المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقديم المسند إليه: - خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

[محمد محمد أبو موسى]

الفصل: ‌تقديم المسند إليه:

صورة في كلامهم تدل على الحرص والرغبة، يقولون: جاء فلان تضب لثته أي جاء حريصا جياشا، والمهم التنكير في: يهزون أرماحا، فيه كما ترى معنى أرماحا عجيبة كأنها لم تعرف قبل.

وقوله:

وأبلغ أنيسا سيد الحي أنه

يسوس أمورًا غيرها كان أحزما

وهكذا نستطيع أن ندرك خصوبة هذه الكلمات التي أشرنا إليها، وأن وراءها ألوانًا من الحس تخصب العبارة، وتثري الفائدة.

ص: 220

‌تقديم المسند إليه:

إن أهم ما يبحث في هذا الموضوع هو تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي كقولك: محمد يقوم، وهذا التركيب كما يقول البلاغيون صالح، لأن يفيد أمرين:

الأول: تقوية الحكم فقولنا: محمد يقول الشعر أوكد في بيان أنه يقول الشعر من قولنا: يقول محمد الشعر، ومثله هو يعطي أوكد في الدلالة من قولنا: يعطي، ولذلك تجري هذه الصياغة في المقامات التي تدعو إلى التوكيد، والتقرير مثل مواجهة الشك في نفس المخاطب، والرغبة في إقناعه، ومثل رد الدعوى التي يدعيها المخاطب، ومثل أن يكون المتكلم معنيا بكلامه مقتنعا به، فهو يريد أن يثبته في القلوب قويا مقررًا كما هو مقرر في نفسه، وغير ذلك من مقامات التقوية والتقرير، وهي كثيرة لا تحصى وراقب نفسك ساعة واحدة لترى كم تنزع نفسك إلى التوكيد في هذه الساعة، ولهذا كثر في الكلام جدًّا.

ودونك بعض صوره في الكلام الرفيع:

ص: 220

قال عبد الرحمن بن الحكم بن هشام يلوم بني أمية لما أخذ عمر بن عبد العزيز في رد المظالم، وغلظ ذلك منه على أهل بيته قال:"من الطويل"

فقل لهشام والذين تجمعوا

بدابق موتوا لا سلمتم يد الدهر

فأنتم أخذتم حتفكم بأكفكم

كباحثة عن مدية وهي لا تدري

عشية بايعتم إماما مخالفا

له شجن بين المدينة والحجر

فقوله: "فأنتم أخذتم حتفك بأكفكم"، قدم فيه المسند إليه على البخر الفعلي، فأفاد تقوية الخبر، وهو تقرير الخطأ العظيم الذي وقعوا فيه -كما يزعم- حين بايعوا عمر بن عبد العزيز، وهذا التوكيد يشير إلى اهتمامه، واعتقاده بالخبر، وتأكيد أنه لا محالة كان منهم.

وقد قال أحد ولد مروان معارضا ابن الحكم بن هشام: "من الطويل"

لئن كان ما يدعو إليه هو الردى

فما أنت فيه ذا غناء ولا وفر

فأنت من الريش الذنابي ولم تكن

من الجزلة الأولى ولا وسط الشعر

ونحن كفيناك الأمور كما كفى

أبونا أباك الأمر في سالف الدهر

قوله: ونحن كفيناك الأمور جاء على طريقة تقديم المسند إليه؛ لأنه يريد تقوية هذا الأمر الدال على سيادة بني مروان، وظهورهم عليهم، وأن كفايتهم بني هشام مقرر وثابت، وواضح أن سياق الكلام سياق معارضة، وهو يحتاج إلى توكيد المعاني وتقريرها، ويمكن أن يقال: إن التقديم في نحن كفيناك يفيد الاختصاص بل إن المعنى يقوي به، وكأنه يقول له: لم يكفكم الأمور سوانا أي أنتم عاجزون عن كفاية أموركم، فكيف بأمر الخلافة؟ وهو أمر عظيم شامل، ومعنى الاختصاص والتقوية، لا يتعارضان، فما يفيد الاختصاص يفيد التقوية؛ لأن الاختصاص كما قالوا: تأكيد على تأكيد، نعم قد يكون التركيب مفيدًا للتقوية فقط، ولا تصلح معه دلالة الاختصاص كما ستعرف.

واقرأ قول المعذل بن عبد الله الليثي، وكان يقول التبريزي: كثيرا ما يقترف

ص: 221

الجنايات، وكان النهس بن ربيعة يكفل عنه، وأخذ المعذل يوما، فأدركه النهس وحمله على فرسه، وأمره أن ينجو بنفسه، وأسلم نفسه مكانه، فلما نجا قال له المعذل: أخيرك بين أمرين: أمدحك أو أمدح قومك، فاختار مدح قومه، فقال في مدحهم:

هم خلطوني بالنفوس وأكرموا الصـ

حابة لما حم ما كنت لاقيا

هم يفرشون اللبد كل طمرة

وأجرد سباح يبذ المغاليا

قال: هم خلطوني بالنفوس أي أنهم أقاموه بينهم، وأسقطوا الحشمة كما يقول المرزوقي بينه وبينهم، وتلك منزلة في رحابة النفس عالية، وقوله: الصحابة المردج به الصبحة، وقوله: هم يفرشون اللبد، فيه توكيد لمعنى أنهم يفرشون اللبد؛ لأنه في سياق المديح، ومعاني المديح تحتاج إلى تقرير، وتقوية لتأنس بها النفس، ولتكون في الصياغة المطبوعة دليل صدق الشاعر في إحساسه؛ قال عبد القاهر: لم يرد أن يدعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها، وينص عليهم فيها كأنه يعرض بقوم آخرين، فينفي أن يكونوا أصحابها، هذا محال، وإنما أراد أن يصفهم بأنهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل، وأنهم يقعدون الجياد منها، وأن ذلك دأبهم من غير أن يعرض لنفيه عن غيرهم، إلا أنه بدأ يذكرهم لينبه السامع لهم، ويعلم بديا قصده إليهم بما في نفسه من الصفة، فيمنعه بذلك من الشك، ومن توهم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم.

وقوله: يبذ المغاليا، جاء بضم الميم وفتحها، وأما الضم فإنه -كما يقول المرزوقي- صالح لأن يراد به السهم نفسه أو فرس يغاليه، وأما الفتح فهو جمع مغلاة، وهي السهم يتخذ للمغالاة، والمعنى يسبق السهم في غلوته، ومراد الشاعر أن سعيهم مقصور على تفقد الخيل، وخدمتها، وافتراش ظهورها.

وانظر قوله تعالى في شأن فريق من اليهود غيروا التوراة كما يقول ابن عباس، وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ

ص: 222

عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.

قال: وهم يعلمون، وصاغ الخبر كما ترى؛ لأن الذي يكذب لا يعترف بأنه يكذب فضلا عن أن يعترف بأنه يعلم أنه كاذب، ومن هنا كان سياق العبارة سياق إنكار، فاحتاج إلى هذا القدر من التوكيد، والبلاغيون يقولون: إن هذا الأسلوب يأتي فيما سبق فيه إنكار، ويذكرون هذه الآية شاهدا على ذلك، ويذكرون من مقامات هذا الأسلوب تكذيب المدعي كقوله تعالى:{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} 2، قال: وهم قد خرجحوا به؛ لأنهم يدعون خلاف ذلك بقولهم: آمنا، أي أنهم لم يخرجوا بالفكر، والآية فيها جمل ثلاث: الأولى آمنا، هكذا من غير توكيد؛ لأن التوكيد من أمارات وثوق النفس فيما تقول، وهم لا يجدون في أنفسهم هذا الوثوق، وفأرسلوا العبارة هكذا فاترة فتور المعنى في نفوسهم، والجملة الثانية قوله:{وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} ، وهي جملة حالية فيها شيء من التحقيق المفاد بقد، والجملة الثالثة:{وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} ، وفيها من عناصر التوكيد ما ليس في غريها من الجملتين السابقتين؛ لأنها ترد على دعوى كما بينا.

وتأمل كيف تتنزل عناصر التوكيد في الكلام قطرة قطرة على وفق الأحوال بحساب دقيق.

ومن مقاماته -كما قالوا- ما يكون فيه الخبر مخالفًا لمقتضى الدليل كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3، فإن قوله:{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ، مخالف لمقتضى حال عبادتهم لها؛ لأن المعبود لا يكون مخلوقا، فهم ينكرون مخلوقيتها، أو

1 آل عمران: 78.

2 المائدة: 61.

3 النحل: 20.

ص: 223

الأصل أن ينكروا ذلك، فوجب توكيد أنهم يخلقون "بضم الياء"، فجاء على ما ترى.

قال الخطيب: وما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1، وقوله تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2، وقوله تعالى:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} 3، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها.

وهذا النص نقله الخطيب من دلائل الإعجاز من غير تصرف يذكر، وهو كلام جيد يعتمد في بيان قيمة هذا التركيب على موازنته بغيره مما يؤدي معناه في الجملة، وليس على طريقته، والقضاء في ذلك للحس والذوق كما ترى.

وإذا حاولنا أن نتعرف السبب في نبو اللفظ عن المعنى عند مخالفة الصياغة الواردة في الآيات لزمنا أن نتأمل سياق كل آية منها، ولنبدأ بالأولى:

قال المفسرون: إن الوثنيين قد خوفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يقولوا:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 4.

السياق كما ترى استهانة بآلهتهم، وتسفيه عابديها، ثم إظهار عدم المبالاة

1 الأعراف: 196.

2 الفرقان: 5.

3 النمل: 17.

4 الأعراف: 194-196.

ص: 224

بالعابدين والمعبودين، وأنه صلى الله عليه وسلم يدعوهم لكيده في أسلوب متهكم لاذع يثير الحمية، وقد أشار إلى القوة التي تدفع عنده، وتجعله يعارضهم هذه المعارضة قال:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} ، فساق الكلام مؤكدا بما ترى ليشعرهم بوثوقه فيه، وأنه يقوله مع موفور الثقة، ومتين الاعتقاد، وأنه نفسه ممتلئة بهذا اليقين، ولهذا جاء قوله:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} بهذا التوكيد، ليلائم هذا السياق الذي يقرر لهم فيه الرسول حال يقينه في وثاقته بربه، وهو يعارضهم تلك المعارضة التي لا تبالي بهم ولا بمقدساتهم، ثم رتاه يذكر بعد ذلك قوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1، فأشار إلى ما يقابل ثقته في ناصره سبحانه من عجز آلهتهم عن نصرهم، إذن لو قال: ويتولى الصالحين هكذا كلاما خاليا من التوكيد لنبأ عنه معناه.

وشيء آخر في تفسير الضرورة البلاغية لهذا التقديم هو أن قوله: وهو يتولى الصالحين، دال على أنه الله يتولاه صلى الله عليه وسلم بطريق الكناية؛ لأنه يلزم من توليته سبحانه الصالحين أن يكون وليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيد الصالحين، وطريق الكناية أوكد في إثبات المعنى من طريق التصريح، فاقتضى حسن السياق أن يجيء بناء العبارة على ما هو عليه حتى تتسق عناصر الدلالة.

والآية الثانية ترى سياقها هكذا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.

وحاجة التعبير هنا إلى التوكيد واضحة؛ لأنهم يدعون في القرآن ما ينكره عليهم الرسول والمؤمنون، ثم هم راغبون في رواج مقالتهم فيه، فلا بد من توكيدها ليتقبلها من لا يعرف القرآن، ونبيه صلى الله عليه وسلم من القبائل الأخرى،

1 الأعراف: 197.

2 الفرقان: 4، 5.

ص: 225

والتي كانت لا تزال تثق في قريش وحكمتها، وكانت مقالة قريش في القرآن تصاغ في أسلوب مؤكد، انظر إلى قولهم:{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} ، وكيف بنيت العبارة هذا البناء الصلب من استعمال اسم الإشارة، ومجيئها على أسلوب القصر، والإخبار عنه بأنه إفك.

ومن الواضح في تاريخ الدعوة أن مثل هذه المفتريات على النبي، والقرآن كان يذيعها وجهاء قريش بين وفود القبائل الوافدة عليهم في التجارة، ومواسم الحج؛ لأنهم كانوا يهتمون جدا بحصار الدعوة داخل مكة للقضاء عليها فيها وكان تفلت أخبارها خارج الحدود ومما يفزعهم، ثم إنهم كانوا يستشعرون بأن أساطير الأولين لم تكن من معارفهم الذائعة، ومن هنا احتاجوا إلى توكيدها، وانظر إلى قولهم: اكتتبها، وما فيه من المعاناة وهو واقع بدل كتبها كما تقول استكب الماء بدل سكبه واصطبه بدل صبه، هكذا قال الزمخشري، ثم انظر إلى حذف المبتدأ، وكيف أشار إلى أنه معروف؛ لأن القول بأنه أساطير مما لا يتوجه إلا إليه، والخلاصة أن التقديم هنا، أعني في قوله: فهي تملى كان ضرورة بلاغية لورود الكلام في سياق يحرص على التوكيد، ولتتلاءم مع المقالة الأولى في هذا؛ ولأنه من الأخبار الغريبة فلا بد فيه من الاحتفال والاهتمام، ولهذا كان خلاف التوكيد مما ينبو عن المعنى، كما قال عبد القاهر.

أما الآية الثالثة: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أي: يحبس أولهم على آخرهم بإيقاف أولهم حتى يحلق به آخرهم -جاء قوله: فهم يوزعون، بتقديم المسند إليه ليؤكد هذا الخبر الغريب، فتأنس به النفوس؛ لأن حشر الإنس والجن، والطير على هذه الهيئة من الإيزاع والتداخل أمر غريب تحتاج النفوس إلى ما يؤنسها به، ويقرره عندها، فلو قال: يوزعون هكذا مرسلًا من غير توكيد لما كان التركيب ملائمًا لحال النفس المتلقية لمثله، والتي تحتاج كما قلنا إلى ما يؤنسها بالأمر الغريب، وقد ذكرنا أن التوكيد من أدق العناصر البلاغية، وأشفها في مراقبة أحوال النفس

ص: 226

وتنزله في الكلام على وفق هذه الأحوال بحساب دقيق، وهو من خفي الصنعة التي لا تستقيم على وجهها إلا في حر الكلام.

وهذا ما رأيناه في الأمر الداعي إلى بناء الفعل على الاسم في هذه الآيات، والله أعلم.

قال عبد القاهر، بعد ما ذكر أن هذا الأسلوب يكثر في الوعد، والضمان مثل: أنا أكفيك، وأنا أقوم بهذا الأمر؛ "لأن من شأن من تعده، وتضمن له أن يتعرضه شك، فهو محتاج إلى التوكيد"، وبعد ما ذكر أنه يكثر في المدح قال:"ويزيدك بيانا -بدلالة التقديم على التوكيد- أنه إذا كان الفعل مما لا يشك فيه، ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتى به غير مبني على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة، قلت: قد خرج ولم تحتج إلى أن تقول: هو قد خرج، ذلك؛ لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع، فتحتاج أن تحققه، وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه".

قلنا في صدر الحديث في هذا الموضوع: أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي صالح لأن يفيد أمرين: التقوية وقد بيناها، والأمر الثاني هو الاختصاص أي أن الفعل خاص بالمسند إليه لا يتعداه إلى غيره، وذلك يكون إذا ساعد السياق على ذلك، تقول: أنا أعرف هذه المسألة في سياق، تعني فيه إنك وحدك الذي تعرفها وتقول: محمد يعطي من خير ماله؛ إذا كنت تريد أنه لا يفعل ذلك سواه، أو أنه يفعله بخلاف شخص معين وهكذا.

وقد قدمناه أن قوله: "ونحن كفيناك الأمور"، يفيد التقديم فيه الاختصاص؛ لأنه أراد أن يقول له: لم يكفكم الأمور سوانا، وانظر قول المعذل: هم خلطوني بالنفوس، تجد أن تقديم المسند إليه يعني أنه لم يفعل ذلك سواهم، وذلك واضح فيه، وفي البيت الثاني هم يفرشون اللبد لا يصح فيه إرادة هذا المعنى كما سبق، فالمسألة ترجع إلى الإدراك الدقيق للمعنى، والإدراك الدقيق لملاءمة

ص: 227

السياق، ومما هو بين فيه معنى الاختصاص قوله تعالى:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْض} 1، أي لم ينشئكم منها إلا هو سبحانه، وقوله:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2، وقوله:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} 3، إلى أمثال هذا وهو كثير جدا في القرآن وكلام الناس، ثم إن الصور التي تفيد الاختصاص لا تخلوا دلالتها من التوكيد والتقرير، وإن كانت الدلالة الواضحة هي الاختصاص؛ لأن الحقيقة هي أن الاختصاص متضمن للتوكيد، خذ قوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} 4، تجد أن التقديم يفيد أنه لم ينزله إلا الله سبحانه، وهذا هو معنى الاختصاص، وفيه أنه لا محالة أنزله الله.

ثم إن التقديم فيه هذه الآية أفاد شيئا آخر، وهو تفخيم نزول الكتاب كما قال المفسرون من حيث بدأت الجملة الدالة عليه بذكر لفظة الجلالة، فأضفى عليها مزيدا من الجلال والفخامة، والزمخشري يقول في قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} 5، تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليقر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أإذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة، وصوابا كأنه ما نزل عليه القرآن تنزيلا مفرقا منجما، إلا أنا لا غيري، وقد عرفتني حكيما يتنزل كل ما أفعله على مقتضى الحكمة.

هذا كله إذا كان المسند إليه غير مسبوق بنفي كما رأيت في الأمثلة والشواهد، أما إذا سبق بنفي فإن القول فيه يختلف، فعبد القاهر وجمهور البلاغيين يرون أنه يفيد الاختصاص قطعا، فقولك: ما أنا فعلت، يفيد أن ذلك الفعل لم أفعله أنا وقد فعله غيري، فالفعل ثابت قطعا وإنما توجه النفي إلى الفاعل المذكور خصوصًا، وهذا يتضمن أن له فاعلا آخر غير

1 هود: 61.

2 العنكبوت: 62.

3 التوبة: 101.

4 الزمر: 23.

5 الإنسان: 23.

ص: 228

المذكور، وتقول: ما أنت بنيت هذه الدار، وما أنا قلت هذا الشعر، فتفيد بذلك أن هذه الدار المبنية لم تبنها أنت وإنما بناها غيرك، وأن هذا الشعر لم تقله أنت وإنما قاله غيرك، وعلى هذا لا يصح أن تقول ما أنا فعلت هذا، ولا أحد من الناس؛ لأن قولك: ما أنا فعلت يفيد أن هناك فعلا قد فعل، وأنك أنت خصوصا لم تفعله، وإنما غيرك هو الذي فعله، فإذا قلت: ولا غيري كان ذلك تناقضا، ودفعا للكلام الأول.

ويتضح هذا أكثر في قولك: ما أنت بنيت هذه الدار؛ لأن قولك: ما أنا بنيت، أفاد ذلك أن هذا بناء قد أقيم، وأنه لم يكن أنت الذي أقامه وإنما أقامه غيرك، فلو قلت: ولا غيري، تناقض ذلك وكأنك تقول: إن هذا البناء لم أبنه أنا ولم يبنه غيري، وهذا واضح.

ومماجرى على هذا الأسلوب قول المتنبي: "من السريع"

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارًا

فقوله: ما أنا أسقمت جسمي، معناه أن هذا السقم الكائن في جسمي، وهذا الضنى لم أفعله أنا وإنما فعله غيري، وقوله: ولا أنا أضرمت في القلب نارًا أي أنا هذا الجوى، وهذا الوجد الذي يستعر في فؤادي لم أشعله أنا ووراء هذا التركيب معنى لطيف هو عجز الشاعر أمام عواطفه المشبوبة، والتي سببت هذا السقم وهذا الوجد، وكأنه يقول: لو كان الأمر بيدي لأنقذت نفسي من هذا الذي أجده ولكن لا طاقة في بذلك، وهذا معنى جيد.

ومثله قول المتنبي: "من الطويل"

وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله

ولكن لشعري فيك من نفسه شعر

فقوله: وما أنا وحدي قلت ذا الشعر وحده، ينفي أن يكون هذا الشعر الكائن قد قاله وحده، وإنما قاله معه غيره، وهذا التغير هو الشعر نفسه؛ لأنه شعر

ص: 229

شاعر: والشعراء يرددون معانيه وصوره، ويعيدونه إلى الممدوح كما قال:

بشعري أتاك المادحون مرددا

هذا خلاصة رأي عبد القاهر كما قلنا، وتبعه جمهور البلاغيين.

وذهب السكاكي في تحديد دلالة هذا اللون من التراكيب مذهبا آخر لم ينظر فيه إلى النفي، تقدم أم تأخر، وجد أم لم يوجد، وإنما المعول عليه عنده في إفادة تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي الاختصاص أن يتحقق شرطان: الأول: أن يصح تأخير المسند إليه، وتصير العبارة قمت أنا، ويكون المسند إليه حينئذ فاعلا في المعنى لا في اللفظ؛ لأن الفاعل في اللفظ هو التاء في قمت، والشرط الثاني أن يقدر أن أصل العبارة هو التأخير أي أن يعتبر المتكلم أن أصل العبارة قمت أنا، ثم يتصرف فيها ويقول: أنا قمت؛ وهذا التصرف والاعتبار من المتكلم يفيد أنه حين قصد إلى هذا التقديم إنما أراد الاختصاص، فلو قال قائل: أنا قمت، ولم يراع أن الاصل قمت أنا، وإنما بناها هكذا على تقديم المسند إليه، قلنا: إن هذا التركيب لا يفيد الاختصاص، هذا خلاصة كلامه.

وهذا يتجافى في تقديرنا مع فطرة اللغة، ويسر أدائها لمعانيها ولا نعتقد أن هناك متكلما يفكر في الصياغة هذا التفكير، ويفترض أن: أنا قمت أصلها قمت أنا، ثم يخالف هذا الأصل ليفيد معنى الاختصاص، فإذا لم ينشغل ذهن المتكلم بهذا الغرض قلنا: إن عبارته لا تفيد ما تفيده عبارة غيره، لا نعتقد أن متكلما صاحب سليقة في اللغة يفعل هذا؛ لأن أحوال الصياغة وما فيها من دقائق عجيبة، وخفية إن هي إلا استجابات تلقائية لخواطر المتكلم، ومقاصده ما دام صحيح الطبع سديد التفكير، وهذا الافتراض الذي ذكره السكاكي يذكرنا بما يشبهه في تفكيره في الصياغة حين يقول في بعض الصور إن هذه إلا تحسن إلا من البليغ، ويعني به الذي يعرف خصوصيات التراكيب، وهذا ومثله في تقديرنا أثر من آثار الظروف المحيطة بالسكاكي، ومن في مثل حاله

ص: 230

من علماء المسلمين، فقد كانوا يكتبون لغير أصحاب اللغة، وكانوا يكتبون لبيئاتهم ومجتمعاتهم، وكانت هذه المجمعات تنطق اللغة العربية في ضوء القواعد أي أن لسانهم كان يمضي في النطق على أساس القواعد لا على أساس الفطرة، ومن هنا نشأت أمثال هذه الملحوظات، ودعنا من هذا، وأعلم أن خلاصة ما قدمناه هو أن قولنا: محمد قام يفيد التوكيد وصالح لأن يفيد الاختصاص عند غير السكاكي، وقولنا: أنا قمت يفيد التوكيد، وصالح لأن يفيد الاختصاص عند الجميع، وقولنا: ما أنا فعلت يفيد الاختصاص عند غير السكاكي قطعا، وعند السكاكي احتمالا مثل أنا فعلت تماما، أما قولنا: أنا ما فعلت فهو مثل أنا فعلت عند الجميع؛ لأن النفي لا يعتبر إلا إذا سبق المسند إليه.

ولعل الذي أغرى عبد القاهر بالقطع بأن مثل ما أنا فعلت يفيد الاختصاص قطعا، هو ما لحظه من تسلط النفي على الفاعل، ففهم من ذلك أن النفي خاص بالفاعل، وأن الفعل غير منفي، وإذا كان الفعل غير منفي، وقد نفي فاعل مين فقد وجب أن يكون هذا الفعل مسندًا إلى فاعل آخر، وهذا هو معنى الاختصاص.

والذي قاله عبد القاهر في هذا مع دقته التي أغرت الباحثين من بعده ليس عندما على إطلاقه، وإنما هو أمر غالب لا لازم؛ لأن المتكلم حين يسلط النفي على الفاعل لا يزلم منه ثبوت الفعل؛ لأن الفعل مسكوت عنه فيمكن أن يكون ثابتا كما في أمثلة الاختصاص التي ذكرها عبد القاهر، وقد يكون غير ثابت كما في قولنا: ما أنا قلت هذا أي هذا الذي تزعمون أنه قد قيل، نعم يمكنك في هذا المعنى أن تقول ما قلت هذا، ولكنك قدمت الفاعل للاهتمام، والرغبة في توكيد نفي الفعل عنه، وقد جاء هذا التركيب في القرآن الكريم من غير أن يكون دالا على الاختصاص، وذلك كقوله تعالى:

{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ

ص: 231

ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} 1، فقوله: ولا هم ينصرون -ولا هم ينظرون، قدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي، وهو مسبوق بحرف النفي، ومع هذا يفيد التقوية فقط؛ لأن الاختصاص يعني أن يغرهم ينصر من عذاب الله، وينظر حين تأتيه الساعة وذلك لا يكون.

وقد رأيت مثل ذلك في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كلام الذين نزل القرآن فيهم، ولكنني لم أقيده غفلة أو اكتفاء بما في الكتاب العزيز.

وتأمل الصور المفزعة التي تضعها الآية الأولى شاخصة أمام عيون الكافرين ليرتدعوا: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} النار تنصب على وجوهم وظهورهم، وهم يجاهدون دفع هذا الويل القاهر فلا يستطعون، وتأمل الآية الثانية وأحسن تدبر:{فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} ، وما وراء ذلك من تداعي الأفعال تداعيا يطوي في اقتداره المتدفق محاولاتهم اليائسة في رده.

وقد استدركنا على عبد القاهر في بحث آخر حكمه بالفساد على مثل قولنا: القيت زيدًا أم عمرًا؟ لأنه يرى تقديم الفعل مسبوقا بالاستهفام الذي هو أخو النفي يفيد تخصيص الفعل بمعنى الاستفهام، فهو المسئول عنه وأوقع أم لا، فإذا قال بعد ذلك: أم عمرا فقد أفاد أنه يشك في المفعول لا في الفعل، وهذا تناقض في العبارة كما يقول: استدركنا عليه ذلك، وبينا أن سيبويه -وقد شافه الأعراب- يجيز ذلك وهو عنده حسن، والأحسن أن يقال: أزيدا لقيت أم عمرًا؟

قلنا: إن السكاكي يرى أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي يفيد الاختصاص بشرطين ذكرناهما هناك، وبقي أن نقول: إن هذا الاشتراط عنده خاص بالمسند إليه إذا كان معرفة، أما إذا كان نكرة مثل: رجل جاءني، فإنه يفيد

1 الأنبياء: 39، 40.

ص: 232

عنده الاختصاص قطعا؛ لأن النكرة المتقدمة على الخبر الفعلي لا بد أن تكون دالة على الاختصاص، وإلا لم يصلح وقوعها مبتدأ، هكذا قال السكاكي، وعليه مناقشات طويلة لا غناء في متابعتها.

وهذا كله إذا كان الخبر فعليا كما قلنا، أما إذا كان اسم فاعل وشبهه مثل محمد كاتب:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ، فقد ذهب البعض إلى أنه مثل الخبر الفعلي، وذهب البعض إلى أنه ليس كذلك.

والذي نراه أن السياق ذو أثر فاعل في تحديد هذه الدلالات، وكان الزمخشري رحمه الله يقضي في هذا الأسلوب وفق السياق، فمرة يرى فيه الاختصاص كما في قوله تعالى حكاية لمقالة قوم شعيب له عليه السلام:{وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} 1، قال الزمخشري: أي لا تعز علينا، ولا تكرم حتى نكرمك من القتل، ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم أهل ديننا لم يختاروك علينا، ولم يتبعوك دوننا، وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم: أرهطي أعز عليكم من الله، ولو قيل: وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب.

وهذا واضح في أنه يقول بإفادة هذا التركيب لمعنى الاختصاص.

ويقول في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2، "هو بمنزلة قولهم: هم يفرشون اللبد كل طمرة في دلالته على قوة أمرهم، فيما أسند إليهم لا على الاختصاص".

الآية عند المعتزلة لا تفيد اختصاص الكافرين بعدم الخروج من النار أي بالخلود فيها؛ لأن مرتكب الكبيرة المسلم عندهم يخلد أيضا في النار.

1 هود: 91.

2 البقرة: 167.

ص: 233

وقد أثيرت مناقشات كثيرة حول هذا الموضوع؛ لأن علماء أهل السنة والجماعة يرون أن الزمخشري يقول بلزوم دلالة هذا التركيب على الاختصاص، وأنه هنا خالف هذه القاعدة ليسلم له ما يعتقده في أمر مرتكب الكبيرة، وهذا خطأ؛ لأنه يقول مثل هذا في آيات كثيرة لا علاقة لها بالاعتزال كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 1، وقوله تعالى:{فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} 2، وقوله {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} 3، وغير ذلك كثير وقد بيناه في دراستنا للكشاف.

وهناك كلمتان تلزمان التقديم في التراكيب البليغة إذا أريد بهما الكناية من غير تعريض، هاتان هما: مثل وغيره، ومعنى أن تريد بهما الكناية من غير تعريض أنك حين تقول: مثلك لا يبخل، تكون قد استعملت كلمة مثل كناية عن الشخص الذي تخاطبه؛ لأنك تريد: أنت لا تبخل، فلفظ مثل مراد به الضمير الذي أضيف إليه، ودلالته عليه دلالة التزامية، ولهذا كان كناية، ثم إنك لا تقصد التعريض بشخص آخر، وأن تقول من طرف خفي أنه يبخل ومثله قولك: غيرك يسيء إلى أصحابه، وأنت تريد أن تقول له: أنت لا تسيء إلى أصحابك من غير أن تعرض شخص آخر، وتومئ إلى أنه يسيء.

ومن شواهد هذا الاستعمال قول المتنبي: "من السريع"

مثلك يثني الحزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه

أي أنت قادر على أن تكف الحزن بصبرك وثباتك، فلا تدع النفس تبلغ في أحزانها مداها، وتسترد الدمع عن جريانه، والغرب، كما قالوا: عرق في

1 البقرة: 8.

2 الطور: 29.

3 سورة ق: 45.

ص: 234

العين يجري فيه الدمع ولم يقصد الشاعر أن يعرض بإنسان آخر ليس على صفة المخاطب في الصبر والثبات.

ومثله قول القبعثري الشيباني للحجاج لما قال له: لأحملنك على الأدهم، يريد القيد قال له:"مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب"، وأراد أنت حمل على الفرس الأدهم والأشهب، فقوله: مثل الأمير أراد به الأمير، ولم يرد أن يعرض بآخر لا يفعل فعله.

وفي "غير" جاء قوله: "من البسيط"

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع

أراد أنا لا أنخذع، ولم يقصد التعريض بشخص آخر ينخدع.

ومثله قول أبي تمام: "من الوافر"

وغيري يأكل المعروف سحتا

أراد أنا لا آكل المعروف، ولم يرد التعريض بإنسان آخر.

قالوا: وكان التقديم في هذه الأساليب كاللازم؛ لأن التقديم يفيد التقوية كما قلنا، وهذه الاستعمالات من صور الكناية، والكناية يراد بها التوكيد في أداء المعنى، ولهذا كان التقديم أنسب لتتوافق دلالات الخصوصيات، وقد مر بنا ما يشبهه في قوله تعالى:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1.

ومما يلحق البلاغيون بهذا الباب تقديم النفي على لفظ العموم، وتأخيره عنه، يعني الفرق في المعنى بين أن تقول: لم أكتب كل ما سمعت، وأن تقول: كل ما سمعته لم أكتبه، برفع كل، التعبير الأول يفيد أنك لم تكتب جميع

1 الأعراف: 196.

ص: 235

ما سمعت، وهذا لا يمنع أن تكون كتبت بعضه، أما التعبير الثاني فإنه يفيد أنك لم تكتب شيئًا مما سمعت

وقول الشاعر: "من البسيط": "ما كل ما يتمنى المرء يدركه"، معناه: أن الإنسان

لا يدرك كل ما يتمناه وإنما يدرك بعضه، ومثله: ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد، وهذا التركيب قد تقع فيه كل سابقة للنفي، ولكنها معمولة للفعل

الواقع بعد النفي مثل أن تقول: كل الدراهم لم أنفق، وكل الشعر لم أحفظ بنصب كل؛ لأنه مفعول به للفعل بعده، وهو يفيد نفس المعنى الذي يفيده قولك: لم أنفق كل الدراهم ولم أحفظ كل الشعر، فإذا رفعت كلا وأخرجتها، عن حكم الفعل بعدها أفاد أنك لم تفعل شيئًا منهما، ولهذا جاء قول أبي النجم:"من الرجز"

قد أصبحت أم الخيار تدعي

علي ذنبا كله لم أصنع

برفع كل؛ لأنه أراد أن يبرئ نفسه من كل ذنب ادعته عليه، والرفع هو الذي يفيد ذلك ولو نصب لكانت كل داخلة في حيز النفي، وحينئذ تفيد نفي العموم أي أنه لم يفعل كل ذنب ادعته عليه، وإنما فعل بعضه، ومعنى قولنا: نفي العموم أن المنفي هو الشمول والعموم أعني الكلية، تقول: لم أفعل كل ذلك،

فتفيد أنك نفيت عن نفسك فعل الجميع، وهذا لا يلزم منه نفي البعض، والتقديم في قول أبي النجم يفيد عموم النفي؛ لأن كلمة كل الدالة على العموم دخلت على النفي، وهذا يعين أنه لا يشذ منه شيء.

وإذا تأملت هذا الأسلوب وجدت حال الإثبات فيه كحال النفي، بيان ذلك أنك حين تقول: جاءني كل القوم أو القوم كلهم كان المغزى من خبرك هو إفادة أن المجيء كان من الجميع كما تقول: جاءني القوم مجتمعين، فالغرض هو أن تفيد مجيئهم مجتمعين لا أن تفيد مجيئهم فحسب، ومثله قولك: جاءني زيد راكبًا، فالقصد هو أن تفيد هيئة مجيئه لا أن تفيد إنه جاءك فحسب، فإذا عارضك معارض في خبرك هذا، وقال لك: لم يأتك القوم مجتمعين كان قصده حينئذ نفي الاجتماع في المجيء لا نفي المجيء،

ص: 236

ولذلك يمكن أن يقول بعد ذلك: وإنما جاءوك فرادى، ولو كان النفي في قوله: لم يأتك القوم مجتمعين، نفيا منصبا على المجيء لما صح أن يقول عقبه: وإنما جاءوك فرادى، والحال كذلك في كل، تقول: جاءني القوم كلهم، فيقول من يعارضك: لم يأتك القوم كلهم وإنما جاءك بعضهم، كما قال البحتري "من الطويل"

وما كل ما بلغتم صدق قائل

وفي البعض إزراء علي وعاب

هو لا يريد أن ينفي الصدق عن كل خبر بلغهم، وإنما يريد أن ينفي أن تكون كلها صادقة، وهذا يعني أن بعضها صادق، ولذلك قال في الشطر الثاني: وفي البعض إزراء علي وعاب، فهو يسلم أن البعض ليس فيه إزراء عليه، ولو قال: كل ما بلغكم ليس صدقا لما صح أن يقول: وفي البعض وإنما كان يقول: وفي الكل، وكذلك لو قال: كل القوم لم يأتوك، لم يصح أن يقول بعدها: وإنما جاءك بعضهم؛ لأنه لما قدم كل على النفي أفاد عموم النفي، وأنه لم يأتك منهم أحد، فلا يصح أن يقول: وإنما أتاك بعضهم؛ لأن في ذلك تناقضًا.

وقد ذكر عبد القاهر كل هذا في قوله:

"واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه، وذلك أنك إذا قلت: جاءني القوم كلهم كان "كل" فائدة خبرك هذا، والذي يتوجه إليه إثباتك بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء أنه كان من القوم على الجملة، وإنما وقع في شموله الكل، وذلك الذي عناك أمره من كلامك".

وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرد إثبات المعنى للشيء إلا كان الغرض الخاص من الكلام، والذي يقصد إليه، ويزجي القول فيه، فإذا قلت: جاءني زيد راكبًا، وما جاءني زيد راكبًا كنت قد وضعت كلامك؛ لأنك تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك لا، لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا هذا ما لا سبيل إلى الشك فيه".

ص: 237

والشواهد التي تقرر هذا الأصل عند عبد القاهر كثيرة منها قول الشاعر "من الطويل"

فكيف وكل ليس يعدو حمامه

ولا لامرئ عما قضى الله مزحل

فقوله: وكل ليس يعدو حمامه، خرحجت فيه كل عن حيز النفي، فأفادت عموم النفي، أي أن كل واحد لا يعدو حمامه، ولو قال: وليس كل يعدو حمامه لأفاد أن بعض الناس يعدو حمامه.

وقول دعبل: "من الطويل"

فوالله ما أدري بأي سهامها

رمتني وكل عندنا ليس بالمكدي

أبالجيد أم مجرى الوشاح وإنني

لأنهم عينيها مع الفاحم الجعد

فقوله: "وكل عندنا ليس بالمكدى" يعني: أن كل محاسنها كالسهام التي تصمى وتصيب، ولو قال: وليس كل عندنا بالمكدى لأفاد أن بعض محاسنها لا تصل في فعلها فيه إلى الغاية، فبعضها كالسهام الصائبة، وبعضها كالسهام الطائشة.

وعكس هذين الشاهدين قول البحتري يمدح يعقوب بن أحمد في قصديته: "من الطويل"

على الحي سرنا عنهم وأقاموا

سلام وهل يدني البعيد سلام

قال فيها:

واعلم ما كل الرجال مشيع

وما كل أسياف الرجال حسام

والرجل المشيع هو الشجاع الصعب المتهور الذي كأنه يشيع قلبه، قال: ما كل الرجال مشيع، أي أن هناك رجالا فيهم أصالة الشجاعة والإقدام، وهناك من ليس كذلك، هناك الرجال الأحرار، وهناك العبيد الأندال....

ص: 238

وقوله: وما كل أسياف الرجال حسام، أفاد: أن بعض الأسياف تقطع وبعضها ليس كذلك، ولو قال البحتري: كل الرجال ليس مشيعا، ولك الأسياف ليست حساما، لأفاد نفي الشجاعة عن كل رجل، ونفي الجودة عن كل سيف.

هذا كله كما قلنا ملخص كلام عبد القاهر، وقد أيدته كما رأينا الاستعمالات البليغة، ولكن التعميم في القاعدة من غير احتياط يفتح غالبا بابا من أبواب الاعتراض لا تجد له مدافعًا، قال عبد القاهر وهو يحدد الفروق المعنوية بين مختلف هذه التراكيب:"إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في كل، والفعل منفي لاي صلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن"، فوضع القاعدة وضاعا قاطعا من غير أن يحتاط لما عساه يكون قد جاء في الكلام البليغ على خلافه، فهيأ بذلك للعلامة سعد الدين أن يستدرك عليه بشواهد واضحة، قال سعد الدين معلقا على هذه القاعدة: وفيه نظر؛ لأنا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} 1، و {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 2، و {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} "فالحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي"، فحرر القاعدة لما جعلها غالبة لا لازمة؛ لأن الآيات التي ذكرها -ومثلها في القرآن- تقدم فيها النفي على كل وهذا يعني - لو سلمت القاعدة- أن الله سبحانه لا يكره كل مختال، وإنما يكره البعض ومثله كل كفار وهو ما لا يكون.

ولا يفوتك هنا أن تتأمل أدب أهل العلم، لما وجد سعد الدين -وهو من سعة علم ونفوذ رأي- خرما في قاعدة عبد القاهر لم يزد على أن قال:

1 الجديد: 23.

2 البقرة: 276.

3 القلم: 10.

ص: 239

وفيه نظر، ثم ذكر الأدلة التي لا يتطرق إليها الاحتمال، وهذا ما يجب أن نتعلمه مع العلم؛ لأنه من أدب البحث، ويجب أن نأخذ به نفوسنا حتى يعصمها مما يدور حولنا من التقاذف عند الاختلاف، وخاصة عند طبقة "فتوات المقاهي" الذين حملوا أقلاما، وصاروا علماء يناقشون في هذه الزمن الغبي، ثم إنهم لم يكتفوا بأن يحشروا أنفسهم في زمرة أهل العلم، وإنما أصروا على أن يكونوا رواد تنوير، ولما كانوا هم وقادتنا الكبار من رحم واحدة ملكهم قادتنا وسائل التوجيه التي اغتصبوها من الشعوب مع ما اغتصبوه من شئونها، وسياستها وأموالها ومقدراتها، ويوم تعود للشعوب حقوقها في سياسة أمرها، وتوضع الأمور في نصابها سترى هؤلاء جميعًا يعودون إلى جهة واحدة لا تتجاوزوها مؤهلاتهم جميعا، وهي أوكار قطاع الطرق، وإن غدا لناظره قريب.

ص: 240