الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقديم في المتلعقات:
التقديم في المتعلقات
إما أن يكون على الفعل نفسه، وإما أن يكون تقديم بعض المتعلقات على بعض، وكل واحد من الضربين لا يكون إلا لغرض، أما تقديم المتعلق على العامل، فإنه غالبا ما يكون للاختصاص تقول: زيدا أكرمت وأنت تعني أنك ما أكرمت إلا زيدًا، ومنه قوله -تعالى-:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1، أي: نخصك بالعبادة، فلا نعبد غيرك ونخصك بالاستعانة فلا نستعين بسواك، وقوله -تعالى-:{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2، قدم المفعول؛ لأنه أراد سبحانه إن كنتم تخصونه بالعبادة، فلا تتجه قلوبكم إلا إليه، ولا تنحني أصلابكم إلا في حضرته، وقوله -تعالى-:{لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} 3، أي: تحشرون إلى الله لا إلى غيره، وهذا واضح كما ترى.
وقد تأتي الجملة في سياقين مختلفين، أو في سياق واحد، ويقدم فيها المتعلق مرة ويؤخر أخرى، ويكون وراء هذا التصرف مغزى جليل.
انظر إلى قوله -تعالى-: {ِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 4، تأخر المتعلق على شبه الفعل في قوله: شهداء على الناس، وتقدم في قوله عليكم شهيدا، وذلك؛ لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم على الأمم، وليس فيها معنى الاختصاص، وفي الثانية اختصاصهم بكون الرسول شهيدًا عليهم، وليس مجرد إثبات شهادته عليهم، وهكذا كان اختلاف ترتيب الكلمتين
في الموقعين مؤديا إلى هذا الفرق الجليل.
ومثله ما يقوله الزمخشري في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
1 الفاتحة: 5.
2 البقرة: 172.
3 آل عمران: 158.
4 البقرة: 143.
يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 1، وقال الزمخشري:"فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: وهو أهون عليه وقدمت في قوله: وهو على هين؟ يقصد ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} 2، قال الزمخشري: "قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزه فقيل: هو علي عين، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هرم وعاقر، وأما ههنا فلا معنى للاختصاص كيف، والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى".
وقد علق ابن المنير -وهو معروف بتحرشه بالزمخشري- على هذا يقوله: "كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر لا بالحبر".
ويتفرع على هذا الأصل، وهو دلالة تقديم المعمول على الاختصاص أنه لا يقال: ما زيدا ضربت ولا غيره؛ لأن المفعول لما قدم وسلط عليه النفي أفاد نفي الحدث عهن هذا المفعول خصوصا، وذلك يعني أن الفعل ثابت وقولك: ولا يغيره يعني نفي الفعل، وهذا تناقض كما ترى، فإذا كان مرادك أنك لم تضرب زيدا ولا غيره، فالعبارة أن تقول: ما ذربت زيدا من غيره تقديم المفعول، فإذا قدمت المفعول كان المعنى على أنك لم تضرب زيدا ولكن غيره، وكذلك لا يقال: ما زيدا ضربت ولكن أكرمت؛ لأنك ما قدمت المفعول -كما قلنا- أفاد أنك تنفي الضرب عن زيد خصوصا، وهو واقع على غيره فلما قلت: ولكن أكرمت كان رجوعا على إثبات الفعل في الأول، وإنما يقال في مثل هذا: ما ضربت زيدا ولكن أكرمته، وهكذا.
وقد خالف العلامة أبو حيان في دلالة تقديم المعمول على الاختصاص،
1 الروم: 27.
2 مريم: 8، 9.
واستشكل على الزمخشري في آية: إياك نعبد، وذكر من كلام سيبويه ما اعتقد أنه شاهده كما ذكر من كلام الأعراب ما يفيد عدم الاختصاص -كما ظن- وقد ناقشت هذا الموضوع مناقشة وافية في كتاب البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري.
وقد خالف أيضًا العلامة ابن الأثير في القول بدلالة تقديم المعمول على الاختصاص في قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} 1، وقد قال البلاغيون: إن التقديم في قوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} ، مفيد للاختصاص، وكأنه قال: لا تصلوه إلا الجحيم وهي نار عظيمة، وكذلك التقديم في قوله: ثم في سلسلة على قوله: فاسلكوه قال الزمخشري: "سلكه في السلسلة أن تلوي على جسده حتى تلتف عليه أثناؤها، وهو فيما بينما مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة، وجعلها سبعين ذراعًا إرادة الوصف بالطول كما قال:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} 2، يريد مرات كثرة؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد والمعنى في تقديم السلسلة على لاسلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم.
قلت: إن العلامة ابن الأثير رفض دلالة التقديم في الآية الكريمة في الموضعين على الاختصاص، ورأى أنه للفضيلة السجعية كما قال، أي للمحافظة على رءوس الآي، قال:"ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن من أن لو قيل خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم"، وكذلك قال في سلسلة، وتقديمها على فاسكلوه لم يكن للاختصاص، وإنما لنظم الكلام، ولا شك أن هذا النظم أحسن من أن لو قيل: ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذرًاعا.
1 الحاقة: 30-32.
2 التوبة: 80.
وقد قلنا في مثله: إنه لا مانع من أن يكون التقديم للاختصاص، ولهذه الفضيلة السجعية، ومما لوحظ أن ابن الأثير في هذه الآية يهاجم الزمخشري هجوما خفيا فيقول: في القول بأن تقديم الجحيم، وهو النار العظيمة على قوله: صلوه لأجل الاختصاص، وهو رأي الزمخشري كما قدمنا، بقول:"إنه لا يذهب إليه إلا من هو بنجوة عن رموز الفصاحة والبلاغة"، وغفر الله لابن الأثير، فلم يكن الزمخشري بنجوة من رموز الفصاحة والبلاغة، واقتباسات ابن الأثير من الكشاف التي كتم خبر مصدرها، وأوهم أنها من اجتهاداته شاهد على ذلك.
أما تقديم بعض المتعلقات على بعض، فإنه يجري على نسق دقيق من مراقبة المعاني، ومتابعة الأحوال هو متشعب النواحي متعدد الأصول، وحسبنا هنا أن نيشير إلى ما يكشف لنا شيئا من جلال الأساليب في هذا الباب مقتبسين من كلام الزمخشري، والعلوي.
فمن الأسس التي بنى عليها ترتيب المتعلقات أنهم يقدمون منها ما هو أوثق صلة بغرض الكلام وسياقه، انظر إلى قوله -تعالى-:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 1، وقوله في آية أخرى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 2، قال في الأولى: نرزقكم وإياهم، فقدم ضمير المخاطبين على الأولاد، وقال في الثانية: نحن نرزقهم وإياكم فقدم ضمير الأولاد على المخاطبين، وذلك؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله: من إملاق المفيد أنهم في إملاق، فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم؛ لأنهم في حاجة إليه الآن، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله: خشية إملاق فإن الخشية إنما تكون من أمر لم يقع، فكان رزق أولادهم في هذا
1 الأنعام: 151.
2 الإسراء: 31.
السياق المطلوب دون رزقهم؛ لأنه حاصل فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم، وهذا من غاية الدقة كما ترى.
ومثله قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} 1، وفي سورة المؤمنين:{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} 2، قال الزمخشري: فإن قلت: قدم في هذه الآية يعني آية النمل، هذا على نحن وآباؤنا وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا على هذا، قلت: التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر، وأن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد، أراد أن كلمة -هذا- تشير إلى البعث بعد الموت، وفي الآية التي ينصب فيها الحديث على استبعاد البعث، وأنه محال في نظرهم قدم ما يشير إليه أي قولهم هذا، انظر إلى سياق الآية:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} 3، تجد أن الشبهة المستحكمة هي أنهم صاروا هم وآباؤهم ترابا، ويبعد عندهم أن يبعثوا بعد صيرورتهم ترابا، والآية الثانية سياقها هكذا:{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} 4، تجد أنها تشير إلى أصالتهم في العناد والكفر، وأن التقليد ومحكاة الآباء هو الأمر المستحكم عندهم، يقولون: المقالة الموروثة مغمضين عيونهم عن الآيات، والحجج التي تخاطب العقول، فقد قال لهم قبل أن يقول هذه المقالة: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
1 النمل: 68.
2 المؤمنون: 83.
3 النمل: 67، 68.
4 المؤمنون: 81-83.
وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} 1، فهم لم يهتموا بالأدلة المساقة ولم يناقشوها؛ لأن قلوبهم انطوت على مقالة الأولين فقالوا: لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا، وفيه من الدقة والإحساس بأخفى ما في السياق ما ترى.
وقد يكون داعي التقديم هو أن التأخير قد يؤدي إلى لبس يخل ببيان المعنى، كما ترى في قوله -تعالى-:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 2، والمقدم هو قوله: من آل فرعون وهو صفة رجل، ولو أخره عن يكتم إيمانه وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون لتوهم أنه متعلق بيكتم، وأنه ليس صفة الرجل، فلا يفهم أن الرجل من آل فرعون.
وقد يكون التقديم ناظرًا إلى الأسبقية في الفضل كما في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} 3، قالوا: قدم الرجالة؛ لأنهم أفضل منزلة عند الله لما يعانون في الحج من الجهد والمشقة، وقد أحس ابن عباس بما في هذا التقديم فقال: وددت لو حججت راجلا، فإن الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن.
ومما هو ناظر إلى منازل المعاني في ترتيبها قوله -تعالى-: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 4، قالوا: إن ترتيب هذه الآيات منظور فيه إلى ترتيب منازلها، ومراتبها فأفظعها، وأشنعها، وأدلها على قساوة النفس كثرة الأيمان الكاذبة، ثم تليها الغيبة،
فالهماز هو المغتاب، ثم النميمة، وقد لحظ مع النميمة ذكر المشاء؛ لأن النمام
يفتقر إلى المشي من حيث كانت النميمة نقل الحديث من شخص إلى آخر، وجاء وصفه بأنه زنيم في ساقة هذه الصفات
1 المؤمنون: 78-82.
2 غافر: 28.
3 الحج: 27.
4 القلم: 10-13.
لأن ذلك هو الأنسب لمعنى هذه الصفة، فالزنيم هو الدعي أي المنسوب إلى غير أبيه، فهو ملحق بمن ينتسب إليهم.
وقد هدى الذين نظروا في القرآن إلى أسرار لطيفة في هذا الباب.
قالوا: إن تقديم الإنس على الجن هو الأكثر الشائع في المصحف، وذلك لشرف الإنس حيث منهم النبيون والرسل، ومن ذلك قوله تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 1، وقوله:{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} 2.
وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 3.
أما قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْس} 4، فإنما قدم فيه الجن؛ لأن المقام مقام تسلط واجتراء والجن بذلك أحق، فلهذا قدمهم، وقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5، قدم الجن على الإنس؛ لأن المقام
مقام خطاب بامتثال الأوامر في العبادة، والمخالفة من الجن أكثر.
ومن أدق ما قيل في تفسير خصائص الأسلوب، وبيان ترتيب المتعلقات ما ذكره العلوي في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 6.
قال: لما صدر الآية بذكر الحب، وكان المحبوب مختلف المراتب متفاوت الدرجات اقتضت الحكمة الإلهية تقديم الأهم فالأهم من المحبوبات، فقدم النساء إلى البنين لما يظهر فيهن من قوة الشهوة، ونزوع الطبع، وإيثارهن على كل محبوب، وقدم البنين على الأموال لتمكنهم في النفوس، واختلاط محبتهم بالأفئدة، وهكذا القول في سائر المحبوبات، فالنساء أقعد في
1 الرحمن: 74.
2 الرحمن: 39.
3 الجن: 5.
4 الأنعام: 13، الرحمن:33.
5 الذاريات: 56.
6 آل عمران: 14.
القلوب، والبنون أقعد في المحبة من الأموال، والذهب أكثر تمكنا من الفضة، والخيل أدخل في المحبة من الأنعام، والمواشي أدخل الحرث.
فأما قوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} 1، فإنما قدم الأموال ههنا؛ لأنه في معرض ذكر الافتتان، ولا شك أن الافتتان بامال أدخل من الافتتان بالأولاد لما فيه من تعجيل اللذة، والوصول إلى كر مسرة، والتمكن من البسطة، والقوة بخلاف آية القناطير، فإنه إنما قدم البنين فيها لما ذكرها في معرض الشهوة، وتمكين المحبة.
وقد تلحظ السببية في ترتيب المتعلقات، فيقدم السبب على المسبب، وذلك كما في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} 2، قال ابن الأثير:"قدم حياة الناس وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس، وإن كانوا أشرف محلا؛ لأن حياة الأرض سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر، ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش، والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس؛ لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم سقى ما هو سبب نمائهم، ومعاشهم على سقيهم".
وقد تلحظ الكثرة والقلة في تقديم بعض المتلعقات على بعض، فيقدم الأكثر فالذي يليه، من ذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 3، فقوله: فمنهم ظالم تقسيم لقوله: الذين اصطفينا من عبادنا قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته، وأن معظم الخلق عليه ثم أتى بعده بالمقتصدين؛ لأنهم قليل بالإضافة إلى الظالم، ثم أتى بالسابقين، وهم أقل من القليل أعني من المقتصدين، فقدم كما ترى الكثير ثم الذي يليه.
1 الأنفال: 28.
2 الفرقان: 48، 49.
3 فاطر: 32.
وقد يقع الترتيب على وفق تدرج أحوال النفس، وما يصحب ذلك من التصاعد في الإحساس، فنرى ترتيب المعاني في الأسلوب تتصاعد مع هذا الشعور وتترقى معه.
انظر إلى وصف القرآن أهوال يوم القيامة، وشغل كل امرئ بنفسه وفراره من أهله، وكيف تتابع أسلوبه مع تتباع هذه الأحوال؟ يقول:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} 1، بدأ بالفرار من الأخ بالأبوين، والأبوان أقرب من الأخ، والمكروب يفر من أخيه قبل أن يفر من أبيه، فإذا زاد الكرب فر من الأبوين، وبقي مستمسكا بالصاحبة والبنين، فإذا ما تضاعف الكرب فر من الصاحبة وبقي متعلقا بولده، وناهيك عن حال الهول، والكرب الذي يفر فيه الوالد من بناته وبنيه.
أرأيت كيف تدرج الأسلوب بأحوال إحساس النفس بالهول، وكيف تنزلت الكلمات منازلها في اللفظ، والنفس على سواء؟
وقد كتبنا فصلا نافعا، إن شاء الله في هذا الباب استنبطناه من تفسير الكشاف في كتابنا "البلاغة القرآنية" فليراجع هناك، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
1 عبس: 34-36.