المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ذكر المسند: قال البلاغيون: إن المسند يذكر في الكلام لكون ذكره - خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

[محمد محمد أبو موسى]

الفصل: ‌ ‌ذكر المسند: قال البلاغيون: إن المسند يذكر في الكلام لكون ذكره

‌ذكر المسند:

قال البلاغيون: إن المسند يذكر في الكلام لكون ذكره هوالأصل، وليس في الكلام ما يقتضي العدول عنه، وذلك كقولك ابتداء: زيد صالح فتذكر المسند؛ لأنه ليس في الكلام ما يدعو إلى حذفه، وملاحظة مقتضى المقام هنا هي المزية البلاغية.

قالوا: ويذكر للاحتياط لضعف التعويل على القرينة، أي أن في الكلام قرينة تدل على المذحوف لو حذف، إلا أنه ليس لها من القوة، والإيضاح ما يلهم السامع المعنى، ويضعه من أول الأمر بين عينيه، وذلك كقولك لمن سأل: من أكرم العرب وأشجعهم في الجاهلية؟ تقول في جوابه: عنترة أشجع العرب وحاتم أجودهم، فتذكر أشجع وأجود خشية أن يلتبس على السامع إذا قلت: عنترة وحاتم من غير أن تعين صفة كل واحد منهم، فلا يدري أيهم الأشجع والأجود، وقد ذكر العلامة سعد الدين مثالًا لهذا الغرض، وهو قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1، حيث ذكر المسند في قوله:{خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} مع دلالة السؤال عليه احتياطا لضعف التعويل على القرينة.

ورد هذا بالآية الأخرى التي قال فيها: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ} 2؛ لأن السؤال هنا مثل السؤال هناك، والمسئول هنا هو المسئول هناك، فكيف يضعف التعويل على القرينة في أحدهما دون الآخر، والأولى أن يكون ذكر المسند هنا لزيادة التقرير والإيضاح، وسوف نتحدث عن هذا الغرض إن شاء الله.

1 الزخرف: 9.

2 العنكبوت: 61.

ص: 289

وقد يذكر للعريض بغباوة السامع كقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 1، وذلك في جواب قولهم:{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} 2، فلو قال: بل هذا، لكان المسند مفهوما لدلالة السؤال الصريح عليه إلا أنه عليه السلام عدل عن الحذف؛ لأن في الحذف تعويلًا على ذكاء المخاطب وتنويها بفهمه، ألا ترى أن المولى عز وجل إذا خاطب العرب، والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا -هكذا قال أبو هلال- ومثله قولك: محمد نبينا، في جواب من قال: من نبيكم؟ فتذكر المسند ولو حذفته لدل عليه السؤال دلالة واضحة، ولكنك ذكرته تعريضا بالسامع، فإنه لو كان له فهم لم يسأل عن نبينا؛ لأنه أظهر من أن يتوهم خفاؤه، فيجاب بذكر أجزاء الجملة إعلاما بأن مثله لا يكفي معه إلا التنصيص لعدم فهمه بالقرائن الواضحة.

وقد يذكر ليتعين بالذكر كونه فعلا، فيفيد التجديد والحدوث؛ لأن الفعل في أصل وضعه يدل على التجدد والحدوث، أو ليعين كونه أصما، فيفيد الثبوت والدوام، تقول: زيد منطلق وعمرو ينطلق، فلو حذفت المسند الثاني وقلت: زيد منطلق وعمرو لفهم انطلاق عمرو من الكلام الأول، ولكنك آثرت ذكر المنسد لتدل بصيغة الفعل على أنه يتجدد منه شيئا فشيئا، فهو ينطلق انطلاقا عقب انطلاق، وتقول: زيد ينطلق وعمرو منطلق، فتذكر المسند فيهما، ولو حذفت الثاني لفهم من الكلاما لسابق انطلاق عمرو فقط، ولم يفهم منه الاستمرار، فأردت أن تنص على استمرار انطلاق عمرو، فذكرت المسند. وسوف نزيد القول في ذلك بيانا في موضع آخر.

وقد يذكر المسند لزيادة تقرير الكلام، وتثبيت معناه وتوضيحه حين يتعلق

1 الأنبياء: 63.

2 الأنبياء: 62.

ص: 290

الغرض بهذا، ومثال ذلك قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 1، فإن المسند لو حذف لدل

عليه السؤال، وقد جاء كذلك في آيات أخرى إلا أن المقصد من ذكره هنا

زيادة تقرير خلق الله للسموات والأرض، ومثله قوله تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2، فقد ذكر المسند في قوله:{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} ، وفي السؤال ما يدل عليه كما ترى، والمقصود من الذكر أن يتقرر أن الله أحياها، وفيه إشارة أخرى، هي أنه لا يسأل عن الإحياء بعد الموت -أعني عن إمكانه- سؤال مستبعد منكر إلا من في عقله غشاوة تحجبه عن الإدراك النافد والرؤية الصادقة، مثله لا يعول في خطابه على ذكاء -وهذه الإشارة نجدها أيضا في الآية السابق:{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} -وفي الآية لمحة ثالثة نراها في قوله: {الَّذِي أَنْشَأَهَا} ، وكان يمكن أن يقول: يحييها الله ولكن هذه الصلة تضمنت البرهان الصادق على جواب سؤالهم، وكأنه قال: يحيها الله بدليل أنه أنشأها أول مرة، وهذا أسلوب عجيب كما ترى، فقد قرر القضية بذكر المسند، وأقام برهانا بذكر

الموصول، فأصاب في الإفحام وأدمج القضية، ودليلها في أنفذ عبارة وأبينها، وكأنه يجمع بين الإيجاز الديد، وذكر ما يمكن حذفه، وهكذا الأساليب العالية لا تتبين فيها موضع إطناب من وجه إلا، وترى إيجازا خفيا من وجه آخر.

وقد ذكرنا أن قوله تعالى: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 3، أن الذكر فيه التعريض بغباوة من يخاطبهم، وهو كما نرى أسلوب يجيء على طريقة الآيتين السابقتين، ولا يصح أن يقال فيه: إنه للتقرير؛ لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يكن غرضه أن يقررأن الذي حطم الأصنام هو كبيرهم.

1 الزخرف: 9.

2 يس: 78، 79.

3 الأنبياء: 62، 63.

ص: 291

وهذا الغرض الذي هو التقرير، والإيضاح من أهم أغراض ذكر المسند، وأكثرها اتساعًا، وغيره من الأغراض التي ذكرناها ربما كان ضيق المجال، كالتنبيه على غباوة السامع الذي ينحصر غالبا في مقامات الخطاب حين يكون المتكلم موجها كلامه إلى سامع غبي في حقية أمره، أو في اعتبار المتكلم، وربما كان بعضها محدودة القيمة مثل كونه الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه، ومثل الاحتياط لضعف التعويل على القرينة.

قلت: إن التقرير والإيضاح من أهم أغراض ذكر المسند وأشيعها، وذلك؛ لأن المعاني الأدبية لا يكفي فيها ما يكفي في الحالات الخطابية من مجرد الإفهام، وإنما هي محتاجة فوق ذلك إلى مزيد من التقرير، والتأكيد حتى تؤثر في النفس، وتداخل القلب، وتتعمق في الشعور، وذلك غاية الكلام البليغ، وإذا تأملنا كلام أرباب البيان وجدناه في حالات كثيرة، وقد دل بعضه على معاني بعض فقد قالوا: إنه لما أحيط بمروان قال خادمه: "من أغفل القليل حتى يكثر والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر أصابه مثل هذا".

وهذا -كما يقول أبو هلال- كلام في غاية الحسن، وإن كان معنى الفعلين الآخيرين داخلا في الفعل الأول.

وإذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1، وجدته كلاما في غاية الحسن، ووجدته أيضا يقرر بعضه بعضا ويدل بعضه على بعض، فالإحسان داخل في العدل، وإيتاء ذي القربى داخل في الإحسان، وكذلك الفحشاء داخل في المنكر، ولو قال: إنا لله يأمربالعدل لأفاد كل هذه المعاني لدخول الإحسان، وإيتاء ذي القربى في العدل، ولأفاد أيضا النهي عن الفحشاء والمنكر؛ لأن من يأمر بالعدل ينهى عن ضده، والفحشاء والمنكر يدخلان في هذا الضد، إلا أن الآية الكريمة نصت على كل معنى من هذه المعاني، فذكرت العدل والإحسان

1 النحل: 90.

ص: 292

وإيتاء ذي القربى والنهى عن الفحشاء، والمنكر وكان لهذا التنصيص زيادة في التقرير، والتثبيت وكان الكلام كما ترى.

ولهذه القيمة البلاغية عمد القرآن في كثير من المواطن إلى أسلوب التكرار ليوثق المعاني في النفوس، فجاء المسند مكررًا في مواطن كثيرة جدًّا.

من ذلك قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1، يكرر هنا وعيد، ويؤكده ليبث الخوف في أرجاء النفس، ويملأها بالإشاف والحذر، فتنكف عن إصرارها على العناد والكفر.

وقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2، كرر الوعد وأكده ليرسل في النفس أطياف، فتبدد أشباح اليأس.

وقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 3، وتكرير هذه النغمة الواعظة يحمل من التخويف، والترهيب ما تنفطر له القلوب، وهو كما قالوا في غاية حسن الموقع.

وحينما يتعمق مقطع من المعنى في حس الشاعر تراه يكرره، وتراه أحيانا يلح في تكراره ليقرره في النفوس كما تقرر في نفسه أولا؛ لأنه يستعذب هذا التكرار ويسعذب ما يبعثه من أنغام تمل طابع نفس، فهي شاجية إن كان في سياق الأسى، وهي طروبة إن كان في سياق يشبه الطرب ويتصل به، وبهذا تستطيع تفسير التكرار في قصيدة المهلهل -على أن ليس عدلا من كليب- فقد تكرر هذا المقطع في أكثر من عشرين بيتا؛ لأنه تعبير عن إحساسه بقدر كليب، وأنه ليس له نظير في القبائل، وهذا المقطع كما ترى محور أساسي في بناء معنى القصيدة، وجوها النفسي ثم هو بعيد الغور في ضمير المهلل، فهو

1 التكاثر: 3، 4.

2 الشرح: 5، 6.

3 الأعراف: 97-99.

ص: 293

يلح عليه ليصوره كما يجده في أبعاده الشاعرة، فكانت كل نغمة ورنة في هذا التكرار كأنها تحمل صورًا، وأطيافًا من هذه الأبعاد الغائرة، والذي يعرف تاريخ كليب، وقدره في عشيرته، وبيئته يستطيع أن يتعمق هذا التكرار.

قلت: إن التكرار كأنه دندنة تستعذبها النفس المليئة أو المستفزة، شاجية كانت أو طروبة، وهذا يفسره من بعض جوانبه قولهم: إن باب الرثاء أولى ما تكرر فيه الكلام لمكان الفجيعة، وشدة القرحة التي يجدها المتفجع، وقيل لبعضهم: متى تحتاج إلى الإكثار؟ فقال: إذا عظم الخطب.

ومن شواهد هذا التكرار قول ابنة النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي ترثي زوجها: "من الطويل"

وحدثني أصحابه أن مالكا

أقام ونادى صحبه برحيل

وحدثني أصحابه أن مالكا

ضروب بنصل السيف غير نكول

وحدثني أصحابه أن مالكا

صروم كماضي الشفرتين صقيل

كررت قولها وحدثني أصحابه؛ لأنه ذو أثر عميق في هذا الموقف، وهي مشغولة به بل هي ملهوفة عليه، فهؤلاء الرفاق شهدوا تلك الساعة الفاجعة، وحدثوها بخبرها الموجع، فلم يمس قلبها فحسب، وإنما فطره وولج إلى سويدائه، فكان نشيدها الباكي.

وكانت الخنساء تلح على مقاطع من المعنى كأنها جذور غارت في ضميرها، فتجد في هزها ما يخفف آلامها الكظيمة، خذ مثلًا طلب البكاء من عينيها تجده يشيع في ديوانها، وهو في حقيقته مظهر استسلامها لأساها، وعجزها عن فلسفة التصبر التي كانت من الممكن أن تكفكف بعض دموعها، تقول:"من المتقارب".

أعيني جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى؟

ألا تبكيان الجواد الجميل

ألا تبكيان الفتى السيدا؟

ص: 294

وتقول: "من البسيط":

وابكي أخاك ولا تنسي شمائله

وابكى أخاك شجاعا غير خوار

وابكي أخاك لأيتام وأرملة

وابكي أخاك لحق الضيف والجار

انظر في هذا السياق إلى كلمة أخاك، وتأمل ما فيها من الإحساس بفقد الكلأ والحماية، وتأمل ما تضمره هذه الإضافة من حنين يفجر كوامن الحزن.

وواضح أن التكرار فضلا على أنه أشاع البكاء في الأبيات بتكرار مادته، فقد شاعد على نوع من الترجيع النغمي، والتوازن الموسيقى الواضح الذي أصبحت به الأبيات كأنها عويل نائحة.

وإذا تركنا سياق الرثاء إلى غيره، وجدنا أمرأ القيس بعد ما يخاطب الطلل، ويحييه تحية الجاهلية، ثم يرجع عنها مستبعدا أن ينعم هذا الطلل، وقد طال عهده بفراق أحبابه، فهوحزين كثير الهموم يبيت بأوجال، يقول بعد ذلك ذاكرًا سلمى صاحبة الديار:"من الطويل"

وتحسب سلمى لا تزال ترى طللا

من الوحش أو بيضا بميثاء محلال

وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا

بوادي الخزامى أو على رأس أوعال

تراه يكرر: "وتحسب سلمى"؛ لأن فيه معنى قد علاه وغلبه، وصيره أقرب إلى الحالم الواهم، فهو يحسب سلمى لا تزال هناك مع أن الفناء قد تجسد في ديارها.

التكرار يشيع هذا المعنى، ويؤكد ذهول الشاعر واندماجه في ذكريات أيامه التي ابتلعها الماضي.

ووجدنا أيضا شاعرة مثل ليلى الأخيلية تذكر الحجاج وتقول:

إذا هبط الحجاج أرضا مريضة

تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هز القناة سقاها

ص: 295