرائر أحسن قرار، وبذلك تتربى مهابة الحق وحده في الأمة التي يربيها القرآن، فلا يكن في صدرها خشية إلا لله وللحق.
وقد أدرك البلاغيون وحي الكلمة، وعملها بما يثيره لفظها من شئون في
1 سورة ص: 1-4.
2 الإخلاص: 1، 2.
النفس لا يستطيعها الضمير العائد عليها، فأشاروا إلى أن الكناية -يعنون بها الضمير- التعويض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف، فإذا كان الضمير يعطي إشارة ذهنية إلى العائد عليه هذه الإشارة تحضره في النفس إلا أن قدرا كبيرا منن التأثير يظل الاسم الظاهر محتفظا بها، ولا يستطيع الضمير حملها نيابة عنه؛ لأنها تتولد حين يقرع اللفظ السمع بجرسه، وارتباطاته المختلفة جدا الاختلاف، والتي اكتسبها في قصته الطويلة مع الكلمات، والأحداث والمواقف، خذ لذلك قوله تعالى:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} 1، فإنه من الواضح أنه لو قيل: وبه نزل لكان الضمير عائدا على الحق، ومؤديا معناه من حيث الدلالة النحوية أو الدلالة المنطقية، ولكن يبقى لكلمة الحق من القدرة على إثارة قدر كبير من الخواطر لا ينهض الضمير بشيء منها.
وليس ذلك خاصا بكلمة الحق ودلالتها الإنسانية الخصبة، وإنما يجري في كثير من الكلمات التي لها في سياق الحديث مكان خاص، انظر إلى قول النابغة:
نفس عصام سودت عصاما
…
وعلمته الكر والإقداما
نجده لم يقل: نفس عصام سودته، وإن كان الضمير عائدا على عصام من غير لبس؛ لأنه لأراد أن تقع السيادة من نفس عصام على عصام هكذا بلفظه.
قال عبد القاهر:
"لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار، وأن له موقعا في النفس، وباعثًا للأريحية لا يكون إذا قيل: نفس عصام سودته شيء منه البتة".
والموقع في النفس وبعث الأريحية هو من الكلمة من حيث هي صوت لكل جرس فيها خاطر سكن النفس مع هذا الجرس وانبعث به، وإلا فأي فرق بين زيد، والضمير العائد على زيد؟
1 الإسراء: 105.