الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبرية لأغراض أخرى سوى إفادة الحكم، أو لازمه كقوله -تعالى- حكاية عن امرأة عمران:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} 1 إظهارا للتحسر على خيبة رجائها، وعكس تقديرها، والتحزن إلى ربها؛ لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرًا، وقوله -تعالى- حكاية عن زكريا عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} 2 إظهارًا للضعف والتخشع، وقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3، الآية، إدراكًا لما بينهما من التفاوت العظيم، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، ومثله:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 4 تحريكا لحمية الجاهل، وأمثال هذا أكثر من أن يحصى".
1 آل عمران: 36.
2 مريم: 4.
3 النساء: 95.
4 الزمر: 9.
أضرب الخبر:
يراد بالبحث في هذا الموضوع دراسة الخبر من حيث التوكيد وخلافه، والبلاغيون يقولون: إن المخاطب إذا كان خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه، استغنى في صياغة الجملة عن المؤكدات كقولك: جاءني زيد وأكرمت عمرا لخالي الذهن؛ لأن هذا الخبر يتمكن في نفسه من غير توكيد لمصادفته إياه خالياه، كما قالوا:
وإن كان المخاطب متردد في إسناد أحد الطرفين إلى الآخر -أعني في النسبة- حسن في هذه الحالة تقوية الخبر بمؤكد مثل: لزيد قائم أو إن زيدا قائم.
وقد لحظ البلاغيون أن وجود التردد في النفس يتقضي هذا الضرب من الصياغة المؤكدة، ولو كان الخبر على وفق ظن المخاطب، فأنت تقول: إنه صواب للمتردد
الذي يميل إلى أنه صواب، وليس فقط للمتردد الذي يميل إلى
أنه ليس بصواب، وسبب التوكيد بالنسبة إلى الثاني ظاهر، أما بالنسبة إلى الأول، فإنه لوحظ أن النفس حين تتردد تصير في حاجة إلى قدر من التوثيق، وإن كان الحكم على وفق ظنها؛ لأن ما تظنه وتمثل إليه هي أيضا في حاجة إلى توكيده، وهذا ملحظ نفسي دقيق، وسوف يتضح من سياق الشواهد، أما إذا كان المخاطب منكرا، فإنه لا بد من التوكيد، وهذا التوكيد، يختلف قلة وكثرة على وفق أحوال الإنكار، فإن كان إنكاره إنكارًا غير مستحكم في نفسه أكد بمؤكد واحد، وإن كان مستحكمًا تضاعفت عناصر التوكيد بمقدار تصاعد حالة الإنكار؛ لأن وظيفة الخبر حينئذ هي تثبيت هذا المعنى في تلك النفس الرافضة له، فلا مفر من أن تكون قوة العبارة، ووثاقتها ملائمة لحال النفس قادرة على الإقناع، وخير شاهد يصور هذا الأصل النفسي الدقيق في بناء الأسلوب، تلك الآية الكريمة التي تصف لنا حوار المرسلين مع أصحاب القرية، قال سبحانه:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} 1.
ترى خطاب الرسل عليهم السلام لأصحاب القرية مؤكدا في الصورة الأولى بأن واسمية الجملة، وذلك؛ لأنهم منكرون رسالتهم، كما يدل عليه قوله: فكذبوهما، وقد رد أصحاب القرية كلام الرسل بعد هذا الخطاب الأول بقولهم:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، أي لستم رسلا؛ لأنهم يعتقدون أن الرسول لا يكون بشرا، وهو كما ترى أسلوب مؤكد بالنفي والاستثناء، ثم أردفوا ذلك بقولهم:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} ، وهذا تأكيد ثان لنفي الرسالة عنهم بصورة أبلغ؛ لأنهم في هذه الجملة الثانية ينكرون أنه الله أنزل شيئا عليهم وعلى غيرهم، ثم أردفوا ذلك بقولهم:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} ،
1 يس: 13-16.
فوسموا رسل الله المكرمين بالكذب بهذا الأسلوب المؤكد، فرد الرسل الكرام عليهم بعد هذا العناد، والإنكار والتطاول بقولهم:{رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ، عادوا إلى القضية الأولى وكرروها -وهذا ضرب من التوكيد- ثم أضافوا إلى صياغتها ألوانا جديدة من التوثيق، والتوكيد فجاءت كما ترى مؤكدة بأن وإسمية الجملة، واللام ومصدرة بقولهم:{رَبُّنَا يَعْلَمُ} .
فقد وضح إذن كيف تتكاثر عناصر التوكيد وفقا لتصاعد أحوال الإنكار في هذا الحوار القرآني الخصب الذي يحتاج إلى تأمل، ومراجعة تكتشف فيه طبيعة العقلية المعاندة؟ وكيف كانت تنحرف في حوارها عن طلب الحقيقة، ومنهج الاحتجاج القويم؟ فلم يطلبوا من الرسل عليهم السلام برهانا على دعواهم كما يفعل الراغبون في التعرف على الحق، وإنما رفضوا الدعوى وكان رفضهم مبنيا على مسلمة خاطئة هي رفض بشرية الرسول، وهكذا عقلية الجاهلية في كل زمان تعتقد مسلمات، وتحاول ترسيخها في عقول الجماعات من غير أن تأذن لنور البصيرة، والحجة بمناقشتها وتمحيصها، ثم تجعل هذه المسلمات أساس حوارها في بث الجاهلية، وتضليل الجماعات، ثم تأمل كيف جرى التناقض على ألسنتهم من حيث لا يشعرون؟ فهم يقولون:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} ، فذكورا أن الله لم ينزل شيئا بهذا العموم وهذا الإطلاق، ثم ذكروا ذا الجلال بصفة الرحمة وهي صفة تقتضي إرسال الرسل عليهم السلام؛ لأن رسالتهم رحمة، فكيف يمسك الرحمن عن هداية خلقه، ثم تأمل كيف يتركون قية الخبر، ويهاجمون شخص المخبر؟ ويقولون:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} ، وكم يشيع الجبابرة، والطغاة قالة السوء عن دعاة الخير والحق؟ ثم تأمل الجانب الآخر ي الحوار تجد دعاة الحق لم يتأثروا بتلك الانحرافات في أسلوب تعاملهم مع الجاهلية الرافضة لعدل الله في الأرض، وإنما ظلوا محافظين على طريق الصواب، فكرروا القضية التي هي أساس الحوار، وواجهوهم بما يهربون منه، فقالوا في تصميم وإيمان:
{رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} 1، أقول: إن هذا ومثله مما يجب على دارس بلاغة القرآن، وآداب اللغة أن يطيل النظر فيه، وما أعظم هذا المثل وما أروع دلالته على ما نحن فيه، راجع وتأمل، وانظر حولك، واقرأ الواقع الحي كما تقرأ الكتاب.
تجد التوكيد بضمير الفصل في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ؛ لأنه يظن أن الناس يضحكون، ويبكون بالبناء للمعلوم، أي يسرون غيرهم ويحزنونهم، فأكد اختصاصه -سبحانه- بذلك ليبطل أن يكون لغيره سبحانه فاعلية في شئون عباده حتى الإضحاك والإبكاء، وهي أقرب الأفعال إلى أن تكون مظنة للشركة، وجاء بالضمير أيضا في قوله:{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ؛ لأنه قد يظن أن الإنسان يميت بالقتل أو يحيي بالقوت، هذا ما يفهم من كلام العلوي، ولا يبعدي عندي أن يكون للرد على من ينكرون الإحياء بعد الإماتة، ثم لم يأت بالضمير في الآية التي بعدها؛ لأن خلق الإنسان مما لا تظن الشركة مع الله في فعله، ثم إن المعاندين أنفسهم لم يتشددوا في إنكار مخلوقيتهم لله؛ لأنهم يقولون في السموات والأرض:{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 3؛ وأكد في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} ؛ لأنه مما يظن فيه الشركة، وذلك واضح، فقد يعتقد الإنسان أنه يقني غيره، أو أنه يقني نفسه، فاستأصل ذلك ليقرر في الضمير أن العطاء، والمنع في قبضة واحد لا شريك له، وبذلك لا يتطلع المسلم إلا إلى السماء، هذا معنى لو تأملت آثاره في تكوين الذات لوجدته كبيرا جدا، ومعنى أقنى: أعطى القنية وهي
1 يس: 16.
2 النجم: 43-50.
3 الزخرف: 9.
-كما يقول الزمخشري: "المال الذي تأثلته، وعزمت ألا تخرجه من يدك"، ثم أكد:{هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} ؛ لأن خزاعة كانت تعبدها، فأكد بربوبيتها له سبحانه، وقال: رب الشعرى ولم يقل: إله الشعرى؛ لأن الربوبية فيها إشارة إلى أنها مخلوقة له سبحانه، فكيف تعبد من دونه؟ ثم قال:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا} من غير تقرير؛ لأن استئصال قوم مما لا تظن فيه الشركة، وهكذا نجد نبرة التوكيد
تعلو، وتهبط في مراقبة دقيقة، وبالغة لمواقع المعاني في النفوس، وما تنطوي عليه دواخلها، وسبحان المحيط بالأسرار.
واضح أن مراعاة هذه الأحوال الثلاثة في صياغة الجملة، أعني عدم التوكيد لخالي الذهن، والتوكيد للمتردد، والمنكر حسب إنكاره -أمر يجري على الأصل، ويوافق ما يقتضيه ظاهر حال المخاطب، والبلاغيون يسمون الأول الضرب الابتدائي، والثاني الطلبي والثالث الإنكاري، ومناسبة التسمية واضحة؛ لأنك في الأول تبتدئ به المعنى في النفس، والثاني تواجه تددا، وكأن النفس طالبة للخبر والثالث تواجه به إنكارًا.
وقد يجري الكلام على خلاف الظاهر من حال المخاطب أي أن المتكلم لا يعتد بهذا الواقع في صياغته، وإنما يجري على أمور اعتبارية تنزيلية يلحظها هو، ويعتبرها مقامات يصوغ عبارته على مقتضاها، وذلك موطن دقيق، لا يهتدي إلى مواقعه الشريفة إلا ذكي النفس دقيق الحس واسع الخيال.
فمن ذلك أن تكون الجملة، أو الجمل السابقة متضمنة إشارات، أو إيماءات تثير في النفس المتلقية تساؤلا، فتسعفها الجملة الثانية بما يزيل التردد، ويجيب عن هذا الهمس، فيدخل قدر من التوكيد في بناء العبارة ليواجه هذا التردد، ومن ذلك الجمل المؤكدة في الكلام الفصيح، والواقعة عقب الأمر والنهي، أو الإرشاد والتوجيه، انظر إلى قول ابن المقفع: "لا تكونن نزر الكلام والسلام، ولا تفرطن بالهشاشة والبشاشة، فإن إحداهما من الكبر، والأخرى من السخف، وقوله: فإن أحداهما من الكبر جاء مؤكدا؛ لأنه تعليل لهذا النصح، وكأنه حين
نهى عن النزر في القول، والإفراط في الهشاشة تطلعت النفس المتلقية إلى معرفة سبب ذلك، وصارت كأنها مترددة، فأسعفها بهذه الجملة المؤكدة، وتلك خصوصية بارزة في أسلوب ابن المقفع، وخاصة حين يجري قلمه بالتوجيهات الراشدة، والآداب النافعة، فمن ذلك وهو مثل سابقه:"احرص الحرص كله على أن تكون خبيرًا بأمور أعمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك، قبل أن تصيبه، قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك، ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب، ولا بالعقاب فإن ذلك هو أدوم لخوف الخائف، ورجاء الراجي".
ومن المشهور في هذا الباب قصة أبي عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر مع بشار في بيته المشهور:"من الخفيف"
بكرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
فقد قال له خلف لما سمع القصيدة: "لو قلت -يا أبا معاذ- مكان أن ذاك النجاح- بكرا، فالنجاح كان أحسن"، فقال بشار:"إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: إن ذاك النجاح، ولو قلت: فالنجاح كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة"، فقد أدرك بشار أن التوكيد في الأسلوب يجعله أشبه بالفطرة الأصيلة الصادقة، وذلك؛ لأنه لما أمر بالتبكير في صدر البيت أحس أن السامع صار في حاجة إلى أن يعرف علة هذا الأمر بصورة مؤكدة؛ ليكون ذلك أدعى إلى قبوله فأكد، ولو قال: فالنجاح هكذا كلاما مرسلا من غير توكيد لم تكن الصياغة أشبه بالفطرة الواعية لأسرار النفس، عبارة بشار أفضت إلى اختلاجة النفس المتلقية، واستشفت حاجتها إلى التوكيد، وجاءت على مذهب الكلام الأول.
ويكثر هذا الأسلوب في الكلام العزيز، انظر إلى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1، لما أمر بتقوى
1 الحج: 1.
الله، وحذر عقابه استشرقت النفس إلى معرفة السبب، وكأنها توقعت عقابا فأردفه بقوله:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، وقوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1: لما نهاه عن الحزن اشترفت نفس صاحبه إلى معرفة السبب في هذا النهي؛ لأن الحزن له سلطان على النفوس في مثل هذا الموقف لقوة داعية، فكان النهي عنه أمرا غريبا يحتاج إلى بيان علته، فقال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فذكر ما يقتلع الخوف والقلق، ويبث الرضا واليقين.
وقوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} 2، لما سوى بين إنفاقهم طائعين، وإنفاقهم مكرهين في أن كليهما مردود عند الله تطلعت النفس إلى معرفة علة هذا الموقف الغاضب، فقال:{إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
قوله سبحانه: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} 3، لما قال سبحانه:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} تهيأت النفس؛ لأن تظن أنهم مغرقون، وذلك واضح جدا إذا نظرت إلى ما قبلها، اقرأ قول تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} 4، فقد أشار في السياق إلى أنهم لم يؤمنوا، ثم أمره بصنع الفلك ثم قال:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، فأومأ هذا كله إلى أنهم سيغرقون، وإشارة الأمر بصناعة الفلك إلى الغرق إشارة ظاهرة، وهذه الأساليب، وخاصة هذه الآية الأخيرة توضح لنا ما نبهنا إليه من أن الخبر يؤكد في خطاب المتردد، ولو كان موافقا لظنه، ولهذا رد البلاغيون قول
1 التوبة: 40.
2 التوبة: 53.
3 هود: 37، المؤمنون:27.
4 هود: 36-37.
عبد القاهر، أن الجواب يؤكد إذا وقع على خلاف ظن المخاطب؛ لأن مجرد التردد يحتاج إلى حسم بالتوكيد، هذا كله كما قلنا: يكون المخاطب فيه غير متردد، ولكنه يجعل في صياغة الكلام كأنه متردد؛ لأن الكلام السابق فيه ما يثير تساؤلًا حتى كأن النفس اليقظى، والفهم المتسارع يكاد ذلك ويلتفت إليه، كما يقول العلامة سعد الدين.
وقد ينزل المنكر منزلة غير المنكر لعدم الاعتداد بإنكاره؛ لأنه ليس له دليل عليه، ولو أنصف، ونظر نظرة متأنية لعدل عن هذا الإنكار.
الإنكار القائم في نفس المخاطب لم يلتفت إليه الأسلوب ولم يعبأ به، وساق الكلام كما يساق إلى النفس الخالية من الإنكار، وهذا مثل سابقه فن دقيق لا يهتدى إلى مسالكه إلا بصير بسياسة الكلام، ثم إن له أثره الغالب في النفس حين تجد الكلام الذي يواجه الرفض، والجحود خاليا من الاحتفال والتوكيد، خافت النبرة، هامسا بالحقيقة في غير جلجلة وضجيج، وتجد هذا في كتاب الله كثيرا جدا.
انظر قوله يخاطب المؤمنين والمنكرين: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 1 لا تجد في هذا الخبر العظيم الذي يفيد أن كل ما في السموات والأرض من ناطق، وصامت وجبال وبحار، وكواكب كل ذلك يسبح للملك القدوس، هذا خبر يرج النفوس رجا، ثم هو منكور عند الجاحدين، ولكن القرآن لم يعبأ بهذا، وساق الحقيقة الضخمة في هذا الهدوء الواثق الحكيم.
ومثله قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 2، وقوله:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} 3،
1 الجمعة: 1.
2 غافر: 2.
3 الحديد: 5.
وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 1، وقوله:{قُلْ هُوَ رَبِّي} 2، وقوله:{اللَّهُ رَبُّنَا} 3 إلى آخر هذه القضايا التي دار حولها النظر وجهدت فيها العقول، وأنكرها المنكرون، القرآن يسوقها كما ترى ولها في هذا المساق سلطان غالب عند من يحسنون الإصغاء إلى الكلمة، والبلاغيون يذكرون من أمثلة هذا الوجه قولك لمن ينكر الإسلام: الإسلام حق، من غير توكيد؛ لأنك ترفض إنكاره حيث لم يكن له دليل عليه؛ ولأن بين يديه من الأدلة، ما إن تأملها رجع عن هذا الإنكار، وهذا من الكالم الحلو ويذكرون أيضا قوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ} 4؛ لأن هذه الحقيقة -أعين نفي الريب عن كتاب الله- ينكرها كثير من المعاندين، ولكن القرآن لم يعتبر هذا الإنكار، وحين تفتح المصحف تجد مثل هذا الأسلوب يكثر في كتاب الله كثيرًا، ولست في حاجة إلى ذكر شواهد منه أكثر من ذلك، وعليك أن تتأمل، ورحم الله شيوخنا الذين كانوا يقولون: إنهم لا يعلمون طلابهم، وإنما يعلمونهم كيف يتعلمون، ويذكرون الشاهد، ثم يقولون وعلى ذلك فقس.
ويقرب من هذا في الشعر هذا الأساليب التي تصوغ الحقائق الضخمة صياغة خالية من التوكيد والاحتفال، تجدها تنفذ إلى القلوب نفاذا ربما لم يتهيأ لها إذا كانت في أسلوب التوكيد والتقرير، وكان زهير بارعًا في هذا الباب، انظر قوله:"من الطويل"
تراه إذا ما جئته متهللا
…
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله
…
ولكنه قد يهلك المال نائله
بكرت عليه غدوة فرأيته
…
قعودا لديه بالصريم عواذله
يفدينه طورا وطورا يلمنه
…
وأعيا فما يدرين أين مخاتله
1 الفتح: 29.
2 الرعد: 30.
3 الشورى: 15.
4 البقرة: 2.
وقوله: "من الطويل":
وفيهم مقامات حسان وجوههم
…
وأندية ينتابها القول والفعل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم
…
مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل
على مكثريهم حق من يعتريهم
…
وعند المقلين السماحة والبذل
وكل بيت من هذه الأبيات يصف فضيلة من الفضائل الكبيرة، وسوق مثلها يحتاج إلى توكيد، وتقرير حتى تأنس بها النفوس، ولكن الشاعر سلك طريقا آخر، فخيل بذلك أن الذين يسمعون هذه الخلائق منسوبة إلى هؤلاء الأقوام لا يستكثرونها، وذلك لما عرف عنهم من أنهم مظنة لكل فضيلة من فضائل الجود والشجاعة، والحكمة والعزم، وكأن الشاعر يقول فيهم ما يعرفه الناس عنهم، والمتنبي يقول لسيف الدولة في أمر بني كلاب:"من الوافر"
وتملك أنفس الثقلين طرا
…
فكيف تحوز أنفسها كلاب؟
فيعبر عن ملك سيف الدولة لأرواح الإنس، والجن بهذا الأسلوب المرسل من التوكيد، فيوهم أنها حقيقة مقررة لا ينكرها أحد، فيكف يسوقها في صيغة التوكيد؟
وقوله الحطيئة: "من الطويل"
تزور فتى يعطي على الحمد ماله
…
ومن يعط أثمان المحامد يحمد
كسوب ومتلاف، إذا ما سألته
…
تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشوا إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد
البيت الأخير يجعل الممدوح خير أهل الأرض من غير تقرير واهتمام، وهذا كثير جدا.
وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر إذا بدأ عليه شيء من أمارات الإنكار، فيخاطب بأسلوب التوكيد في الأمر الذي لا ينكره، والبلاغيون يذكرون في ذلك قول حجل بن نضلة الباهلي:"من السريع"
جاء شقيق عارضا رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح
فالشاعر لما رأى شقيقا قد أقبل غير مكترث بالقوم؛ لأنه جاء عارضا رمحه، أي واضعه على عرضه وجاعله على فخذه غير متهيئ للقاء اعتبره الشاعر منكرا لقوتهم وسلاحهم؛ لأن هيئته هيئة المنكر، وإن كان في حقيته غير منكر، فقال له: إن بني عملك فيهم رماح، وتقول للمسلم المهمل في أداء الصلاة: إن الصلاة واجبة تنزله منزلة المنكر، ومنه قوله تعالى:{وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} 1، فإتيان الساعة حقيقة غير منكرة، ولكن الموقف العملي للمسلمين من هذه الحقيقة كأنه إنكار لها؛ لأنهم يتصرفون تصرف من لا يؤمن بها، ومنه:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 2، والمخاطب صلى الله عليه وسلم لا ينكر أنه لا يستطيع إسماع الصم، ولكن الأسلوب جاء بالتوكيد تنزيلا له منزلة المنكر لهذه الحقيقة، والمعتقد أنه قادر على إسماع الصم، وذلك لمبالغته في الإلحاح عليهم بالدعوة.
قال الخطيب: "ومما يتفرع على هذين الاعتبارين -أعين تنزيل غير المنكر منزلة المنكر، وتنزيل المنكر منزلة غير المنكر- قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 3، أكد إثبات الموت تأكيدين، وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة، والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل: ميتون، دون تموتون، كما سيأتي الفرق بينهما، وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا، وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا ينكر بل إما أن يعترف به أو يرتدد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيها لهم على ظهور أدلته، وحثا على النظر فيها، ولهذا جاء تبعثون على الأصل".
1 الحج: 7.
2 الروم: 52.
3 المؤمنون: 15-16.
تلخص لنا من هذا أن التوكيد، والإرسال كليهما ناظر إلى حال المخاطب من الإنكار، وعدمه في الحالتين التحقيقية والاعتبارية، أي أن المتكلم ناظر إلى مخاطبه يصوغ عبارته على ما يقتضيه حاله الحقيقي أو الاعتباري.
وهناك ضروب من التوكيد لا ينظر فيها إلى حال المخاطب، وإنما ينظر فيها المتكلم إلى حال نفسه، ومدى انفعاله بهذه الحقائق، وحرصه على إذاعتها، وتقريرها في النفوس كما أحسها مقررة أكيدة في نفسه، وهذا اللون كثير جدا وله مذاقات حسنة.
انظر إلى قول الفرزدق يخاطب جريرا: "من المتكامل".
خالي الذي غصب الملوك نفوسهم
…
وإليه كان جباء جفنة ينقل
إنا لنضرب رأس كل قبيلة
…
أبوك خلف أتانه يتقمل
قوله: إنا لنضرب رأس كل قبيلة، لا يصح أن يقال: إنه فيه ملاحظ حال المخاطب؛ لأن ذلك ضعف في المعنى من حيث إنه يؤدي إلى أن هذه الحقيقة في تصور الشاعر يمكن أن تنكر، وأنه في حاجة إلى توكيدها عند من يلقيها إليه، والأنسب في هذا التوكيد أن الشاعر صاغه كما أحسه مؤكدًا مقررًا، وانظر إلى قوله:"أبوك خلف أتانه يتقمل"، وكيف واجه جريرا بما ينكره أشد الإنكار بهذا الأسلوب الخالي من التوكيد الموهم أنها حقيقة لا ينبغي لجرير أن ينكرها.
وانظر قول نهشل المازني: "من البسيط"
إنا بني نهشل لا ندعي لأب
…
عنه ولا هو بالأبناء يشربنا
وقوله:
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
…
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
وقوله:
إنا لمن معشر أفنى أوائلهم
…
قيل الكمأة ألا أين المحامونا
الشاعر يصوغ هذه المعاني كما تحسها نفسه مراعيا حال هذه النفس، فهو لم يشكل صياغة عبارته، بدوافع خارجية يلحظها عند مخاطبه.
زن البين جدا في هذا قول ابن الرومي في دندنته الحزينة: "من الكامل"
أبني إنك والعزاء معا
…
بالأمس لف عليكما كفن
تالله ما تنفك لي شجنا
…
يمضي الزمان وأنت لي شجن
وقول: "من الطويل"
وإني وإن متعت بابني بعده
…
لذاكره ما حنت النيب في نجد
الشاعر -هنا كما قلنا- يصوغ نفسه، ويؤكد ما يجده فيها مؤكدا، ويرسل ما يجده فيها مرسلا؛ لأنه يغني أوجاعه وآلامه غير ناظر إلى مخاطب.
ومثله قول محمد بن عبد الملك في رثاء أم ولده، وهو - كما يقول ابن رشيق- من جيد ما رثي به النساء، وأشجاه وأشده تأثيرا في القلب وإثارة للحزن:"من الطويل"
ألا إن سجلا واحد قد أرقته
…
من الدمع أو سجلين قد كفياني
فلا تلحياني أن بكيت فإنما
…
أداوي بهذا الدمع ما ترياني
وإن مكانا في الثرى خط لحده
…
لمن كان في قلبي بكل مكان
أحق مكان بالزيارة والهوى
…
فهل أنتما إن عجت منتظران؟
وقول متمم بن نويرة: "من الطويل"
أبى الصبر آيات أراها وإنني
…
أرى كل حبل بعد حبلك أقطعا
وإني متى ما أدع باسمك لا تجب
…
وكنت جديرا أن تجيب وتسمعا
وقوله:
وإني وإن هازلتني قد أصباني
…
من البث ما يبكي الحزين المفجعا
هذا وما شابهه كثير مما لا يلتفت فيه الشعر إلا إلى حال نفسه، وهو لا يخطئك حين تنظر في الشعر، وتمعن في خصائص صياغته.
ثم إنه في كتاب الله كثير جدا، وفيه يبلغ الغاية في النفاذ والتأثير.
انظر إلى قوله تعالى في ضراعة سيدنا إبراهيم عليه السلام -لما أسكن ذريته بواد غير ذي ذرع: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} 1، وقوله:{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} 2.
واضح أن هذا التأكيد ينظر فيه إلى حال النفس الراجية، ويدل على مدى انفعالها بهذا الرجاء، وتأكيدها لهذا الدعاء ومثله:{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 3.
ومما يتصل بهذا ما يذكر الزمخشري في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} 4.
فقد لحظ فتور العبارة في قولهم للمؤمنين: آمنا، ووثاقتها في قولهم لإخوانهم: إنا معكم، وفسر ذلك في ضوء ضعف الاعتقاد في الأولى، وقوته في الثانية، قال في ذلك: "فإن قلت: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بإن؟ قلت: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرًا بأقوى الكلامين وأوكدهما؛ لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان منهم، ومنشئه من قبلهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما؛ لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية، وصدق رغبة واعتقاد، وإما؛ لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة، وكيف يقولون ويطمعون
1 إبراهيم: 37.
2 إبراهيم: 38.
3 آل عمران: 9.
4 البقرة: 14.
في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين، والأنصار الذين مثلهم في التوارة والإنجيل، ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين:{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} 1 وأما مخاطبة إخوانهم فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية، والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد عن أن يزالوا عنه، على صدق رغبة، ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق"، وقد سبق ابن جني بإشارة نافذة في هذا الباب، فذكر أن التوكيد قد يكون مرجعة إلى اهتمام المتكلم بالمعنى، وأنه مستعظم له وأنه يريد أن ينقله إلى سامعه كما يجده في نفسه، قال في تحليله لبناء قولهم: "شر أهر ذا ناب"، وأنهم قدموا فيه النكرة وبنوا الكلام عليها، وأن ذلك التقديم متعين لإفادة ما قصدوا إليه قال: "وإنما احتيج إلى التوكيد في هذا الموضع من حيث كان أمرا عانيا مهما، وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه، وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شر فقال: شر أهر ذا ناب، أي ما أهر ذا ناب إلا شر تعظيما لنفسه، أو عند مستمعه، وليس هذا في نفسه كأن يطرق بابه ضيف، أو يلم به مسترشد، فلما عناه وأهمه وكد الإخبار عنه، وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب لما دعا إليه".
تأمل قوله تعظيما لنفسه، أو عند مستمعه تجد قسمة الكلام بين حالي المتكلم والسامع.
وقد يكون داعي التوكيد هو رغبة المتكلم في تقوية مضمون الكلام عند المخاطب، وتقريره في نفسه، وإن كان غير منكر له، كقوله -تعالى- في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} 2، وقوله:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 3، وقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4،
1 آل عمران: 16.
2 الإنسان: 23.
3 طه: 14.
4 الشعراء: 191-192.
فالمخاطب صلى الله عليه وسلم ليس في نفسه إثارة شك في هذا، ولكن التوكيد يهدف إلى زيادة تقرير المعنى في نفسه صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ به عين اليقين، وفيه تعهد الإيمان الراسخ في يقينه صلى الله عليه وسلم، حتى ينهض بأثقال الدعوة، وهذا توجيه واضح لحملة الرسالة من بعده صلى الله عليه وسلم، وأنهم في حاجة مستمرة إلى أن يعودوا إلى دواخل نفوسهم يزكون إيمانهم، ويطهرون يقينهم مما قد يعلق به من عوائد الجاهلية؛ لتظل قلوبهم نبعًا طاهرًا يمدهم بالثبات، والإيمان في المواجهات العنيدة بينهم، وبين ضلالات العصور، وظلمات المادة.
وتجد هذه الخصوصية تشيع في الأساليب التعليمية سواء كانت أدبية أو علمية، نقول: إن بحث التوكيد من البحوث الدقيقة، وأنه لذو فوائد جمة، وأنه لجدير بجد وجهد، فترد عباراتك مؤكدة؛ لأنك حريص على بث الفكرة، وتقويتها وإثارة اهتمام النفوس بها، وهكذا نجد أساليب العلماء تعلو نبرتها عند إرادة اللفت والإيقاظ، وتهيئة الذهن لما يلقون من مسائل، ومن مطالع فصولهم تلك العبارة المضيئة: اعلم وفقك الله أن الأمر كذا وكذا، وكان علماؤنا رحمهم الله وألحقنا بهم كرامة، ونفس وقرة عين- لا يهتمون فقط ببيان المعرفة لأجيال الأمة، وإنما يهتمون أيضا بإقناعهم بها حتى لا يكونوا حملتها فقط، وإنما يكونون حملتها وحماتها، وكان طلب العلم ولا يزال بابا من أبواب الجهاد والمجاهدة، وهذا المعنى الذي يصير به طلاب العلم، وشيوخهم مجاهدين مرابطين على ثغور الأمة مشار إليه إشارة لماحة في سورة التوبة التي
ذكر فيها القتال، وذكر فيها مع القتال، وفي معمعة سياقه طلب العلم، فقد وقف السياق بعد ما بلغ الذروة في حض أهل الدين على ألا يختلفوا عن نصرة دين الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه صلوات الله وسلامه عليه، وقف السياق، وذكر الخروج في طلب العلم، وقال -سبحانه-:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 1، وتأمل التعبير عن الخروج في طلب العلم بقوله:{نفر} ، وإنما يقال: نفر القوم إذا خرجوا في طلب العدو، وبعد هذا عاد إلى الخروج في الحرب:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 2.
وهذا قاطع في أن حملة العلوم التي هي أصل حضارة الإسلام لا بد أن يكون حملهم لها حمل بصيرة، وفهم واقتناع حتى يكونوا قادرين على نقلها لأجيال الأمة لا على أنها معترفة فحسب، وإنما معرفة لها بصيرة ولها نور، وأنها دعائم الحضارة الإسلامية التي هي جوهر الكيان السياسي للأمة.
وهذا يوجب الصبر على تجليتها، وإبراز تجلياتها حتى تكون موردًا عذبا يجري في القلوب، والعقول معا فيوجه السلوك، والثقافة والفكر، ويغلب كل ذلك في ديار الإسلام.
وواضح أن الحرب الدائرة الآن في بلادنا يتوجه كثير منها إلى هذه الثقافة، وهذه العلوم التي هي أصول الحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي تصر الحضارة المسيحية اليهودية، أو الإنجلوتوراتية على سحقها ومحقها، وينهض بذلك رجال هم منا لهذه الحضارة المسيحية اليهودية، وتقف معهم الأنظمة التي لا تستيطع إلا أن تكون ذات ولاء لهذه الحضارة المسيحية اليهودية، وتواجه هذه الأنظمة العميلة بوسائل إعلامها، ورجال الفكر التابعين لها تواجه بكل ذلك حضارة الإسلام تحت اسم مواجهة التطرف، والأصولية وغير ذلك من ألفاظ وضعها سادتهم في أفواهم وتحت أقلامهم، وكل هذا يوجب على علمائنا أن يتخذوا موقفا جديدا من حرب الإبادة هذه، وأن ينفضوا الغفلة، وأن يستنفروا أنفسهم وجموعهم، وألا يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبون بأنفسهم عن نفسه، والله غالب على أمره، ولا تحسبن أني خرجت عن الموضوع؛ لأن
1 التوبة: 122.
2 التوبة: 123.
هذا هو الموضوع، والآن أخرج عن جوهره وأتكلم في حواشيه، وأقول: قلت إن هذه الخصوصية تشيع في الأساليب العلمية، وأقول:
وكانت طريقة ابن المقفع في أساليبه الأدبية التعليمية، أو في أدبه الموجه تصطنع أسلوب التوكيد كثيرًا، من ذلك وهو كثير جدا:
"اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم، وأن مالك لا يغني الناس كلهم، فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لا تطيق العامة فتوخ بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك، وإن دأبت فيهما وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة، فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك
…
".
وقد يكون التوكيد لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} 1، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2، وقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 3، ومثله كثير جدًّا، ومقام الوعد من مقامات التوكيد لتزداد النفوس به يقينا واطمئنانًا، ومثله مقام الوعيد كما في قوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 4.
وقد يكون التوكيد للإشارة إلى أن الذي كان لم يكن على وفق ظن المتكلم، فكأن نفس المتكلم تنكره فيؤكده لها، ومثاله قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} 5، قال عبد القاهر: قد تدخل كلمة إن للدلالة على أن الظن كان من المتكلم في الذي كان أنه لا يكون، كقولك للشيء وهو بمرأى، ومسمع من المخاطب: إنه كان من الأمر ما ترى وأحسنت إلى فلان، ثم
1 الحج: 38.
2 الأنبياء: 101.
3 الحج: 39.
4 الأنبياء: 98.
5 الشعراء: 117.
إنه فعل جزائي ما ترى، وعليه:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} 1، {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} .
وقد يكون التوكيد لغرابة الخبر، وحرص المتكلم على أن يؤنس به نفس المخاطب، وإن كانت لا تنكره، وإنما هي في حاجة إلى ما يهيئها لقبوله، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2، فقد أكد أني أنا الله رب العالمين ليؤنس نفس موسى عليه السلام بالخبر، ويحبط ما عساه يعلق بالنفس في مثل هذا الموقف، فقد انطلق عليه السلام ليأتي أهله بخبر، أو جذوة من النار لعلهم يصطلون، وبينما هو ذاهب إلى هذا الغرض، فجأه نداء الحق سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، وهذا موقف غريب فاحتاج إلى التوكيد، ومثله قوله تعالى يخاطب موسى عليه السلام لما رأى أفاعيل السحرة، وأوجس في نفسه خيفة قال له الحق:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} 3، فأكد قوله:{إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} بجملة من التوكيدات كما قال البلاغيون، ليزل وحشة نفسه في هذا المقام، وإن كان موسى عليه السلام مستوثق اليقين من وعد ربه.
وقد يكون التوكيد إظهارًا لمعتقد النفس، وإبرازًا له لتزداد النفس يقينا به؛ لأن مقامها يقتضي ذلك ومثله قوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 4، فإن المصيبة قد تقلق النفس وتهز اليقين، وعندئذ تلوذ النفس المؤمن بكينونتها لله ورجعتها إليه، فتعلن ذلك وتؤكده لتثبت في مواجهة الشدة.
وقد يأتي التوكيد في الجمل التي كأنها نتائج لمقدمات، فيلفت التوكيد إلى هذه الجمل، وكأنها هي المقصودة الأهم وموضع العناية.
1 آل عمران: 36.
2 القصص: 30.
3 طه: 68.
4 البقرة: 156.
تجد الآيات الأولى تصف مراحل التكوين، وتبرز قدرة الله سبحانه من خلال هذا الوصف، ثم تقرب هذه الحقيقة بصورة محسوسة:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، وحين نتأمل المثل نجده يومئ إيماءه قريبة إلى حالة التناسل التي وصفتها الجمل السابقة، فالأرض هامدة مسترخية، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت، وصار فيها جنين النبت، ثم تربو به كما تربو المرأة وتثقل بحملها، وبعد هذه اللمحة الدقيقة تأتي الجمل التي كأنها المقاصد الأساسية لهذا للفت الكاشف إلى آيات الله، وهذه المقاصد ترد هكذا، ذلك بأن الله هو الحق -وأنه يحيي الموتى- وأنه على كل شيء قدير -وأن الساعة آتية لا ريب فيها- وأن الله يبعث من في القبور.
وهي كما ترى تتضمن أوصلا هامة في الشرائع كلها:
فقوله: بأن الله هو الحق، هو ما جاهد الأنبياء في كفاحهم الطويل من أجل تعميقه في الوجدان الإنساني، وقوله: وأنه يحيي الموتى، يشير إلى فاعلية الحق سبحانه فيما هو معجز، وتحته الوعد والوعيد، وقوله: وأنه على كل شيء قدير، يشير إلى عموم هذه الفاعلية في الممكنات كلها ما كان معجزا
1 الحج: 5-7.
منها وغير معجز، وقوله: وأن الساعة آتية لا ريب فيها، من الحقائق التي إذا توثقت في الضمير الإنساني كان لها أثر كبير في سلوكه كله، وقوله: وأن الله يبعث من في القبور، هي القضية التي كثر فيها الجدل والإنكار.
والمهم أن هذه الجمل التي تشير إلى تلك الحقائق الكبرى جاءت مؤكدة لذلك، ولوقوعها بعد تقديم ما هيأ للإقناع بها.
وقد تجد في كثير من هذه الصور ما ذكرناه مثلًا في مقام التعليم، والتوجيه ما يصلح أن يكون التوكيد فيه لوقوعه في سياق الوعد أو غير ذلك، وهذا لا ضير فيه؛ لأن الخصوصية البلاغية في الكلام الممتاز صالحة، لأن تشير إلى أكثر من معنى، والمهم هو أن تعرف كيف توجه خصائص الأساليب، وتدرك منها ما لا ينبو عن مقامها، والله المستعان.