الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما هو ظاهر في صور الكلام أن طريق التعريف بالموصولية أشيع هذه الطرق، سواء في ذك كلام الله سبحانه وكلام الناس، وذلك؛ لأنه مفرد متضمن جملة، ولذلك يتسع لكثير من أحوال المعارف، تقول مكان: جاءني
زيدج، جاءني الذي تحب لقاءه، أو تكره لقاءه، أو الذي يذكرنا بكذا، وأو يسمعنا كذا إلى آخر الصفات التي يمكن أن تدل على زيد وتعرف به، وذلك بخلاف الضمير، والعلمية والكنى، فإنها محددة جامدة في دلالة واحدة، وهذا
واضح.
اسم الإشارة:
أما تعريفه بالإشارة فقد قالوا: إنه يكون لتمييزه أكمل تمييز، أي أن اسم الإشارة بطبيعة دلالته يحدد المراد منه تحدديا ظاهرًا ويميزه تمييزا كاشفا، وهذا التحديد قد يكون مقصدًا مهما للمتكلم؛ لأنه حين يكون معنيا بالحكم على المسند إليه بخبر ما، فإن تمييز المسند إليه تمييزا واضحا يمنح الخبر مزيدا من القوة والتقرير، انظر إلى قول ابن الرومي في مدح أبي الصقر الشيباني، وهو من شواهد هذا المعنى:"من البسيط"
هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه
…
من نسل شيبان بين الضال والسلم
تجد الشاعر لما أراد وصف الممدوح بتفرده في المحاسن ذكره باسم الإشارة ليميزه، ويحدده ويقضي له بهذا الوصف بعد هذا التمييز الواضح.
وأبين من ذلك قوله تعالى في شأن الإفك: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 1، قال: هذا ولم يقل هو ليبرزه ويحدده، فيقع الحكم عليه بأنه إفك مبين بعد هذا التمييز والتجسيد، وفي ذلك قدر كبير من قوة الحكم، وصدق اليقين من أنه إفك مبين، ويتكرر هذا الأسلوب بلهجته اللائمة، ويأتي قوله: {وَلَوْلا إِذْ
1 النور: 12.
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 1، فتأتي الإشارة قي المرة الثانية لتجسد الحديث الدائر، ويتكرر الإخبار عنه بأنه بهتان عظيم، وقوله:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} ، تجد اسم الإشارة فيه لا يغني غناءه أن يقول: ما يكون لنا أن نتكلم به؛ لأن في الإشارة معنى أنه لا ينبغي لنا أن نتكلم به، وإن أذاعه المرجفون، وأصبح حديثا ظاهر معلنا؛ لأن قوة إشاعته لا تغير أنه باطل بين.
وقد أحسن الفرزدق استعمال اسم الإشارة في هذا الغرض، أعني في تمييز المشار إليه، وتحديده ليصفه بما شاء من الصفات، وذلك فيما ترويه كتب الأدب من أن رجلا من أهل الشام سأل هشاما بن عبد الملك، عن علي بن الحسين من هو؟، وكان في هيئة ونضارة، فتجاهله هشام خشية أن يفتتن به أهل الشام، فقال الفرزدق:"من البسيط"
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
…
والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها
…
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته
…
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضي من مهابته
…
فما يكلم إلا حين يبتسم
أين القبائل ليست في رقابهم
…
لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا
…
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
تكرر اسم الإشارة في هذه الأبيات كما ترى، والأبيات محتفظة بقوتها وتأثيرها، والتكرار أسلوب حذر كما قدمنا لا يسلم من عثراته إلا صادق الموهبة، واسم الإشارة، كما يقول علي بن عبد العزيز، ضعيف في صنعة
1 النور: 16.
الشعر أي أنه ليس من الكلمات الشعرية لطبيعة دلالته المحددة، والتي لا تنقاد بسهولة للتلوين والتظليل، أقول: إن هذه الأبيات مع هذا، وذاك لها قوتها وتأثيرها، واسم الإشارة في كل موقع من مواقعه يميز المشار إليه أكمل تمييز لتضاف إليه هذه الأوصاف العظام، ويزيد الإشارة هنا قوة أن هشامًا يتجاهله، فكان الشاعر يعارض هذا التجاهل بهذا الفيض من الإشارات التي تؤكد ذيوع مناقبه، ومعالم مآثره، وتأمل قوله: يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم"، فإنه من القول النادر، وقد بلغ فيه الفرزدق غاية ما يبلغه شاعر بكلمة، فركن الخطيم يكاد يقبض على هذه اليد الكريمة شوقا إليه، وتقديرًا لعوارفها فكيف تنكر أو تجهل؟
وتمييز المسند إليه باسم الإشارة ليتقرر الحكم له، من الأساليب الشائعة في الكتاب العزيز، ونعتقد أن الاستشهاد على ذلك تكلف لقوة ظهوره، ولكني أذكر صورة واحدة لتهدي إلى غيرها، أقرأ قول تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 1.
تجد اسم الإشارة يميز في الأولى الذين ثقلت موازينهم ليتقرر الحكم عليهم بأنهم مفلحون، وفي الثانية يميز الذين خفت موازينهم ليتقرر الحكم عليهم بأنهم خسروا أنفسهم، وقد ذكرنا مثل هذا في ذكر المسند إليه، كما أن هذه الآية تصلح شاهدًا لذكر المسند إليه، وقد قلنا هناك: إن المسند إليه كان من الممكن أن يدل الكلام عليه لو حذف، ولكنه ذكر لزيادة التقرير والإيضاح، والذي نقوله في قيمة تعريفه باسم الإشارة لا يخرج عن هذا أي أن ذكره باسم الإشارة ليتقرر الحكم عليه لما في الإشارة من التمييز والوضوح، فالتقرير هناك كان سببه الذكر، والتقرير هنا سببه خصوصية في المذكور، فمثل هذا الأسلوب، ومنه أبيات الفرزدق يبحث فيه عن غرض ذكر المسند إليه،
1 المؤمنون: 102- 103.
وكذلك عن غرض تعريفه بالإشارة، ويبقى بعد ذلك بحث عن سر استعمال نوع معين من الإشارة، كالإشارة للقريب في أبيات الفرزدق، وقد يكون هذا السر هو الإشارة للبعيد في الآية الأولى، فواضح أنه السمو فلاحهم، وبعد منازلهم، والإشارة للبعيد في الآية الثانية تفيد بعدهم عن الرشد، ومنازل الفائزين، وهذا يجعلنا نقف قليلًا لنقول: إن معنى البعد والقرب الكامن في أسماء الإشارة معنى طيع خاضع لسياق الكلام ما دام الذي يصوغ الأسلوب من ذوي البصر في رياضة التراكيب، نجد البعد يعطي ألوانا متعددة، وكذلك القرب كما رأيت في الآية والشعر، وتجد مثله كثيرًا، فالفرزدق، حينما يخاطب جريرًا بقوله:"من الطويل"
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
نجد البعد في المسند إليه مشيرًا إلى بعد منزلتهم، من أن يتطاول مثل جرير، فيأتي بمثلهم، وقد رأيت دلالة البعد في الآيتين السابقتين، كما رأيت القرب في أبيات الفرزدق مشيرا إلى مخالطته القلوب، وترى القرب في قول الذهلول بن كعب العنبري أو غيره: وهو من شواهد هذا الباب: "من الطويل"
تقول ودقت نحرهنا بيمينها
…
أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
ففي الإشارة للقريب معنى الاستخفاف، ودنو المنزلة، وأنه لصيق بالتراب متقاعس يطحن بالرحى كما يفعل من لا بلاء له، ولهذا رد عليها الشاعر مشيرًا إلى منزلته في غير هذا الباب: قال:
فقلت لها لا تعجبي وتبيني
…
بلائي إذا التفت علي الفوارس
فأشار إلى منزلته في الموقف الصعب.
وضح لنا إذن أن القرب، والبعد يلقيان ظلالًا مختلفة تحددها سياقات الكلام
ومسالك معانيه، وهذه وتلك حين يجريها بصير بمواقع الكلمة تراها تهز الكلمات هزا يبعث مضمرات دلالاتها، وإدراك ذلك في تحليل الأسلوب عمل دقيق لا يهتدي إليه من يهمل نفسه.
قلت: إن اسم الإشارة كما يدل لفظه يعني غاية الوضوح والتمييز، وقد يكون ذلك في الأشياء المحسوسة كما في الأمثلة السابقة.
وقد يعظم المعنى في نفس المتكلم حتى يخيل إليه أنه صار شيئًا محسا يشار إليه، فيدل عليه باسم الإشارة، وفي هذه المعاني تظهر قيمة أخرى لهذه الخصوصية، فتعطي عطاء جديدًا يثري المعنى، ويخصب التعبير، انظر إلى قول ابن الدمينة يخاطب صاحبته:"من الطويل"
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني
…
فأفرح أم صيرتني في شمالك
أبيت كأني بين شقين من عصا
…
حذار الردى أو خيفة من زيالك
تعاللت كي أشجى وما بك علة
…
تريدين قتلي قد ظفرت بذلك
يريد أن يعرف في البيت الأول منزلته عند صاحبته، والعرب تقول في الشيء إذا كان موضع العناية والاهتمام: هو في يمينه أو تلقاه بيمينه، أو أخذه بيمينه، وإذا كان بالضد من ذلك قالوا: صيره في شماله أي أنه لم يحفل به، ولم يجعله موضع العناية، ويصور الشاعر في البيت الثاني قلقه الحذر المشغوف خوفا من فراقها، وشاهدنا في البيت الثالث في قوله: قد ظفرت بذلك، فقد خيل باسم الإشارة أن قتله صار حقيقة مجسدة يشار إليها كما يشار إلى المحسوسات البينة، وفي البعد إشارة إلى أن قتله مما لم يتيسر لمن يبغيه، وأنه أمر بعيد ومع هذا فقد ظفرت به، ولو أن الشاعر قال: قد ظفرت به لما كان التعبير على هذا المستوى من الحسن والقوة؛ لأنه تفوته الإشارة إلى ادعاء ظهور قتله، وأنه مما لم يظفر به من يبتغيه.
قلت: إن إشارة البعد إلى معنى أن قتله لم يتيسر لمن يبتغيه، هو الذي جعل
لقوله: قد ظفرت بذلك معنى، وقد وقف عبد القاهر عند الاستئناف في هذه الجملة، والإشارة فيها وذكر أنه موضع الشاهد، والصنعة والمزية.
وهذا الاستعمال الذي يسجد المعنويات بواسطة هذه الخصوصية كثير جدًّا في الشعر والكلام الجيد، وسوف نشير إلى بعض صوره في القرآن، وهي أيضا كثيرًا جدًّا.
وخذ منها قوله تعالى على لسان المنكرين للبعث: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 1.
أشاروا إلى البعث وهو أمر معنوي كما ترى بقولهم: لقد وعدنا نحن، وآباؤنها هذا من قبل، فأفادوا بذلك أن القول بالبعث مما هو شائع في أجيالنا شيوعا كأنه به محدد منظور، ومع ذلك فنحن نرفضه كما رفضه آباؤنا، فكأنهم يوهمون
بذلك أن رفضهم كان بعد بحثه والنظر فيه، وتأمل قولهم بعد ذلك:{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، تجد أنهم ميزوه وأبرزوه مرة ثانية في صورة محسوسة ليتقرر
الحكم عليه في زعمهم أنه أساطير الأولين، ثم إن هذا الحكم بأنه أساطير
الأولين كان كأنه نتيجة بحث ونظر.
وخذ قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 2.
والإشارة تفيد أن تقليب الليل، والنهار عبرة واضحة شاخصة، والبعد يفيد أنها مع وضوحها لا تهتدي بها، ولا تعرج إليها إلا النفوس المهيأة لوعي آيات الله في كونه، الإشارة إذن تضع آيات الله الكبرى في المنظور الحسي، ثم تستحث وعي الإنسان ليستشرفها، وهذا لا يخطئك في كثير من الآيات
1 المؤمنون: 82-83.
2 النور: 44.
الكريمة، وراجع ما ذكرناه في آية الإفك تجد الإشارة أبرزت الأمور المعنوية لقوة شيوعها في صورة محسوسة.
ومن أشهر الأغراض التي يذكرها البلاغيون لتعريف المسند إليه باسم الإشارة، هو أن تذكر أوصافًا عديدة للشيء، ثم تذكره باسم الإشارة جاعلا ما يترتب على تلك الأوصاف مسندا إلى هذا الاسم، واسم الإشارة هذا يفيد أن ما يرد بعده، فالمشار إليه جدير به، اقرأ قوله تعالى:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1؛ تجد أن الآية الكريمة ذكرت هؤلاء القوم، وعددت بعض أوصافهم التي تجعلهم أهلا للخير الوارد بعد اسم الإشارة، فهم ينقضون عهد الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ومن هذه أوصافه جدير بأن يكون من الخاسرين.
ومثلها قوله تعالى في أوصاف المتقين: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2، وصفهم بالإيمان بالغيب، وهذه أعلى مراتب الإيمان، ثم وصفهم بأنهم يحفظون حق الله فيقيمون الصلاة، كما يحفظون حقوق الفقراء في أموالهم فيؤتون الزكاة، ثم وصفهم بأصالة الخير في معادنهم، فهم يؤمنون بما أنزل على الأنبياء، وهكذا رشحتهم هذه الأوصاف،
وجعلتهم أهلا للفلاح الواقع بعد اسم الإشارة.
ومن شواهد البلاغيين المشهورة في هذه المعنى قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه
…
ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة
…
ولا شبعة إن نالها عد مغنما
1 البقرة: 27.
2 البقرة: 2-5.
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت
…
تيمم كبراهن ثمت صمما
يرى رمحه أو نبله ومجنه
…
وذا شطب غضب الضريبة مخدما
وأحناء سرج قاتر ولجامه
…
عتاد أخي هيجا وطرفا مسوما
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه
…
وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
فقد وصفت نفسه بأنه أخو هم، وأنه يصارع الأحداث الطاحنة، ويغالب الدهر العنيد القاهر، فلا الأحداث مع عتوها توقف مضيه الجسور، ولا الدهر يجبروته يوهن عزمه الحديد، ثم يذكر أنه فتى طلبات أي صاحب حاجات، وأهداف لا تنقضي عن الشبع، ولا تعبأ بالجوع إنما يكون الشبع مغنما، والجوع ترحة عند ذوي الهمم الدانية، الشاعر يسمو بحاجاته فوق مطالب العيش، ثم يصف نفسه في البيت الثالث بأنه لا يقصد المكرمة المتواضعة إذا لاحت في الأفق كبرى المكارم، وإنما يتيمم كبراهن، وتلك عزمة الروح السامية المستشعرة معنى التعالي والسيادة، وقوله:"تيمم كبراهن ثمت صمما"، أي حدد هدفه، ثم جمع عزمته في تصميم قاطع ساعيا نحو أم الفضائل، وفي البيتين الرابع والخامس يذكر سلاحه، فيعد الرمح والنبل والمجن، والسيف القاطع، والخطوط في متنه، وسرج فرسه المتمكن من ظهره، ثم يضيف إلى ذلك طرفه المسوم، ثم يقول: فذلك أن يهلك فحسنى ثناؤه
…
أي صاحب هذه الصفات جدير بأن يكون ذا ذكر حسن إذا مات، وأن يكون منظورًا إليه بالثناء، والهمة إذا عاش.
قال الخطيب معقبا على الأبيات:
"فعد له كما ترى خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدما، والصبر على ألم الجوع والأنفة من عد الشبع مغنما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله: فذلك، فأفاد أنه جدير باتصافه بما ذكر بعده".
ومن المزايا البارزة لأسماء الإشارة أنها تعين المتكلم على التركيز، والإيجاز
وتفادي التكرار الذي يترهل به الأساليب، ويتثاقل به وثوبها إلى القلوب، فقد تجد الباحث يعرض المسألة بتفاصيلها، ثم يحتاج إلى إضافة قيد، أو ما يشبهه مما يعوزه إلى الإعادة، وحينئذ تسعفه أسماء الإشارة، فيسلك سبيلا غير سبيل التكرار، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك شاهدًا على ذلك من الكتب، وانظر إلى اسم الإشارة في قولي على ذلك تجد الشاهد.
ثم إن هذه الطريقة تكثر في كتاب الله، وقد تجد اسم الإشارة في بعض الآيات يلخص، ويطوي صفحة كاملة من الأوامر، والنواهي بل أكثر من صفحة، اقرأ قوله تعالى في سورة الإسراء:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} 1، واستمر في القراءة حتى آية رقم 39، تجد فيها:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} 2، واسم الإشارة فيها يعود على المذكور، ويطوي هذه الأوامر، النواهي الواقعة بين الآتيتين وهي كثيرة جدًّا، ويهيئ الكلام لوصف تلك الآداب بأنها من الحكمة، في أسلوب موجز كما ترى، ولولا اسم الإشارة، وما تميز به من شمول الدلالة لما أتيح للأسلوب هذا الإيجاز، والتركيز.
وانظر إلى قوله تعالى:
وصف ما أعده للكافرين وصفا بلغ الغاية في جمال الإشارة والوحي بالمراد، قال في جهنم:{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}
1 الإسراء: 22.
2 الإسراء: 39.
3 الفرقان: 11-15.
فطوى وراء هذه الصورة الكثير من المعاني، ثم قال في الأخرى: إنهم يلقون فيها مكان ضيقا مقرنين، فعرض العذاب والمعذبين في أهوال ما ترى العين، ثم جاء قوله: قل أذلك خير فأحضر الصورة كلها مرة ثانية، وجسدها لتكون في مقابلة الصورة الثانية، صورة الخلد الذي وعده المتقون، اسم الإشارة هنا أعان على الإعادة في كلمة موجزة أبرزت هذه الأحوال، وكأنها أحضرتها من غيب المستقبل البعيد.
وأنبه مرة ثانية إلى أن اسم الإشارة قد يفيد أكثر من معنى في السياق الواحد، وقد يصلح ما قدمناه شاهدًا لأمر غير الذي سقناه فيه، خذ لذلك قوله:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ، تجد اسم الإشارة حدد المسند إليه، وميزه ليوقع الحكم عليه بعد توضيحه وإبرازه، وفي ذلك قدر من قوة الحكم، والعناية به لما قلنا وتجد في البعد معنى الرفعة، وأنها آداب سامية تتألق في معارج الحكمة، وتجد الإشارة صورت المعني في صورة محسوسة.
وخذ قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1، تجد اسم الإشارة يتردد فيه ثلاث مرات، وهو في كل واحدة منها يفيد تمييز المسند إليه أكمل تمييز لمزيد العناية بالحكم الواقع بعده، ثم هو في كل واحدة منها يفيد أن المذكور لاتصافه بالأوصاف السابقة جدير بما يقع بعده، والإضراب في قوله:{بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} ، ناظر إلى ما بعده همزة الاستفهام في قوله:
1 النور: 48-52.