الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: أحوال المسند إليه
الحذف
…
الفصل الثالث: أحوال المسند إليه
1-
حذفه.
2-
ذكره.
3-
تعريفه.
4-
تنكيره.
5-
تقديمه.
6-
وضع المظهر موضع المضمر وعكسه.
7-
الالتفات.
8-
أسلوب الحكم.
الحذف:
يرجع حسن العبارة في كثير من التراكيب إلى ما يعمد إليه المتكلم من حذف لا يغمض به المعنى، ولا يلتوي وراءه القصد، وإنما هو تصرف تصفى به العبارة، ويشتد به أسرها، ويقوى حبكها، ويتكاثر إيحاؤها، ويتملئ مبناها، وتصير أشبه بالكلام الجيد، وأقرب إلى كلام أهل الطبع، وهو من جهة أخرى دليل على قوة النفس، وقدرة البيان، وصحة الذكاء، وصدق الفطرة.
وفي طبع اللغة أن تسقط من الألفاظ ما يدل عليه غيره، وأما ما يرشد إليه سياق الكلام أو دلالة الحال، وأصل بلاغتها في هذه الوجازة التي تعتمد على ذكاء القارئ والسامع، وتعول على إثارة حسه، وبعث خياله وتنشيط نفسه، حتى يفهم بالقرينة ويدرك باللمحة، ويفطن إلى معاني الألفاظ التي طواها التعبير.
والمتذوق للأدب لا يجد متاع نفسه في السياق الواضح جدا، والمكشوف
إلى حد التعرية، والذي يسيء الظن بعقله وذكائه، وإنما يجد متعة نفسه حيث يتحرك حسه وينشط، ليستوضح ويتبين، ويكشف الأسرار والمعاني وراء الإيحاءات والرموز، وحين يدرك مراده، ويقع على طلبته من المعانى يكون ذلك أمكن في نفسه، وأملك لها من المعاني التي يجدها مبذولة في حاق اللفظ، وهذا هو ما نجده وراء قول عبد القاهر.
"إنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الأفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما يكون بيانا إذا لم تبن"، وتأمل هذا النص؛ لأنه من الكلام النادر الذي ذهب من يحسنونه.
ويدور القول في الحذف على ثلاثة محاور رئيسة:
الأول: القول في حذف جزء الجملة.
الثاني: القول في حذف الجملة.
الثالث: القول في حذف أكثر من جملة.
وقد درس البلاغيون حذف جزء الجملة في باب المسند إليه، والمسند ومتعلقات الفعل، كما درسوا حذف الجملة وأكثر منها في باب الإيجاز بالحذف، ولم يلتفتوا إلى حذف جزء الكلمة، وإن كان فيه من الإشارات ما يوجب على المشتغل بأسرار اللغة، وبلاغتها أن ينبه إليها، وخاصة أننا نجد في إشارات علمائنا السابقين ما يلمس الجان بالبلاغي في هذا النوع من الحذف، فهم يقولون مثلا في سبب الترخيم في قراءة:{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 1 -: قالوا: إنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن تمام الكلام، وهذه علة بلاغية؛ لأنها تشير إلى ما وراء هذا الحذف من ضيق الصدر، وغلبة
1 الزخرف: 77.
والمراد حذف الكاف من مالك، والتخريم هو حذف آخر المنادى، قال ابن مالك:
تخريما احذف آخر المنادى
…
كيا سعا فيمن دعا سعاد
اليأس ومعاناة الهول معناة شغلتهم عن إتمام الكلمة، ومن هذه الإشارات ما حكاه قوم من أصحاب الكتب -كما قال ابن رشيق في قوله صلى الله عليه وسلم:"كفى بالسيف شا": أراد شاهدًا فحذف، وقالوا في تعليل ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصير هذا الخبر حكما شرعيا، فقطع الكلام وأمسك عن تمامه، وسواء صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح فالثابت لنا منه أن الدارسين أدركوا أن وراء حذف جزء الكلمة إشارة نصبت دليلا على شيء.
وقد أشار الأخفش إلى أن هذا الحذف قد ينتفع به في الدلالات المعنوية، لما سأله المؤرج السدوسي عن قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 1 أي عن حذف حرف العلة فيه من غير ناصب ولا جازم، قال الأخفش:"عادة العرب أنها إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يسري، وإنما يسري فيه نقص منه حرف، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} 2، الأصل بغية فلما حول عن فاعل نقص منه حرف"، والحذف هنا دليل على شيء في المعنى أي في دلالة اللفظ على معناه، وواضح أن الذي ذكره الأخفش في هذا ليس قاعدة، وإنما هو تصرف قد يكون منهم في مثل هذا الذي ذكره، وكم من كلمات عدل بها القوم عن معناها، وبقيت في لسانهم كما كانت قبل أن يعدل بها، وصور المجاز كثيرة، وكلها عادل عن المعنى.
فإذا ارتدنا هذا الحقل معتمدين تلك الإشارات التي قد يرفضها البعض، وحاولنا التعرف على الأسرار المعنوية وراء بعض هذه الحذوف، فإنه لا يخطئنا التوفيق في كثير منها، ولنقرأ قول النجاشي على لسان الذئب:"من الطويل"
فلست بآتيه ولا أستطيعه
…
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
وقد زعم أنه أراد أن يصطحب الذئب في فلاة، وأن الذئب رفض هذه الصحبة، وقال:"لست بآتيه ولا أستطيعه"، ثم طلب منه ماء إن كان عنده
1 الفجر: 4.
2 مريم: 28.
فضل منه، فقال:"ولاك اسقني"، وقد أراد الشاعر بهذا أن يؤكد أنه يجوب فلاة مهلكة ضالة، فالذئب هو ابن الصحراء، والخبير بطرقها يجهل فيها موضع الماء، وجاء قوله:"ولاك اسقني" على الحذف كما ترى؛ لأنه أراد ولكن اسقني، فحذف آخر الكلمة طلبا للخفة لمناسبة حال الذئب الظامئ المتهالك في هذه الصحراء الموحشة التي يجتازها الشاعر، كأن الذئب فيها قد تعثر لسانه، ويبس فخطف الكلمة، فأسقط منها ما أسقط.
وانظر إلى قول لبيد:
"درس المنا بمتالع فأبانا"
…
أراد درس المنازل
والنحاة والبلاغيون يذكرون هذا البيت في الحذف الشاذ والضرورة؛ لأنه ظلم الكلمة بحذف أكثر من حرف، ويمكن أن نقول: إن الحذف في كلمة المنازل التي يتحدث عن دروسها، وتغيير القدم لمعالمها مناسب؛ لأنها بقيت آثارًا، وكأن الحذف فيه إشارة إلى المضمون الذي يريد بيانه، وهو أن المنازل بقايا لا يستدل عليها إلا بالقرائن والشواهد، فالحذف في اللفظ وثيق الصلة بالمعنى.
لم لا تكون السليقة اللغوية هدت لبيدا إلى هذه المناسبة اللطيفة، وهو حجة في اللغة وفقه أسرارها.
فإذا نظرنا إلى قول علقمة بن عبدة: "من البسيط"
كأن إبريقهم ظبي على شرف
…
مفدم بسبا الكتان ملثوم
يريد بسبائب الكتاب، فربما لا نجد سرا وراء هذا الاقتطاع أكثر من أن الشاعر يعلم يقينا أن مراده ظاهر جدا؛ لأن ذكر سبائب الكتان في هذا السياق كثير، كلما ذكر الإبريق مشبها بالظبي رأيتهم يذكرون سبائب الكتان، فالحذف أكسب الكلمة خفة، ولم يلبس معناها.
والشاعر يعول على السياق كثيرًا بل إن اللغة في معظم دلالاتها إنما تعتمد على السياق، ألست ترى الشعراء يأتون بالجمل مثبتة، وهم يريدونها منفية ثقة منهم بفهم السامع، واعتمادًا على السياق، فامرؤ القيس يقول:
"فقلت: يمين الله أبرح قاعدا"، وهو يريد يمين الله لا أربح، ولكن لما كثر في كلامهم استعمال هذا الفعل مع النفي، واشتهر بذلك وصار لسان الحال ناطقا بمراده حذفه، وقثد يقال: إن الحذف مناسب للسياق؛ لأنه وارد في محاورته مع صاحبته، وهو يدب دبيبه الحذر الماجن، وهي تقول في ضعف عابث: سباك الله إنك فاضحي، فحسن الحذف واللمح، وخاصة أن حديث المجون لحن وإسرار.
وأبين من هذه كله قوله تعالى: في حكاية قول أخوة يوسف لأبيهم: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} 1، والأصل لا تفتأ تذكر يوسف حتى تفنى وتبلى، والحرض ما لا يعتد به، قال ابن أبي الإصبع: إنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن والله وبالله أكثر استعمالا وأعرف عن الكافة، من تالله لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه، فإن كان وأخواتها أكثر استعمالًا من تفتأ وأعرف عند الكافة، ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك، وهي لفظة الحرض.
وهذا السياق الذي تتزاحم فيه الكلمات الغريبة مشيعة جو الغرابة، والوحشة مناسب لمقصودهم الذي يريدون حمل أبيهم عليه، فهم يريدون أن ينسى يعقوب عليه السلام ولده، وليس في الغرائب أغرب من هذا، وحذف حرف النفي، وهو خلاف الأصل يأتي متلائما مع هذا السياق الغريب، ويرمز في خفاء إلى حاجتهم، وهي نسيان يوسف، وإبعاده من قلب أبيهم الذي ضاق بهم، وتولى عنهم من أجل يوسف.
وإذا كان لك أن تعترض على ما ذكرناه من أنوع هذه الحذوف، فإني أخالك لا تعترض على ما نراه في حذف حرف النداء حين يقع موقعا تعظم فيه المزية، ويلطف فيه الإيماء.
1 يوسف: 85.
خذ لذلك قوله تعالى: في حكاية قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز لما استبقا الباب، وسيدنا يوسف عليه السلام يجتهد في الهرب من شيطانها، وألفيا زوجها لدى الباب، وكان ما كان من مشهد الحوار العجيب في نوعه، وانفعالاته بين يوسف والعزيز والمرأة، قال العزيز: لما أيقن بحجة سيدنا يوسف وصدق براءته، وأيقن بتهمة زوجته، قال:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} 1، وأراد بقوله: يوسف أعرض عن هذا، اكتم هذا الأمر ولا تتحدث به صيانة لعرضنا وشرفنا في قومنا، ثم قال لامرأته:"استغفري لذنبك"، وكان رجلا حليما، وقيل: كان قليل الغيرة، والشاهد حذف حرف النداء، وله هنا رمز لطيف، وكأنه يهمس بهذا الخبر في أاذن يوسف محاذرًا أن يسمعه أحد، ثم فيه تقريب، وملاطفة ليوسف عليه السلام، وإيماء خفي بأن الخبر كله يجب أن يضمر في السرائر، وألا يجري به لسان، وكان المجتمع المصري في فجر التاريخ مجتمع سيادة وشرف وثراء وملك ونعمة، وقيم وأخلاق، وكل هذا تراه في هذه السورة التي هي كنز مصر القديم، ولاحظ أن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وكان بينه وبين نوح أسماء معدودة، ونوح هو آدم الثاني؛ لأنه لم يبق من ولد آدم بعد الطوفان إلا من كان من نصله، وهذا مرادنا بفجر التاريخ، ثم تأمل حال البلاد الآن، وكيف حال حالها في يد العصابات، وقطاع الطرق وعد إل حذف جزء الكلمة.
ومن لطيف ذلك قول الحارث الجرمي يخاطب زوجته، وكانت تحثه على أخذ ثأر أخيه من قومه، قال في أبيات حزينة جاشية:"من الكامل"
قومي هم قتلوا أميم أخي
…
فإذا رميت يصيبني سهمي
قوله: أميم أصله يا أميمة، فحذف حرف الندء كما حذف آخر الكلمة للترخيم،
1 يوسف: 29.
وذلك؛ لأن الشاعر ممزق النفس موجوع القلب ضيق الصدر بهذه الجريمة البشعة التي صيرته إلى هذا الموقف المتناقض الضيق، فقومه قتلة أخيه، وحين يرميهم، فإنه يرمي نفسه، أقول: حذف ورخم، وكأنه يهمس في أذن صاحبته بأوجاعه الحزينة، وكأنه يسر لها بهذا الألم الكظيم.
وكثيرًا ما تجد نداء الصحابة واردًا على هذه الطريقة التي تشير إلى قربها من النفس، ومثولها في القلب، فتخاطب خطاب الأنيس المفاطن من غير حاجة إلى تنبيه ونداء.
هذا: وقد كانت على ألا أذكر هذا النوع من الحذف؛ لأنه لم يرد في كتب الأئمة كما ذكرته، ومع ثقتي بضرورة الاستجابة لهواتف النفس، وإن خالفت فإني لحذر جدا عند القول بالمخالفة، حتى عند هذه المسائل الهينة التي تشبه ما نحن فيه، والذي أغراني بمخالفة الحذر الواجب هو ثقتي بفهم القارئ، وخاصة أن مثل هذه الدراسة إنما نقدمها لقارئ له خبرة بالحقل، وله رأيه المستقل، أو هو بصدد أن يكون كذلك، فهو يقبل ما يرضاه ويرفض خلافه، وليس ثمة كلام يجب قبوله، والإذعان له إلا ما تجده بين دفتي المصحف، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عداهما فهو اجتهادات بشر غير معصومين، وأخذ منه ما نأخذ، وندع ما ندع في حدود الفهم والجد، ولهذا خفت التبعة على الباحثين؛ لأنهم يقولون ما يعالجون في نفوسهم، وللقارئ أن يلقي به جملة في ساحة الإهمال، وهي جد فسيحة، ولولا هذا لأطبقت الأفواه على الألسنة حتى تيبس؛ لأنه ليس هناك ضمير حي يتحمل إشاعة الخطأ، وبث الضلالة في أرض الله إلا من أذن بحرب من الله، وإني به سبحانه لمن العائذين.
وبعد، فسوف أعرض في مقدمة حذف المسند إليه الأغراض التي ذكرها البلاغيون مشتركة في حذف المسند إليه، والمسند والتي نراها أساسية لنتفادى
بذلك تكرارها ما أمكننا ذلك؛ لأننا نجري البحث هنا على منهج المتأخرين، فنذكر أحوال المسند إليه، والمسند، إلى آخره، وبهذا يتوزع التعريف والتنكير، والتقديم على هذه الأبواب، وقد كتبت هذه الدراسة في مسوداتها على نظام آخر، فكان كل واحد من هذه الأحوال بحثا مستقلا، فالحذف يرد كله في موضوع واحد، وكذلك التعريف، إلى آخره، وعند المراجعة، وجدت أن ترتيب الأفكار، والمسائل اقتضاني أن أذكر ما يكون في حذف المسند إليه، ثم اتبعه بحذف المسند وهكذا، فظهر لي أن توزيع البحث على الأبواب المشهورة في كتب القوم لا يفوت به من الدراسة أمر له بال، ومن هنا لم أجد ما يدعو إلى المخالفة.
أشرت إلى أن الحذف يكون لتصفية العبارة، وترويق الأسلوب من ألفاظ يفاد معناها بدونها لدلالة القرائن عليها، وأن هذا الاختصار، وحذف فضول الألفاظ يجري مجرى الأساس الذي بنيت عليه الأساليب البليغة، ولذلك نجد البلاغيين يذكرون من أغراض الحذف في كل جزء من أجزاء الجملة، الاختصار ويتبعونه بقولهم:"والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر"، وهي عبارة دقيقة وصادرة عن تفكير صادق؛ لأنه ذكر الكلمة التي يدل عليها سياق الكلام فيه ثقل، وترهل في الأسلوب، وهي شبيهة بالبعث وليست عبثا؛ لأنها جزء من الكلام، وذكر جزء الكلام لا يكون عبثا، ولذلك جاء قولهم بناء على الظاهر أي لا في حقيقة الأمر؛ لأننا عند التحقيق لا نسميه عبثًا.
ومقصد آخر تراه وراء كل حذف، هو بعث الفكر وتنشيط الخيال، وإثارة الانتباه؛ ليقع السامع على مراد الكلام، ويستنبط معناه من القرائن والأحوال، وخير الكلام ما يدفعك إلى التفكير، يستفز حسك وملكاتك، وكلما كان أقدر على تنشيط هذه القدرات كان أدخل في القلب، وأمس بسرائر النفس المشغوفة دائما بالأشياء التي تومض ولا تتجلى، وتتقنع ولا تتبذل، وقد أومأنا إلى ذلك.
ولأبي يعقوب يوسف السكاكي عبارة تحوم حول هذا المعنى الدقيق، فقد ذكر في أغراض الحذف تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ، أي أنك حين تذكر المسند إليه، أو المسند، تكون قد عولت في الدلالة على اللفظ المذكور، وحين تحذف أحدهما تكون قد عولت في الدلالة على العقل؛ لأنه ليس هناك لفظ يدل عليه، ودلالة العقل أقوى، وأمكن من دلالة اللفظ، وقال أبو يعقوب: تخييل العدول ولم يقل العدول؛ لأنك عند التحقيق لا تعدل في حالة الحذف عن دلالة اللفظ إلى دلالة العقل؛ لأن الدال هو اللفظ المحذوف.
وأخلص من هذا إلى أن كل صور الحذف وراءها مزايا ثلاث؛ الأولى: الاختصار، أو الإيجاز حتى لا يرد علينا اعتراض ابن السبكي؛ لأن الاختصار هو الحذف، فكيف يكون مزية له؟ والثانية: صيانة الجملة من الثقل، والترهل اللذين يحدثنا من ذكر ما تدل عليه القرينة، والثالثة: إثارة الفكر والحس بالتعويل على النفس في إدراك المعنى.
أما أحوال حذف المسند إليه، ومقاماته الداعية إلى ذلك، فمن الواضح أنه ليس من الممكن أبدًا أن تستقصى؛ لأن الدواعي كما أشرنا أحوال تنبعث في دواخل النفوس، ولا يمكن التعرض لحصرها، وإنما نتناول منها صورا تهدينا إلى طريقة النظر في هذا الباب.
وقد ذكر البلاغيون أنه من مألوف الأسلوب عن ذكر الديار أن يرد الكلام على حذف المسند إليه، وذلك في مثل قول امرئ القيس:"من الطويل"
لمن طلل أبصرته فشجاني
…
كخط زبور في عسيب يمان
ديار لهند والرباب وفرتني
…
ليالينا بالنعف من بدلان
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه
…
وأعين من أهوى إلي روان
والعسيب اليماني هو سعف النخل الذي جرد عن خوصه، وإضافته إلى اليمن؛ لأن أهل اليمن كانوا يكتبون فيه عهودهم، وهند والرباب، وفرتني أسماء صواحباته، وقد ذكر فرتني هذه في شعر آخر، قال:"من الكامل"
دار لهند والرباب وفرتني
…
ولميس قبل حوادث الأيام
والنعف ما انحدر من الجبل وارتفع عن الوادي، وبدلان بلد باليمن.
ذكر الشاعر أنه أبصر الطلل فأحزنه وشجاه، ثم شبهه بخط كتاب في سعف نخلة، ثم استأنف ذكر الطلل مرة ثانية استئنافًا قص فيه معنى جديدًا عرف فيه الطلل وذكر لهوه فيه، وهذا الاسئناف مبني كما ترى على حذف المسند إليه؛ لأن التقدير هي ديار أو تلك ديار.
ومثله وقوله أيضا: "من الطويل"
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
…
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد
…
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وهل يعمن من كان أحدث عهده
…
ثلاثين شهًرا في ثلاثة أحوال
ديار لسلمى عافيات بذي خال
…
ألح عليها كل أسحم هطال
قوله: وهل يعمن استفهام بمعنى النفي، أي كيف ينعم وقد تفرق عنه ساكنوه، فهو في شجن الفقد والضياع، وبعد توالي هذه الاستفهامات ذات الأثر في قوة المعنى وشدة تأثره، قال: ديار لسلمى، فذكر معنى جديدًا عرف فيه الطلل، وأنه ديار سلمى، وحدد موضعه وما يعانيه من إلحاح المطر الهطال الذي يذهب بآثار الأحبة، وقد بنى الأسلوب في هذا المعنى على حذف المسند إليه.
وقد ذكر عبد القاهر في هذا ما ذكره سيبويه من قول الشاعر: "من البسيط"
اعتاد قلبك من ليلى عوائده
…
وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به
…
وكل حيران سار ماؤه خضل
ذكر في البيت الأول أن الطلل هاج الأهواء المكنونة، ثم استأنف كلامًا ذكر في الديار، فقال: ربع قواء ذهب السحاب بمعالمه لما أعصر فيه ماءه، الشاعر هنا يذكر الربع، ويذكر أحواله الشاجية، فقد صار في مواجهة الفناء.
وتأمل البيت الأول، وتفقد كلماته وصوره؛ لأنه من حر الكلام.
ثم ذكر عبد القاهر من كتاب سيبويه قول الآخر، وهو في الكتاب منسوب إلى عمر بن أبي ربيعة:"من البسيط"
هل تعرف اليوم رسم الدار والطلا
…
كما عرفت بجفن الصيقل الخللا
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم
…
بالكانسية نرعى اللهو والغزلا
والصيقل السيف المصقول، والخلل بكسر الأول وفتح الثاني جمع خلة وهي بطانة يغشى بها متن السيف، قال الأعلم في شرح شواهد الكتاب: شبه رسوم الدار في اختلافها، وحسنها في عينيه بتوشية الخلل، وهي أغشية جفون السيوف.
وقد استأنف الشاعر في البيت الثاني كلاما جديا ذكر علقة نفسه بهذه الديار، فهي دار مروة صاحبته، وكأن أهله وأهلها هناك في الكانسية يتجاوران تجاورا هيأ لهما اللقاء، ومتعة الحياة والصبا، وقوله:"نرعى اللهو والغزلا"، من الكلام المختار، تأمل صنعة الشعر في قوله: نرعى اللهو والغزالا.
قال عبد القاهر: وكما يضمرون المتبدأ فيرفعون، فقد يضمرون بالفعل، فينصبون كبيت الكتاب أيضا:"من البسيط"
ديار مية إذ مي تساعفنا
…
ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
أنشده بنصب ديار كأنه قال: أذكر ديار.
ولم نجد في كلام عبد القاهر ما يحدد لنا السر البلاغي وراء هذا الخلاف،
وإنما يقرر أن تلك طريقة جارية عندهم، وعبارته تدل على لزوم الحذف في هذا السياق؛ لأنه يقول: وهذه طريقة مستمرة لهم إذا ذكروا الديار والمنازل.
وقد يقال: إن الديار والمنازل من المثيرات التي تهز النفس، فتتزاحم فيها الخواطر والأطياف، والأحلام التي بددتها الأيام في طغيان قاس عنيف، فالشاعر في هذه الموقف يكون ممتلئ النفس أعظم الامتلاء متوتر الحس أشد التوتر، وهذه حال تدعو إلى أن تكون الصياغة مركزة أشد التركيز ليكون الأسلوب أشبه بالنفس، وقد يقوي هذا أنك إذا راجعت النظر في الأبيات السابقة التي بنيت على الحذف تجدها تذكر معنى هو أمس بقلب الشاعر من سابقه؛ لأنه يخصص الديار ويحددها، فهي دار مرو أو دار سلمى أو ديار مية، وبهذا التحديد تلابسه أحسن الذكرى، وتطوف به أعذب الأطياف، وهذا موقف يعظم سلطانه على النفس الشاعرة.
وهذا التفسير الذي نفسر به هذه الخصوصية في سياق الأطلال هو ما نراه تفسيرا للخصوصية نفسها عند ذكر الرجال مدحا أو قدحا، فإنهم حين تحمي نفوسهم بذكر المناقب، أو المثالب يقطعون الكلام؛ ليستأنفوا مقطعا جديدا من مقاطع المعنى، ويبنون هذا المقطع الثاني على إسقاط المسند إليه، وكأن الحذف هنا تمييز، وفصل بين لونين من ألوان المعنى.
يقول عبد القاهر:
"من المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ القطع، والاستئناف يبدءون بذكر الرجل ويقدمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاما آخر، وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ، مثال ذلك قوله: "من الكامل"
وعلمت أني يوم ذا
…
ك منازل كعبا ونهدا
قوم إذا لبسوا الحديـ
…
ـد تنمروا حلقا وقدا
يذكر الشاعر وهو عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان شاعرا فارسا سيدا
يذكر شجاعته، وأنه نازل كعبا وهي قبيلة من ولد الحارث من مذحج، ونهدا وهي قبيلة من قضاعة، ثم قطع الحديث، وقال قوم وأراد: هم قوم، والحلق المراد بها حلق الدروع، والقد اليلب وهو شبه درع يلبس في الحرب، والمراد بقوله: تنمروا أنهم تشبهوا بالنمور في أفعالهم في الحرب، أو أن الحلق والقد تختلف ألوانها اختلاف لون النمر، والمرزوقي يرى أن الأول أجود، والحذف جاء في مقطع جديد من مقاطع المعنى، فإنه ذكر في البيت الأول كعبا، ونهدا وهكذا من غير إشارة إلى ما هم عليه من العدة والقوة، ثم استأنف حديثا آخر أو جزءا جديدا من المعنى، فذكر عدتهم وبنى هذا الاستئناف على الحذف لقوة الدلالة عليه؛ ولأنه مناسب -كما أشرنا- إلى قوة الانفعال بهذا الجزء من المعنى، فإن الإحساس بالفروسية يعظم حين تكون الملاقاة مع عدو موفور العدة عظيم الاقتدار، وحين يقوى التأثير بالمعنى، ويعظم الإحساس به يكون السياق سياق إيجاز ولمح، ما دام ليس هناك ما يدعو إلى النص على شيء معين وإبرازه
…
وإذا نظرنا إلى السياق الأعم الذي جاء فيه هذا الشاهد كما رواه أبو تمام رأيناه هكذا:
ليس الجمال بمئزر
…
فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن
…
ومناقب أورثن مجدا
اعددت للحدثان سا
…
بغة وعداء علندى
نهدا وذا شطب يقـ
…
ـد البيض والأبدان قدا
وعلمت أني يوم ذا
…
ك منازل كعبا ونهدا
قوم إذا لبسوا الحديد
…
تنمروا حلقا وقدا
كل امرئ يجري إلى
…
يوم الهياج بما استعدا
لما رأيت نساءنا
…
يفحصن بالمعزاء شدا
وبدت لميس كأنها
…
بدر السماء إذا تبدى
نازلت كبشهم ولم
…
أر من نزال الكبش بدا
وهكذا يمضي الشاعر مصورًا قيم الفروسية في تصورها العربي الدقيق،
وهذه الموسيقى الوثابة تصف هذه الروح المستفزة، وتتسع في بعض مراحلها إلى الفلسفة التي تبدو هادئة في تحليل الجمال.
وهذا السياق المتحفز، وهذه الأنغام السريعة، يقتضيان تركيز العبارة أشد التركيز؛ لأن ذكر ما يدل عليه السياق، والحال هذه عائق يعوق تدفق النغم، ويحبس اندفاع الروح.
وذكر عبد القاهر قول أبي البرج القاسم بن حنبل المري في زفر بين أبي هاشم بن مسعود بن سنان من قصيدته التي يقول فيها:
من البيض الوجوه بني سنان
…
لو أنك تستضيء بهم أضاءوا
وذكر قوله: "من الوافر"، وهو من حر الكلام وخالصه:
هم حلوا من الشرف المعلى
…
ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساة كلم
…
دماؤهم من الكلب الشفاء
قال بناة مكارم وأراد، هم بناة مكارم، والحذف كما ترى واقع في مقطع من مقاطع المعنى، يوضح ما ذكره في البيت الأول مجملا وهو شرفهم وتمكنهم، فذكر أنهم بناة مكارم هكذا بإطلاقها المستغرق مكارم الجود، والنجدة والشجاجة والقوة إلى آخر ما تحمله العبارة، ثم هي أساة كلهم فهم يملكون من الشدة، والحكمة ما يأسون به الجراح، وكأن الشاعر أراد أن يبرز تميز هذا الجزء من المعنى بقطعة عن سابقه، وحذف المسند إليه هو وسيلته في ذلك؛ لأنه لو ذكره لقال: هم فيكون رابطا واضحا وقويا بين البيتين، فيفوت غرض الشاعر، والكلام وإن كان على تقديره إلا أن إسقاطه من اللفظ يفيد هذا الغرض، ولذلك نرى عبد القاهر يحرص كما سنبين بأن هذا المحذوف يجب
ألا يخطر بالبال؛ لأن وردوه في النفس يذهب بالمغزى منه، وإن كان يقرر وجوب تقديره، وعجيب أن يكون شرف النفس عند آبائي، وآبائك بهذه المنزلة حتى إنهم ليعتقدون أن دماء الكرام تشفى من الدونية، وأن القطرة من دمائهم ينقذ بها من سقط في وهدة الخسة والنذالة، وذكر عبد القاهر أيضا قول أسيد بن عنقاء الفزاري في عميلة الفزاري لما رآه عميلة، وقد نكبه دهره، واختلت حاله، فقال له:"يا عم؛ ما أصارك على ما أرى؟ "، فقال أسيد:"بخل مثلك بماله وصوان وجهي عن أموال الناس"، فقال: أما والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أرى من حالك، فما كان السحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاة، وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا: فقالوا: هذا عميلة ساق إليك أمواله؛ فلما خرج ابن عنقاء إليه قسم عميلة ماله شطرين، وساهم عمه عليه فقال أسيد:"من الطويل"
رآني على ما بي عميلة فاشتكى
…
إلى ماله حالي أسر كما جهر
غلام رماه الله بالخير مقبلا
…
له سيماء لا تشق على البصر
والسيماء ممدود السيم وأصله السوم قلبت الواو ياء، والسيم العلامة التي يعرف بها الخير والشر، وقال تعالى:{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} 1، ومراد الشاعر أن علامات الخير وسيم الفضل بادية فيه لا تشق على البصر.
والشاهد قوله: "غلام" أراد هو غلام، ولكنه حذف المسند إليه لقوة الدلالة عليه، وجريا على عادتهم في مثله، وهو كما ترى حذف وقع في استئناف جزء من أجزاء المعنى ذكر فيه الشاعر خلائق مهمة في السياق، فطبائع الخير داخله في خلقة هذا الغلام؛ لأن الله قذفه بالخير، فصار في خلقه وخلقه، وناهيك عن هذا، ثم إن ملامح النجابة، والفضل لائحة في الوجه، وكأنها فاضت من داخله على خارجه، فلا تخطئ عين إدراك هذه السيم، واقرأ
1 البقرة: 273.
الأبيات قبل البيت الذي وقع فيه الاستنئناف، فقد طواها عبد القاهر، وهي في سياقنا مهمة قال:
رآني على ما بي عملية فاشتكى
…
إلى ماله حالي أسر كما جهر
دعاني فآساني ولو ضن لم ألم
…
على حين لا بدو يرجى ولا حضر
فقلت له خيرا وأثنيت فعله
…
وأوفاك ما أوليت من ذم أو شكر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه
…
تردى رداء سابغ الذيل واتزر
غلام رماه الله بالخير يافعا
…
له سيما لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره
…
وفي أنفه الشعرى وفي وجهه القمر
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه
…
ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر
وقوله: وأوفاك ما أوليت من ذم أو شكر، أراد أن الحمد كفاء للخير كما أن الذم كفاء للشر، فالذي يشكرك على الخير قد وفاك، والذي يذمك على الشر قد جازاك، وهذه أبيات حسنة جدًّا.
وإذا راجعت النظر في هذه الأبيات بان لك فيها أنها قبل القطع الذي هو في بيت الشاهد تدور حول الحوار الذي كان بين الشاعر وبين عميلة، ثم وصفه قبل بيت الشاهد بأنه ماجد، والوصف فيه إحساس بصدق مجده، فقد تردى ثايبا من المجد سابغة الذيل واتزر، فهو في فيوض من المجد، وليس كامن يستعير ثيابا من المجد، ثم جاء الاستئناف، وفيه الذي قدمناه من الأوصاف المهمة في السياق، وراجع هذه الأبيات وتفقدها صورة صورة وكلمة كلمة، وكيف يكون الشموخ في النفس والشعر.
وذكر عبد القاهر قول الشاعر: "من الطويل"
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
…
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
…
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
…
فكانت قذى عينيه حتى تجلت
وهذه الأبيات مما اختلف في نسبته اختلافا كبيرًا، فقالوا: هي لأبي الأسود الدؤلي يمدح عمرو بن سيعد بن العاص، وقالوا: هي لعبد الله بن الزبير يمدح عمرو بن أبان، وقالوا: غير ذلك، وهي من أبيات الحماسة، وعبد القاهر كثير الاستشهاد بأبياتها، كما كان كثير الاستشهاد بأبيات الكتاب، ثم إن كثيرًا من الشواهد في الكتاب مذكورة في الحماسة، والمهم أن الشاعر في البيت الثاني استأنف، وجاء بمقطع جديد من مقاطع المعنى، وبنى أسلوبه على الحذف، وإذا تأملت هذا المقطع وجدته قوي الدلالة في السياق، فقد وصفه بأنه غير محجوب الغنى عن صديقه، وهذا وصف بالسخاء، والبذل، والتراحم والمهادنة.
ثم وصفه أيضا بأنه لا يظهر الشكوى إذا زلت نعله أي تغير حاله، وهذا وصف بالحزامة، والجلادة وصدق الرجولة، وهذان الوصفان من أجل ما يوصف بهما الرجل، والمتأمل في الشعر والقيم الإنسانية التي يعتز بها يجد ذلك فيه واضحًا.
وكان عبد القاهر يختار شواهده بعد مراجعة، وكأنه يقصد إلى ما فيها من فضائل النفوس حتى ينتفع القارئ بها؛ لأن الهدف الأهم هو بناء النفس على مكارم الأخلاق.
والمرزوقي يفضل قوله: "رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
…
" على قول أسيد: "رآني على ما بي عميلة فاشتكى
…
" قال: "وذلك؛ لأن هذا قال: رأى خلتي من حيث يخفى مكانها"، فكأنه أدرك الحال من طريق الاستدلال، والاهتمام المبعوث من جودة التفطن، وإن كان صاحبه يتعفف عن السؤال ويتجمل، وابن عنقاء شاهد الحال عيانا، فاشتكى إلى ما له سرا وجهرا، وقال: هذا بإزاء الاشتكاء، فكانت قذى عينيه أي من حسن الاهتمام ما جعله كالداء الملازم له حتى تلافاه بالإصلاح، وإذا كان كذلك، فموضوع الزيادة في كلامه، وقصده ظاهر".
ومن هذا الباب قول متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك من قصيدته: "من الطويل".
أرقت ونام الأخلياء وهاجني
…
مع الليل هم في الفؤاد وجيع
قال متمم:
إذا رقأت عيناي ذكرني به
…
حمام تنادى في الغصون وقوع
دعون هديلا فاختزنت لمالك
…
وفي الصدر من وجد عليه صدوع
كأن لم أجالسه ولم أمس ليلة
…
أراه ولم يصبح ونحن جميع
فتى لم يعش يوما بذم ولم يزل
…
حواليه مما يجتديه ربوع
وقوله: رقأت عيناني أي: ذهب دمعها، قالوا: أرقأت دمعه أي كففته، وأرقأت دمعه أي حقنته، وقوله: تنادى في الغصون، أين نادى بعضه بعضا، وفيه أن الجو امتلأ تناديا وحنينا، والوقوع بضم الأول والثاني وصف لقوله حمام، والطير إذا كانت على شجر، أو أرض فهن وقوع، والهديل الذي يذكر في سياق إهاجة الأحزان له قصة طريفة ترويها أسطورة أشار إليها بعض الشعراء، فقد ذكروا أنه فرخ كان على عهد نوح عليه السلام، فمات ضيعة وعطشا، فكل حمامة تبكيه، وقد أشار نصيب إلى هذه الخرافة البليغة في قوله:"من الطويل"
فقلت أتبكي ذات طوق تذكرت
…
هديلا وقد أودى وما كان تبع
وقوله: وقد أودى وما كان تبع أي: هلك هذا الهديل قبل قوم تبع.
وقول متمم: دعون هديلا فيه إشارة إلى هذا القصة، وهي ذات مغزى نفسي كبير في سياق رثاثة، فالحمام يدعو هديلا مغيبا لا يجيب، وكذلك متمم.
والشاهد جاء في قوله: فتى لم يعش؛ لأنه أراد هو فتى، ولكنه حذف
على طريقتهم في حذف المسند إليه في مثله، وواضح أن القطع هنا عند منقطع مهم، فقد وصف خلائق مالك، وكان قبلا يتكلم عن لواعجه، وآلامه هو ثم انفتل يذكر فضائل أخيره التي أدامت حزنه، وصدعت قلبه، فمالك لم يعش يوما بذم أي لم يذم يوما، وهذا يعني كرم خلائقه وأصالتها؛ ثم وصف سماحة نفسه التي جعلت الوفود تلو الوفود لم تزل حواليه، والذي أبرز اهتمام الشاعر بهذا الجزء المهم من المعنى هو بناؤه على القطع كأنه شيء جديد ليس من جنس سابقه.
وذكر عبد القاهر من شواهد هذا الباب قول جميل: "من البسيط"
وهل بثنية يا للناس قاضيتي
…
ديني وفاعلة خيرا فأجزيها
ترنوا بعيني مهاة أقصدت بهما
…
قلبي عشية ترميني وأرميها
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
…
ريا العظام بلين العيش غاذيها
وإذا تأملت موضع الشاهد الذي هو البيت الأخيرة، وجدته يصف مفاتنها بعدما أشار إلى تدلهه بها، وكأنه يصف بواعث لواعجه، وهذا من الأهمية في السياق على ما ترى، ومثله قول جميل أيضا، وهو مما ذكره عبد القاهر:"من الكامل"
إني -عشية رحت وهي حزينة
…
تشكو إلي صبابة- لصبور
وتقول بت عندي فديتك ليلة
…
أشكو إليك فإن ذاك يسير
غراء مبسام كأن حديثها
…
در تحدر نظمه منثور
محطوطة المتنين مضمرة الحشا
…
ريا الروادف خلقها ممكور
وصاحبة جميل في هذه الأبيات تبثه شوقها، وتشكو إليه وجدها.
وعكس ذلك هو المشهور في هذا الباب، وكان كثير يرفض مثله من ابن أبي ربيعة، وقد سمعه مرة يقول:"من المنسرح"
قالت تصدى له ليعرفنا
…
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى
…
ثم اسبطرت تشتد في أثري
فقال له: أتراك لو وصفت بهذا حرة من أهلك ألم تكن قد قبحت، وأسأت وقلت: الهجر؟، وإنما وصفت الحرة بالحياء، والخجل، والامتناع.
وهذا اللون من الحذف كثير جدا، ويمكن في ضوء ما ذكرنا أن نعرف دلالته في مثل قول الأعشى "من البسيط"
ودع هريرة إن الركب مرتحل
…
وهل تطيق ودعا أيها الرجل
غراء فرعاء مقصول عوارضها
…
تشمي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل
وقول النابغة: "من الكامل"
ولقد أصابت قلبه من حبها
…
عن ظهر مرنان بسهم مصرد
بتكلم لو تستطيع حواره
…
لدنت له أروى الهضاب الصخد
كمضيئة صدفية غواصها
…
بهج متى يرها يهل ويسجد
والمرنان كما يقول ابن السكيت: مفعال وهو قوس، قال الأصعمي: هذا مثل من الرنين يقول: رمتك عن ظهر قوس مرنان أي صافية الوتر، والمصرد المنفذ.
وقوله: لو نستطيع حواره، يقول فيه ابن الأعرابي كما يروي ابن السكيت حواره "بكسر الحاء"، وحواره "بفتحها" وحويره، كل هذا واحد، ومعناه رده يقال: هذا كلام ماله حوير، ولا حوار أي رد جواب، والأروى جمع أروية وهي الأنثى من الوعول، والصخد الحادة، ويقال: صخدته الشمس إذا اشتد وقعها، وصقرته وصهرته.
والمضيئة يعني الدرة أي: هي كالدرة، ويهج فرح، ويهل ويسجد أي يرفع صوته بالدعاء والتحميد.
وهذا من حر الشعر ونادره، ورادعه وتفقده واستق منه؛ لأنه من نبع الشعر الصافي.
وعبد القاهر كما أشرت لم يحدد لنا تحديدا دقيقا السر البلاغي للحذف في هذه السياقات، ولكنه بحسه المرهف كان يتذوق حلاوة الحذف فيها ويستطعمه، ولا يعدو حديثه وصف هذا الذي يجده في نفسه، وراء هذه الخصوصية، بل إنه ليشعرك أنه لا يستطيع أيضا وصف ما في نفسه بدقة، ويطلب منك محاولة أن تحس الذي أحسه؛ لأنك لا تدرك قيمة ما يجده بالوصف، وإنما تدركه إذا ذقته وهذا صواب، ثم يرشدك إلى طريقة تعينك على إدراك هذا الأثر، وذلك بأن تذهب بهذه الخصوصية، وتذكر المحذوف، ثم تحاول أن تتعرف على ما تجده في نفسه، والأسلوب على الحالة الثانية، وفي ضوء هذه الموازنة تستطيع أن تتعرف آثار الحذف، يقول في ذلك:
"فتأمل الآن هذه الأبيات كلها واستقرها واحدًا واحدًا، وانظر إلى موقعها في نفسك، وإلى ما تجده من اللطف، والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النفس عما تجد وألطفت النظر فيما تحس به، ثم تكلف أن ترد ما حذف الشاعر، وأن تخرجه إلى لفظك وتوقعه في سمعك، فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت، وأن رب حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد".
وتأمل قوله: ثم فليت النفس عما تجد، وألطفت النظر فيما تحس به، وأحكمه؛ لأنه هو الطريق الذي به تتعلم، وتكتسب ذوق الشعر وأكرر لك هنا ما قلته في أبيات النابغة، وأقول لك هذا من حر الكلام، ونادره وراجعه وتفقده؛ لأنه من نبع العلم الصافي، واعلم أن الكلمة النادرة في العلم كالكلمة النادرة في الشعر.
ويذهب عبد القاهر في تناسي المحذوف، وإسقاطه مذهبا أبعد من من حذفه في اللفظ؛ لأنه يطلب منك أن تحذفه من نفسك، فلا تخطره بوهمك؛ لأن هذا الخطور يفسد مذاق العبارة.
عليك إذن حين تريد أن تتعرف على جمال الصياغة في هذا الأسلوب أن
تنصرف بنفسك، ووهمك إلى ما نطق به الشاعر جاهدا نفسك في أن تبعد عنها ما وقر فيها من صناعة الإعراب التي توجب تقدير المبتدأ في مثله، يقول في ذلك:
"إنك ترى نصبة الكلام، وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ، وتباعده عن وهمك، وتجتهد ألا يدور في خلدك، ولا يعرض لخاطرك، وتراك كأنك تتوقاه توقي الشيء يكره مكانه، والثقيل يخشى هجومه".
كل هذا لا يعلمنا فيه الشيخ علم البلاغة، وإنما يعلمنا كيف نذوقها، وهذا أجل.
وعبد القاهر له مصنفات تجعله في الصدر من طبقات النحاة، إلا أن تفرده بما تفرد به في الدراسة البلاغية غلب على ذكره، فصار أعرف به، قلت: هذا لأنبه إلى أنه رحمه الله كان يعي بدقة مناهج العلوم المشتغل بها، فهو إذا كان في سياق النحو قال في قوله: غلام رماه الله بالخير: التقدير هو غلام، وفي قوله: هيفاء مقبلة، التقدير هي هيفاء إلى آخر ما ذكرنا، وهذا التقدير ضرورة لا يخالف فيها عاقل، وقد فعل ذلك سيبويه فيما عرض له من مثله؛ لأن السياق سياق الصناعة الإعرابية، والبحث عن مكونات الجملة، وما يحذف منها، وما لا يحذف.
فلما كان السياق هنا سياق الإدراك لسر الحذف، رأيت عبد القاهر يقرر أنه لا مفر لك إذا أردت إدراك هذا السر أن تتحاشى هذا المحذوف ليس في الذكر فحسب، بل في الخطور النفسي؛ لأن هيئة العبارة وجمال الأسلوب يروم منك ذلك، وعميلة التذوق لا تتم إلا به، ولا يعترض بما يقتضيه الإعراب؛ لأن هذا سياق وذلك سياق آخر، البلاغة تحتم أن تحذف المبتدأ من نفسك، والنحو يقرر أن تقدره في لفظك حتى لو قلت: هو فتى قلت: ما الأصل أن يقال، وهذا مبحث شريف.
وقد يحذف المسند إليه للإشارة إلى أن الخبر لا يتوهم أن يكون لغيره،
وذلك كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 1، فإن قوله: عالم خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، ولكن لما كان الخبر لا يكون إلا له سبحانه جاء الكلام على الحذف، وفي هذا الحذف إشارة إلى الواحدانية والجلال.
ومثله قوله تعالى: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} 2، أي هذا ساحر كذاب، والقائلون وهم قومه يقصدون بهذا الحذف أن قولهم: ساحر لا ينصرف عند الإطلاق إلا إلى موسى عليه السلام زعما منهم أن هذه الصفة غالبة عليه، وفي الحذف أيضًا إشارة إلى استخفافهم، وقلة اعتدادهم.
وقد تأتي هذه الطريقة في الشعر، ويكون وراءها إشارات حسنة، انظر إلى قول ربيعة بن مقروم الضبي في مطلع قصيدته:"من الكامل"
شماء واضحة المعارض طفلة
…
كالبدر من خلل السحاب المنجلي
وكأن الشاعر حين قال شماء، وذكر هذه الأوصاف أوهم من وراء ذلك أن هذها لأوصاف إذا ذكرت عند الإطلاق لا تنصرف إلا إليها، وكأن الناس يعرفون تفردها بها.
قالوا: وقد يحذف المسند إليه لضيق المقام، وتجد لهذا مذاقا حسنا في سياق الضجر، والشدة حين ينزع المتكلم إلى الإشارات اللماحة لفرط ما يجد.
ومن هذا، وهو مشهور قوله:"قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل".
والأصل: أنا عليل ولكنه حذف المسند إليه؛ لأن العليل يثقل عليه الكلام، فهو نازع إلى الإيجاز دائما.
وقد ترد الأمثال على حذف المسند إليه فيصير ذلك لازما؛ لأن الأمثال لا تتغير، من ذلك قولهم: قضية ولا أبا حسن لها، ي هي قضية، وقولهم:
1 الرعد: 9.
2 غافر: 24.
شنشنة أعرفها من أخزم، والشنشنة الطبيعة والعادة، والأخزم ابن قائل المثل، وكان عاقا لأبيه، فلما مات تواثبت أبناؤه على جدهم فأدموه فقال: "من الرجز
إن بني ضرجوني بالدم
…
شنشنة أعرفها من أخزم
أي عادة أعرفها من أبيهم، ويقولون:"صلعاء متئم"، والصلعاء الداهية والمتئم التي تلد توأما، ويقولون:"ذليل عاذ بقرملة"، والقرملة شجرة ضعيفة لا ورق لها، ومضارب هذه الأمثال واضحة من معانيها، وكلها مبني على حذف المسند إليه كما ترى، وذلك للاختصار والإيجاز، وهي فضيلة من فضائل الكلام جليلة ليست مبتذلة، ولا متاحة لكل متكلم.
ومن هذا الباب بنبا الفعل للمجهول وحذف الفاعل؛ لأن نائبه ليس هو المسند إليه في الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1.
وهذه الآية الكريمة من الشواهد السائرة عند البلاغيين، وقد كثر كلامهم في بيان فصاحتها، وقالوا: إن واحدا ممن حاولوا معارضة القرآن لما قرأها مزق أوراقه، وقال ابن أبي الأصبع: إن لم ير -في جميع ما استقرى من الكلام المنثور، والشعر الموزون- كهذه الآية، وأنه استخرج منها أحد وعشرين ضربا من المحاسن، وهي ملحوظات لا تخلو من حسن، وحذف المسند إليه الحقيقي في قوله: وقيل: يا أرض يشير إلى قوة ظهوره، وأن ذلك الفعل الهائل أعني مخاطبته الأرض، وتوجيه الأمر المستعلى إليها لا يكون إلا من الذي خلقها، فسواها وكذلك السماء، وحذف الفاعل في قوله: وغيض الماء للإشارة إلى الإجابة السريعة، فما أن أمرت الأرض بأن تبلغ، والمساء بأن
1 هود: 14.
تقلع إلا وقد غيض الماء، وكأن قوة هائلة مجهولة اختطفته، وابتلعته فهذه معها.
ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 1، قال الزمخشري في "كشافه" القديم كما يقول الزركشي:"هذا أدل على كبرياء المنزل وجلالة شأنه من القراءة الشاذة أنزل مبنيا للفاعل كما نقول: الملك أمر بكذا، ورسم بكذا، وخاصة إذا كان الفعل فعلا لا يقدر عليه إلا الله، كقوله: وقضى الأمر، قال: كأن طي ذكر الفاعل كالواجب لأمرين: أحدهما أنه إن تعين الفاعل، وعلم أن لفعل مما لا يتولاه إلا هو وحده كان ذكره فضلا ولغوا، والثاني: الإيذان بأنه غير مشارك، ولا مدافع عن الاستئثار به، والتفرد بإيجاده".
ومن ذلك قوله تعالى -في وصف سحرة فرعون لما رأوا آية موسى عليه السلام، واستيقنتها أنفسهم بعد ما سحروا أعين الناس، واسترهبوهم فبادروا بالانقياد، والسجود في سرعة فائقة، قال سبحانه:{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} 2 حذف المسند إليه في قوله: فغلبوا هنالك؛ لأن الغرض منصب على بيان أن السحرة غلبوا، وأن سحرهم أبطل وكانوا فيه مشاهير، وفيه إشارة إلى أن الغالب في الحقيقة ليس هو موسى عليه السلام، وإنما قوة أيدت موسى، وجعلت عصاه حية تسعى ألقاها، فإذا هي تلقف ما يأفكون، ولو أنه قال: فغلبهم موسى لكان نصا على غلبة موسى عليه السلام، وأن له في ذلك فعلا غلب به، وليس كذلك، فإن سيدنا موسى أوجس في نفسه خيفة لما رأى حبالهم، وعصيهم وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
وانظر إلى قوله في الآية الكريمة: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} ، فإن بالغ في الحسن
1 البقرة: 4.
2 الأعراف: 118-120.
والإيجاز وقد وصف بدقة بالغة وقوع عصا موسى في ساحة الصراع بعدما ملأها باطل السحرة، وقوله:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} ، حذف فيه المسند إليه للإشارة إلى السرعة الفائقة في وقوع الحدث، وتصوير أن قوة مجهولة أستلبت عنادهم، وكفرهم فخروا في ساحة الحق ساجدين.
وقد ارتضى بعض البلاغيين أن يعتبر من باب حذف المسند إليه حذف الفاعل فيما بنى فعله للمعلوم، وذلك كقوله تعالى:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} 1، أي إذا بلغت الروح، والحذف هنا لظهور الفاعل ظهورًا لا لبس فيه، والآية في ذكر الموت، ولا يبلغ التراقي عند الموت إلا النفس والروح، وكأن في إسقاطها من العبارة إشارة إلى ما هي عليه من وشك المفارقة.
ومثله قول حاتم: "من الطويل"
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما، وضاق بها الصدر
أراد إذا حشرجت الروح، والحشرجة صوت يردده المريض في حلقه.
وهو مأخوذ من الحشر نظرا لضيق مكان النفس في هذه الحال، والحذف هنا أيضا لشدة ظهور المحذوف، وللإشارة السابقة؛ ولأن الشاعر يصف مقام ضيق وشدة، والحذف فيه أدل على قصر النفس، وأكثر وحيا بمعنى الحشرجة.
ومنه قوله تعالى -حكاية عن سيدنا سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 2، وأراد حتى توارت الشمس بالحجاب، فحذفت الشمس لبيان المراد؛ ولأنها توارت فلاءم الحذف دلالة الكلام، وتأمل وتفقد أحببت حب الخير عن ذكر ربي، ومنه قوله تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} 3، في قراءة نصب بينكم، قالوا: المراد: لقد تقطع الأمر، فحذف الفاعل للإشارة إلى أنه أمر منقطع ساقط، والأمر المراد به العلاقة الموهومة بينهم، وبين شفعائهم الذين زعموا أنهم فيهم شركاء، وسياق الآية هكذا: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا
1 القيامة: 26-27.
2 سورة ص: 32.
3 الأنعام: 94.
خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 1.
وقالو: ومما جاء على حذف الفاعل قوله تعالى في شأن سيدنا يوسف عليه السلام: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 2.
والأصل ثم بدا لهم الأمر ولكنه حذف، وحذفه يشير إلى الاستخفاف به؛ لأنه أمر ساقط جائر، فقد بدا لهم بعد ما رأوا الآيات، فكيف يسجنونه؟
ومما جاء على حذف الفاعل لقوة الدلالة قولهم: أرسلت وهم يريدون جاء المطر، ولا يذكرون السماء، ولكنهم لا يقولون هذا إلا في حال سقوط المطر، ولذلك كانت الدلالة على المحذوف راجعه إلى قرينة الحال الواضحة، قال ابن الأثير في بيان حذف الفاعل:
"وقد نص عثمان بن جني رحمه الله تعالى على عدم الجواز في حذف الفاعل، وهذه الآية وهذا البيت الشعري، وهذه الكلمة -أراد قوله تعالى:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} 3، وقول حاتم: أماوي ما يغني الثراء عن الفتى، وقولهم: أرسلت- خلاف ما ذهب إليه إلا أن حذف الفاعل لا يجوز على الإطلاق بل يجوز فيما هذا سبيله، وذلك أنه لا يكون إلا فيما دل الكلام عليه
…
وأما قول العرب: أرسلت وهم يريدون أرسلت السماء، فإن هذا يقولونه نظرا إلى الحال، وقد شاع فيما بينهم أن هذه كلمة تقال عند مجيء المطر، ولم ترد في شيء من أشعارهم، ولا في كلامهم المنثور، وإنما يقولها بعضهم لبعض إذا جاء المطر، فالفرق بينها وبين حشرجت، وبين بلغت التراقي ظاهر، وذلك أن حشرجت، وبلغت التراقي يفهم منها أن النفس التي حشرجت، وأنها هي التي بلغت التراقي، وأما أرسلت فلولا شاهد الحال، وإلا لم يجز أن تكون دالة على مجيء المطر، ولو قيل في معرض الاستقساء: إن خرجنا نسأل الله فلم نزل حتى أرسلت، لفهم من ذلك أن التي أرسلت هي السماء، ولا بد في الكلام من دليل على المحذوف، وإلا كان لغوا لا يلتفت إليه".
1 الأنعام: 94.
2 يوسف: 35.
3 القيامة: 26.