الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسلوب الحكيم:
عرفه البلاغيون بقولهم: "هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، بحمل كلامه إلى خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله، أو المهم له".
وهذا التعريف يبين لنا أن أسلوب الحكيم ضربان من ضروب التعبير.
الأول: حمل كلام المخاطب على معنى غير المعنى الذي يقصده، وفيه شيء من المفاجأة، وفيه أيضا شيء من الحكمة، والتنبيه اللطيف على أن الأولى بمثل المخاطب أن يكون هذا المعنى مراده لا ما ذكره، ومثاله ما قدمناه من قول الحجاج لابن القبعثري: لأحملنك على الأدهم، فقال له: مثل الأمير حيمل على الأدهم والأشهب، أراد الحجاج: لأحملنك على القيد أي لأعذبنك، فالأدهم في كلامه مراد به القيد، ثم إن ابن القبعثري وجه لفظ الأدهم إلى معنى آخر هو الفرس الأدهم أي الذي فيه سواد، وكأنه يقول للحجاج من طرف خفي: الأولى بمثلك وهو في هذا السلطان، وهذه الهيئة أن يهب الخيول الدهم لا أن يقيد ويعذب، فإن الانتقام خلق الضعفاء، أما العطاء فهو خلق ذوي السلطان، قالوا: قال له الحجاج: إنه الحديد أي أنا أقصد بالأدهم القيد الحديد، فقال له ابن القبعثري: لأن يكون حديدًا خير من أن يكون بليدا، أي: لأن يكون الفرس ذا حدة وقوة، ونشاط خير من أن يكون بليدا فاترًا.
وعبد القاهر يسمى هذا الأسلوب المغالطة، وهو جدير بهذه التسمية، وإن كانت مغالطة أدبية طريفة.
النوع الثاني: أي جواب السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره
تنبيها على أنه الأولى بحاله، فمثاله قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1، سألوه عن الأهلة: وقالوا: ما بال الهلال يبدو في أول أيامه دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا؟ أي سألوه عن السبب الطبيعي والعلة العلمية لتغيير منازل القمر، فأجاب القرآن ببيان فائدة تغيير منازل القمر، فقال:{هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ؛ لأن مثل حالهم لا يعنيهم من تغيير منازل القمر إلا ما ينتفعون به، أما المعرفة العلمية، فإن القرآن الكريم لم يفسر مظاهر الكون تفسيرا علميا كاشفا، وإنما ترك هذه الجهود للبشر، ومعاناتهم العلمية بعد ما هداهم إلى التفكير، وأوجب عليهم النظر في ملكوت الله، ومثل هذا الأسلوب قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2، سألوا وقالوا: ماذا تنفق أي مال، وأي نوع من العطاء نعطي؟ فصرفهم عن هذا، وقال:{مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، ويبين لهم الجهات التي ينفقون فيها أموالهم، وأشار بذلك إلى أنه ليس المهم في الإنفاق هو ما ينفق، وإنما المهم أن يصرف في جهات شعرية، وأن يقع موقعه من البر والنفع.
1 البقرة: 189.
2 البقرة: 215.