المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر المسند إليه: - خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

[محمد محمد أبو موسى]

الفصل: ‌ذكر المسند إليه:

‌ذكر المسند إليه:

بعد ما ذكرنا بعض صور الحذف، وأسرارها المعنوية نذكر شيئا عما يقابله وهو الذكر، وأظن أنه لا يرد علينا سؤال يقول: إذا كانت البلاغة في الحذف والإيجاز كما قلتم، فكيف تكون البلاغة في الذكر الإطالة؟ لأن من المعلوم أن للحذف أغراضه التي لا يغني الذكر غناءه فيها، وأن للذكر أغراضه التي لا يغني الحذف غناءه فيها، وأن البلاغة مراعاة المقامات والأحوال، فالذكر في موطنه بليغ مطابق، والحذف في موطنه بليغ مطابق، وقد قالوا: إن يحيى بن خالد بن برمك أمر اثنين أن يكتبا كتابًا في معنى واحد، فأطال أحدهما واختصر الآخر، فقال للمختصر وقد نظر في كتابه: ما أرى موضع مزيد وقال للمطيل: ما أرى موضع نقصان، وقال الخليل: يختص الكتاب ليحفظ ويبسط ليفهم، وقيل لأبي العلاء، هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم كانت تطيل ليسمع منها، وتوجز ليحفظ عنها.

على أنه لا تكون المنافاة بين الذكر، والإيجاز إلا عند النظرة السريعة الدانية، أما عند التحقيقي، فإن الذكر لا ينافي الإيجاز -وأعني ذكر ما يدل عليه المقام لو حذف؛ لأن وراء ذكر المسند إليه في هذه الحالة دافعا نفسيا، ومغزى يحرص المتكلم عليه، فالذكر يحقق قيمة معنوية في الأسلوب، وفوات هذه القيمة عيب في الكلام وإخلال بالمطابقة، وقد يكون الكلام مع الذكر مبنيا على غاية الإيجاز، فليس الذكر الذي نتكلم فيه هو ما يتمدد به الأسلوب حتى يفيض عن المعنى، فيصير التعبير فارغا في بعض جوانبه، وإنما هو الذكر الموجز البليغ، وإذا نظرت إلى قوله تعالى:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} 1، رأيته كلاما في غاية التركيز مع أنه قد كرر الحق ومادة نزل، وكأنه بنى على التكرار، وكان كذلك؛ لأن وراء ذكر كلمة الحق في الجملة الثانية مغزى معنويا يفوت لو قلنا: وبه نزل، وسوف نبين ذلك في موضوعه إن شاء الله.

1 الإسراء: 105.

ص: 180

والبلاغيون يقولون: إن الأصل في العبارة كما يقتضي العقل، والإعراب أن يذكر فيها المسند إليه؛ لأنه الجزء الأهم الذي تنسب إليه الأحداث، والصفات في الجملة، ولا يحذف إلا إذا كان هناك داع من الدواعي التي ذكرنا صورا منها، فالأصل أن يذكر إذا لم يكن هناك مقتضى للعدول.

وكذلك يذكرون من أغراض الذكر، الاحتياط لضعف التعويل على القرينة أي أن هناك قرينة تدل على المسند إليه لو حذف، ولكن هذه القرينة ليست كاشفة مبنية، ويخشى المتكلم إن هو عول عليها أن يلتبس المراد على السامع، وهذا نجده كثيرًا في الكتب العلمية التي تشرح القضايا، وتعني بكشف جوانبها.

وقالوا: إنه يذكر للإشارة إلى غباوة السامع، وأنه لا يفهم إلا ما تنص عليه الألفاظ؛ لأن في الحذف تعويلا على ذكاء السامع، وقدرته على الانتفاع بالسياق والقرائن.

والمهم في موضوع ذكر المسند إليه هو الرغبة في التقرير والإيضاح، فإن هناك بعض المعاني تكون أشد علقة بالنفس، فيحرص المتكلم على إبرازها وإشاعتها في جو كلامه، انظر إلى قول البحتري يخاطب صاحبته:"من الكامل".

أصفيك أقصى الود غير مقلل

إن كان أقصى الود عندك ينفع

فأقصى الود كلمة يتصل معناها بأهم ما يجده الشاعر من الكلف، والولوع بصاحبته فكررها، وأشاعها وكان يمكنه الاكتفاء بضميرها.

وانظر إلى قول مالك بن الريب في قصيدته التي قالها حين استشعر دنو الأجل، وهو في خراسان قال:"من الطويل"

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا ماشي الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا

مزار ولكن الغضا ليس دانيا

ص: 181

والغضا شجر في ديار أهله، والشاعر في هذه الحالة القاسية التي يستشعر فيها دنو الأجل، ويستعر فيها الإحساس بالغربة، ويفيض فيها الحنين والتعلق بالأهل، تراه مرتبط النفس بالغضا أقوى ما يكون الارتباط، فيتشبث باللفظ فيذكره ويكرره، كما ترى وكأنه يمتص منه آخر رحيقه؛ وليس من الوفاء بالحس في هذه الحالة الاكتفاء بالضمير، وإن كانت الدلالة واضحة؛ لأن اللفظ يحمل معنى له في سريرة نفس الشاعر ما يظمئه إليه، فلا بد من تكراره، وتأمل أماشي في قوله: وليت الغضا ماشي الركاب لياليا- وكأنه كان يتمنى لو رحلت معه ديار قومه، وماشى الركب والأهل والأرض، والشجر والمدر، كل ذلك تتفجر روحه بالحنين إليه، وهو يجود بها.

ومن هذا الباب أن يذكر الشاعر اسم صاحبته ثم يكرره، وكان يمكنه الاستغناء بضميره، ولكنه يؤثر النص عليه؛ لأن في ذلك ما يثير أشواقه، ويلذ قلبه، انظر إلى قول قيس:"من الطويل"

ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة

ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هيا

ذكر لبنى في الشطر الثاني، وكان يمكنه أن يكتفي بقوله: ولم تلقني ولم أدر ما هيا، ولكن الشاعر يحرص على ذكر الاسم؛ لأنه يحبه ويحب أن ينطق به، ومثله قول الآخر:"من الطويل"

منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

أماني من ليلى حسان كأنما

سقتك بها ليلى على ظمأ بردا

وقد ذكر الشعراء السر البلاغي لهذا اللون من الذكر، وهو حبهم المتعلق بالملهوف بهذه الأسماء، فهم يجدون فيها ما يروي قلوبهم، ويحبون المكان القفر ليتغنوا فيه بأسماء من يحبون وهم في مأمن من اللوم، يقول ذو الرمة:"من الطويل"

أحب المكان القفر من أجل أنني

به أتغنى باسمها غير معجم

ص: 182

ثم إنهم يتجاوزون حب الأسماء إلى حب ما شابه الأسماء، أو كان منها مدانيا، يقول قيس:

أحب من الأسماء ما وافق اسمها

وأشبهه أو كان منه مدانيا

وقد فسر قيس، وذو الرمة السر البلاغي في تكرار أسماء الصواحب، وهو كثير في الشعر، وكأنه مذهب.

انظر إلى قوله النابغة: "من البسيط"

عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار

ماذا تحيون من نؤي وأحجار

أقوى وأقفر من نعم وغيره

هوج الرياح بهابي الترب موار

وقد أكون ونعما لاهيين بها

والدهر والعيش لم يهمم بأمرار

أيام تخبرني نعم وأخبرها

ما أكتم الناس من حاجي وأسرار

تردد ذكر نعم كما ترى، وكأنه كان يرى نعما في كل زاوية من زوايا الطلل، ومع كل أثر من آثاره، فذكرها في كل بيت حتى يراها القارئ في قصيد الطلل، وكان النابغة في الشعر كأنه محدث.

ويدخل في هذا الباب ما يكون في الرثاء من تردد ذكر المرثي، انظر إلى قول الخنساء:"من البسيط"

وإن صخرا لكافينا وسيدنا

وإن صخرا إذا نشتو لنحار

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

تجد الشاعرة تذكر صخرا، وتردد اسمه وكان يمكنها، أو تكتفي في الشطر الثاني بقولها وإنه، وكذلك في البيت الثاني، إلا أن تعلق نفسها بأخيها يجعل تردد ذكر الاسم شيئا حبيبا إليها، ووسيلة من وسائل سلواها، وهو أيضا مظهر من مظاهر تعلقها بصخر وتشبثها به.

وأمثله ذلك في باب الثراء كثيرة جدًّا، وليس الذكر مقصورًا على اسم

ص: 183

المرثى، وإنما يكون ذلك في غيره مما للنفس به مزيد تعلق، والرثاء باب العاطفة المشبوبة، وهي تتخذ التكرار وسيلة من وسائل الهدهدة النفسية، وإفراغ التوتر الشديد، وهو من أهم الوسائل الناجعة في هذا الباب؛ لأنه يهيئ الشعر للشدو الحزين والدندنة الشاجية، انظر إلى قول متمم:"من الطويل"

وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته

لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى

دعوني فهذا كله قبر مالك

ترى كلمة القبر تشيع بتكرارها جو الأسى والحنين البائس، ويجد الشاعر في تكرارها راحة تخلد إليها نفسه؛ لأنه دار مقامة لأخيه.

وهكذا كل شيء له فضل تعلق بالقلب تجد له فضل تعلق باللسان، ويدخل في هذا ذكر الكأس والخمر، وانظر إلى قول عمرو بن كلثوم:"من الوافر".

صددت الكأس عنا أم عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

كان من الممكن أن يحذف المسند إليه في الشطر الثاني، ولكن لنفسه بالخمر ولوعا، وكيف وقد جعلها فاتحة غنائه في قصيدته المعلقة، وخالف بذلك سنة الشعراء من الوقوف على الأطلال، ونظنه ملهما لأبي نواس في ثورته على صفة الطلول، وجعله صفاته لابنة الكرم.

وقد يذكر المسند إليه؛ لأن المتكلم يحرص على أن يضيفل إليه الخبر "المسند" في صورة واضحة مؤكدة، انظر إلى قول بان الدمينة يخاطب صاحبته أميمة معارضا لها حين عاتبته بقولها:"من الطويل"

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمت بي من كان فيك يلوم

وأبرزتني للناس ثم تركتني

لهم غرضا أرمى وأنت سليم

فلو أن قولا يكلم الجسم قد بدا

بجسمي من قولب الوشاة كلوم

ص: 184

قال في جوابها:

وأنت التي قطعت قلبي حزازة

وقرحت قرح القلب فهو كليم

وأنت التي كلفتني دلج السرى

وجون الفطا بالجلهتين جثوم

وأنت التي أحفظت قومي فكلهم

بعيد الرضا داني الصدود كظيم

فقد ذكر الشاعر ضمير صحابته في كل بيت؛ لأنه يحرص على أن يبرز ذاتها ليضيف إليها هذه الأخبار المهمة في صورة واضحة ومقررة، وفي ذلك ما يكشف معاناته، وما تكلفه من مشقة، وعنت من أجلها وهي تتهمه بأنه أخلفها ما وعد، وأشمت بها من كان فيه يلوم، فالمقام يقتضي مزيدًا من التقرير والتوضيح.

ومن هذا قول أميمة له، وكان فتى صبوحا أيدا:"من الطويل"

أيا حسن العينين أنت قتلتني

ويا فارس الخيلين أنت شفائيا

كان يمكن أن تصوغ أسلوبها على طريقة أخرى تكتفي فيها بذكر الحديثين القتل، والشفاء من غير إعادة المسند إليه، ولكنها حرصت على تقرير نسبة كل حدث إليه في استقلال ووضوح، ثم إن الشاعرة لها ملحظ نفسي دقيق في توزيع المعنى في هذين الشطرين، ومناسبة كل لما نودي به، لم تقل يا فارس الخيلين أنت قتلتني، ويا حسن العينين أنت شفائيا؛ لأنه لم يقتلها بفروسيته كيف وهي ترى في شبابه، وفتوته ما يمؤلها حياة، وأملا كما أنه لم يشفها بعينيه، وكيف وهي ترى في عينيه ما يملؤها صبوة وتهالكا؟

وهذا البيت يختلف في المذاق عن سابقه، فهو تدله وتخنث، وسابقه معاتبة وشكوى.

وهذا المغزى في هذه الخصوصية أعني ذكر المسند إليه لغرض تقرير الخبر، والفعل في صورة بينة واضحة تجده أوقع ما يكون في كتاب الله، اقرأ قوله -تعالى-:

ص: 185

{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1.

تجد المسند إليه يتكرر مع كل حكم، وكأن من الممكن أن يرد الكلام على طريق الحذف، ولكنه قصد إلى تقرير هذه الأخبار، وإذاعتها عنهم فهم كفروا بربهم، وهم الأغلال في أعناقهم، وهم أصحاب النار، وكأن هذه الإعادة جعلت كل جملة كأنها مستقلة بنوع من العقوبة الصارمة، وهي ضروب من العذاب يستقل بعضها عن بعض، وفي ذلك نهاية الغضب والوعيد.

واقرأ الآيات قبلها وكيف أشرقت فيها آيات القدرة الباهرة، ثم يعمه هؤلاء ويقولون:{أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، وذكر المسند إليه في مثل هذا السياق يكثر جدًّا في كتاب الله ما لم يكثر في غيره، ولو قلنا: إنه من أوضح خصائص أسلوب القرآن لم نعد الحقيقة، وأكثر ما تجده مع اسم الإشارة، وسوف نعرض بعض صوره هناك إن شاء الله.

وليس من الصعب علينا أن ندرك استجابة هذا الأسلوب، أعني ذكر ما تسند إليه الأحداث، والأحكام لكثير من خوالجنا في أحساسيسنا اليومية، فأنت تقول عاتبا على صاحبك ومعددا أخطاءه: أنت فعلت كذا وكذا، فإذا حميت نفسك، وزاد انفعالك بأفاعيله الغائظة لك قلت له: أنت الذي فعل كذا وأنت الذي فعل كذا وأنت الذي، إلى آخره، تحرص على إعادة ذكره مع كل فعل لتبرز إسناد تلك الأفعال إليه، ومثل هذا يكون أيضا في سياق تعديد مآثره، وفي كل سياق تحمي فيه نفسك، وتريد أن تقرر إسناد شيء إلى شيء، والشاعر في مقام المفاخرة حين تسيطر عليه مشاعر الاعتداد والاعتزاز، وتتزاحم في نفسه مآثر قومه لا يكتفي غالبا بذكرها على سبيل عطف الأخبار أو الصفات، وإنما يستأنف مع كل مكرمة جملة جديدة يذكر في صدرها قومه، فيكرر ذلك ولا يمله.

اقرأ قول عمرو بن كثلوم: "من الوافر"

وقد علم القبائل من معد

إذا قبب بأبطحها بنينا

1 الرعد: 5.

ص: 186

بأنا العصامون إذا أطعنا

وأنا الغارمون إذا عصينا

وأنا المنعمون إذا قدرنا

وأنا المهلكون إذا أتينا

وأنا الحاكمون بما أردنا

وأنا النازلون بحيث شينا

وأنا التاركون لما سخطنا

وأنا الآخذون لما هوينا

وأنا الطالبون إذا نقمنا

وأنا الضاربون إذا ابتلينا

وأنا النازلون بكل ثغر

ويخاف النالون به المنونا

واضح أن الشاعر يستطيع الاستغناء عن هذه الضمائر التي كررها مع كل بيت، ولكن إحساسه بهذه المكارم لا يكفيه أن يذكر هذه المناقب غير مستندة كل واحدة منها إلى قومه استنادًا مستقلًّا ليكون في ذلك تقرير وإبراز لها، وهكذا

أحسها الشاعر بل أحسها الناس كما يدعي، انظر إلى قوله: وقد علم القبائل

من معد، وكيف أشعرك بهاذ أن تلك المناقب المذكورة لا يدعيها لقومه، وإنما

هي مفاخر مقررة لقبيلته العظيمة تغلب قد علمتها القبائل من معد، أي هي ذائعة تتجاوب بها آفاق جزيرة العرب التي تنتشر في كل أرجائها قبائل معد، ثم إن في تكرار هذا الضمير وحده، وهذه الغنة القوية في النون المشددة ما يمكن الشاعر من أن يكون غناؤه كفاء لشعور الفخر الذي امتلأت به نفسه في هذا

الموقف الطاغي، وهو يخاطب عمرو بن هند ملك المناذرة.

وحين نتابع الضمائر وإبرازها في مثل تلك المعلقة لا نجد وراءها لونا واحدا من ألوان الشعور كهذا اللون الذي ذكرناه، وإنما قد نجد ألوانا متعددة، وهذا يجعل مهمتنا في دراستنا مهمة صعبة؛ لأننا لا نستطيع أن نضع قاعدة تحيط بأغراض ذكر المسند إليه.

انظر مثلا إلى قوله:

ألا لا يحسب الأعداء أنا

تضعضعنا وأنا قد فنينا

ترانا بارزين وكل حي

وقد اتخذوا مخافتنا قرينا

ص: 187

تجد قوله: وأنا قد فنينا، ذكر في المسند إليه، وكان يمكن الاستغناء عنه، ولكن الشاعر أراد أن يؤكد ذات قومه، ووجودهم القوي الفاعل في مواجهة وهم الأعداء، وأنهم قد أفنتهم، أو ضعضعتهم الحروب الطويلة، أقول: إن ذكر المسند إليه هنا تأكيد للذات، وإبراز لها في مواجهة ظن الفناء.

وفي سياق الهجاء تجد الشاعر يحرص على ذكر المهجو مع كل نقيصة يذكرها ليمرغه في هذه النقائص، ويذيع اقترانه بها، ولا يبرع في سياسة هذا الأسلوب إلا قلة من ذوي المواهب من الشعراء؛ لأن ذكر الأسماء وكثرة ترددها يثقل في الشعر، فإذا لم تتصرف الموهبة البصيرة بأسرار الصنعة كان ذلك سببا لسقوطه.

ومن هذا قول الحادرة الذبياني -يخاطب عامر بن صعصعة حين أرادوا غزو رهطه بني ثعلبة بن سعد: "من الطويل"

وذي كرم يدعوكم آل عامر

لدى معرك سرباله يتصبب

رأت عامر وقع السيوف فأسلموا

أخام ولم يعطف من الخيل مرهب

وسلم لما أن رأى الموت عامر

له مركب فوق الأسنة أحدب

والسربال القميص والمرد به الدرع، والمركب الحدباء الصعبة والشديدة، ومرهب اسم رجل من بني عامر.

ذكر الشاعر عامر في البيت الثاني والثالث، وهو مذكور في البيت الأول فالسياق يدل عليه لو حذف

كان يمكنه أن يقول: رأت وقع السيوف، وسلم لما أن رأى الموت له مركب حدباء، ولكنه أراد أن يستند إليها هذه الأفعال الدامغة إسنادا واضحا لا يكتفي فيه بالضمير، وإن كان يعود عليه؛ لأن التصريح يعمل في النفوس ما لا تعمله الضمائر، ففيه تشهير بهم لمثالبهم، فالإسناد وصف لهم بالفرق والضعف، وأنهم أسلموا أخاهم لما رأوا وقع السيوف، وهذا بالغ في الجبن والتخاذل، والفاء في قوله: فأسلموا لها

ص: 188

دلالة حية أي أنهم أسلموا فور رؤية وقع السيوف من غير مدافعة ونزال؛ لأنهم لا طاقة لهم بذلك، والإسناد الثاني يسمهم بما هو أشنع من الأول، ففي الأول أسلموا أخاهم، وفي الثاني استسلموا جميعًا، وهكذا يحرص الشاعر على إسناد هذه الأفعال ذات الشأن في غرضه إلى المسند إليه لا إلى ضمير يعود عليه.

ومثل هذا قول جرير في سدوس:

أخلاي الكرام سوى سدوس

وحالي في سدوس من خليل

إذا أنزلت رحلك في سدوس

فقد أنزلت منزلة الذليل

وقد علمت سدوس أن فيها

منار اللؤم واضحة السبيل

فما أعطت سدوس من كثير

ولا حامت سدوس عن قليل

فالشاعر يحرص هنا أيضا على ذكر المسند إليه، لأن ذلك ضروري في سياق الشعر، حيث يقصد إلى قرنه قرنا واضحا بهذه المثالب الكثيرة.

والبيت الثالث من المعاني القوية؛ لأنه يقرر بواسطة هذا التكرار أن القوم أنفسهم يعلمون أنهم منار اللؤم، فليس الناس هم الذين يدعون ذلك فضلا عن أن يكون جريرًا، وإنما القبيلة نفسها تعلم ذلك، وهذا بليغ في بابه.

والبيت الرابع وصف بغاية البخل؛ لأن الذي يمنع وعنده الكثير قد استحكمت فيه طبيعة البخل، ثم هو وصف بالغ بالهوان والضعف؛ لأنهم يعجزون عن حماية القليل الذي لا يطمع فيه إلا الضعيف الدون.

قلت: إن تكرار الأسماء مما يثقل في الشعر إلا أن يكون الشاعر صاحب موهبة عالمًا بأسرار الصناعة، ورياضة البيان وإلا سقط شعره، وأنبه ننا إلى أن الأمر في مقام الرثاء، والغزل يختلف عنه في غيرها وذلك؛ لأنها من مقامات العواطف المشبوبة، والأسى التي تتردد في سياقها أسماء غنية بالإيحاء والتأثير؛ لأنها إما أن تكون من أسماء الصواحب، فهي تلهب الشوق والحنين

ص: 189

أو من أسماء الديار والآثار، فهي تثير ذكريات اللهو والصبا، أو من أسماء الموتى فهي تثير عواطف الحزن والشجى، وفي هذا الفيض من الحس، والشعور تخف هذه الأسماء وتحاط بالجو الشعري، أو تصبح هي من دعائمه، أما الهجاء وغيره فإنه ليس في هذه الخصوصية، ومن هنا يكون ذكر المسند إليه، وكثرة تردده عملا ليس متيسرًا إلا لحاذق بصير كما قلنا.

ولا يفهم من هذا أن مقام الرثاء، والنسيب يستعان للتلفيق والتزوير، لا. إنهما من هذه الناحية أكثر حساسية من غيرهما؛ لأن أوتار الشجى والطرب لا تحركهما إلا الأنغام الصادقة، وكم من نسيب ثقيل مسترذل، وكم من تباك في الرثاء غث مستبرد.

ومن هذا الضرب في الغزل قول ابن الزيات:

أتعزف أم تقيم على التصابي

فقد كثرت مناقلة العتاب

إذا ذكر السلو عن التصابي

نفرت من اسمه نفر الصعاب

وكيف يلام مثلك في التصابي

وأنت فتى المجانة والشباب

سأعزف إن عزفت عن التصابي

إذا ما لاح شيب بالغراب

ألم ترني عدلت عن التصابي

فأغرتني الملامة بالتصابي

وأنا مع ابن رشيق حين يقول في تعليقه عليها "فملأ الدنيا بالتصابي، على التصابي لعنة الله من أجله، فقد برد به الشعر"، وقد ثقل هذا الكلام وصار غاية في البرودة، والمكرر فيه ليس من الأسماء التي قلنا: إنها مما لا يهش لها قاموس الشعر، ومع ذلك كان على ما ترى.

وقد يذكر المسند إليه تفاديا من ذكر الضمير الذي يربط الجملة بالكلام السابق؛ لأن القصد إلى استقلالها لتصير كأنها مثل، وذلك كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ

ص: 190

وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1، انظر إلى قوله تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، وقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} تجد المسند إليه قد ذكر مع أنه يمكن إقامة الضمير مقامه للغرض الذي قلناه، وهذا الأسلوب يكثر في فواصل الآيات كما يكثر في الجمل المستأنفة سواء كان استئنافها استئنافا بلاغيا كقولك: أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} 2، أو كان استئنافا نحويا أي بواو الاستئناف مثل:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} 3، وهذه الجمل كما ترى من الممكن أن تقتطع من سياقها، وأن تستقل بإفادة معناها، ولذلك يشيع بعضها شيوع الأمثال، والذي أتاح ذلك هو ذكر المسند إليه، ولو كان المذكور هو الضمير لارتبط بالكلام السابق؛ لأن فيه مرجعه، وهذا الأسلوب يشيع في القرآن جدا كما يوجد في الشعر وغيره، وقد نبه إلى هذا المغزى المفسرون، وفي كتب التفسير من المباحث البلاغية ما لا يوجد في كتب البلاغيين.

قالوا: وقد يذكر المسند إليه رغبة في طول مقام الحديث حين يكون مع من تحب، أو كما قالوا: إرادة بسط الكلام حيث الإصغاء المطلوب، ومنه قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام وقد سأله المولى، وهو بكل شيء علم:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} 4؟ فأجاب: {هِيَ عَصَايَ} 5، ولم يقل عصاي كما يكون في مثله؛ لأنه يريد بسط الحديث، وطول مقام المتكلم في حضرة ذي الجلال؛ لأنه تشريف ما بعده تشريف، ولهذا أخذ يتحدث عن عصاه، ويذكر مالا يقتضيه السؤال استرسالًا منه في سوق

1 الحج: 61، 62.

2 الأحزاب: 1، 2.

3 الأحزاب: 3.

4، 5 طه: 17، 18.

ص: 191