الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول:
الفصاحة والبلاغة:
الفصاحة والبلاغة:
لحظ بعض الدارسين من المتقدمين أن الفصاحة والبلاغة، وإن اختلفت دلالتهما اللغوية، فإنهما يلتقيان في الإبانة عن المعنى وإظهاره، فجعلوهما في الإصلاح شيئا واحدا، وقد جرى على ذلك كثير، منهم عبد القاهر.
ولحظ آخرون أن اختلاف المدلول اللغوي يتبعه اختلاف في المدلول الاصطلاحي، ولما كانت البلاغة من البلوغ كان الأولى أن تكون وصفا للمعنى، وأن يراد بها إنهاء المعنى إلى القلب، ولما كانت الفصاحة من الظهور كان الأولى أن تكون وصفا للفظ، فجعلوا المراد بها تمام آلة البيان.
وقد اختار المتأخرون هذا الرأي، والمسألة عندنا لا تحتاج إلى احتفال، ومناقشة كما فعل باحثها في دائرة المعارف؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح، وخاصة إذا كان لا يترتب عليه أمر ذو بال.
قالوا: الفصاحة تقع وصفا للكلمة، وللكلام وللمتكلم.
أما فصاحة الكلمة، فهي أن تكون لينة سهلة النطق تتجاور أصواتها تجاورا لينا هادئا ملسا، وأن تكون مألوفة جرت على الألنسة، ورنت أصداؤها في محافل الشعر والأدب، وأن تكون واردة على قواعد تصريف الكلمات، وهذا معنى قولهم:"أما فصاحة المفرد فهي خلوصه من تنافر الحروف والغرابة، ومخالفة القياس الصرفي".
فإذا تنافرت حروف لكلمة كان ذلك معيبا، ومخلًّا بفصاحتها، وذلك مثل كلمة الهعخع، وقد ذكروا أنه اسم شجر، ولم أجده في لسان العرب، ولا في
تاج العروس ولا في القاموس، وأظن أنه ليس اسم شجر؛ لأن أسماء الشجر تكون في الغالب كلمات دوارة، وهذه كلمة ثقيلة لا يستطاب دورانها على الألسنة، إلا أن يكون شجرا كريها مرا، لا يطاق طعمه، كأنه هذه الكلمة التي لا يطاق النطق بها، والتي تحكي صوت المتقيئ، ولم لا يكون لفظا مخترعا للثقل، وأنه لا معنى له؟ وهم يخترعون كلمات للمعاياة، قال ابن الشميل في كلمة عهخع نقلا عن أبي الدقيش: أنها معياة ولا أصل لها.
وأبرز سبب يذكر لتنافر الحروف هو قرب مخارجها، أي أن تكون حروف الكلمة المتتابعة تخرج من مخارج قريبة جدا، وهذا -كما قالوا- يشبه مشي المقيد، أي أن أعضاء النطق بعد الفراغ من إخراج الصوت يضطرها الحروف الثاني إلى أن تعود إلى مخرج قريب جدا من الأول، وكان يسهل عليها أن تنتقل إلى مخرج أبعد، كأن تثب من الحق إلى اللسان مثلا، والمقيد ينقل قدمه ليضعها بعيد، ثم يثقله القيد فيضطر إلى أن يعود إلى موضع قريب جدا، والعرب يكرهون هذا، وقد بنيت لغتهم على الخفة، ولذلك تراهم يعمدون إلى إدغام الحرفين المتماثلين، والمتقاربين مثل شد وأصله شدد ومثل اضطر فإنها، وإن كتبت ضدا وطاء، فالنطق يجمعهما في صوت واحد مدغم، فإذا فصل بين الحرفين المتقاربين حرف زال الثقل، فالعرب لا يعرفون كلمة هخ بكسر الهاء وسكون الخاء، وهو حكاية صوت المتنخم أي الذي يدفع النخام من صدره، أو أنفه، وذلك لثقلها بقرب الهاء والخاء، فلما وقعت الياء بينهما، وفصل بين المخرجين تصرفت الكلمة وجرت على لسانهم، فقالوا: هيخ الإبل أي أناخها، والتهيخ إناخة الإبل، أو دعاء الفحل للضراب.
وقد ذكر البلاغيون في مثال تنافر الحروف كلمة مستشزرات أي مرتفعات في قول امرئ القيس: "من الطويل".
وفرع يغشى المتن أسود فاحم
…
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
…
تضل المداري في مثنى ومرسل
الغدائر: ذوائب الشعر، والمداري الأمشاط مفردها مدرى بكسر فسكون، والمثنى المفتول، والمرسل غير المفتول، يقول: إن خصل شعرها مرتفعات، وأن أمشاطها تغيب بين الشعر المفتول، والشعر المرسل.
قال البلاغيون: إن كلمة مستشرزات كلمة غير فصيحة؛ لأنها تنفرت حروفها والتنافر هنا ليس راجعا إلى قرب المخرج، وإنما هو تنافر يحسه السمع، وتكرهه الأذن، والأذن عند البلاغيين قاض في النغم نافذ القضاء، ولذلك ترى بعضهم يضيف إلى الأصول التي ذكرناها في فصاحة الكلمة أن تكون خالية من كراهة السمع أي أن تحظى موسيقاها عند الأذن بالقبول، ومن هنا ردوا كلمة الجرشى بكسر الجيم، وتشديد الشين بمعنى النفس في بيت المتنبي يمدح سيف الدولة:"من المتقارب".
مبارك الاسم أغر اللقب
…
كريم الجرشى شريف النسب
ويرى بعض الدارسين أن في صوت كلمة مستشزرات حكاية دقيقة لمعناها أي أن التفشي الذي تلحظه في صوت الشين، وانتشار الهواء وامتلاء الفم به حين النطق، يشبه إلى حد كبير انتشار الشعر، وتشعيثه، وذهابه إلى هناك وهناك، وعندنا أن بطء الكلمة، وثقلها على اللسان يذهب بهذه المزية فيها من حيث إنه يتعارض مع خفة معناها؛ لأنها تصف شعر جميلا خفيفا هفهافا يرتفع إلى العلا، وينبغي أن يلاحظ أن استعمال هذا المقياس يحتاج إلى وعي وذوق؛ لأن هناك كلمات ثقيلة على اللسان، ولكن ثقلها من أهم مظاهر فصاحتها من حيث إن هذا الثقل يصور معناها بحق، انظر كلمة اثاقلتم في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} 1 تجد فيها قدرا من الثقل الفصيح؛ لأنه يصف تقاعسهم وتثاقلهم،
1 التوبة: 38.
وخلودهم إلى الأرض، واستشعارهم مشقة الجهاد، وعزوف أرواحهم عنه، وقد دعوا إليه في عام العسرة، فكان منهم ما وصفت الآية، ولذلك جاء التهديد البالغ ليواجه تخاذل أرواحهم، فقال سبحانه:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} 1.
وخذ قوله تعالى يحكي مقالة سيدنا نوح عليه السلام لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} 2، وتأمل كلمة أنلزمكموها، وما فيها من صعوبة في النطق تحكي صعوبة الإلزام بالإيات وهم لها كارهون، وانظر كلمة فعميت وما فيها من الإدغام، والتشديد وكيف تصفان معنى التعمية والإلباس.
ولهذا لا أجد في كلمة أطلخم في بيت أبي تمام:
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت
…
عشواء تالية غبسا دهاريسا
مخالفة للفصيح؛ لأن ثقلها وتداخل حروفها يحكيان الشدة، والاختلاط حين ينبهم الأمر، وتنبعث النوائب العشواء، واطلخم الأمر: اشتد وأظلم، والعشواء، داهية يعشى بها، والغبيس: الدواهي السود، والدهاريس: الدواهي.
والكلمة الواصفة في بيتي امرئ القيس هي كلمة أثيث، ولو جهدت في طلب كلمة صف الشعر الكثيف المسترسل الذي يغشى متن الحسناء لما وجدت، وأوصف من كلمة أثيث، وصوت الثناء المؤذن بتخلل الهواء من بين طرف اللسان والثانيا العليا، وتكرر هذا الصوت يصف معناه بحق.
أما الغرابة فهي أن تكون الكلمة وحشية أي لا يظهر معناها، فتحتاج في معرفتها إلى أن تنظر في كتب اللغة الواسعة، والذوق العربي لا يجب
1 التوبة: 39.
2 هود: 28.
الإغراب في الكلمات، ويكره التباصر بالغريب والتشادق به، ويجعلونه دليل قساوة الطبع، وتشيع في كلامهم هذه المعاني كما في قولهم: الاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، وقولهم: البليغ من يجتني من الألفاظ نوارها، ويصف البحتري بلاغة ابن الزيات:"من الخفيف"
ومعان لو فصلتها القوافي
…
هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارًا
…
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركـ
…
ـن غاية المراد البعيد
انظر قوله: حزن مستعمل الكلام، وقوله: وركبن اللفظ القريب، ثم أن هذه البلاغة التي تصطنع الألفاظ المستعملة القريبة، تفضل شعر جرول ولبيد، وقد ناقش هذا الأصل بعض الدارسين ورفضواه، وذكروا أن الغرابة لا تخل بفصاحة الكلام، واستشهدوا بغريب الحديث وغريب القرآن، وليس هذا عندنا هو الوجه؛ لأن الغرابة التي ينبو عنها حسن البيان ليست هي التي تجدها في كلمة "ضيزى" في قوله تعالى:{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1، كما أنها ليست الغرابة التي تجدها في بيان النبي عليه الصلاة، والسلام حين يخاطب الأقوام البادين؛ لأن سيقاات حديثه الشريف، ومقاماته تقتدي مثل هذه الألفاظ التي لم تكن وحشية نافرة في مسامع المخاطبين، بل إنها كانت دوارة على ألسنتهم، وقد أكثر بشار من الغريب في القصيدة التي أحدثها في سلم ابن قتيبة، فلما سأله أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر عن ذلك قال: بلغني أن سلما يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف، فهل أحب بشار أن يسقط فصاحته بين يدي سلم بن قتيبة؟ وهل يسقط البلاغيون غريب بشار؟ وقد رأيت أبا تمام مع قرب ألفاظه يورد الغريب في بعض قصائده لمقتضيات بلاغية كالذي فعله في قصيدته التي يمدح بها عياش ابن لهيعة الحضرمي ومنها:
1 النجم: 22.
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت
…
شعواء تالية غبسا دهاريسا
وقد جاء فيها:
أهيس أليس لجاء إلى همم
…
تفرق الأسد في آذيها الليسا
والأليس: الشجاع، والليس: جمع أليس، والأهيس: الشديد الوطء ومنها:
مقابل في بني الأذواء منصبه
…
عيصا فعيصا وقدموسا فقدموسا
والمقابل بفتح الباء: الكريم الأجداد من جهة أبيه ومن جهة أمه، وكأنه قوبل بينهما، والعيص: الشجر الملتف، وقد نقل إلى النسب، والقدموس: القديم والأذواء جمع القوم الذين يقول لهم ذو جدن، وذور رعين، وذو يزن، وهم أشراف اليمن وملوكها.
ومنها:
رموك قنعاس دهر حين يحزبه
…
أمر يشاركه آباء قنا عيسا
والقنعاس: الجمل الشديد ثم نقل إلى الممدوح، ومنها:
وقدموا منك إن هم خاطبوا ذربا
…
ورادسوا حضرمي الصخر رديسا
والذرابة الحدة، وقلما يقولون: رجل ذرب حتى يقولوا: ذرب اللسان، وأصل المرادسة الترامي بالصخر، يقال: ردست الصخرة بمثلها إذا رميتها، والمراديس صخرة تقذف في البئر ليعلم أفيها ماء لم لا؟ والحضارمة أهل غريب، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العلاء الحضرمي من كتب الغريب.
وهذه القصيدة من جديد شعر أبي تمام، وهذه الأبيات التي جاء فيها الغريب من خيارها، وقد جاء منها:
لله أفعال عياش وشيمته
…
يزدنه كراما إن ساس أو سيسا
يحرسن بالبذل عرضا ما يزال
…
من الآفات بالنفحات محروسا
ومنها:
فرع سما في العز متخذا
…
أصلا ثوى في قرار المجد مغروسا
الغرابة التي تخل بفصاحة الكلام هي ما تقدم مثاله من كلمة الطرموق بدل الطين، والاستمصال بدل الإسهال، والاطرغشاش والإبرغشاش بدل الشفاء، وهذه هي الغرابة المخلة بالفصاحة عند البلاغيين، وقد ذكروا أمثالها في قصة طريفة تروى عن علقمة النحوي قالو: إنه سقط عن حماره، فاجتمع عليه الناس فقال: ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا، وأظن أن علي بن عيسى -كان حسن التخلص جيد المداعبة- إنما اصطنع هذه الألفاظ ليشغل بها الذين أحاطوا به، وليصرفهم بهذه الدعابة.
وكان البلاغيون أعقل من أن يضعوا أصلا، للفصاحة يخرجون به آيات من القرآن، وجملة صالحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر شعر طرفة ولبيد وامرئ القيس، والنابغة وزهير وشعراء الطبقات كلهم حين يصفون الناقة، والذي تعفق بالأرطى، والغضف وإقعاصها، وما شبه ذلك مما ترى فيه الشعر يوغل في البداوة، حين يلتقي بنوافرها، ويصف غرائبه، وأقول: البلاغيون كانوا أدق من أن يقعوا في مثل هذه الكبيرة، ولو تأمل المعترضون عبارتهم لأدركوا ذلك؛ لأنهم يقولون في تحديد الغرابة: أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقر عنه في كتب اللغة المبسوطة، فأشاروا إلى الموسوعات اللغوية الكبرى التي لا نظن أن القاموس، والأساس واحد منها، ثم إنهم قالوا: ينفر عنها أي: يجتهد في استخراجها من هذه المطولات؛ لأنها مدفونة في أضابيرها، هم يريدون الكلمات التي توشك أن يميتها الزمن، وأن يبتلعها التاريخ، والتي يمكن أن ينتفع بها الباحث في الأصول السامة لإيغالها في القدم، وشبهها بكلمات النقوش أكثر مما ينتفع بها الأدباء وأهل الفصيح، هم يقصدون زرجون، واسفنط وخندريس بدل الخمر، وهرماس وفدوكس بدل الأسد.
وما كانت أريد أن أنبه إلى هذا القول لولا أني رأيت كل من يطن له طن يفتح له باب الاعتراض على أصول العلوم التي قررها العلماء، تخيل هذا الطن علما، وكتبه في مؤلف، وقرأه طلاب العلم المساكين، وحسبوه من العلم الشريف.
أما فصاحة الكلام فهي -كما قالوا- خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد اللفظي والمعنوي.
ويراد بخلوصه من ضعف التأليف أن تكون جملة جارية علة طريقة العرب، وموافقة لقواعد النحو، فالفاعل مرفوع والمفعول منصوب وغير ذلك، فإذا اختلت هذه القواعد، أو بني الكلام على الوجوه المضعوفة لم يكن الكلام فصيحا.
وأما تنافر الكلمات فإنه يراد به ألا تتكرر كلمات ذات جرس صوتي واحد، أو متقارب جدا، فإن ذلك يثقل على اللسان ولا تهش له الآذان، والعلم في ذلك قول الشاعر:"من الرجز".
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
فإن كلمات حرب وقبر وقرب ليست كلمات ثقيلة، وإنما ثقلها كان لما تجاورت وتنافرت.
وأما التعقيد فإنه يراد به أن تكون الكلمات واقعة على صورة من التراكيب يغمض معها المعنى، ويلتوي فيها القصد، فلا يدرك إلا بعد جهد طويل، والعرب لا يحبون الالتواء، وينفرون من الغموض الملبس، وإن كانوا يميلون في الكلام إلى الدقة واللطافة، ويحبون نوعا من التمنع الشفاف أحيانا، ومن كلامهم: خير الكلام ما كان معناه في قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك.
فالشاعر الذي أراد أن يقول: إن ممدوحه قد بلغ من الفضائل مبلغا لم يلحقه فيه أحد من الأحياء إلا حي واحد له صلة بهذا الممدوح، فهو ابن أخته وهو ملك أيضا، هذا المعنى يصوغه الفرزدق في بيت معقد صار عندهم مثلا
في اضطراب تركيب الكلمات، قال يمدح إبراهيم المخزومي، وهو خال هشام بن عبد الملك:"من الطويل".
وما مثله في الناس إلا مملكا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
وأصل العبارة: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، فتعسف في التركيب، والتوى في التعبير، وقدم وأخر، وأجهدنا في فهم هذا المعنى الذي لا يساوي شيئا، وأحسب أن الفرزدق وهو شاعر فحل يعرف طبائع اللغة، وعوائد التراكيب إنما فعل ذلك تهكما بالمدح والممدوح، وولاء الفرزدق للعلويين، وعداؤه لبني أمية والممدوح منهم يغير بهذا الظن، وقد جرت عادة الشعراء على تثقيف الشعر، وصقله في خطاب الملوك ومن في طبقتهم.
وهذا الضرب يسميه البلاغيون التعقيد اللفظي، وهو يقابل التعقيد المعنوي الذي يراد هو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني هو المعنى المراد، ومن الضروري أن تكون العلاقة بين الصورة، والمراد منها علاقة بينة مكشوفة، فإذا قلت: فلان كثير الرماد انتقل الذهن إلى معنى الكرم بسرعة، وكذلك إذا قلت: فلانة نئومة الضحى انتقل الذهن إلى معنى الرفاهية، وهكذا لم يتوقف الإدراك عند الدلالة المباشرة، ولكنه يثب منها إلى المراد، فإذا سمع من يألف اللغة قول ذي الرمة:"وساق الثريا في ملاءته الفجر" فهم منه انبساط ضوء الصبح، وإذا سمع قول الغنوي في ناقته: يقتات شحم سنامها الرحل، فهم منه كثرة الأسفار، وإذا سمع قول البحتري ليعقوب بن أحمد: تجرح أقوال الوشاة فريصتي، فهم منه أنه أوذي بقالة السوء، أو قوله:"من الطويل":
ولما نبت بي الأرض عدت إليكم
…
أمت بحبل الود وهو رمام
لم يفهم من: نبت بي الأرض إلا معنى القلق والاضطراب، ولم يفهم من حبل الود الرمام إلا صداقة قديمة يعول عليها.
وهكذا لم يقف عند الدلالة الصريحة القريبة، أو النصيبة كملاءة الفجر التي
يسوق فيها الثريا، أو الرحل الذي يقتات من شحم السنام، أو الأقوال التي تجرح لحمة الكتف، وإنما يقع خاطر بسرعة على المراد، وذلك؛ لأن المسافة بين المعنى النصي، والمعنى المجازي مسافة وضيئة يسلك العقل فيها سبيلا مسيرا، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك، فيقع الشاعر في تعقيد، والتواء حين يستخدم صورة لمعنى غير واضحة الدلالة عليه، مثال ذلك أنهم استعملوا جمود العين للدلالة على بخلها بالدموع عند إرادة البكاء، فلما استعملها الشاعر في الدلالة على ذهاب الحزن، وقرار العين وسرور النفس كان ذلك تعقيدا؛ لأن الذهن لا ينتقل من جمود العين إلى معنى السرور، وإنما ينتقل من جمود العين إلى معنى الضيق، والامتلاء بالحزن وهذا هو سبب عيبهم لقول العباس بن الأحنف:"من الطويل":
سأطلب عد الدار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
أراد أن يقول: سأطلب فراقكم لأنعم بقربكم، وسأبكي عليكم لأنعم بلقائكم ولتقر عيني بهذا اللقاء، بجعل قوله:"لتجمدا" كناية عن قرار النفس باللقاء والسرور، وهذا لم تألفه طرائق التعبير؛ لأن الجمود -كما قلنا- معناه البخل عند الحاجة، قالوا: ناقة جماد أي لا لبن فيها، وسنة جماد أي لا خير فيها، وكذلك العين الجمود، قال ابن يسار:"من الطويل":
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط
…
عليك بجاري دمعها لجمود
فالجمود إذن لا يشير إلى السرور، ولا يحمل إلى النفس شيئًا في معنى الغبطة باللقاء، ولهذا كان ظله في البيت ظلا وخيما، وطريقه إلى المعنى طريقا كدرًا.
أما فصاحة المتكلم فهي: تلك الموهبة التي يستطيع بها المتكلم أن يعبر تعبيرا صادقا قويا عن أفكاره، وأغراضه ومشاعره، وهذه الموهبة تكتسب بكثرة المران والدرابة، والمعايشة للأساليب الممتازة، وحفظ كثير من الشعر والنثر حفظا واعيا يستوعب معانيه، ويستغرق في آماده، ويذهب في أوديته، وهذا الوعي، وهذا الاستغراق هو الوسيلة لتربية النفس التي تشعر شعورًا صحيحًا
وصادقًا، وتتتامل تأملا مستبطنا، وتتلقى الأشياء والتجارب، والأحداث تلقيا واعيا، فإذا وصفت ما تجد جاء وصفها قويا واضحا.
أما البلاغة فإنها لا تأتي وصفا للمفرد، فلا يقال: كلمة بليغة إذا أريد بالكلمة لفظ مفرد، وإنما يقال: كلمة بلغية إذا أريد بالكلمة القصيدة أو الخطبة، ويصح أن نطلق الكلمة على القصيدة، فنقول: كلمة الحويدرة، أو كلمة زهير.
وتقع البلاغة وصفا للكلام والمتكلم، فبلاغة الكلام أن يكون مطابقا لمقتضى الحال مع فصاحته، أي أن يكون التعبير فيه خصائص في الصياغة، وأوضاع في التراكيب، تدل هذه الخصائص وهذه الأوضاع على معان يكون بها الكلام وافيا، ومطابقا لما يتطلبه الموقف الداعي.
فحين يكون المقام داعيا الى التنويه برجل تتحدث عنه، أي حين تنفعل نفسك بمآثره وأخلاقه تقول: هو الرجل، فتذكره معرفا بهذه الأداة التي تكسبه في سياق العناية به وصف الرجولة الصادقة والكاملة، وكأنك توهم أن الرجولة بكل أوصافها، تتحقق فيه ويشتهر بها، حينئذ نقول: إن التعريف جاء مطابقا لمقتضى الحال أي مقتضى المقام: لأن المقام يتطلب التنويه، والإشادة لما هتفت دواعي النفس بذلك، فوقع الكلام وفيه خصوصية تعين على إفادة هذا المعنى، ومثل ذلك أنك تجد الطريق، وقد ملأه الناس سائرين فيه، فيقع في نفسك أن هذا الطريق كأنه هو الذي يسير، فلا تقول: سار الناس في الطريق، وإنما تقول: سار بهم الطريق، والتعبير الثاني أكثر ملاءمة لحالة نفسك التي أحست، أو خيل إليها أن الطريق سير، لا أريد لك أن تكذب في التعبير، وأن تدعي أنك تحس هذا، وإنما أقول لك: إنك حين تحس أن الطريق يمور، ويتحرك يكون قولك: سار بهم الطريق، مطابقا لما يتطلبه حال النفس الداعي إلى الوصف الصادق، وإذا قلت: سار الناس في الطريق، لا تكون العبارة مستوفية لإحساسك بكثرة السير حتى كأن كل بقعة في الطريقة عليها إنسان يسير، والعبارة إذن ليست مطابقة لمقتضى الحال، وعكس هذا إذا كنت
لم تحس هذا الإحساس، وإنما رأيت ناسًا يسيرون، ولم يقع في نفسك شيء وراء ذلك يكون من الكذب في الوصف أن تقول: سار بهم الطريق؛ لأن الطريق لم يسر بهم، أو؛ لأن نفسك لم تحسب سير الطريق بهم، والتعبير الملائم أن تقول: سار الناس في الطريق، تصف وصفا تقريريا لا عاطفة فيه؛ لأن الذي رأيته ليس
له بعد وراء هذا، والذي أريد أن أقرره أن المطابقة تعني أولا المطابقة لحال النفس والشعور، ولذلك يكون التهويل، والكذب على النفس مخالفا للمطابقة، وخارجا عن حد البلاغة، المطابقة إذن تعني الصدق، والوفاء بما في النفس، أو كما قال العلوي:"أن تصل عبارتك كنه ما في قلبك".
والحال عند البلاغيين هو الأمر الذي يدعو المتكلم إلى أن يعتبر في كلامه خصوصية ما، أي هو ذلك الداعي الذي يهتف بالفطرة الصادقة إلى أن تجري صياغة العبارة على طريق دون آخر، فالخنساء لما استعر في ضميرها الحزن الكارب على موت صخر قالت:"من البسيط":
فما عجول لدى بو تطيف به
…
لها حنينان إعلان وإسرار
أودى به الدهر يوما فهي مرزمة
…
قد ساعدتها على التحنان أظآر
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني يوم فارقني
…
صخر وللعيش إحلاء وإمرار
السليقة البيانية ألهمت الخنساء هذه الخصوصيات في أداء تجربتها الحزينة، فأسكبت حزنها على هذه الصورة الماثلة في الناقة التي فقدت ولدها، ثم خدعت فصنع لها ولد من جلد، فأخذت تطوف حوله في حنين دافق يعلو ويهبط، وهناك نوقف يحاوبنها التحنان، فيشجيها ذلك الترجيع فتحمي وتندفع، إذا غفلت هذه الناقة قليلًا رعت، فإذا ما تذكرت حركها الحزن حركة طائفة، فتصير لفرط هذه الحركة كأنها الإقبال والإدبار.
علم تقل الخنساء فهي مقبلة مدبرة؛ لأنها أرادت التوكيد وبيان فرط الحركة،
ودعاها المقام إلى هذه الصورة، كما دعاها إلى هذه الخصائص، فأخبرت عنها بالإقبال، والإدبار لتصف إحساسها بالناقة، وأنها صارت إقبالا وإدبارًا، وكذلك قالت:"إنما هي إقبال وإدبار"، ولم تقل: فما هي إلا إقبال وإدبار لتومئ إلى أن صيرورتها إقبالا، وإدبارا عندها أمر واضح لا إنكار فيه، وتنكير يوما في قولها:"أودى به الدهر يومًا"؛ لأنها أرادت يوما حزينا مليئا بالهم والغم، فهو نوع خاص من أنواع الأيام ينكره حسها.
إذن الحال، أعني المعاناة التي عانتها الخنساء، هو الذي ألهمها هذه الخصائص التي صاغت فيها معاناتها لتكون تلك الصياغة وافية مطابقة.
والحال، في الأمثلة السابقة، هو الذي دعاك إلى التعريف في الرجل، وأن تقول: هو الرجل بدل هو رجل، وهو الذي دعاك إلى أن تقول: سار بهم الطريق بدل ساروا في الطريق، أما مقتضى الحال، فهو الأمر العام الذي يقتضيه الحال كالتعريف، والتنكير أو التقديم أو التجوز في النسبة، أو الحذف أو التشبيه أو غير ذلك من الأحوال المختلفة التي يرد عليها التعبير.... ومطابقة هذا لمقتضى الحال هو ما ترد عليه العبارة كالتعريف الوارد في قولك: هو الرجل، والتنيكر في قولها: يوما، والتجوز في قولها هي إقبال أي هو واحد من آحاد التعريف جاء عليه الكلام، أو واحد من آحاد التنكير إلى آخره، وهذه فروق دقيقة.
قال الخطيب: "ومقتضى الحال مختلف فإن مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذلك خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام".
والكلام الذي تتوفر فيه الخصائص المشيرة إلى ألوان المعاني هو الكلام الجيد الممتاز، وترتفع منزلته وتنخفض تبعا لهذه الحالة، فكلما كان الكلام بخصائص تراكيبه أكثر شمولا، واستيعابا للفكر والشعور كان أعلى، وواضح
أن كثرة الخصوصيات التي هي من عوامل ارتفاع شأن الكلام، والحكم عليه بالجودة هي الخصوصيات التي وراءها رصيد من الأفكار، والمعاني كما بينا.
أما بلاغة المتكلم فهي مقدرته، أو موهبته التي يستطيع بها أن يعبر تعبيرًا بليغًا، أي يبلغ مواطن الحس، والشعور من النفس المتلقية.
وقد تقسمت مباحث البلاغت في ثلاثة أقسام أو ثلاثة علوم، فهناك بحوث تعنى بالصياغة وأحواله، وموقع الكلمة المفردة، فتبحث التعريف والتنكير والتقديم والتأخير، والحذف والذكر والقصر والفصل، والوصل وغير ذلك مما له صلة بأحوال التراكيب، وهذه البحوث سماها البلاغيون علم المعاني.
وهناك بحوث تعنى بدراسة التصوير البياني الذي يستعين به الأديب على البوح بما في نفسه، وإبرازه مثل التشبيه والمجاز والكناية، وهذه البحوث يسميها البلاغيون علم البيان.
وهناك بحوث تعنى بما في النص من ألوان التحسين، ووجوه الصقل والتثقيف، فإن العرب يحبون أن تكون كلماتهم حلوة، تتفتح لها النفوس، وتستجيب لها القلوب، والضمائر وذلك لحرصهم على أفكارهم، ومعانيهم وخواطرهم، فالعناية باللفظ عندهم فرع العناية بالمعنى، يقول ابن جني:"فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، ونقحوا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غريبها وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذا ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها، وتشريف لها"، والبحثو التي تعنى بألوان التزيين والتحسين، كالسجع والجناس والطباق، والمقابلة بحوث سماها البلاغيون علم البديع.
فعلوم البلاغة ثلاث هي: المعاني، والبيان، والبديع.
وهناك مناقشات حول صواب هذا التقسيم وخطئه، وكذلك حول منشئه في تاريخ البلاغة، شغل بهذا كثير من المعاصرين، ولا نريد الخوض فيه؛ لأنه ليس مهما في سياقنا هذا.