الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حذف المفعول:
وحذف المفعول تكثر لطائفة وتدق أسراره، وكأن المزايا فيه أخلب وما يظهر بسببه من الحسن، والرونق أعجب كما يقول عبد القاهر.
وقد اعتاد البلاغيون أن يقدموا بين يدي هذا الحذف دراسة في الفعل، وتعلقاته نوجزها فيما يلي:
قالوا: إنك إذا أردت أن تخبر عن مجرد وقوع الحدث وحصوله، فأنت في غنى عن ذكر الفاعل والمفعول، والعبارة عن ذلك أنك تأتي بمصدر الفعل فاعلا لكون عام كأن تقول وقع ضرب، أو وجد إكرام أو حدث إعطاء
…
وما إلى ذلك من العبارات التي تفيد وقوع الحدث، وحصوله من غير إفادة تعلقه بفاعل ولا مفعول.
وإذا أردت أن تفيد وقوع الفعل من فاعل، فالعبارة عن ذلك أن تذكر الفعل والفاعل فقط، فتقول: ضرب محمد، ولا تذكر المفعول ولا تنوه، ولا تخطره بنفسك، قال ابن هشام:"ولا يسمى محذوفا"؛ لأن غرضك بيان وقوع الضرب من محمد، فإذا ذكرت المفعول في هذا المقام، وقلت: ضرب محمد ولده، أوهمت أنك تريد الإخبار بوقوع الفعل على المفعول، وإن غرضك الذي تتوخاه بعبارتك، وليس غرضك أن الضرب يقع منه فحسب، قال عبد القاهر: "ألا ترى أنك إذا قلت: هو يعطي الدنانير، كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه، أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها، وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تتناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه، ولم يكن كلامك مع من نفي أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه، بل مع من أثبت له الإعطاء إلا أنه لم يثبت إعطاءه الدنانير، فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع أراد أهمية تقدير اللفظ على المعنى.
وإذا لمن يكن قصدك أن تخبر بوقوع الفعل فحسب، ولا بوقوعه من الفاعل.
فقط، وإنما قصدت إلى أن تفيد وقوع الفعل على مفعول معين، فقد تعين ذكر المفعول أو تقديره، وهو عندنا ليس فضلة وإنما هو جل الغرض، والقصد من الكلام، يقول عبد القاهر:"قد يذكر الفعل كثيرا، والغرض منه ذكر المفعول مثاله أنك تقول: أضربت زيدًا؟ وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب، وإنما تنكر أن يكون وقع منه ضرب على زيد، وأن يستجيز ذلك، أو يستطيعه".
وخلاصة هذا أن تعرف الفرق بين قولك: وقع ضرب، أو كان إعطاء، وقولك: أعطى محمد، وقولك: أعطى محمد الذهب، ولكل جملة من هذه الجمل معنى محدد، وغرض معين ومقام مختص بها، لا تفيد واحدة منها معنى الاخرى ولا تصلح مكانها، وإذا عرفت هذا -وهو واضح- فاعلم أن إيراد الفعل المتعدي من غير مفعول يقع في الكلام على طريقين:
الأول: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل من غير نظر إلى شيء وراء ذلك كقولك: محمد يعطي، والغرض إثبات الإعطاء فعلا له من غير نظر إلى كونه يعطي قليلًا أو كثيرًا، ذهبا أو فضة، يعطي أصدقاءه أو أهله، لا تنظر إلى شيء من هذا، ولا تريده، وإنما تريد إثبات الإعطاء له، فإذا ذكرت شيئا من هذا، فقد يتوهم أنك تريد أنه يعطي القليل، أو الكثير، إلى آخر ما يمكن أن يقع عليه الفعل، وليس شيء منه داخلًا في غرضك، وإنما غرضك أن يعطي فقط، وفي هذا الضرب ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم، فلا ينظر فيه إلى مفعول، ولا يلتفت إليه ولا يخطر بالبال ولا يقدر، إذا المقدر كالمذكور.
ومما جاء على طريقته قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} 1، وقوله:{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} 2، قال
1 النجم: 43، 44.
2 النجم: 48.
عبد القاهر: "المعنى هو الذي منه الإحياء، والإماتة والإغناء والإقناء، وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء، وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه، أو لا يكون إلا منه أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدي هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض وتغير المعنى".
ومن الواضح في ذلك قوله تعالى: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} 1، أي يكون منه الإحياء، وتكون منه الإماتة من غير نظر إلى من أحياه الله ولا إلى من أماته، وقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 2، أي هل يستوي من يكون منه العلم، ومن لم يكن منه العلم من غير نظر إلى معلوم، ويقول الزمخشري في قوله تعالى:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} 3، والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال لا من قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلا، نحو يعمهون في قوله تعالى:{وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 4.
ومما يظهر فيه هذا المعنى قول سعد بن أبي وقاص لابن أخيه هشام بن عتبة، وكان سعد قد اعتزل الفتنة، فقال له هشام: ههنا مائة ألف سيف يرونك أحق بهذا الأمر، فقال سعد:"أريد منها سيفا واحدا، وإذا ضربت به المؤمن لم يقطع شيئا، وإذا ضربت به الكافر قطع"، المراد يكون منه قطع من غير نظر إلى من يقطعه، أي أنه حين يعمله في الكافرين يكون له فعل، وحين يعمله في المؤمنين يبطل فعله".
وقد ذكر الخطيب أن الفعل المطلق أي الذي يكون الغرض منه إثبات المعنى في نفسه لفاعل على الإطلاق، أو نفيه عنه كذلك -وهو الذي نحن فيه- قد يكون كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة، أي أن هذا
1 البقرة: 258.
2 الزمر: 9.
3 البقرة: 17.
4 الأنعام: 110.
الضرب الذي يتوفر فيه الغرض على إثبات الفعل للفاعل، منه نوع يكون الفعل المطلق فيه كناية عن الفعل السابق بمفعول مخصوص -وهذا القسم هو ما ذكره عبد القاهر، قسما ثانيا يتبع القسم الأول الذي ذكرناه، ومنه قول البحتري يمدح المعتز، ويعرض بالمستعين:"من الخفيف"
شجو حساده وغيظ عداه
…
أن يرى مبصر ويسمع واع
أي أن حزن حساده، وهمهم أن يكون في هذه الدنيا من يرى ومن يسمع؛ لأن من يرى أي من تكون منه الرؤية، فهو راء محسانه لا محالة، ومن يسمع أي من يكون منه السمع فهو سامع أخباره وسيرته قطعًا، وهذه المحاسن وتلك السيرة تؤهله عند الناس للخلافة وتخمل منافسه، والفعل المطلق هنا أي يرى مبصر ويسمع واع، كناية عن فعل منتعلق بمفعول مخصوص وهو: يرى مبصر محسانه ويمسع واع أخباره، ومعنى الكناية أنه يلزم من وجود الفعل المطلق وجود الفعل المقيد بمفعول مخصوص، فبين مجرد الرؤية والسماع، وبين رؤية المحاسن وسماع حسن السيرة تلازم وارتباط، وهذا كما ترى دليل على ذيوع محاسنه، وأخباره، وأنها مطروحة في مطرح كل عين، وذائعة حول كل أذن.
وعبد القاهر لم يجعل هذه النظرة محور البحث في طبيعة هذا الأسلوب، وإنما البيت عنده كما قلت من القسم الثاني الذي له مفعول مقصود، ولكنه حذف من اللفظ لدليل الحال، وعليك أن تجتهد في أن تنسيه نفسك، وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعرض فيه إلى مفعول، وذلك لمعنى لطيف هو إيهام الربط بين مجرد الرؤية، ورؤية الآثار والمحاسن، وهو طريق جيد في الوحي بالمعنى، وفيه هذه اللمسة الاستدلالية الخفيفة التي لمسها عبد القاهر، والتقطها الخطيب وأبرزها، وأدخل الأسلوب باب الكناية، وجعله من الدلالة اللزومية.
يقول عبد القاهر: "المعنى لا محالة أن يرى مبصر محاسنه، ويسمع واع
وأخباره وأوصافه، ولكنك تعلم على ذلك أنه كانه يسرق علم ذلك من نفسه، ويدفع صورته عن وهمه، وذلك أنه يمدح خليفة، وهو المعتز ويعرض بخليفة وهو المستعين، فأراد أن يقول: إن محاسن المعنزل وفضائله يكفي فيها أن يقع عليها بصر، ويعيها سمع حتى يعلم أنه المستحق للخلافة، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى حساده، وليس شيء أشجى لهم، وأغيظ من علمهم بأن ههنا مبصرا يرى وسامعا يعي حتى ليتمنوا ألا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها، وأذن يعي معها كي يخلفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها".
وهذا الكلام لو استقصيناه لكان لنا منه منهج جيد في تحليل النصوص، وراجع قوله: كأنه يسرق علم ذلك من نفسه، وأسأل كم تغلغل عبد القاهر في الشعر، والشاعر حتى استخرج مثل هذه الكلمة.
ويذكر الخطيب نقلًا عن عبد القاهر قول عمرو بن معد يكرب:
فلو أن قومي انطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت
والبيت من مقطوعة تصف تجربة صادقة لفارس مقدام وشاعر دافق، وعمرو هذا هو صاحب الصمصامة الذي توارثها العرب من سليمان عليه السلام مع ذي الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول الروايات: قال عمرو يصف تخاذل قومه جرم في أبيات تجيش بأنغام البطولة والأسى: "من الطويل"
ولما رأيت الخيل زورا كأنها
…
جداول زرع أرسلت فاسبطرت
فجاشت إلي النفس أول مرة
…
فردت على مكروهها فاستقرت
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
…
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
لحا الله جرما كلما ذر شارق
…
وجوه كلاب هارشت فازبأرت
فلم تغن جرم نهدها إذا تلاقتا
…
ولكن جرما في اللقاء ابذعرت
ظللت كأني للرماح درية
…
أقاتل عن أبناء جرم وفرت
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت
أراد بالخيل الزور المنخرفة من الطعن، وجداول الزرع، أنهاره التي أرسل فيها الماء، واسبطرت أي امتد الماء وطال امتداده، وجريه في هذه الأنهار، والتشبيه كما يقول المرزوفي: وقع على الماء في الأنهار لا على الأنهار، كأنه شبه امتداد الخيل في انحرافها عند الطعن بامتداد الماء في الأنهار، وهو يضطرد ملتويا ومضطربًا.
وتهارشت الكلاب تواثبت، وذر الشمس طلوعها، وازبأرت انتفشت حتى ظهر منها أصول الشعر، ويقول المرزوقي في انتصاب وجوه: إنه على الشتم والذم، والعامل فيه فعل مضمر وهو اذكر قوما يشبهون الكلاب إذا واثبت غيرها، وسأورت فانتفشت وتجمعت للوثب، وتلك الحالة من أحوالها أشنع وأنكر وهذا تحقيق للشبه، وتصوير لقباحة المنظر، ونهد قبيلة من قضاعة كجرم وأضافها إلى جرم؛ لأنها كانت تعتمد عليها وتكتفي بها، وابذعرت أي تفرقت.
ويذكر الخطيب أن قوله: ولكن الرماح أجرت، من النوع الذي يقع فيه الفعل مطلقا كناية عنه مقيدا، يعني أن قوله: أجرت قصد منه إثبات الفعل للفاعل غير مننظور إلى مفعول، ولكنه وهو بهذه الحالة يقع كناية عن أجرتني، أي كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص؛ لأنه ما دام وقع منها الإجرار لزمه أن تكون أجرته أي قطعت لسانه عن الثناء عليهم، وذكر محامد تضاف إليهم.
وعبد القاهر لا يتناول الجملة هذا التناول، وإنما يقول: إن قوله: أجرت له مفعول معلوم ومقصود، وليس لهذا الفعل مفعول سواه، ولكنك تطرحه وتنساه لتوهم أن هذه الرماح وقع منها الإجرار، وحبس الألسن عن النطق،
ولو قلت: أجرتني فقد يتوهم أن ما كان منها بقطع لسانه هو فقط، وأنه لو كان شاعر غيره لما حبس لسانه عن التحدث بذكرهم، وهذا غير مراد، وإنما مراده أن تخاذلهم في اللقاء يسكت كل لسان؛ لأنه لا يجد وجها يذكرهم به، وكأن جرما حين أبذعرت سقطت كل فضائلها.
ومما هو مشهور في هذا الباب قول طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلفت
…
بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا
…
تلاقي الذي لا قوه منا لملت
هم خلطونا بالنفوس والجئوا
…
إلى حجرات أدفأت وأظلت
قال الخطيب: "فإن الأصل لملتنا، وأدفأتنا، وأظللتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية".
ومراده أن قول الشاعر لملت وقع كناية من ملتنا، وأدفأت وقع كناية عن أدفأتنا، وكذلك أظلت، وفي هذا لزوم بين وقوع الملل منها وأن تملهم، وهكذا الباقي، وهذا أيضا نظر استدلالي يستشف اللمح أو يقتنصه بمنطق اللزوم، وقد سكت الخطيب عن أهم ما في هذا الحذف مما ذكره عبد القاهر، وهو الإشارة إلى أن بني جعفر كانوا أفسح صدرا، وأكرم نفسا وأبر برهط طفيل من كل ذي بر، فلو أن هذا الرهط كلفوا أمهم مثل ما كلفوا بني جعفر لملت الأم، ورمز بهذا الحذف إلى أن الذي لاقوه منهم يحدث في الأم الملال، فقد كلفوهم تكاليف ثقال من شأنها أن تمل من هو مثل في الصبر، والحب، والوفاء.
وعبارة عبد القاهر التي يشير فيها إلى بيت عمرو، وبيت طفيل يقول فيها: "واعلم أن لك في قوله: أجرت ولملت فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله، وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس
شاعرهم فلم يستطع نطقا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت: ولكن الرماح أجرتني لم يمكن أن يتأول على معنى أنه كان فيها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم، ونظيره أنك تقول: قد كان منك ما يؤلم، تريد ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان، ولو قلت: ما يؤلمني لم يفد ذلك؛ لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك، وهكذا قوله: ولم أن أمنا تلاقي الذي لا قوه منا لملت يتضمن أن من حكم مثله في كل أم أن تمل، وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له البان، وتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد، وذلك أنه وإن قال: أمنا فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها، ولو قلت: لملتنا لم يحتمل ذلك؛ لأن يجري مجرى أن تقول: لو لقيت أمنا ذلك لدخلها ما يملها منها، وإذا قلت: ما يملها منا فقيدت لم يصلح؛ لأن يراد به معنى العموم، وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن، وكذلك قوله إلى حجرات أدفأت وأظلت؛ لأن فيه معنى قولك: حجرات من شأن مثلها أن تدفئ وتظل، أي هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ وأظل، ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول، إذ لا تقول: حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا، وتظلنا هذا لغو من الكلام، فاعرف هذه النكتة، فإنك تجدها في كثير من هذا الفن مضمومة إلى المعنى الآخر الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل، والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التابسه بمفعوله".
وكان عبد القاهر كأنه يخلق الشعر حين يكشف أمثال هذه الأسرار، ويعرف القارئ كيف يقرأ الشعر، وكيف يكشف أسراره ويتذوق صوره، ولغته والمعول عليه هنا هو القصد إلى إرادة العموم في المفعول مع توفر الخبر على وقوع الفعل من الفاعل، فالحجرات من شأنها أن تدفئ وتظل، وكأن القوم لسعة
ثرائهم قد أقاموها على نظام هندسي يجعلها سجسجا لا حر ولا قر، وكأنها من حجرات الجنة، وهذا باب آخر من المديح.
وذكر عبد القاهر قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} 1.
فقوله: يسقون، وتذودان، ولا نسقي، فسقى لهما، والمراد: يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، وقالتا: لا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ولكنه حذف ليتوفر الكلام على إثبات الفعل للفاعل، وكأن سيدنا موسى عليه السلام رق لهما لما كان منهما سقى وذود، ولو ذكر المفعول وقال: غنمهما لأوهمت العبارة أن سيدنا موسى رق لذودهما الغنم، وما في ذود الغنم خصوصًا من مزيد عناء لشدة تفلتها وصعوبة ضبطها، ولو كان منهما ذود إبل لجاز أن يدعهما سيدنا موسى عليه السلام، وليس هذا مرادًا، وراجع عبارة عبد القاهر في "دلائل الإعجاز".
وقد يقصد بالحذف إبهام المعنى لتوضيحه بما ريد بعد المحذوف، وبناء الكلام على الإيضاح بعد الإبهام من المزايا البلاغية في صياغة العبارة، وأمسها بطبائع النفس، فقد فطر الله الناس على التعلق بما يجهلون مما يلوح لهم منه طرف من العلم والانكشاف، أما ما لا يلوح منه هذا الطرف فإن الناس في غفلة عنه، والأسلوب المختار هو الذي يهتدي إلى فطرة هذه النفس، ويأتيها من جهتها، وحينئذ يمتلك زمامها وتسلس له قيادها، ودونك بعض هذا مما ذكره الأئمة:
يقول البحتري: "من الكامل":
1 القصص: 23، 24.
يا يوسف بن أبي سعيد والغنى
…
للمغمد العزمات غير مساعد
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم
…
كرما ولم تهدم مآثر خالد
آراد لو شئت عدم إفساد سماحة حاتم لم تفسدها، ولكنه حذف مفعول شاء، وأغمضه بهذا الحذف، فتحركت النفس لتعرف حقيقة مشيئة هذا الرجل صاحب العزمات في المال والغنى، فأعجلها الشاعر ببيان هذه المشيئة، فأصاب من النفس موقعًا حسنًا، يقول عبد القاهر:
"فليس يخفى أنك لو رجعت إلى ما هو أصله فقلت: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، صرت إلى كلام غث وإلى شيء يمجه السمع، وتعافه النفس وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام، وبعد التحريك له أبدا، لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك، وأنت إذا قلت: لو شئت، علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، فهو يضع في نفسه أن ههنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون، أو لا يكون فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء".
ومثله قول عبد الله بن شبرمة، وكان شاعرًا ناسكا يخاطب ابن هبيرة:
لو شئت كنت ككرز في عبادته
…
أو كابن طارق حول البيت والحرم
وكرز بن وبره الحارثي العابد ومحمد بن طارق، وكان كرز إذا كان في سفر، واتخذ الناس منزلا اتخذ هو منزلا للصلاة، وكان يختم القرآن في كل يوم ثلاث ختمات.
أراد لو شئت أن تكون ككرز كنت ككرز ولكنه حذف فأبهم، ثم ذكر فأوضح فحسنت عبارته، وجاء كلامه صافيا بريئًا من الفضول، وقالوا في ابن طارق لو اكتفى أحد بالتراب لكفاه كف من تراب، وكان يقدر طوافه حول البيت في اليوم عشر فراسخ.
ومثله قوله طرفة يصف ناقته:
وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت
…
مخافة ملوي من القد محصد
يريد لو شئت عدم إرقالها أي سرعتها لم ترقل، وإن شئت إرقالها أرقلت مخالفة سوط مفتول من الجلد المدبوغ، ولكنه حذف وأبان وصفى عبارته.
وهذا مسلك واضح والمغزى فيه قريب، وهو كثير في الشعر وفي كتاب الله ومنه قول حميد بن مالك في قصيدته:"من الطويل"
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة
…
دعت ساق حر في حمام ترنما
يقول فيها:
إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة
…
أو الزرق من تثليث أو بيلملما
مطوقة ورقاء تسجع كلما
…
دنا الضيف وانجاب الربيع فأنجما
وبيئت: واد باليمامة والزرق والتثليث ويلملم كلها أماكن، والأجزاع: الجوانب.
ومنه قول البحتري يمدح الفتح بن خاقان، ويذكر مبارزته للأسد في قصيدته:"من الطويل"
أجدك ما ينفك يسري لزينبا
…
خيال إذا آب الظلام تأوبا
سري من أعالي الشام يجلبه الكرى
…
هبوب نسيم الروض يجلبه الصبا
قال فيها:
غداة لقيت الليث والليث مخدر
…
يحدد نابا للقاء ومخلبا
إذا شاء غادى صرمة أو غدا على
…
عقائل سرب أو تنقص ربربا
والليث المخدر: المقيم في عرينه، وغادى صرمة، أي: باكر جماعة من الإبل أو حمر الوحش، وعقائل السرب كرائم القطيع من الظباء، وتنقص ربربا أي: أتى على قطيع من بقر الوحش، وتخطف منه وافترس.
وقد تجد الشاعر في هذا المسلك مضطرًّا إلى ذكر المفعول؛ لأنه لا يستقيم مع حذفه ذلك إذا كان المفعول من الأمور المستغربة التي تحتاج إلى اطمئنان القلوب لها، وائتلاف النفوس بها، وحينئذ يكون الذكر وسيلة هذا الاطمئنان، وأداة هذا التآلف، انظر إلى قول إسحاق بن حسان الخريمي، وكان شاعرًا جيد العبارة كثير الماء، قال في قصيدته:
قضى وطرا منك الحبيب المودع
…
وحل الذي لا يستطاع فيدفع
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وكان يمكن أن يقول: ولو شئت لبكيت عليه دما، ويأتي الكلام على أسلوب الحذف، ولكن الشاعر ترك هذا الطريق، وكان لزاما عليه أن يفعل؛ لأن بكاء الدم أو مشيئة بكاء الدم من الأمور المستغربة التي تحتاج النفس إلى شيء من التلطف حتى تألفها، وكان هذا التطلف هو ذكر هذا البكاء، والتصريح به مع المشيئة، ثم ذكره مع جواب لو فكان هذا التكرار كأنه إيناس تذهب به وحشة غرابة المعنى، وهكذا الحال في كل مفعول غريب.
وقد تجد الشاعر يذكر مفعول المشيئة، وليس مستغربا وإنما؛ لأن الواقع بعده لا يوضحه أي لا يدل عليه؛ لأنه ليس من نوعه والحذف، والحالة هذه تعمية وألغاز، والإبهام والخفاء الذي يعده العلماء مزية في لغة الشعر، والأدب ليس هو الألغاز والتعمية، وإنما هو أن تستشرف المعنى الذي يلوح لك من بعيد وحوله غيوم بيضاء أو تلفه أقنعة رقاق تخفي عنك منه جانبا، وتبدي لك آخر، فتظل مشغوفا به مولعا بالقرب منه مندفعا إلى معرفته، وفي ذلك متعة البيان والأدب.
ومما جاء على هذه الطريقة التي ذكر الشاعر فيها مفعول المشيئة، وليس مستغربا، ولكن الواقع بعده لا يوضحه، قول أبي الحسن علي بن أحمد "من الطويل":
فلم يبق مني الشوق غير تفكري
…
فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا
لم يقل: فلو شئت بكيت تفكرا؛ لأنه لو قال ذلك لأفاد التركيب أنه حينما يشاء بكاء التفكر يبكي التفكر، كما في قوله: لو شئت كنت ككرز أي لو شئت أن تكون ككرز كنت ككرز، وليس هذا مراد الشاعر، وإنما مراده أنني لو شئت البكاء بدموعي لا أستطيعه، فليس في اليعون ماء، وليس في الجسم ماء الحياة الذي تفور به العبرة، وإنما ذهب الشوق بكل شيء من صفات الحياة والأجساد، وبقي التفكر وحده، بقيت الخواطر وأشباح الذكريات، وهي وحدها التي يعمر بها الكيان، فلو شئت أن أبكي لا أجد إلا التفكر، وكأنه بقوله: فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرًا يؤكد قوله: لم يبق مني الشوق غير تفكري، واقرأ في هذا عبارة عبد القاهر.
وواضح أن الطريقة في قول أبي الحسن غير الطريقة في قول الخريمي؛ لأن المذكور في قول الخريمي يدل على المفعول لو حذف؛ لأن كليهما بكاء دم، والمذكور في بيت أبي الحسن:"بكيت تفكرًا" لا يدل على المفعول لو حذف "أن أبكي"، فهو لا يصح أن يكون تفسيرًا له.
وقد يحذف المفعول؛ لأن الشاعر أراد أن يهيئ الكلام إلى إيقاع فعل آخر على صريح لفظ المفعول، بدلا من إيقاعه على ضميره لو ذكر المفعول مع الفعل الأول، وهذا فن من الكلام عجيب تجد فيه الشعراء يهتدون بقطرتهم إلى ما بين الكلم من فروق في التمكن، واللصوق بالغرض، فيفرقون بينها في التعلق بما يومئ إلى حسهم بالمعنى وعناصره.
انظر إلى قول البحتري في قصيدته: "من الخفيف"
إن سير الخليط حين استقلا
…
كان عونا للدمع لما استهلا
قال فيها:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ
…
دد والمجد والمكارم مثلا
فقد حذف المفعول في قوله: طلبنا ولم يقل: قد طلبنا لك مثلا؛ لأنه
يهيئ العبارة لإيقاع -لم نجد- على صريح لفظ المثل أي، فلم نجد مثلًا لك في السؤدد والمجد والمكارم، ولو قال: قد طلبنا مثلا لكان سبيله أن يقول بعده: فلم نجده، وهو لا يريد هذا، أي لا يريد إيقاع نفي الوجود صراحة على لفظ مثل لا على ضميره، وفرق بين أن يقع الفعل على صريح اللفظ، وأن يقع على ضميره، وقد أشرنا إلى ذلك، وشيء آخر نجده في حذف مفعول طلبنا هو تحاشي أن يواجه صاحبه بأنه طلب له نظيرا مواجهة ترى اللفظ فيها صريحا يجهر بهذا المعنى، وإنما أشار إليه خلسا وهمسا، ولم يمد فيه القول، وكأنه يريد أن يطويه سريعا ليصل إلى محض المدح، وهو: فلم نجد لك مثلا، وفي هذا ما ترى.
ومما هو ناظر إلى هذا الباب من الصنعة قول ذي الرمة: "من الوافر"
ولم أمدح لأرضيه بشعري
…
لئيما أن يكون أصاب مالا
أراد أنه ينزه شعره عن مدح اللئام فهو لا يمدحهم، فأعمل نفي المدح في لفظ اللئيم وأعمل الإرضاء في ضميره، وحسن هذا أن الإرضاء هنا علة المديح، وتابع له فكان بالضمير أولى.
ولو قال الشاعر: ولم أمدح لأرضي لئيما كما قال البحتري: طلبنا فلم نجد مثلًا، لكان غير بر بمعناه وكأنه يفيد أنه ينفي عن نفسه إرضاء اللئام، وأن ذلك مقصده الأهم، ولكن الشاعر لا يريد ذلك، وإنما يريد أن ينفي عن نفسه مدح اللئام، فهو رأس معناه في البيت، وذلك ليوقع في نفس بلال بن أبي بردة الذي يمدحه بهذه الأبيات أن ما يسمعه من إنشاد لا يعرف إلا ساحة الكرام، وأنه ليس موكلا إلا بهم.
ولله در كل حر لا يسوق الكلمة الشريفة إلا للنفس الشريفة، وترى الكلمة الحرة في ساحة الأحرار طالقة بهية.
وليس في البيت حذف، وإنما يذكر في كتب القوم لبيان الصنعة، والتصرف في
بيت البتحري حين يقارن ببيت ذي الرمة، فكلاهما دعاه سياقه وحسه بالمعنى إلى شيء غير الذي فعله صاحبه.
ومما جاء فيه حذف المفعول واقعا، وموقعا جليلا قول البحتري، يمدح أبا صقر الشيباني:"من الطويل":
وكم زدت عني من تحامل حادث
…
وسورة أيام حززن إلى العظم
يذكر الشاعر فضل أبي صقر عليه، ودفعه عنه بلايا الأيام وأحداثها، فقال: حززن إلى العظم، والأصل حززن اللحم إلى العظم، ولكنه حذف المفعول؛ لأنه أراد أن يوقع في النفس من أول الأمر أن سورة الأيام التي يذودها عنه صاحبه سورة عاتية، وكأنها سيوف زمان بالغة الضرب والإيجاع، تمزق الجسد وتضرب في العظام، وكلما بالغ الشاعر في وصف هذه الشدائد التي يدفعها عنه صاحبه كان ذلك أدخل في مدحه، وأبين لشدة ولائه، وأدل على صدق إخلاصه وعرفانه، ولو قال: حززن اللحم إلى العظم لوقع في الوهم أول وهلة أن هذا الحز قد يكون حزا ضعيفا لا يتجاوز ظاهر اللحم، إلى بواطنه أو هو إذا أعمل في هذا الباطن، فربما لا يصل فيه إلى آخره، وقلت في الوهم لسامعه أن يتوهم أن هذا الحز كان حزا باردًا، أو ضعيفا وأنه وقع في ظاهر الجلد، أو غار في بواطنه غورا لا يصل إلى نهايته، ولذلك حذف هذا اللفظ، وانتقل سريعا إلى الغاية التي تصف لنا تمزق جلده، وأنه عرى عظامه.
ومن أمارات حذق الشاعر أن يفتح طريقا إلى معناه في أنف كلامه، فلا يدعك تتوهم خلاف المعنى، وإنما يمهد لك طريقات إلى مراده يقول عبد القاهر مشيرا إلى هذا الأصل الجيل في تعليقه على هذا البيت:
"الأصل لا محالة حززن اللحم إلى العظم إلا أن مجيئه به محذوفا، وإسقاطه له من النطق، وتركه في الضمير مزية عجيبة، وفائدة جليلة، وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعا يمنعه من أن يتوهم
في بدء الأمر شيئا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول، فقال: وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم، لجاز أن يوقع في وهم السامع قبل أن يجيء إلى قوله: إلى العظم أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد، ولم ينته إلى ما يلي العظم، فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم، وأسقطه من اللفظ ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم، ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم"، تأمل قوله: إن من حذق الشاعر إلى آخره؛ لأنه أصل من أصول بلاغة البيان.
ومن إشارات الحذف اللطيفة قوله -تعالى- حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 1، قالوا: المراد أرني ذاتك ولكنه حذف، قال الخطيب: إن الحذف هنا للاختصار ويمكن أن يقال فيه: إن سيدنا موسى لم يطلب من ربه أن يريه ذاته طلبا صريحا مشكوفا، فإن في هذا شيئا لا يليق بالجلال، وإنما قال في أمل ورجاء وأدب وحياء:"رب أرني"، وأمسك ليفيد قصيده بدون لفظ ينص صراحة عليه، وهكذا القول فيه هذه المقامات الربانية، وعند طلب مثل هذه الأمور العظيمة ينبغي أن يكون تلويحا وخلسا، وشيء آخر في هذا الحذف هو تلك الفخامة والهيبة؛ لأن الذات الجليلة لا تقع عليها الرؤية المحيطة كما تقع على الأشياء، وإنما هي تجليات فلم يتمكن لفظ الرؤية "أرني" من الذات هكذا ظاهرًا؛ لأن ذلك مما لا يكون، النفس الإنسانية لا تطيق من رؤية الله، وتجلياته إلا بمقدار ما يهيئها الله له، انظر إلى قوله:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} 2، إذن سيدنا موسى عليه السلام لم تتح له الرؤية، ولم يقع أيضًا التجلي عليه، وإنما تجلى ربه للجبل فجعله دكا، وكان من موسى ما كان، ثم شيء آخر في قوله:"أرني" أليس معناه اجعلني أرى أي صيرني إلى حالة من التهيئ
1، 2 الأعراف:143.
وأحدث في قدراتي، وإمكانياتي البشرية المعتادة شيئًا من التغيير حتى تستطيع أن ترى، فإن نفسي بهذه الاستعدادت لا تستطيع ذلك، فالنفس البشرية بإمكانياتها لا ترى الله وهذا لو صح، وأظنه صحيحا إن شاء الله، يجعلنا نراجع كثيرا من الحوار الذي دار حول هذه الأية في الخلاف المعروف، وهذا ليس داخلا في موضوع حذف المفعول، وإنما هو معنى وقع في نفسي، وأنا أعالج سر الحذف، فأثبته والمهم أن أبعاد الذات الجليلة عن أن تعمل فيها الرؤية في اللفظ مناسب لحال المعنى كما بينا.
ومن إشارات الحذف قوله -تعالى-: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} 1، الأصل أهذا الذي بعثه الله رسولًا، قال الخطيب: الحذف فيه لمجرد الاختصار، وفيه أيضا إشارة إلى حال نفوسهم، فإن حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم جعل نفوسهم تتخاذل، فلا تقول: بعثه وكأنهم يتحاشون النطق بذلك.
وقد تجد الحذف مشيرا إلى التعميم في المفعول، وأن الفعل واقع على كل من يصح أن يقع عليه، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} 2، فالدعوة إلى دار السلام أي الجنة دعوة عامة لا يختص بها قبيل دون قبيل، فكأنه قال: والله يدعو كلب من تصح دعوته إلى الجنة، وتأمل هذا لترى سعة الرحمة، وأنه لا يهلك على الله إلا هالك، وفرق بين هذا وبين الحذف الذي يكون ليتوفر الغرض على إثبات وقوع الفعل من الفاعل، تقول: قد كان منك ما يؤلم وأنت تريد ما الشأن فيه أن يؤلم، وليس وراء ذلك أي معنى في التركيب، وتقول: قد كان منك ما يؤلم، وأنت تريد ما يؤلم كل أحد، فأنت تقصد إلى العموم فيمن يقع عليهم الفعل، وبين هذين فرق ولكنه يدق، وهكذا شأن المعاني، ومن هنا نجد الذين يستخرجون المعاني من الجمل قد يترددون بين هذين الاحتمالين، وانظر إلى قول الزمخشري في قوله تعالى:
1 الفرقان: 41.
2 يونس: 25.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1، يقول: "وفي لا تقدموا من غير ذكر مفعول وجهان: أحدهما: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم، والثاني: ألا يقصد قصد مفعول ولا حذفه، وإنما يتوجه بالنفي إلى نفس التقدمة كأنه قيل: ولا تقدموا على التلبس بهذا الفعل، ولا تجعلوها منكم بسبيل كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} 2، فهذان كما نرى معنيان لا معنى واحد، فليست الاحتمالات إلا أشكالا من المعاني متلبسة بأحوال الكلمات، واعلم أن فقه هذا هو الذي يعينك على فقه الأدب وتذوقه، ولما غاب هذا الباب الجليل عن المشتغلين بالشعر حسبوا أنه ليس لنا تراث في تحليل الشعر.
وقد ذكروا أن سر الحذف في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3، أي وأنتم تعلمون أنه لا يماثل، أو وأنتم تعلمون ما بينه، وبينها من التفاوت.
ويمكن أن يقال: إن الحذف في هذا يجري مجرى الحذف في بيت البحتري: يرى مبصر ويسمع واع، وكأن المراد -والله أعلم- فلا تجلعوا لله أندادا، وأنتم يقع منكم العلم وتتصفون به؛ لأن كون ممن يعلم كاف في معرفة أنه ليس له شبيه.
ومما جاء فيه حذف المفعلو مشيرًا إلى جملة فوائد قوله -تعالى-: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 4، والأصل وما قلاك، قال الخطيب: حذف المفعول لأجل الاختصار اللفظي لظهور المحذوف كما في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} 5، إذ الأصل والذاكرين الله كثيرا والذاكراته، وقال: إن
1 الحجرات: 1.
2 غافر: 68.
3 البقرة: 22.
4 الضحى: 1-3.
5 الأحزاب: 35.
الحذف يفيد مع الاختصار تحاشي أن يقع الفعل "قلى" على ضمير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في ذلك ما يوحش بخلاف ودعك، فليس التوديع كالقلى -وهذا مذكور في حواشي الإيضاح- وقالوا: إنه حذف لرعاية الفاصلة ولكن، وهذا القول قد رفضه كثير من البلاغيين؛ لأنه علة -كما يقولون- لفظية لا ينبغي أن تكون مقصدا في الأسلوب القرآني الذي بني على مراعاة المعاني لا الألفاظ، وهذا الذي قدمنا الإشارة إليه، وقد اقتنع به كثير من الدارسين، ومن بينهم دارسون محدثون.
والذي نعتقده أن القرآن حين يراعي الفاصلة، ويبقى على تنغيمها إنما يحفظ وسيلة من أقوى وسائله في التأثير؛ لأن رنين الكلمات وجرسها، وتوافق إيقاعاتها لغة تغلغل في النفس، والضمير وتسمو بالروح إلى آفاق قدسية، فتأخذها نشوة يحسها من يرتل هذه الآيات -كما قلنا في مثلها- ترتيلا يتهدج فيه صوته، ويتماوج مع ألحانها، ثم ينتهي إلى هذه الفواصل فيجد عندها القرار، وهذه اللغة التي نزل بها القرآن لغة دندنة، وترنم أحس أسلافنا هذه الفضيلة فيها، وقالوا: إنهم إذا فرغوا فإنهم يلحقون الألف والياء، والواو ما ينون وما لا ينون؛ لأنهم ارادوا مد الصوت.. ومد الصوت الذي يلحقون من أجله الألف في الفتح، والياء في الكسر، والواو في الضم، وسيلة من وسائل تهدئة النفس حين تمتلئ إحساسا بالفكرة، أو تختلج بألوان من الشعور، وكأنهم اتخذوا من كلمات هذه اللغة أوتارا، فكانت أشجى لحنًا، وأعذب نغما.
ومن فضول القول أن أقول: إن التموج في العبارة مظهر من مظاهر الامتلاء النفسي الدافق، يأتي هذا التموج في الأنغام حادا صاخبا إذا كان الحس الباطني من هذا النوع، ويأتي هادائا حالما إذا كان هذ الحس كذلك.
ومن الفضول أن أشير إلى الربط بين حال الأسلوب، وحال النفس في هذه الصفة؛ لأن الكلام الصادق ما هو إلا قطعة من النفس نأخذ شكل الكلام، وهذا
أمر يعرفه الأحداث المبتدئون في هذا الفن بل يهتدي إليه بفطرته من يسمع الشعر، والكلام من غير أن يجلس في مجالس العلماء.
ونجد أسلوب القرآن لا يبالي أحيانا بالمخالفة فيحفظ هذا النعم، وقد ذكروا من ذلك، إلحاق الألف في الظنونا في قوله تعالى:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 1، ومثله في قوله تعالى:{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} 2، وقوله:{وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} 3، وإلحاق هاء السكت في قوله:"ما هيه" في سورة القارعة قالوا: وقعد عدلت هذه الهاء مقاطع الفواصل في هذا السورة، وكان للحاقها في هذا الموضع أثر عظيم، والاعتراضات الواردة على هذا تقوم في زعمنا على إغفال الإدراك الدقيق الواعي لخصوصية الأساليب، التي يحرص القرآن فيها على هذا النغم، وربطاها بسياقها المعنوي، والشعوري، فهم يقولون مثلًا: إن الألف في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، ليست لتناسب الآي بدليل قوله في السورة نفسها:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 4، وهو مخالف لما جاء في قوله في السورة نفسها:{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} 5، ولو كان القرآن يحرص على توافق الفواصل لقال: وهو يهدي السبيلا، وهذا الاعتراض الذي زعمت أنه مبني على غفلة بمقتضيات السياق ظل يعمل -لأنه كما ترى في ظاهره قوى- في نفوس كثير من الدارسين، وقد قالت باحثة في بيان القرآن في قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 6، ترد القول الذي يعلل الحذف برعاية الفاصلة.
"أما تعليل الحذف برعاية الفاصلة، فليس من المقبول عندنا أن يقوم البيان القرآني على اعتبار لفظي، وإنما الحذف لمقتضى معنى بلاغي يقوي به الأداء اللفظي دون أن يكون الزخرف الشكلي هو الأصل، ولو كان البيان القرآني
1 الأحزاب: 1.
2، 5 الأحزاب:67.
3 الأحزاب: 66.
4 الأحزاب: 4.
6 الضحى: 3.
يتعلق بمثل هذا لما عدل عن رعاية الفاصلة في آخر سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 1، وليس في السورة كلها تاء فاصلة بل ليس فيها حرف التاء على الإطلاق، فلم يقل -تعالى- فخبر، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة، ومن يتعلقون به".
وهذا الاعتراض كما ترى جاء على نسق ما ذكرته مرويا عن الدارسين السابقين، ثم فيه غفلة شديدة عن رهافة السياق كما قلت، وبيان ذلك أننا حين نقول: أن القرآن يحرص على توافق التنغيم الصوتي، لا ندعي أن ذلك دائما، وإنما يحدث عندما يقتضيه السياق، ولذلك نراه واقعا في الآيات التي تصف أحداثا أو شعورًا، أو أفكارًا من نوع متوهج على اختلاف الدرجة في ذلك، ومن هنا يجيء قوله:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 2، أسلوبا رزينا هادئا هدوء الحق الراشد إلى الصراط المستقيم، أما قوله:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 3، فإنها جاءت في مواقف عنيف، كله حركة واضطراب، وانفعالات موارة بلغت فيها القلوب الحناجر، وكأن الموقف يكاد ينفجر لولا هذا الانطلاق، وهذا الامتداد في تلك الألف التي أفرغت من توتر الآيات قدرًا استوى به نسق الأسلوب، انظر إلى سياق الآية:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} 4، تأمل ترى القوم في طوقان من الهول لا يثبت فيه إلا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
أما قوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} 5، فإنها صيحة قوم تتقلب وجوههم
1الضحى: 9-11.
2 الأحزاب: 4.
3، 4 الأحزاب:10.
5 الأحزاب: 67.
في النار يقولون في حسرة لاهفة: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} 1، وهذا غني عن البيان بعد الذي ذكرناه.
أما لماذا جاء قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 2، وخالف نسق الفواصل فذلك لأمر تقتضيه "حساسية معنوية بالغة الدقة في اللطف والإيناس"! هي أن حديثه بنعمة ربه ينبغي أن يكون خافتا في نبرته، وفي الفرط بعد الفرط حتى لا يذهب به هذا الحديث مذاهب الغرور أو الرياء، ورسول الله، وإن كان معصوما من هذا، فإن أمته من ورائه في كل خطاب إلا ما كان مختصا به، وهذا ليس واحدا منها، أقول: إن الحديث بالنعمة جاء مخالفا لنسق الفواصل في السورة لتشير هذه المخالفة إلى أنه ليس على سجية السياق الدافق، والناهي نهيا وجدانيا متصلًا عن قهر اليتيم وقهر السائل، وإنما هو أمر بإذاعة النعمة مشروط بشروط ذكرها علماء الملة، وأساسها أن يكون مقصده بالحديث عن النعمة الشكر، وأن يقتدي به غيره، وأمن على نفسه الفتنة من الغرور والرياء، أما النهي عن قهر اليتيم، وقهر السائل فذانك من المعاني التي تستثار لها النفوس حتى تنفعل بها انفعال طاعة وانقياد.
والآية التي ذكرها الزمخشري، وقاس عليها جاء الحذف فيها للاختصار كما يقول: ولفضيلة أخرى هي المحافظة على التنغيم الصوتي الداخلي في سياق آياتها، اقرأ الآية كاملة تجد ذكر هذه الأصناف قد ورد فيها على نغم موسيقي يكاد يطرد في جميعها.
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
1 الأحزاب: 66، 67.
2 الضحى: 11.
وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1، ولو قال: والذاكرين الله كثيرا والذاكراته لكان فيه من المخالفة ما ترى.
ومن الواضح أن أسلافنا درسوا النغم، والألحان وآثارها النفسية، وفلسفتها البيانية، وبينوا كيف تعمل النغمات عملها في تحريك النفوس، وبعث العزائم نحو الأعمال الشاقة، وكيف تقوي عزماتها على ما تبذل فيه المهج، وذكروا الألحان المستحبة، وألحان الحروب، وذكروا مصاحبة الغناء للألحان، ورتلوا أناشيد الحروب المصحوبة بضرب الدفوف، وذكروا أن من الأوزان والإيقاعات ما يثير الأحقاد الكامنة، ويلهب نيران الغضب، ومن الأوزان والأنغام ما يسكن سورة الغضب، ويذهب بالأحقاد ويوقع الصلح، وقالوا: النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحن إليه القلب، وغير ذلك كثير مما يخصب النفس، ويعمق فهمها للأساليب.
وقد أقام القرآن أسلوبه على نظام من التآلف الصوتي العجيب لوحظ ذلك في حروفه، وكلماته، وجمله، وصارت أصواته كما يقول المرحوم الرافعي: ألحانا لغوية رائعة كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة قراءتها هو توقيعها.
والرماني ذكر التلاؤم في القرآن وجها من وجوه أعجازه، وهو مما نحن فيه.
والقول في هذا يطول وبسطه يحتاج إلى دراسات مستقلة، وحسبنا في سياقنا ما ذكرناه من أنه لا ضير على بلاغة القرآن من القول بأن الحذف هنا لمراعاة فواصل الآيات، مع إفادته ما يمكن أن يفيده في سياقه من أغراض أخرى.
1 الأحزاب: 35.